المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسألة: [ثم يقرأ]: بسم الله الرحمن الرجيم، ولا يجهر بشيء من ذلك؛ لقول أنس: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - صفة الصلاة

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌مسألة: وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر يجهر بها الإمام وسائر التكبير، ليسمع من خلفه، ويخفيه غيره

- ‌ القيام في الصلاة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌مسألة: ويرفع يديه عند ابتداء تكبيره إلى حذو منكبيه، أو إلى فروع أذنيه

- ‌رفع اليدين

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌مسألة: ويجعلهما تحت سرته

- ‌مسألة: ويجعل نظره إلى موضع سجوده

- ‌النظر حال التشهد:

- ‌مسألة: ثم يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»

- ‌فصل

- ‌إذا نسي الاستفتاح

- ‌مسألة: ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

- ‌فصل

- ‌مسألة: [ثم يقرأ]: بسم الله الرحمن الرجيم، ولا يجهر بشيء من ذلك؛ لقول أنس: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌مسألة: ثم يقرأ الفاتحة، ولا صلاة لمن لم يقرأ بها، إلا المأموم فإن قراءة الإمام له قراءة، ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وما لا يجهر فيه

- ‌ قراءة الفاتحة في الصلاة

- ‌ القرآن أفضل من التوراة والإنجيل

- ‌الفصل الثاني

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌يستحب للمأموم أن يقرأ في صلاة السر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ الحرف المشدّد حرفان:

- ‌ ترك الشدة

- ‌فصل

- ‌يستحب أن يقرأ قراءة مرتلة [

- ‌فصل

- ‌مسألة: ثم يقرأ سورة تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي سائر الصلواتِ من أوساطه

- ‌فصل

الفصل: ‌مسألة: [ثم يقرأ]: بسم الله الرحمن الرجيم، ولا يجهر بشيء من ذلك؛ لقول أنس: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم»

‌مسألة: [ثم يقرأ]: بسم الله الرحمن الرجيم، ولا يجهر بشيء من ذلك؛ لقول أنس:«صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

.

السنة: أن يقرأ البسملة قبل الفاتحة، وأن يخفيها، أما قراءتها فلما روى أبو نعيم المجمر، قال:«صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسْولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» رواه النسائي والدارقطني بإسنادٍ جيد، وهو مروي عن إسماعيل بن حمادٍ بن أبي سليمان عن خالد الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ

ص: 105

صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِبِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رواه الترمذي وقال: [هذا حديث] ليس إسناده بذاك، رواه المعتمر عن إسماعيل محتجاً به، وذكر إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: أنه قال: إسماعيل بن حمادٍ ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي خالد الوالبي، فقال: صالح الحديث.

وعن علي رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه الدارقطني، وعن ابن عباس قال:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِبِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رواه الترمذي والدارقطني، وإسناده ليس بذاك؛ ولأن أحاديث أنسٍ كلها إنما نفي فيها الجهر، فعلم أنهم كانوا يقرؤونها سرًّا، كما صرح به في بعض الروايات، يعني ابتداء القراءة كما سيأتي. ولأن الصحابة

ص: 106

رضي الله عنهم كانوا يقرؤونها وينكرون على من رغب عن قراءتها، وهم أعلم بالسنة، ولأنه يشرع قراءتها في النافلة، فكذلك في الفريضة، ولأنه يشرع قراءتها في أول السورة خارج الصلاة، فكذلك في الصلاة وأولى، ولأنها مكتوبة في المصحف، وإنما كتبت لتقرأ.

وهل قراءتها واجبة أو سنة؟ يأتي إن شاء الله توجيهها.

والسنة: الإسرار بها، هذا مذهبه الذي لم تختلف فيه نصوصه، وهو قول عامة أصحابه، والجهر بها مكروه، نص عليه، وقد ذهب بعض أهل مذهبه إلى استحباب الجهر بها، وهو قول أبي القاسم عبد الرحمن بن منده، وربما حكى بعض

ص: 107

الناس هذا رواية عنه، وهو غلط، وإنما مذهبه الإسرار؛ لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال:«صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وفي لفظ «يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ» رواه الجماعة، وفي لفظ «كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا» رواه أحمد ومسلم، وفي لفظٍ متفقٍ عليه:«فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رواه أحمد بإسنادٍ جيد شرط الصحيح، ولفظه:«كَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وفي لفظ لابن شاهين: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يخفون بسم الله الرحمن الرحيم» ، وفي لفظ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بسم الله الرحمن الرحيم وأبو بكر وعمر» .

فإن قيل: قوله: «بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» أراد به السورة، يعني أنه كان يقرأ الفاتحة قبل السورة، والروايات الصريحة لعلها من بعض الرواة رواها بما فهمه من المعنى، يدل على ذلك ما روي سعيد بن زيد عن أبي مسلمة قال: «سَأَلْتُ أَنَسًا: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِبِسْمِ

ص: 108

اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَوْ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: إِنَّكَ تَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ، وَلَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَطْ قَبْلَكَ» رواه أحمد والترمذي وصححه النسائي، وإسناده على شرط الصحيحين، وقال الدارقطني: إسناده صحيح.

قلنا: هذا التأويل لا يصح لو تجرد عن الروايات الصريحة؛ لأنه لو أراد السورة. لذكرها باسمها، فقال:«بالفاتحة» أو «أم الكتاب» أو «أم القرآن» كما عادتهم في سائر الخطاب، فأما تسميتها بالحمد بأول كلمةٍ منها، كما تقول سورة «والعاديات» وسورة «اقرأ» ونحو ذلك كما عرف أهل زماننا، فأما تسميتها الحمد لله رب العالمين بالجملة جميعها، فليس يعرف في اللسان قديماً ولا حديثاً، ثم لو كان المقصود أن يبتدئ القراءة بسورة أم الكتاب، لم تكن فيه فائدة، لأن هذا من العلم العام، مثل كون قراءة الليل يجهر بها وقراءة النهار يخافت بها، وسنَّة ذلك. وفي حديث قتادة: أنهم سألوا أنساً عن ذلك، من توهم بعض الرواة، فقال قولاً عظيماً؛ لأن في الحديث ذِكر لفظ أنس في قوله:«لَمْ يَكُونُوا يَذْكُرُونَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِها» وهذه زيادة على الرواية الأخرى، ثم قد رواه عن أنسٍ جماعة، كل منهم يؤدي لفظاً صريحاً غير الآخر، ومن تتبع

ص: 109

طرق الحديث علم ذلك.

وأما الحديث الآخر: إنْ كان محفوظاً فالظاهر: أن السائل سأل أنساً عن قراءتها سرًّا، فلم يكن إذ ذاك يعلم ذلك، وإنما كان الذي يعلمه أنهم لا يجهرون بها، وعَلم من طريق آخر أنهم كانوا يسرون بها، فرواه في وقتٍ آخر، إن كانت مسألته لأنسٍ قديماً، وإن كان ذلك حديثاً، فلعل أنساً قد نسي؛ لأنه كان في آخر عمره وسعيد ابن يزيد [

]. وبكل حال: مثل هذا لا يصلح أن يعارض الروايات المستفيضة عنه.

وأيضاً مما روى أبو الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْد للهِ، رَبِّ الْعَالَمِينَ» رواه أحمد ومسلم، وقد تقدم الكلام على تأويله بالسورة.

ص: 110

وروى ابن شاهين من حديث ابن عمر وأبي هريرة، وعُصمة بن مالك الخطمي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ».

وعن أم الحصين قالت: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما افتتح الصلاة قرأ الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين» . وهذه الرواية صريحة بأنهم أرادوا الآية وما بعدها.

وأيضاً ما روى ابن عبد الله بن المغفل قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم، فقال:«يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالْحَدَثَ -قَالَ: وَلَمْ أَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ حَدَثًا فِي الإِسْلَامِ مِنْهُ- فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَ عُمَرَ وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا، فَلَا تَقُلْهَا، إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ، فَقُلِ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» رواه الخمسة إلا أبا

ص: 111

داود، وقال الترمذي: حديث حسن.

وفي رواية لابن شاهين: «فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يقرءون بالحمد لله رب العالمين» وهذا -مع أنه نص في عدم الجهر بها- فيه بيان أن قوله: «الحمد لله رب العالمين» إنما كانوا يعنون به الآية وما بعدها ولا يعنون أنه كان يبتدئ بالفاتحة المسماة بالحمد لله رب العالمين، والذي يحقق ذلك مما تقدم أن أنساً وعبد الله بن مغفل وأم الحصين وغيرهم، ممن أطلق إنما كان يروي ذلك لموضع الشبهة واللبس لما اختلفوا في آخر عصر الصحابة، فمن الناس من كان يجهر بها، ومنهم من كان يخفيها، فاحتاج الناس إلى استعلام السنة والرجوع إلى الصحابة في ذلك.

فأما أن الفاتحة تقرأ قبل غيرها: فلم يكن عند أحد في ذلك شبهة، ولا يحتاج أن يروى عن فلان أو فلان، أو يحتج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون على من خالفه، حتى لو فرضنا أن المراد أنهم كانوا يفتتحون بالسورة، فإن البسملة ليست من السورة، على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.

وأيضاً حديث: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ

» على ما سنذكره، فإنه كالنص في أنه لا يجهر بها.

ص: 112

وأيضاً: فإن هذا قول أكابر الصحابة وجماهيرهم، وهم أعلم بالسنة وأتبع لها، قال الترمذي: على هذا العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وقد تقدم ذكر ذلك عن الخلفاء الثلاثة.

وروى ابن شاهين وابن أبي موسى عن أبي وائل قال: «كان عمر وعلي لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم» ، وعن علي وعمار «أنهما كانا لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم» ، وعن الأسود بن يزيد قال:«صليت خلف أمير المؤمنين عمر سبعين صلاة، يكبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك. ثم يقول: الحمد لله رب العالمين» وروى أحمد عن ابن عباس قال: «الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة

ص: 113

الأعراب» وقال بسر بن سعيد -وهو أحد أجلاء التابعين:- «ما أدركت أحداً يفتتح إلا بالحمد لله رب العالمين» ، «وسئل الحسن عن الجهر بها في الصلاة فقال: إنما يفعل ذلك الأعراب» ، وقال إبراهيم النخعي:«الجهر بدعة» رواهن ابن شاهين.

والآثار في ذلك كثيرة في الزجر عن تركها.

فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ كثيرةٍ أنه جهر بها، رواها الدارقطني وغيره، وكذلك عن كثير من أصحابه، وروي أيضاً أحاديث كثيرة في الزجر عن تركها.

فإما أن تكون رواية من روى ترك الجهر، أراد به أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفض بها صوته ويجهر بها جهراً خفياً، ثم يرفع صوته بسائر السورة.

وإما أن يكون الجهر بها والإسرار سواء؛ لمجيء الأحاديث

ص: 114

بهما، بنى على أنه كان يجهر أحياناً ويخفي أحياناً.

قال بعضهم: يكون الجهر بها على حرف من يعدّها من الفاتحة، وتركه على حرف من لا يعدها من الفاتحة، وهما حرفان مشهوران. أو يكون الجهر أوْلى؛ لأنها إما أن تكون آية من الفاتحة فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة، أو آية من القرآن فيجهر بها كسائر القرآن، وإذا كانت التسمية مشروعة في أول الوضوء ففي الصلاة أوْلى.

قلنا: أما الأحاديث فضربان ما صرّح فيه بذكر الجهر فليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صحيح يخرج به الحجة، ولذلك لم يخرج عن أصحاب السنن منها شيء. وقال الدارقطني، وقد سئل عن أحاديث الجهر: ليس فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صحيح. وأما عن الصحابة فمنه صحيح و [منه] ضعيف. ومن تتبع أسانيدها علم الضعيف فيها، ويؤكد ذلك أن أكثرها من رواية الصحابة الذي قد صح عنهم عدم الجهر، مثل علي وعمار وأنس، فكيف وما لم يصرح فيه بالجهر وإنما فيه بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا يدل على استنان قراءتها، والرد على من رغب عنه.

قال أبو عبيد: الأحاديث التي ذكرناها في ترك قراءة:

ص: 115

«بسم الله الرحمن الرحيم» فليس هو على الجهر بها، وإنما غلَّطوا ترك قراءتها في الصلاة أو غير الصلاة، إلا أنه يسرها في الصلاة.

ومن نقل عنه من أصحابه الجهر، مثل ابن عباسٍ وابن الزبير وابن عمر، فقد نقل عنهم الإسرار بها، وهذا يدل على أن من جهر بها من الصحابة كان مقصوده تعليم الناس أن قراءتها سنة، كما جهر عمر بالاستفتاح، وكما جهر أبو هريرة بالاستعاذة، وكما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة، وهذا -والله أعلم- معنى قول الإمام أحمد وقد سأله أبو طالب:

ص: 116

أتجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: بالمدينة نعم، وهاهنا من كان يقول إنها آية من كتاب الله، مثل ما قال ابن عباسٍ: بسم الله الرحمن الرحيم آية، وأبو هريرة: هي إحدى آياتها، وابن الزبير: كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، ويتأولونها أنها آية من كتاب الله وحمل القاضي هذا على أن أهل المدينة كانوا يرون الجهر، فإذا خافت استنكروا فِعله فلم يصلوا معه، وليس كذلك، فإن أهل المدينة كانوا لا يقرءونها سرّاً ولا جهراً، فأراد أحمد رضي الله عنه أن يجهر بها الرجل هناك؛ ليبين أن قراءتها سنّة، ويكون قدوته في الجهر بها من جهر بها من الصحابة على هذا التأويل، ولذلك ما أمر بقراءتها بعد الاستعاذةِ، قال: ومالك لا يرى ذلك، وما يعجبني هذا من قوله، والجهر بها على الوجه مستحب؛ لما قدمناه.

فأما اتخاذ الجهر بها سنة فمكروه، نص عليه في غير موضع، لأنه خلاف السنة.

فأما النبي صلى الله عليه وسلم: فلا شك أن المعروف من حاله كان ترك الجهر، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة، وعمل به الخلفاء الراشدون. وما نقل عنه من الجهر بها إنْ صح وكان له أصل، فله ثلاثة أوجه:

ص: 117

أحدهما: أنه يكون جهر بها أحياناً؛ ليعلمهم أنه يقرأها، كما ذكرنا عن أصحابه، ويؤيد هذا أن الجهر بها مروي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وهو الراوي لحديث:«قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي» مع أن المحفوظ غيره، تبيين أصل قراءتها.

الثاني: أن يكون جهر بها أحياناً، كما في حديث أبي قتادة: كان يجهر بالآية أحياناً؛ لأن الجهر بها جائز في الجملة، ولا بأس به في الأحيان، وإنما المكروه المداومة عليها.

ص: 118

الثالث: أن يكون ذلك [من] أول الأمر ثم نسخ، وكان آخر الأمرين عنه: ترك الجهر، ويدل على أنه آخر الأمرين: أن أكابر الصحابة عملوا به. وما روى أبو داود في «الناسخ والمنسوخ» عن سعيد بن جبير «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بمكة، قال: وكان أهل مكة يدعون مسيلمة الرحمن، فقالوا: إن محمداً يدعوا إلى إله اليمامة، فأمر الله رسوله بإخفائها، فما جهر بها حتى مات» رواه الطبراني في «المعجم» عن سعد عن ابن عباس مسنداً، ويحقق هذا أن الجهر بها أكثر ما يعرف عن المكيين، مثل عطاء وطاووس ومجاهد، وبهذا يتبين أنه لا يستوي الجهر بها والإسرار مطلقاً.

وقول من خرّج ذلك على القراءتين ضعيف، فإنه قد يجهر بها وإن لم تكن قرآناً، كما يجهر بالتأمين، وقد يخافت بها وإن كانت من القرآن، كما سنذكر، ولو صح ذلك لم يمنع أن تكون المخافتة بها أولى، كما تختار بعض الحروف على بعضٍ.

وأما كون الجهر بها أولى؛ لأنه من القرآنِ أو من السورة،

ص: 119

فليس ها بمطردٍ فإنه قد يجهر ببعض القرآن دون بعض، [كما] يجهر في بعض الصلواتِ والركعات دون بعضٍ. وأيضاً: فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الجهر بها لحكمة كانت في زمانه، ثم صار ذلك سنةً لمن بعده، كما رمل واضطبع في طواف القدوم؛ لمعنى كان في ذلك الزمان، ثم صار سنة للمسلمين إلى يوم القيامة، وكما أن أصل السعي بين الصفا والمروةِ ورمي الجمرات وذبح الهدي، لما يروى من قصة فِعل إبراهيم وابنه الذبيح وهاجر، ثم جعل الله ذلك عبادةً لمن بعدهم.

وأيضاً: فهي وإن كانت آيةً من القرآن، لكن إنما أنزلت لأجل ما بعدها من السورة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم، والتسمية إنما تكون عند ابتداء الأمور وفي أوائلها، فصارت كالتابع لغيره

ص: 120

المقصود من أجله، ففرق بين ما يقصد لنفسه وما يقصد لغيره بصفة القراءة في الجهر والإخفاتِ، كما يخافت بالاستعاذة لما كانت مقصودة لغيرها، ألا ترى أن التسمية مقصودة لما بعدها من حمد الله والثناء عليه والصلاة له؟ والمعنى: بسم الله أقرأ وأصلي، أو: بسم الله صلاتي وقراءتي فبيّن أن يميز بين المقصود لنفسِه والمقصود لغيره.

ص: 121