المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: أسماء الله تعالى - البيهقي وموقفه من الإلهيات

[أحمد بن عطية الغامدي]

الفصل: ‌الفصل الثاني: أسماء الله تعالى

البيهقي وموقفه من الإلهيات

أحمد بن عطية الغامدي

‌مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

شكر وتقدير

الحمد لله الذي وفقني وأعانني، فهو الذي بيده العون ومنه التوفيق والسداد. وبعد:

فاعترافاً بالفضل لأهله، واستجابة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تروا إن قد كافأتموه". أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير لأستاذي الجليل فضيلة الدكتور عبد العزيز عبد الله عبيد، الذي تولى الإشراف على هذه الرسالة، فكان لخبرته الطويلة ومراسه المتواصل في هذا المضمار أكبر الأثر في إنجاز هذا البحث وإخراجه إلى حيز الوجود، فقد فتح لي صدره الرحب، وجاد في بتوجيهاته السديدة وأعطاني من وقته الكثير، إذ لم يكن يقتصر - حفظه الله - على ساعات الإشراف الرسمية، بل كان يستقبلني في منزله متى شئت من ليل أو نهار بوجه مشرق، ونفس راضية، وسرور بالغ، فجزاه الله عني وعن جميع زملائي بل وعن العلم وجميع طلابه أحسن الجزاء.

كما أتقدم بخالص الشكر لجامعة الملك عبد العزيز ممثلة في القائمين عليها، وأخص منهم عميد كلية الشريعة، ورئيس قسم الدراسات العليا فقد قاموا بما يجب عليهم نحو طلابهم خير قيام، وحرصوا على تقديم كل ما يعينهم على أداء مهمتهم.

وأشكر الجامعة الإسلامية التي أتاحت لي فرصة مواصلتي دراستي العليا في هذه الجامعة العريقة.

ص: 7

من هؤلاء الأئمة الأعلام الإمام أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الذي فهم العقيدة من منبعها الصافي الأصيل وأسهم في توضيحها كما جاءت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولما كانت آراء هذا الإمام - كما جاءت في مؤلفاته - من الأهمية بمكان خاصة ما يتعلق منها بجانب العقيدة إذ سار فيها على طريقة المحدثين، وكان في إيضاحه لمسائلها متبعاً طريقة السلف - إلاّ في قليل منها.

لذا كان خيراً كثيراً جداً

ما قام به فضيلة الدكتور/ أحمد بن عطيّة الغامدي - عميد كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، من إبرازه في هذا المؤلف القيّم لآراء البيهقي في إثبات وجود الله تعالى وصفاته وأسمائه وسائر ما يتعلق بجانب الإلهيات، هذه الموضوعات الذي نتج عن تدخل سلطان العقل فيها، وعدم الاقتصار على كلمات الله وحدها ظهور الفرق في الإسلام وتعددها تعدداً هدد وحدة الأمة وعصف بكيانها، حتى اقترب الخطر من صميم العقائد.

وقد أبان المؤلف فيما عرضه من حقائق وآراء عوار هذا الشذوذ

وكان يجب على الجميع - لو خلصت النيات - أن يصدروا فيه على نصوص الوحي الإلهي فقط.

والحاجة كانت وما زالت شديدة إلى تجلية مثال هذه الحقائق التي تقوم عليها أركان العقيدة الإسلامية، فإن أعراض مرض التأويل والتشويه لا يزال منتشراً في الأمة، ولا تزال بحاجة إلى عناية العلماء الفاقهين ليصغوا

ص: 8

حقائق الإسلام وقواعده في أسلوب يتقبله أبناء الإسلام طعاماً شهياً - وشراباً سائغاً كما هو في أصله وحقيقته. ولذا، فالكتاب جاء في وقته ليجد مكانه في المكتبة الإسلامية.

والأبحاث التي تضمنها الكتاب حول وجود الله وأسمائه وصفاته تدل على أن عقيدتنا سهلة صافية لا مكان فيها للغموض والالتواء، ولا تحتاج عند بسطها إلى كل هذا الجدل الذي ثار ويثور حولها، وإنما هي أصول واضحات يأخذ بعضها بحجز بعض من السهولة والوضوح لتكون مصداقاً لما أراده الله لعباده بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [1] .

ولم يفت المؤلف أن يناقش البيهقي فيما خالف فيه مذهب السلف، فالأمر كما قال:"قصدت من وراء ذلك تأييد الحق الذي يمثله رأي السلف وتوطيد دعائمه ببيان سلامة المنهج الذي سلكوه، وصحة الاستدلال الذي اعتمدوا عليه".

وكأني بفضيلته يعمق مفهوم الإمام الشافعي حين قال رحمه الله: "أبى [2] الله العصمة لغير كتابه، وهذا ما قدرنا عليه فإن كان حقاً فمن الله وإن كان خطأ رجعنا عنه". ومقالة أستاذه الإمام مالك: "كل شخص يؤخذ من قوله ويترك إلاّ صاحب هذا القبر"، وأشار إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

والحق أن الأمة لو تجردت من خلافاتها وجدلها حول كثير من مسائل الخلاف والعقيدة لالتقت على كلمة سواء.

1 سورة المائدة، آية:3.

2 الرسالة التدمرية لابن تيمية/4.

ص: 9

والعصمة في ذلك ما جاء به القرآن الكريم وبينته السنة المطهرة، والتزم به سلف الأمة، ووصفه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:"الأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة السلف وأئمتهم إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه"[1] .

كما سبق أن أكد علماء الأمة ومنهم الإمام البيهقي الذي ذكر فضيلة المؤلف خلاصة منهجه في الموضوع بقوله "إثبات أسماء الله تعالى ذكره بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة"[2] .

كما نقل قول البيهقي في إثبات الصفات بأنه: "لا يجوز وصفه - سبحانه - إلاّ بما دل عليه كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه سلف هذه الأمة" ومن قبل يذكر أن البيهقي رحمه الله سلك منهجاً متميزاً يتسم بحب واضح وتفصيل أكيد لسلوك، الأدلة النقلية الواردة لإثبات مسائل العقيدة مع الأخذ بالأدلة العقلية إلى جانب النقلية، وذلك فيما للعقل فيه مجال، كإثبات الوجود والوحدانية والصفات العقلية.

وبعد

فلقد كانت رحلة المؤلف فيما يتعلق بالإلهيات رحلة مستوعبة اتصلت بأسس بنائها في القرآن الكريم فكانت من أسباب توفييقه، وبواعث غبطتي.

1 الرسالة التدمرية لابن تيمية/4.

2 الرسالة التدمرية لابن تيمية/4.

ص: 10

كما أشكر كلّ من قدم لي عوناً لإنجاز هذا البحث من كافة زملائي وأساتذتي وأخص منهم زميلي الأخ أحمد بنا عبد الله الزهراني الذي أعارني كتاب الأسماء والصفات للبيهقي الذي يعتبر الركيزة الأولى لمادة هذا البحث فلهؤلاء جميعاً أتقدم بخالص الشكر ووافر الثناء ضارعاً إلى الله تعالى أن يجزيهم عني أحسن الجزاء.

ص: 11

تقديم

بقلم فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد

(نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه

أما بعد

فإن للعقيدة عند المسلمين - بأصولها وأركانها - المكانة الأولى في حياتهم، ثقافة وإيماناً.

ولذا، فإن من حقها عليهم أن تلقى من العناية والاهتمام ما يناسب مكانتها، ويليق بجلال موضوعها، وأن تكثر فيها الأبحاث القيمة التي تشرح أصولها، وتبين جوهرها وأثرها في حياة المسلمين.

ومن حق الكلام عن الإلهيات خاصة، وما ينبغي لله من صفات وتوقير أن يبرز بمفهومه الصافي الواضح كما عايشه مجتمع العصر المحمدي وأن يقدم إلى أبناء هذا الجيل غذاء لروحه وقلبه بعيداً عن تأويل الجاهلين وتعقيدات المتكلمين، فإن غرس هذه الأصول في الأفئدة والقلوب لن يثمر ويزدهر إلاّ بأسلوب الإسلام نفسه من القرآن الكريم الذي أرسى دعائمها، ووضح معالمه، ومن صحيح السنة المبينة للقرآن.

ص: 12

وأحسب أن المناهج الملتوية التي تشعبت آراؤها، واختلفت أهواؤها وأشربتها بعض النفوس التي تأثرت بالثقافات الواردة قد حجبت أصحاب هذه المناهج من الرؤية الصحيحة التي أعطانا إياها القرآن الكريم في هذا السبيل.

ولقد تعرضت جوانب العقيدة الإسلامية في بعض فترات التاريخ إلى كثير من صور التأويل والتشبيه، والتعطيل والتشويه، الأمر الذي أبعدها عن نقائها وصفائها، فانحسر أثرها في المجتمع الإسلامي، وذاقت الأمة بسبب ذلك من الفوادح الكثير.

إلاّ أن الله عز وجل رحمة بهذه الأمة - قيض لها من أبنائها - في حلقات متصلة - من حفظ لها تراثها، وتوفر على شرح قواعد عقيدتها، ونفي كل دخيل عليها، والإبقاء على هذه القواعد نقية صافية كما تنزلت من قبل الوحي الأعلى.

وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرّها من خالفها"[1] .

وهذه الطائفة هم العلماء والمجاهدون الذين ينشرون الخير وله يحرسون كما قال عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين"[2] .

1 ابن ماجة وأحمد (فيض القدير، 6/396) .

2 مجمع الزوائد، 1/140، ط ثانية، وقال: رواه البزار.

ص: 13

والحق أن سلامة المنهج ووضوح الحجة والبيان، مع صحة الاعتقاد والالتزام بمفاهيم الوحي من أكبر عوامل التوفيق والتأثير، وأحسب أن الله تعالى قد آثر فضيلة المؤلف بهذه المزايا فيما جلاه من حقائق. فجزاه الله خير الجزاء

وسدد خطاه ونفع به

وإننا لنحمد الله على توفيقه لنا لتقديم هذا التراث ونرجوه سبحانه أن يحفظ لهذه البلاد جلالة الملك خالد بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين فهد، ونتقدم إليهما بشكرنا العميم على رعايتهما لهذه الجامعة الإسلامية، فإنهما دائبان بالنهوض بها إلى مستوى أرفع وأفضل، لتساير في تطورها وتقدمها ركب الحضارة. جزاهما الله عن أبناء هذه الجامعة - أبناء الأمة الإسلامية - خير الجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

الحمد لله الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، لا إله غيره ولا ربّ سواه، والصلاة والسلام على خير خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد،

فإن مسائل العقيدة قد حظيت باهتمام العلماء قديماً وحديثاً خاصة ما يتعلق منها بذات الله تبارك وتعالى إذ كان الحديث عنها مجالاً لجدل عنيف حصل بين طوائف الأمة الإسلامية، سيما بعد ظهور مدرسة علم الكلام التي كانت بدعة ممقوتة من جانب علماء السلف نظراً لأنه يبعد بأصحابه عن المصدر الأصلي للعقيدة الصافية.. ألا وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولما كان نظام جامعة الملك عبد العزيز ملزماً لمن يريد الحصول على درجة التخصص العليا (الدكتوراه) أن يكتب بحثاً في مجال تخصصه، فقد استخرت الله تعالى، واخترت أن يكون بحثي بعنوان "البيهقي وموقفه من الإلهيات"ويتمثل الدافع الذي حملني على تفضيل هذا الموضوع على سواه في الأمور الآتية:

1-

أن البيهقي من أشهر علماء الأمة الإسلامية الذين كان لهم أثر بالغ في حفظ تراث هذه الأمة.

2-

أن من أبرز الجوانب التي ساهم البيهقي في إثراء مادتها وتحقيق ما كتبه فيها هو جانب العقيدة.

3 -

انه يعتبر مصدراً أميناً لآراء كثير من علماء السلف التي استعان بها كثير من المحقّقين فيما بعد، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية

ص: 15

وتلميذه ابن القيم، إذ وجدناهما كثيراً ما يستندان في إيراد الرأي بعض علماء السلف إلىما أورده البيهقي عنهم.

4 -

أنه - وإن كان أشعري العقيدة - يتميز بطريقة خاصة في عرض أدلته، أشبه ما تكون بطريقة السلف - وإن كان يختلف عنهم في الاستنتاج - ولذلك وافق السلف في إثبات بعض ما أوّل أصحابه من الصفات.

5 -

أن مؤلّفاته في العقيدة تعتبر موسوعة فريدة بأدلتها، إذ كان من أكثر العلماء اهتماماً بجمعها، وإن كان في توجيهاته لما اشتملت عليه تلك الأدلة يبدو متأثراً تأّثراً كبيراً بعلم الكلام لذلك أردت أن أميط اللثام عن آراء هذا العلم الجليل التي قد يتصوّرها من اطلع على كتبه ولم يمعن النظر فيها ممثّلة لآراء السلف ومتفقة معها، نظراً لاتفاقه معهم في منهج الاستدلال وهذا هو أهم الأسباب التي دفعتني إلى اختيار هذا الموضوع الذي يشتمل على مقدّمة وبابين، وخاتمة.

أما المقدّمة فقد تناولت فيها الأسباب التي حملتني على اختيار هذا الموضوع، والخطة التي سرت عليها فيه.

وأما الباب الأوّل فقد خصصته للحديث عن حياة البيهقي، وقسمته إلى ستة فصول:

الفصل الأوّل: عن عصر البيهقي.

الفصل الثاني: عن سيرته.

النصل الثالث: نشأته العلمية.

ص: 16

الفصل الرابع: شيوخه وتلاميذه.

الفصل الخامس: ثقافته ومؤلفاته.

الفصل السادس: منهجه في الاستدلال.

وأما الباب الثاني فكان عن موقف البيهقي من مباحث الإلهيات وقد قررت تقسيمه إلى ثمانية فصول:

الفصل الأوّل: منهجه في إثبات وجود الله.

الفصل الثاني: أسماء الله تعالى.

الفصل الثالث: أقسام الصفات.

الفصل الرابع: الصفات العقلية، وفيه مبحثان:

المبحث الأوّل: صفات الذات العقلية.

المبحث الثاني. صفات الفعل العقلية.

الفصل الخامس: صفة الكلام، وقد أفردتها بالحديث في فصل مستقل - مع أنها من صفات الذات العقلية - لأن الكلام فيها متشعب وخطير، لذلك أوليتها أهمية خاصة.

الفصل السادس: الصفات الخبريّة وفيه مبحثان أيضاً:

المبحث االأوّل: صفات الذات الخبريّة.

المبحث الثاني: صفات الفعل الخبريّة.

النصل السابع: رؤية الله تعالى.

الفصل الثامن: موقفه من خلق أفعال العباد.

ص: 17

أما الخاتمة فقد تناولت فيها النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث.

وكان حديثي عن كل مسألة من المسائل السابقة مصدراً في كلّ فصل بذكر آراء الفرق الأخرى فيها على سبيل الاختصار، ثم أتناول بعد ذلك الحديث عن رأي البيهقي تفصيلاً، ثم أعقب عليه بذكر موافقته لرأي السلف، أو عدمها، مع مناقشة مستفيضة للآراء التي خالف السلف فيها، وتأييد ما وافقهم عليه بعبارات أوردها من كتبهم، وقد قصدت من وراء ذلك تأييد الحق الذي يمثله رأي السلف، وتوطيد دعائمه ببيان سلامة المنهج الذي سلكوه، وصحة الاستدلال الذي اعتمدوا عليه.

وليس لأحد أن يتصوّر مناقشتي للبيهقي محاولة للانتقاص من قدره والحط من مكانته، لأنني إنما أنشد الحق الذي اجتهد البيهقي في الوصول إليه، ولا ريب أن الحقّ أحب إلينا من كلّ شيء. وقد أثّر عن الإمام مالك قوله:"ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" مشيراً إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومكانة البيهقي في نفوسنا جميعاً ستبقى أبد الدهر، وكتبه التي ألّفها لحفظ التراث ستظلّ مناراً هادياً لطلاب الثقافة في كلّ عصر، فجزاه عنا خير الجزاء.

وقد بذلت في بحثي هذا كل جهدي وغاية طاقتي، حتى وصلت به إلى هذا المستوى الذي أرجو الله تبارك وتعالى أن يكون مفيداً لطلاب الحقيقة، ومصدراً أميناً لمن أراد الكتابة عن هذا العلم الشامخ من أعلام

ص: 18

الإسلام. ولا أزعم أنني قد بلغت فيه الكمال وإنما الكمال لله وحده ولكن حسبي أنني لم أدخر جهداً في سبيل الوصول به إلى أرفع مستوى.

وإنني إذ أتقدم بهذه الرسالة لقسم الدراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز، لأشكر القائمين عليها حسن صنيعهم لما بذلوه من جهد في سبيل توفير جميع السبل الكفيلة بتسهيل مهمة الباحث.

كما أتقدم بخالص شكري للجامعة الإسلامية التي أتاحت لي مواصلة دراستي في هذه الجامعة الأصيلة، سائلاً المولى سبحانه أن أوفق في أداء المهمة التي تنتظرني، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم..

المؤلّف

ص: 19

‌الباب الأول: حياة البيهقي

‌الفصل الأوّل: عصر البيهقي

لقد رأيت من الضروري - وقد اخترت مجال بحثي شخصية هامة من أبرز الشخصيات التي كان لها أثر بارز في حفظ التراث الإسلامي، وخدمته وتقديمه لطلابه في أبهى صوره وأكمل حالاته - رأيت من الضروري أن أقدم بين يدي دراستي لهذه الشخصية دراسة موجزة للظروف التي أحاطت بها وبيئتها التي ترعرعت في أكنافها. ذلك لأن عادة الباحثين في مجال كهذا قد جرت بذلك، وهو أمر من الضرورة بمكان، إذ إنه يمكن ذلك الباحث من الوقوف على العوامل التي كان لها دور فعال في نبوغ تلك الشخصية، وفي التأثير على اتجاهها، لأن الإنسان كما يتأثر ببيئته التي يعيش فيها ومشايخه الذين تلقى عنهم، فإنه بنفسه القدر يكون تأثره بالأحوال والظروف المحيطة به من الناحيتين: السياسية، وللاجتماعية. إذ إن هذه الظروف يكون لها - حتماً - أثر بارز في المسلك الذي ينهجه من عايشها.

لذلك كان لزاماً علي وأنا أدرس شخصية إسلامية مهمة، أن أعطي القارئ فكرة موجزة عن عصرها من نواحي ثلاث:

1 -

الناحية السياسية.

2 -

الناحية الاجتماعية.

3 -

الناحية العلمية.

ص: 25

الناحية السياسية

عاش البيهقي رحمه الله في الفترة الواقعة ما بين عام أربعة وثمانين وثلاثمائة (384) حيث كانت ولادته، وثمانية وخمسين وأربعمائة (458) حيث كانت وفاته.

ومعنى ذلك أن البيهقي عاصر الدولة العباسية في أحلك أيامها حيث كان عهد الدويلات المتناحرة، وحيث أفل الوجود الفعلي للسلطة العليا.

فقد عاصر البيهقي من خلفاء بني العباس القادر بالله الذي تربع على عرش الخلافة سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة (371) ، أثر قبضه على الخليفة الطائع لله، وخلعه له [1] . واستمرت خلافته إلى حين وفاته سنة سبع وستين وأربعمائة (467)[2] .

وكان الضعف قد دب في أوصال الدولة العباسية منذ عهد الخليفة محمد المنتصر بن المتوكل، الذي تواطأ مع جماعة من الأمراء سنة سبع وأربعين ومائتين على قتل أبيه المتوكل [3] . ذلك الرجل العظيم الذي أعز الله به السنة، وقمع به البدعة، حين أنهى مهزلة دامت ردحاً طويلاً من الزمن امتحن فيها أئمة عظام من أئمة أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ألا وهي محنة القول بخلق القرآن.

1 البداية والنهاية11/308.

2 المصدر نفسه12/110.

3 المصدر نفسه10/349.

ص: 26

فبعد مقتل هذا الخليفة العظيم، بدأت الفتن تستشري والأحوال تضطرب، وسلطان الخلفاء يتلاشى، وذلك بسبب اعتمادهم على الفرس والترك وفتكهم ببني أمية ومناصبتهم العلويين العداء، وظهور كثير من الطوائف المارقة عن الدين، مما أدى في نهاية الأمر إلى سقوطها في أيدي التتار سنة ست وخمسين وستمائة، بعد مقتل آخر خلفائها أبي أحمد، عبد الله المستعصم على يد هولاكو خان [1] .

لذلك فإن هذين الخليفتين اللذين عاصرهما البيهقي يعتبران من آخر خلفاء بني العباس، وكان تربعهما على عرش الخلافة اسماً فقط، أما السلطة الفعلية فقد سلبت منهم إذ أصبحوا ألعوبة في يد البويهيين والسلاجقة، الذين بالغوا في إذلالهم، حتى بلغ بهم الأمر إلى أن ضيقوا عليهم حتى في حياتهم الخاصة، واضطروهم إلى بيع ما يملكون، فضاقت على الخليفة رقعة بلاده رغم اتساعها، فلم يبق له غير بغداد وأعمالها، وحتى هذه لم تكن له عليها سيطرة كاملة [2] .

ومع ذلك فقد كان الخليفة آنذاك يتمتع بقوة معنوية عظيمة، جعلت الحكام والسلاطين يحرصون على الظفر بموافقته حتى يكتسبوا الصفة الشرعية فكان يستقبل السفراء، ويلبس بردة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويضع أمامه مصحف عثمان توكيداً لسلطته الدينية [3] .

ولا يخفى أن حالاً كهذه، مشجعة لذوي الطموحات للظفر بالسلطة كي يتسببوا في التمرد الذي يؤدي إلى الانقسام، وهذا ما حدث فعلاً في جهات كثيرة من نواحي الدولة العباسية آنذاك.

1 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري2/480.

2 تاريخ الإسلام السياسي، د. حسن إبراهيم حسن3/249.

3 المصدر نفسه.

ص: 27

فناحية المشرق - وهي الجهة التي كان يقطنها البيهقي - تنازعتها في تلك الفترة ثلاث دول.

1 -

الدولة البويهية من 334- 447هـ.

2 -

الدولة الغزنوية من 351- 582هـ.

3 -

الدولة السلجوقية من 429- 522هـ.

فالبويهيون كانت لهم السيطرة على بغداد ونواحيها، وقد استبدوا بأمر الدولة، رغم قربهم من مقر الخليفة، حيث شاركوه في بعض مظاهر الخلافة، إذ كان الأمير البويهي هو الذي يتولى إصدار الأوامر، أما الخليفة فما عليه إلا توقيعها، لتأخذ صفة الشرعية أمام الرأي العام.

وأما الدولتان الأخريان فقد كانتا في خراسان، ناحية شيخنا البيهقيئ، وقد كان الأمراء فيهما يستقلون بالتصرف في شؤونها، دون رجوع إلى الخليفة في ذلك.

وقد كانت معاصرة البيهقي في صدر حياته للنغزنويين، وهم في أوج قوتهم، إذ كانت لهم السيطرة الكاملة على هذه البلاد في أواخر القرن الرابع، وأوائل القرن الخامس الهجريين، وكان السلطان محمود بن سبكتكين المتوفى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة من أعظم ملوكهما، وأكثرهم فتوحاً، وأشدهم بطشاً بأعدائه، حتى ألقى بزعماء السلاجقة في غياهب السجون [1] .

1 تاريخ دولة آل سلجوق، لعماد الدين الأصفهاني ص:6.

ص: 28

وما إن توفي هذا السلطان، حتى دب النزاع بين ولديه بشأن الملك مما شجع السلاجقة على تجميع صفوفهم، وإعادة كرتهم في محاولة الاستيلاء على خراسان، حتى تمكنوا من ذلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وأعلنوا قيام دولتهم في هذا التاريخ، إلا أن اعتراف الخليفة العباسي بهما تأخر حتى عام اثنين وثلاثين وأربعمائة [1] .

وهذا من أوضح الشواهد على ضعف سلطان الخليفة، لأن حدوث الخلافات بين الأمراء في الولايات التابعة له، واقتتالهم من أجل السلطة وعدم تدخله لحسم النزاع فيما بينهم، إلى حين تمام الغلبة لأحد الفريقين فيكون تدخله حينئذ قاصراً على الاعتراف بالسلطة الجديدة، التي تمت دون إرادة منه، ذلك كله يدل على أنه لم يكن له حول ولا طول، وأنه مغلوب على أمره.

وقد بلغ من تحرج مركزه وضعفه، وانتزاع سلطانه منه، أن عمت الفوضى البلاد، وكثر فيها الفساد.

أما بقية أنحاء العالم الإسلامي، فلم تكن بأحسن حالاً من المشرق فقدكانت مشتتة على رأس كل منها أمير أو خليفة،. فالأمويون في الأندلس ينازهم العلويون من ذرية إدريس بن عبد الله، فكانت الحال هناك في اضطراب يشبه ما كان في المشرق، ويزيد عليه [2] .

1 العبر في ديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون3/452.

2 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري2/400.

ص: 29

أما أفريقيا، ومصر، والشام، فقد تعاقب عليها تلك الفترة أمراء فاطميون، إلى غير ذلك من الانقسامات التي تميز بها ذلك العصر، مما كان له أثره البالغ في تفرق كلمة المسلمين، وإطماع أعدائهم في النيل منهم.

وقصارى القول: أن عصر البيهقي تميز بكثرة الدويلات الإسلامية المتناحرة، وانعدام االسلطة المركزية، وتفشي الفساد السياسي، وكثرة القتل والنهب والترويع، الأمر الذي أقضّ مضاجع العلماء في ذلك العصر ومنهم البيهقي.

ولا ريب أن فساد الحالة السياسية سينعكس على الحالة الاجتماعية كما ستبيّن فيما يلي.

ص: 30

الناحية الاجتماعية

لقد اتضح لنا فيما سبق أن الحالة السياسية في تلك الحقبة من أيام الدولة العباسية - التي عاصرها البيهقي - قد بلغت من الفوضى أقصاها فليس لنا بعد ذلك أن نتصور الحالة الاجتماعية طيبة ثابتة، لأن الفزع والرعب سيطرا على القلوب، حتى أصبح لا يطمئن أحد من الناس على نفسه وماله، فمن المعلوم بداهة أن الحروب تحدث دائماً تأثيراً بالغاً في حياة المجتمعات التي تعاصرها، لأنها تنهك الاقتصاد، وتقضي على موارد البلاد، وتشجع على إشاعة الفوضى في شتى ميادين الحياة.

فبدلاً من أن يعنى الحكام بالموارد الشرعية للدولة، وتوزيع نتائجها توزيعاً عادلاً بين الناس، نراهم يسلكون لجمع المال طرقاً غير سليمة، فالغنائم الحاصلة من الحروب فيما بينهم تشكل أهم الموارد لأموال الدولة، كما أن أموال الناس التي كانت تصادر لأتفه الأسباب تشكل مورداً آخر [1] .

وبيوت الحكام كانت تتعرض في بعض الأحيان للنهب والسلب من قبل جنودهم الخارجين عليهم [2] .

فإذا كان الحكام أنفسهم يتطلعون لما في أيدي الآخرين ويتحينون الفرص لضمه لما في أيديهم، وإذا كانت منازلهم قد تعرضت للسلب والنهب فكيف لنا أن نتصوّر المجتمع الذي يحكمونه بمساعدة أولئك الجند، كيف يمكن أن نتصوّره إلا راسخاً في أوحال تلك الفوضى؟

1 الكامل لابن الأثير7/182-206.

2 الكامل8/2، وشذرات الذهب لابن العماد3/204.

ص: 31

فإن أولئك الأجناد، كانوا إذا غضبوا على الحاكم تمردوا عليه، ونهبوا أمواله، ثم التفتوا إلى أموال الناس فنهبوها، وقتلوا من يقف في طريقهم، كما حدث في سنة سبع عشرة وأربعمائة [1] .

إن حالاً كهذه تؤكد لنا المعاناة التي كان يعيشها الناس، فضعف السلطان كان سبباً مباشراً لشيوع شريعة الغاب بين الناس في ذلك العهد حين استفحل أمر اللصوص فأغاروا على المنازل في وضح النهار، حتى إذا لم يجدوا شيئاً مما يريدون في المنزل الذي أغاروا عليه أخذوا صاحبه، وتفننوا في تعذيبه حتى يرشدهم إلى المكان الذي أخفى فيه ماله - إن كان له مال - كما حدث من جماعة العيارين ببغداد [2] .

واشتد أمر هؤلاء المجرمين سنة أربع وعشرين وأربعمائة وست وعشرين وأربعمائة، حين أخذوا أموال الناس عياناً، وقتلوا صاحب الشرطة، ونهبوا المتاجر، وأظهروا الفسق والفجور، والفطر في رمضان [3] .

وقد صاحب هذه الحوادث المروعة غلاء شديد في المعيشة، فقد اشتد الغلاء بخراسان جميعها وعدم القوت، فكان الإنسان يصيح: الخبز، الخبز ويموت [4] .

ولم تكن الحالة في العراق بأحسن مما هي عليه في خراسان، فقد اضطر الناس من شدة الجوع - إلى أكل الكلاب والحمر [5] .

1 الكامل7/325.

2 شذرات الذهب3/204، والكامل7/323.

3 شذرات الذهب3/226-229.

4 الكامل7/255.

5 شذرات الذهب3/192.

ص: 32

وزاد الأمر سوءا تفشي الرذيلة في العراق، لضعف الحكم، فانتشر شرب الخمر، وكثرت المواخير، وظهرت موجة انحلال خلقي [1] .

كما كان للكوارث الأخرى من أوبئة وزلازل دورها في تنغيص العيش وإنزال النكبات، وتدهور الأحوال، فقد انتشرت الأوبئة، وعمت جميع البلاد وكثر الموت في الناس، حتى عجزوا عن أن يتدافنوا من كثرة الموتى [2] .

كما وقع سنة أربع وأربعين وأربعمائة زلزال عظيم بخراسان هلك بسببه كثير، وكان أشده بمدينة بيهق، ناحية شيخنا البيهقي [3] .

وخلاصة القول: أنك إذا استعرضت صفحات التاريخ لتلك الحقبة من الزمن وجدتها تطالعك بحوادث مروعة تعكس مدى الوضع الاجتماعي المتدهور، الذي عاشه الناس في ذلك العصر، فمن نهب وسلب، إلى قتل وانتهاك للحرمات، إلى جوع شديد يصير من اعتراه إلى الموت في أحيان كثيرة، إلى زلازل وأوبئة فتّاكة.

فهي فترة عصيبة، اتسمت حياة أهلها الاجتماعية، بمثل ما كانت عليه من الناحية السياسية، التي انعكست أحداثها الرهيبة على الوضع الاجتماعي الذي وصل إلى مثل ما وصلت إليه من انحطاط رهيب يشيب لهوله الولدان فإنا لله وإنا إليه راجعون.

1 ظهر الإسلام لأحمد أمين1/124.

2 الكامل4/55، و8/3.

3 الكامل8/64.

ص: 33

أما الحالة العلمية فسنرى في المبحث التالي كيف أنها كانت على العكس من الحالتين السالفتين، حيث بذل العلماء جهوداً مضنية للحفاظ على العلم، ومحاولة جعله بعيداً عن التأثيرات السلبية للأحداث السابقة حتى كان ذلك، العصر - بحق - عصر النهضة العلمية كما سيتضح لنا ذلك في المبحث التالي إن شاء الله.

ص: 34

الحالة العلمية

إن من يطلع على الأحوال السياسية والاجتماعية في ذلك العصر، ويقف على ما وصلت إليه من سوء وانحطاط، فإنه لا يبعد بالناحية العلمية عنهما بل يتصورها كما وجد في الحالتين الأخريين، إلا أن الواقع كان خلاف ذلك فإن سوء الحالتين السياسية والاجتماعية لم يكن له أي أثر سلبي على الناحية الثقافية فقد عرفت تلك الحقبة من الزمن أنها كانت من أزهى عصور الإسلام الثقافية، إذ توافر فيها عدد ضخم من رواد العلم والثقافة، ففيها عاش أئمة المحدثين وجهابذة المفسرين وأساطين الأدباء، ومشاهير الفلاسفة وأرباب الكلام، وكانت الثقافة قد بلغت أوجها، والاهتمام بالتأليف بلغ ذروته.

وها نحن اليوم نعيش أثر تلك النهضة العلمية الجبارة فنستقبل كل يوم من كتبهم أسفاراً ضخمة يقدمها لنا المحققون في عصرنا الحاضر، وما بين أيدينا اليوم من تراثهم الوفير إنما هو غيض من فيض، لأنهم قدموا لطلاب العلم والثقافة آلاف المجلدات في كلّ فنّ، إلا أن الحروب الدامية لم تقتصر على إراقة دماء البشر، بل امتدّ أوارها حتى أتى على كثير من مكتبات العالم الإسلامي، كما حدث إبان إغارة التتار على بغداد، التي كانت مكتباتها تزخر بدرر العلم، التي جادت بها قرائح علمائنا الأجلاء في ذلك العصر وقبله وبعده.

وقد بلغ الاهتمام بنشر العلم في ذلك العصر، إلى حدّ أن بعض كبار العلماء قام بإنشاء مدارس مستقلة عن المسجد لأوّل مرة في تاريخ الإسلام الأمر الذي كان له أكبر الأثر في الإقبال على التحصيل، وتشجيع طلاب العلم وصيانته عن أيدي العابثين.

ص: 35

ويعتبر البيهقي من أوّل من ساهم في إنشاء تلك المدارس، حيث قام بإنشاء مدرسة بنيسابور، عرفت باسمه، وعنها وعن غيرها من المدارس التي ظهرت في ذلك العصر يقول المقريزي في خططه:"ويعتبر ظهور المدرسة في هذا العصر بشكل مستقل عن المسجد خير دليل على الاهتمام بالعلم وكانت الأولى هي المدرسة البيهقية بنيسابور التي تعددت فيها المدارس بعد ذلك"[1] .

ويذكر تاج الدين السبكي عدداً من المدارس التي كانت بنيسابور في ذلك العصر، بالإضافة إلى مدرسة البيهقي التي ذكرها المقريزي ومن تلك المدارس: المدرسة السعدية، بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود، لما كان والياً بنيسابور، ومدرسة ثالثة بنيسابور بناها أبو سعد إسماعيل بن علي بن المثنى الإستراباذي، ومدرسة رابعة بنيسابور أيضاً بنيت للأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني [2] .

كما قام الوزير نظام الملك، الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي ببناء مدارس جديدة، مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراه، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان، ومدرسة بالموصل [3] . وهذه المدارس تعرف بالمدارس النظامية [4] .

1 الخططة للمقريزي2/363.

2 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي4/314.

3 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي4/314.

4 كان أشهر هذه المدارس مدرسة نيسابور التي كان يدرس بها إمام الحرمين الجويني.

ص: 36

وقد كان لتعدد المدارس في ذلك العهد أثر كبير في انتشار العلوم الإسلامية وكثرة العلماء.

ولعل من أهم الأسباب التي حدت بذوي الشأن لإقامة هذه المدارس أن المساجد لم يكن يحسن تخصيصها للتدريس بما يتبعه من مناظرة وجدل، قد يخرج بأصحابه أحياناً عن الأدب الذي تجب مراعاته للمسجد [1] .

فالقرن الرابع كان بداية ظهور هذه المعاهد، التي بقيت طريقة متبعة إلى أيامنا هذه.

ومما سلف يتضح لنا أن نيسابور كانت مهد هذه المعاهد، فكانت بذلك تضاهي بغداد، حاضرة العلم والعلماء في ذلك العصر.

وقد بلغت العناية بالعلم وطلابه إلى حد أن كثيراً من أهل الفضل كانوا ينفقون على الطلاب من مالهم الخاص، ويقفون عليهم كتبهم، كما حدث من أبي بكر البستي الذي بنى مدرسة لطلاب العلم على باب داره، وأوقف عليها جملة من ماله الوفير، وهذا الرجل كان من كبار المدرسين والمناظرين بنيسابور [2] .

وهكذا نتبين أن الحالة العلمية في ذلك العصر كانت قد بلغت أرقى درجاتها، وأن تلك الحقبة قد تميزت بابتكار أسلوب جديد للتعليم، وهو إنشاء المدارس مستقلة عن المسجد، وإن تلك الناحية من البلاد الإسلامية كانت ثرية بأعلام العلماء، ولا أدل على ثرائها بهم مما ذكره الذهبي من

1 انظر: الحضارة الإسلامية لآدم متز1/336.

2 طبقات الشافعية للسكبي4/80.

ص: 37

أن الخطيب البغدادي المتوفى سنة: 463هـ، أراد الرحلة إلى ابن النحاس في مصر فاستشار البرقاني في ذلك فقال له:"إن خرجت إلى مصر إنما تخرج إلى رجل واحد، فإن فاتك ضاعت رحلتك، وإن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة فخرج إلى نيسابور"[1] .

ويقول المقدسي عن أهل خراسان: "إنهم أشد الناس فقهاً، وهم أكبر الأقاليم علماً"[2] .

وهكذا نرى أن الإمام البيهقي عاصر نهضة علمية جبارة كان له فيها نصيب الأسد، فاقترن اسمه بها منذ ذلك العهد، لمشاركته الإيجابية وأثره في مدارسها معلماً ومتعلماً.

1 تذكرة الحفاظ3/1137.

2 أحسن التقاسيم ص: 294، 322، 334.

ص: 38

‌الفصل الثاني: سيرة البيهقي

اسمه ونسبه:

هو: أحمد بن الحسين بن عليّ بن عبد الله بن موسى.

ولم يتفق المؤرخون على ذكر نسبه بهذه الطريقة، لأن منهم من وقف عند جده الأوّل علي [1] ، ومنهم من اقتصر على ذكر جده الثاني عبد الله [2] ، وجماعة ثالثة استوفت ذكر نسبه إلى جده الثالث موسى [3] .

إلاّ أن اختلافهم هذا لا يعني شيئاً سوى إرادة الاختصار من بعضهم وإرادة الاستيفاء من بعضهم الآخر.

إلاّ أن للسمعاني خلافاً جوهرياً حين قدم جده الثالث على جده الثاني فقال: "أحمد بن الحسين بن عليّ بن موسى بن عبد الله، وتابعه عليه ابن الأثير في تهذيبه للأنساب [4] .

كما أن الذهبي في سير أعلام النبلاء وتذكرة الحفاظ ذكر موسى جداً ثانياً للبيهقي مع إغفال جده الثالث [5] .

1 الكامل لابن الأثير8/104، وشذرات الذهب3/304.

2 النجوم الزاهرة5/87، وكشف الظنون1/53.

3 البداية والنهاية12/94، وطبقات الشافعية للسبكي4/8.

4 الأنساب للسمعاني1/101، واللباب لابن الأثير1/202.

5 سير أعلام النبلاء11/ ل184، وتذكرة الحفاظ3/1132.

ص: 41

وهذا يشير إلى خلاف في أيهما الجد الثاني من الثالث للبيهقي هل هو عبد الله أو موسى، فالسمعاني، وتابعه ابن الأثير والذهبي ذكروا موسى جداً ثانياً للبيهقي، أما بقية المؤرخين المستوفين لنسب البيهقي حتى الجد الثالث فذكروا موسى جداً ثالثاً، وعبد الله ثانياً.

ولعل تقديم عبد الله على موسى هو الأرجح، لأن ذلك ما فعله ابن عساكر الذي يعتبر من أقرب المؤرخين في عهد البيهقي [1] .

كنيته ولقبه

أما كنيته فأبو بكر، وأما لقبه فيلقب بالحافظ، ولم أجد مخالفاً في إطلاق تلك الكنية وهذا اللقب اللذين اشتهر بهما البيهقي، وانفرد حاجي خليفة بتلقيبه بشمس الدين [2] .

نسبته

وينسب شيخنا إلى خُسْرَوْ جِرْد [3] ، وإلى بيهق [4] ، فيقال الخسرجردي البيهقي.

1 تبيين كذب المفتري ص: 266.

2 كشف الظنون1/53.

3 خسرو جرد بضم الخاء المعجمة، وسكون السين المهملة وفتح الراء وسكون الواو، وكسر الجيم، وسكون الراء، وفي آخرها الدال المهملة، قرية من ناحية بيهق. كذا قال السبكي في الطبقات الكبري4/9.

4 بيهق ناحية كبيرة، وكورة واسعة، كثيرة البلدان والعمارة من نواحي نيسابور، تشتمل على ثلاثمائة وإحدى قرية

وقد أخرجت الكورة من لا يحصى من الفضلاء، والعلماء، والفقهاء، والأدباء ذكر ذلك ياقوت في المعجمة1/537، 538.

ص: 42

أما نسبته إلى خسرو جرد فلأنها القرية التي كانت مسقط رأسه وأما نسبته إلى بيهق فلأنها الناحية التي دفن بها، والتي تضم فيما بين قراها خسر وجرد، التي تعتبر عاصمتها.

وقد ينسب رحمه الله إلى نيسابور [1] ، لأنها قد حظيت بمقدمه إليها، وبها كان جل نشاطه العلمي، إذ عقد فيها المجلس لإسماع كتبه لعلمائها، وطلاب العلم فيها، فأصبحت شهرته مرتبطة بها، وممن نسبه إليها الذهبي وابن عساكر [2] .

مولده

ولد- رحمه الله بخسرو جرد في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة [3] وقد أجمعت المصادر التاريخية على ذلك، عدا ما ورد في

1 قال ياقوت: "نيسابور: بفتح أوّله، والعامة يسمونها نشاوور، وهي مدينة عظيمة، ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها، وكان المسلمون قد فتحوها أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه ". معجم البلدان 5/331.

2 تبيين كذب المفتري ص: 265، سير أعلام البلاء 11: ل 184.

3 انظر مختصر طبقات المحدثين لابن عبد الهادي ص: 200، وسير أعلام النبلاء للذهبي 11: ل 184، وتذكرة الحفاظ3/1132، وطبقات الشافعية للسبكي4/9، والبداية والنهاية12/94.

ص: 43

الكامل لابن الأثير من أن ولادته كانت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة [1] . إلاّ أن هذا خطأ واضح، لأنه هو نفسه وافق في لبابه بقية المؤرخين على التاريخ السابق [2] .

أسرته

أما أسرة البيهقي التي ترعرع في أكنافها، فإن المراجع التاريخية التي عنيت بحياته التزمت الصمت حيالها، فلم تذكر لنا عن أبيه شيئاً، ولا عن حال أسرته من الناحية العلمية والاجتماعية.

إلاّ أن نبوغ البيهقي في شتى مجالات العلم يدلنا دلالة واضحة على أن أسرته كانت تضع العلم في مقدمة اهتماماتها، مما كان له أثره البالغ في اتجاه ابنها إليه، وقصر اهتمامه عليه.

كما أن ذلك يدلنا أيضاً على أن تلك الأسرة كانت ميسورة الحال مما جعل ابنها يتفرغ، وينتج على أن الفقر - إن قدر أنه هو واقعها - لا يمكن أن يثني همة البيهقي لشغفه بالعلم، مما جعله لا يهتم بحطام الدنيا، بل يكتفي منها بما يسد رمقه، ويقيم صلبه، شأنه في ذلك شأن سلفه من علماء الأمة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وشيخه الشافعي، ومع ذلك حصل لهما من العلم والنبوغ ما جعلهما من أعظم أئمة الإسلام.

1 الكامل8/104.

2 اللباب1/202.

ص: 44

أمّا أبناؤه فقد لاحظنا اهتمام المؤرخين بذكر ابن له وحفيد، ولم يتعرضوا لغيرهما، ذلك لأنهما شاركاه في حياته العلمية، وخاضا معه غمارها وتتلمذا على يديه، وهما: ابنه إسماعيل بن أحمد، وحفيده أبو الحسن عبيد الله بن محمّد بن أحمد. وسيأتي إن شاء الله زيادة بيان لحياتهما عندما نتحدث عن تلاميذه فيما بعد.

وفاته

أجمعت المصادر التاريخية على أن وفاة البيهقي كانت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة بنيسابور، ومنها نقل في تابوت إلى بيهق حيث دفن بها [1] .

وقد وجد خلاف في الشهر من ذلك العام، فابن الأثير وابن تغري بردى يذكران أنها كانت في جمادى الآخرة [2] . أما من سواهما فاتفقوا على جمادى الأولى، ولعله الأصح لأن منهم من حدد اليوم بالعاشر منه، مما يدل على زيادة يقين.

1 انظر: المصادر السابقة.

2 الكامل8/104، والنجوم الزاهرة5/77، وانظر عن حياة البيهقي سوى ما تقدم: طبقات الشافعية للأسنوي ص: 198-200، والعبر للذهبي 3/342، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (ص)، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص: 433-434،ودائرة المعارف الإسلامية لأحمد شاكر 4/429،والأعلام للزركلي1/113.

ص: 45

وانفرد ياقوت الحموي بأن وفاته كانت سنة أربع وخمسين وأربعمائة [1] .

وكانت وفاته رحمه الله بعد عمر مديد بلغ أربعاً وسبعين سنة كله خير وبركة، إذ بذل الجزء الأعظم منه خادماً للعلم وطلابه، فكان عطاؤه العلمي الوفير منارة شامخة من منارات العلوم الإسلامية الخالدة، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

1 معجم البلدان1/538.

ص: 46

‌الفصل الثالث: نشأته العلمية

لقد بدأ البيهقي- رحمه الله حياته العلمية في سن متأخرة نسبيآ بالنظر إلى أبناء عصره، إذ بدأ بسماع الحديث وهو في سن الخامسة عشرة من عمره1.

وليس بعيداً أن يكون قد بدأ بحفظ القرآن الكريم قبل بدئه بسماع الحديث، لأن ذلك من عادة العلماء في ذلك العصر، وإن كنا لا نجد في المصادر التاريخية ما يشير إلى ذلك.

ويذكر المؤرخون أن أوّل سماعه كان من مشايخ خراسان2، ثم رحل إلى أماكن شتى في سبيل طلب العلم، فكانت مرحلة التلقي قد بدأت برحلة إلى خراسان، وفيما يلي نذكر رحلاته العلمية التي كان لها أثر كبير في تحصيله وسعة علمه.

1 سير أعلام النبلاء11/ ل184.

2 قال ياقوت: "خراسان بلاد واسعة، أوّل حدودها مما يلي العراق أزاذوار، قصبة جوين وبيهق، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان، وغزنة وسجستان، وكرمان. وليس ذلك منها، إنما هو أطراف حدودها". معجم البلدان 2/350.

ص: 49

رحلاته العلمية

لقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - حريصين على عدم مغادرة المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن حبهم العظيم له جعلهم لا يقوون على الابتعاد عنه، لذلك وجدنا المكثرين من رواية الحديث عنه لازموا المدينة حتى وفاته عليه السلام، ولم يغادروها الاّ لحاجة، ثم يعودوا إليها.

حتى كان عهد الفتوحات الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين حيث بدأت رحلاتهم، وخروجهم من المدينة، فانتشروا في الأمصار، حاملين معهم حديث رسوله الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكونوا جميعاً بدرجة واحدة في التحمل من رسوله الله صلى الله عليه وسلم، بل كان أحدهم يسمع ما لا يسمعه الآخر، ويحفظ ما نسيه غيره، مما جعلهم هم أنفسهم يرحلون إلى بعضهم لسماع حديث اختص بتحمله واحد منهم دون سواه، أو التثبت من حديث بلغه ذكره عن أحدهم، فكانت الرحلة لطلب الحديث منذ ذلك الحين سنة متبعة، سلكها علماء هذا الفن الشريف، حتى حملت إلينا كتب التاريخ عجائب رحلاتهم، فقد كان أحدهم يقطع المسافات الشاسعة لسماع حديث واحد بلغه عن غيره.

فهذا الصحابي الجليل، جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: "بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: تعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني أنك سمعته

ص: 50

من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة – أو قال العباد – عراة غرلاً بهماً" قال: قلنا وما بهما؟ قال: ليس معه شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قال: قلنا كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات 1.

وكانت الرحلة في عهد التابعين أوسع، لأن كل واحد منهم كان يطمع في الحصول على أكبر قدر ممكن من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع ذلك إلاّ بالرحلة إلى أقطار شتى، حيث تفرق فيها الصحابة رضوان الله عليهم.

وثمة عامل آخر للرحلة، وهو طلب علو الإسناد، فكان بعضهم إذا بلغه الحديث بواسطة شخص ما عن أحد الصحابة يحرص على سماعه من الصحابي نفسه فيرحل إليه، وإذا بلغه عن شخص بينه وبين الصحابي آخر، وكان الصحابي قد مات يحرص أيضاً على سماعه ممن سمعه من الصحابي مباشرة لإسقاط إحدى الواسطتين حتى يعلو إسناده.

وهكذا أصبحت الرحلة لطلب العلم سنة متبعة بين طلابه.

وقد حرص البيهقي رحمه الله على أن يحوز ما أمكنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلك هذه الطريقة التي سنها الصحابة

1 مسند أحمد3/495.

ص: 51

والتابعون، فرحل إلى خراسان، والعراق، والحجاز، وفيما يلي عرض لهذه الرحلات، وأسماء بعض شيوخه الذين أخذ عنهم فيها:

رحلته إلى خراسان

ذكر الذهبي أن البيهقي رحمه الله بدأ سماع الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة من أبي الحسن محمد بن الحسين العلوي والحاكم أبي عبد الله الحافظ وعبد الله بن يوسف الأصبهاني، وأبي علي الروذباري وأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي بكر بن فورك

ثم سرد عشرين شيخاً من أوّل من سمع منهم البيهقي1.

وفي تذكرة الحفاظ ذكر هؤلاء الستة الذين نقلتهم عنه من سير أعلام النبلاء، ثم ذكر أن سماعه منهم كان بخراسان2، كما ذكر هؤلاء أيضاً ابن هداية الله، وذكر أن سماعه منهم كان أيضاً بخراسان3.

وذلك كله يؤكد لنا أن سماعه بخراسان لم يسبقه سماع بغيرها، فبدأ الرحلة قبل السماع من علماء بلده بيهق، وبهذا يتحدد لنا تاريخ رحلته إلى خراسان بعام تسعة وتسعين وثلاثمائة، وهي السنة التي شهدت بداية طلبه لعلم الحديث.

1 سير أعلام النبلاء11/ ل184.

2 تذكرة الحفاظ3/1132.

3 مختصر طبقات المحدّثين ص: 200.

ص: 52

رحلته إلى العراق

كما رحل البيهقي رحمه الله إلى العراق قاصداً حاضرة العلم والعلماء في ذلك الوقت، مدينة بغداد، وسمع بها من هلال بن محمد بن جعفر الحفار وعلي بن يعقوب الأيادي، وأبي الحسين بن بشران وطبقتهم1.

ثم توجه إلى الكوفة أيضاً قاصداً علماءها، فأفاد بها من جناح بن نذير القاضي وغيره2.

ولم أجد ذكراً لتاريخ رحلته هذه، ولا المدة التي قضاها في كل من بغداد والكوفة، إلاّ أن السبكي يشير إلى أن ذلك كان وهو في طريقه إلى الحج3.

رحلته إلى الحجاز

ولما كان الحجاز يضم مهوى أفئدة المسلمين، شد البيهقي رحاله إليه، قاصداً مكة المكرمة، لأداء فريضة الحجّ، ولكنه رأى هذه المناسبة فرصة سانحة للاستفادة من علماء البلد الحرام، فجلس فيها إلى الحسن بن أحمد بن ضراس، وأبي عبد الله بن نظيف، وغيرهما. فأفاد منهما فائدة كبيرة4.

1 سير أعلام النبلاء 11/ل 184، ومختصر طبقات المحدّثين ص:200.

2 المصدر نفسه.

3 طبقات الشافعية4/8.

4 طبقات الشافعية4/8، ومختصر طبقات المحدّثين ص:200.

ص: 53

وهذه الرحلة – كسابقتها – لا يعرف لها تاريخ، إذ إن حياة البيهقي يكتنفها شيء من الغموض في بعض جوانبها، ومن تلك الجوانب تحركاته لتحصيل العلم، إذ لم نجد تفصيلات كافية عن مدى الفائدة التي حصلها من كل رحلة وإن كانت رحلاته في جملتها ذات أثر عظيم في تكوينه العلمي.

ويذكر الأستاذ السيد أحمد صقر في مقدمته (لمعرفة السنن والآثار) أن للبيهقي تحركات كثيرة في البلدان المجاورة لموطنه، إذ سمع بكنوقان واسفرايين، وطوس، والمهرجان، وأسداباذ، وهمذان، والدامغان وأصبهان والري، والطابران1.

إلاً أنني لم أجد ذكراً لمشايخه بها، لذلك اقتصرت على رحلاته التي أطلعنا على شيوخه الذين أفاد منهم خلالها.

1 معرفة السنن والآثار، مقدّمة المحقّق ص:1.

ص: 54

‌الفصل الرابع: شيوخه وتلاميذه

شيوخه

لقد كان العلماء في ذلك العصر يحرصون على بذل أقصى جهدهم من أجل تحصيل أكبر قدر من العلم، لذلك نرى الكثرة في مشايخ كل منهم ظاهرة طبيعية، والبيهقي رحمه الله معروف بأنه واسع العلم، كثير الاطلاع، موفور الإنتاج ومن أبرز الأسباب التي وصل بها إلى تلك المكانة السامقة، تتبعه لعلماء عصره، وأخذه عن المبرزين منهم، فأكثر من المشايخ الذين كان لهم الأثر البالغ في حياته العلمية، فيذكر تاج الدين السبكي أن شيوخه يبلغون أكثر من مائة شيخ1.

واستقصاء ذكر شيوخه ليس من غرضنا، وكثرتهم تحول دون ذلك - إن أردناه - لذلك أكتفي بذكر ترجمة موجزة لأبرز المؤثرين في مجرى حياته وتكوينه العلمي.

والبيهقي رحمه الله كما برز في الحديث، فإنه أنتج في الفقه والعقيدة، وبرز فيهما أيضاً، لذلك سنأخذ بعين الاعتبار أبرز مشايخه الذين تأثر بهم في كل مجال.

1 طبقات الشافعية4/9.

ص: 56

فأمّا الحديث فأجمع المؤرخون على أن أشهر أساتذته فيه الحاكم أبو عبد الله محمّد بن عبد الله الحافظ.

كما ذكر السبكي أن أكبر شيخ له في هذا المجال أبو الحسن محمد نجده الحسين العلوي، وأنه سمع الكثير منه1.

وذكر السمعاني أنه تفقه على ناصر العمري المروزي2.

أما في العقيدة فقد عاصر الكثير من أساطين المتكلمين، وأخذ عنهم مذهب الأشعري، إلا أن أبرزهم الشيخ أبو بكر بن فورك الذي وصفه الذهبي بأنه كان أشعرياً رأساً في فن الكلام3.

ويعد أبرز مشايخه الذين تأثر بهم من الناحية العقدية.

لذلك سوف أقتصر هنا على ذكر ترجمة موجزة لهؤلاء الشيوخ الأربعة:

1 -

أبو الحسن العلوي 4:

هو: محمّد بن الحسين بن داود بن علي بن الحسين بن عيسى بن محمّد بن الحسن بن زيد، بن الحسن، بن علي بن أبي طالب5.

1 طبقات الشافعية4/9.

2 الأنساب1/ل 101.

3 سير أعلام النبلاء11/ل 48.

4 قال ابن الأثير: "العلوي بفتح العين واللام وفي آخرها الواو - هذه النسبة إلى أربعة رجال، أحدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي أولاده كثرة.." انظر اللباب2/353. فالنسبة هنا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.

5 كذا ساق السبكي نسبه نقلاً عن الحاكم. انظر طبقات الشافعية 3/148.

ص: 57

وقال ابن العماد: "أبو الحسن العلوي الحسني النيسابوري

شيخ الأشراف، سمع أبا حامد الشرقي، ومحمد بن إسماعيل المروزي صاحب علي بن حجر وطبقتهما، وكان سيداً نبيلاً صالحاً"1.

وهو أكبر مشايخ البيهقى، لأنه بدأ السماع منه وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان ذلك بخراسان2.

ويعني ذلك أنه كان سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.

ويذكر ابن العماد أن وفاته كانت فجأة في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة3.

ولا ريب أنه كان صاحب أثر عظيم في توجيه البيهقي، وفي خط سير حياته العلمية، الحافلة بالثراء العلمي، وذلك باعتباره أوّل موجه له، وأنه سمع منه الكثير، فرحمه الله رحمة واسعة.

2-

أبو عبد الله الحاكم:

هو: محمّد بن عبد الله بن محمّد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري، الحافظ أبو عبد الله الحاكم، المعروف بابن البيع.

ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بنيسابور، في شهر ربيع الأول، وكان أول سماعه سنة ثلاثين وثلاثمائة، واستملى على أبي حاتم بن حبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وأكثر التجوال في سبيل طلب الحديث، فرحل إلى خراسان، والعراق، وما وراء النهر، وسمع من نحو ألفي شيخ، منهم نحو ألف شيخ بنيسابور وحدها.

1 شذرات الذهب3/162.

2 سير أعلام النبلاء11/ل 184، ومختصر طبقات المحدّثين ص:200.

3 شذرات الذهب3/162.

ص: 58

له تصانيف كثيرة في علم الحديث، من أشهرها: المستدرك على الصحيحين، كما أن له مصنفات أخرى مثل فضائل الشافعي، وتاريخ نيسابور توفي رحمه الله سنة خمس وأربعمائة1. وكان قد رمى بالتشيع، إلا أن السبكي رد هذا الاتهام، وبين عدم صحته2.

والإمام أبو عبد الله الحاكم عالم جليل، مبرز في الحديث، ولا أدل على ذلك من تلقيبه بالحاكم، الذي يعتبر أعلى لقب علمي في هذا المجال.

ويعد الحاكم الأستاذ الأوّل للبيهقي في الحديث، أكثر عنه وأفاد منه فائدة عظمى، ولذلك يقول الذهبي: "

وسمع من الحاكم أبي عبد الله الحافظ، فأكثر جداً، وتخرج به "3.

وقال السبكي: "البيهقي أجل أصحاب الحاكم"4.

ولا ريب أن أستاذاً بهذه المنزلة، سيكون صاحب أثر كبير في الاتجاه العلمي لتلميذه.

وكانت مؤلفات الحاكم موضع اهتمام كبير من البيهقي، إذ أفاد منها كثيراً في مؤلفاته الحديثية، يلمس ذلك كل من قرأ للبيهقي.

ولا أدل على عمق تأثير الحاكم في تلميذه البيهقي من أنه سار على منواله في تأليف كتاب مناقب الشافعي، حيث إن الحاكم قد سبقه إلى تأليف كتاب في الموضوع نفسه بعنوان فضائل الشافعي.

1 مصادر الترجمة: سير أعلام النبلاء11/ل36، وطبقات الشافعية4/155، وشذارت الذهب3/176.

2 طبقات الشافعية4/161 وما بعدعها.

3 سير أعلام النبلاء11/ل184.

4 طبقات الشافعية4/8.

ص: 59

3 -

أبو الفتح العمري:

هو: ناصر بن الحسين بن محمّد بن علي بن القاسم بن عمر بن يحيى ابن محمّد بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو الفتح العمري المروزي، أحد أئمة الدين، تفقه على القفال، وأبي الطيب الصعلوكي، وأبي طاهر الزيادي توفي في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وأربعمائة بنيسابور وله مصنفات كثيرة1.

ويعد أبو الفتح العمري شيخ البيهقي في علم الفقه، كما ذكر ذلك السمعاني2.

وخص السبكي البيهقي بالذكر من بين الذين تفقهوا على يديه، حيث قال:"وتفقه به خلق منهم البيهقي"3.

وسعة علم البيهقي في الفقه يدلّ على أن شيخه هذا - الذي أخذ عنه - معين دفاق، ولا أدل على ذلك من الوصف السابق له بأنه أحد أئمة الدين.

4 -

ابن فورك:

محمّد بن الحسن بن فورك، أبو بكر الأنصاري الأصبهاني، كان ورعاً مهيباً، اشتغل بعلم الكلام حتى برز فيه، فأصبح - كما يقول الذهبي -: شيخ المتكلمين، وكان اشتغاله بعلم الكلام، وبروزه فيه على مذهب

1 انظر هذه الترجمة في طبقات الشافعية للسبكي5/35، وشذرات الذهب3/272.

2 الأنساب1/ل101.

3 للسبكي، المصدر السابق.

ص: 60

أبي الحسن الأشعري، مستمداً ذلك من شيخه أبي الحسن الباهلي الذي أخذ عنه بالعراق. ولم يكن متكلماً فحسب، بل كان محدثاً بارعاً، وفقيهاً بارزاً، ومن أبرز مشايخه الذين أخذ عنهم الحديث عبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني. وكما أن له شيوخاً فإن له تلاميذ من أبرزهم: أبو بكر البيهقي وأبو القاسم القشيري، وله تصانيف كثيرة بلغت أكثر من مائة مصنف، من أبرزها كتاب (مشكل الحديث) الذي تناول فيه تأويل الأخبار الواردة في الصفات، وكتاب الجامع في أصول الدين، وغيرها.

توفي رحمه الله سنة ست وأربعمائة، وهو عائد من غزنة، ونقل إلى نيسابور، ودفن بالحيرة1.

وقد كان صاحب أثر كبير في الاتجاه العقدي لشيخنا البيهقي إذ الناظر في الكتب التي خصصها البيهقي لمسائل العقيدة كالأسماء والصفات، والاعتقاد، وغيرهما، يراها على اتفاق كبير مع ما ورد في كتاب ابن فورك (مشكل الحديث) من تأويل لأحاديث الصفات، سيما ما يتعلق بالصفات الخبرية. كما سيتضح ذلك أثناء بحثنا لها إن شاء الله.

فابن فورك الذي كان رأساً في فن الكلام - كما وصفه الذهبي - يعد أبرز مشايخ البيهقي في هذا الفن. ولم تكن استفادة البيهقي منه قاصرة على هذا المجال، بل استفاد منه كثيراً في الحديث أيضاً، كما هو ملموسة من رواياته الكثيرة عنه.

1 مصادر الترجمة: سير أعلام النبلاء11/48، وطبقات الشافعية للسبكي4/127، وشذرات الذهب3/181.

ص: 61

تلاميذه

بعد أن كان البيهقي تلميذاً يتلقى ما جاد به أساتذته عليه من علم وفير، حتى استوعبه، وحققه، وبرع في تصنيفه وتدوينه، ما لبث أن أصبح شيخاً بارزاً، يعطي تلاميذه بنفس البذل الذي أخذه من مشايخه.

وقد تواجد لسماع كتبه الكثير من تلاميذه، الذين حرصوا على ألا يفوتهم الأخذ عنه، لما له من مكانة علمية سامقة، فقد استدعي إلى نيسابور سنة إحدى وأربعين وأربعمائة لينشر العلم، فأجاب، وأقام بها مدة، وحدّث بتصانيفه1. بالإضافة إلى ما عقده من مجالس علمية في بلده بيهق، وغيرها من البلدان المجاورة.

ومن أبرز تلاميذه الذين أخذوا عنه، وكان له فيهم أثر كبير ابنه أبو علي إسماعيل بن أحمد الملقب بشيخ القضاة وحفيده أبو الحسن عبيد الله ابن محمّد بن أحمد، والفراوي أبو عبد الله محمد بن أفضل الصاعدي، وابن منده أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ محمد بن إسحاق بن منده وغيرهم كثير. إلاّ أنني هنا أكتفي بترجمة موجزة لهؤلاء الأربعة من تلاميذه.

1 -

ابنه أبو علي:

إسماعيل بن أحمد بن الحسين الخسرو جردي، شيخ القضاة. ولد بخسرو جرد سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وسمع أباه، وأبا حفص بن مسرور وأبا عثمان الصابوني، وغيرهم.

1 طبقات الشافعية للأسنوي ص: 198.

ص: 62

كانت له رحلات كثيرة، إذ رحل إلى خوارزم، فسكن بها مدة وولي بها الخطابة، وتدريس مذهب الشافعي، كما ولي القضاء بما وراء جيحون، ثم سافر إلى بلخ، وأقام بها مدة، ثم عاد إلى بيهق بعد أن غاب عنها نحو ثلاثين سنة، وتوفي بها في جمادى الآخرة سنة سبع وخمسمائة.

ويعد والده أهم مشايخه الذين أخذ عنهما الحديث والفقه.

وقد وصفه ابن الجوزي بأنه كان فاضلاً مرضي الطريقة1.

ولم أجد ذكراً لتصانيفه، ولم يشر أحد ممن ترجم له إلى أنه ألف في أيّ فن من الفنون التي اشتغل بها، مما يشير أنه لم يتجه إلى ذلك ولعل شهرته كانت مستمدة من شهرة والده وعظيم مكانته.

ويظهر لي من تلقيبه بشيخ القضاة أنه كان ذا أسلوب متميز في القضاء، جعله ينال رضا الناس، ويطلقون عليه هذا اللقب.

2 -

حفيده أبو الحسن:

عبيد الله بن محمّد بن أحمد، سمع الكتب من جده، ومن أبي يعلى الصابوني وجماعة، وحدث ببغداد، قال عنه ابن العماد:"كان قليل الفضيلة".

وقال ابن عساكر فيما حكاه عنه الذهبي: "سمع لنفسه تسميعاً طرئاً وما عدا ذلك فصحيح".

توفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وله أربع وسبعون سنة، أي: أن ولادته كانت سنة تسع وأربعين وأربعمائة2.

1 مصادر الترجمة: طبقات الشافعية للسبكي7/44، والمنتظم لابن الجوزي9/175، و176، والكامل لابن الأثير8/267، والبداية والنهاية لابن كثير12/176.

2 انظر: ميزان الاعتدال للذهبي3/15، وشذرات الذهب4/96.

ص: 63

3 -

أبو عبد الله الفراوي:

محمّد بن الفضل بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن أبي العباس، أبو عبد الله الفراوي الصاعدي النيسابوري، ولد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة تقريباً، كان شافعياً فقيهاً مناظراً، وقد لقب بفقيه الحرمين، لأنه أقام بهما مدة طويلة ينشر العلم، ويسمع الحديث، ويعظ الناس كما لقب أيضاً بمسند خراسان، أخذ الأصول والتفسير عن أبي القاسم القشيري، وتفقه على يد إمام الحرمين الجويني، وسمع من شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني ومن أبرز مشايخه الذين تتلمذ على أيديهم، واعتنى بمؤلفاتهم الشيخ أبو بكر البيهقي، إذ تفرد برواية بعض كتبه، مثل دلائل النبوة، والأسماء والصفات والدعوات، والبعث والنشور.

توفي سنة ثلاثين وخمسمائة عن عمر قارب تسعين عاماً1.

4 -

ابن منده:

أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني الحافظ، الحنبلي، مؤرخ حافظ للحديث، روى الكثر عن جماعة منهم أبوه وعماه، ودخل نيسابور للإفادة من علمائها، وكان على رأسهم البيهقي، فأخذ عنه الكثير.

دخل بغداد حاجاً، وحدّث بها، وأملى بجامع المنصور من كتبه تاريخ أصبهان، وكتاباً على الصحيحين في الحديث، ومناقب الإمام أحمد وغيرها. كان من بيت علم وفضل مشهور في أصبهان، وكانت ولادته ووفاته بها.

1 انظر: طبقات الشافعية للسبكي6/166، وشذرات الذهب4/96.

ص: 64

فأما ولادته فكانت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وأما وفاته ففيها قولان: فقيل سنة إحدى عشرة، وقيل اثنتا عشرة وخمسمائة1.

وللبيهقي سوى هؤلاء تلاميذ كثيرون، لا يتسع المقام لذكرهم، وقد لاحظنا أن جميع تلاميذه لم يبلغ أحد منهم مبلغه، ولم يقاربه، إلا أنهم كانوا أصحاب فضل كبير في نشر كتب البيهقي وروايتها.

1 انظر: شذرات الذهب4/32، والأعلام للزركلي9/194.

ص: 65

‌الفصل الخامس: ثقافته ومؤلّفاته

ثقافته

لقد أفنى البيهقي رحمه الله حياته راتعاً في رياض العلم والمعرفة حتى برز في جوانب شتى من العلوم الإسلامية، وبز فيها حتى مشايخه وأقرانه، فذاع صيته في كل حدب وصوب، وسار الركبان بإنتاجه العلمي إلى كل صقع من أصقاع العام الإسلامي، فكان شاهداً حياً على سعة اطلاع البيهقي، وأصالة ثقافته. وكان نبوغه رحمه الله في علوم الشريعة الإسلامية أصولاً وفروعاً محل إعجاب كثير من العلماء قديماً وحديثاً حتى إن السبكي وصفه بأنه أحد أئمة المسلمين.. حافظ كبير، وأصولي نحرير

جبلاً من جبال العلم1.

ولذلك فإن مؤلفاته في العقيدة والحديث والفقه كانت موضع عناية العلماء، حتى لا نكاد نجد مؤلفاً في هذه الفنون - ممن جاء بعد البيهقي - لم يفد منها، لأن مصنفاته العظام أصبحت فيما بعد مرتعاً خصباً ومورداً عذباً لطلاب هذا العلم الجليل، بل ولحذاقة الذين عرفوا قيمة ما حصله البيهقي من علم وجاد به لطلابه.

أما في التفسير واللغة فكان صاحب اطلاع واسع، وإن لم يكن إنتاجه فيهما بدرجة إنتاجه في العلوم الإسلامية الأخرى.

1 طبقات الشافعية4/8.

ص: 69

ولكي تتضح لنا ثقافة البيهقي بعمقها وأصالتها نعرض لكل فن اشتغل به، فحصل منه وأفاد طلابه.

1 -

العقيدة:

فأما في العقيدة فقد كان صاحب معرفة واسعة بالمذاهب المختلفة التي تشعبت آراؤها واختلفت أهواؤها، فكانت بمنأى عن العقيدة الإسلامية االصافية، لذلك رأى من واجبه - وهو العالم البصير - أن يدرس العقيدة كما جاءت في منبعها الصافي الأصيل، حتى يسهم في توضيحها كما جاءت في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فألف في ذلك المؤلفات العظيمة، التي سار في تأليفها على طريقة المحدثين، وإن كان في تعليقات وإيضاحه لمسائل العقيدة، قد رضي أن يكون المذهب الأشعري هو السائد على آرائه، مع استقلاله عن الأشاعرة ببعض الآراء في مسائل مهمة متبعاً طريقة السلف فيها، وراضياً بمذهبهم، كما سيتضح لنا ذلك في ثنايا البحث إن شاء الله.

وقد شمل إنتاجه العلمي في هذا المجال كتباً قيمة، منها الخاص في مسائل معينة، ومنها العام لكل مسائل العقيدة.

فكتاب الأسماء والصفات، وكتاب البعث والنشور، وكتاب القدر وإثبات عذاب القبر، جميعها كتب متخصصة، كل منها يدل عنوانه على موضوعه.

أما الشمول فقد اختص به كتاب الاعتقاد.

وسيكون بحثنا هذا من أوضح الشواهد على سعة اطلاع البيهقي ومعرفته في مسائل العقيدة، تقريراً للمعتقد ومناقشة لآراء الخصوم.

ص: 70

2 -

الحديث:

وقد كان أشهر الجوانب التي نبغ فيها البيهقي على الإطلاق، إذ كرس جهده لخدمة هذا العلم الجليل فحقق ودقق، وصنف المجلدات الضخام التي تشهد بغزارة علمه، وسعة اطلاعه.

وقد كانت للبيهقي بين علماء الحديث مكانة لا تسامى، ولا أدل على مكانته تلك من استحقاقه للقب الحافظ، وهو لقب لم يظفر به إلاّ عدد قليل من المحدثين، رغم أن الكثير ممن لم يحظوا بإطلاق هذا اللقب عليهم محدثون عظام لا يستهان بهم.

إلاّ أن البيهقي يعد من أكثر رواد هذا الفن حفظاً إتقاناً، فقد كان إنتاجه الغزير في هذا الجانب من أهم المصادر التي اعتمدها طلابه، مما يشهد بغزارة علمه ورسوخ قدمه، وإمامته في هذا المجال.

ولم يكن مجرد جمع الحديث هو الهدف الوحيد للبيهقي، بل اتجه إلى جانب ذلك، لنقد رجاله، حتى ينفي عنه ما ليس منه، ويبين صحيحه من سقيمه، إذ العدالة في راوي الحديث أمر لابد منه، بل هي - عند البيهقي - ألزم من عدالة الشهود، ويوضح هذا المبدأ بقوله:"إن القاضي إذا توقف في قبول شهادة من لا يعرفه على درهم حتى يعرفه، فأولى بنا أن نقف في رواية من لا نعرفه في مثل هذا الأمر العظيم حتى نعرفه"1.

وكان دائم الحرص على أن لا تتضمن كتبه إلاّ ما صح من الأخبار وإن اشتملت على غير ذلك، فمع بيان شاف لدرجة ذلك الخبر، حتى يكون التمييز بين صحيح الأخبار، وحسنها، وضعيفها واضحاً. ولذلك يقول:

1 القراءة خلف الإمام ص: 127.

ص: 71

"وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع، الاقتصار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، لا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزاً فيما اعتمد عليه أهل السنة من الآثار"1.

ومن اكبر الشواهد على نبوغ البيهقي في علم الحديث، حتى أصبح حجة يركن إليها، ما حدث من أمره مع شيخه أبي محمد والد إمام الحرمين2 حين شرع هذا الأخير في تأليف كتاب في الفقه، عزم على أن لا يتقيد فيه بالمذهب، بل يقف على موارد الأحاديث لا يتجاوزها. وما إن أنجز من هذا المؤلف الذي سماه (المحيط) ثلاثة مجلدات، حتى اطلع عليه البيهقي، فعثر فبه على أخطاء حديثية، رأى من واجبه التنبيه عليها، فكتب إلى الجويني بذلك، بأسلوب العالم الحاذق، والناقد البصير. فقد كانت تلك الرسالة القيمة مثالاً للنقد العلمي البناء، الذي تميز بالأدب الرفيع، وقوة الحجة، والقدرة على الدفع بالتي هي أحسن ولكي ندلل على ذلك نورد من تلك الرسالة اقتباسات تدل على ذلك كله وعلى ما هو أكثر منه.

1 المدخل إلى دلائل النبوّة1/39، تحقيق عبد الكريم عثمان.

2 هو: أبو محمّد، عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمّد بن حيويه الجويني، ثم النيسابوري. الإمام الفقيه الأصولي تخرج به جماعة من أئمة الإسلام، توفي في ذي القعدة عام ثمانية وثلاثين وأربعمائة. انظر تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص:257.

ص: 72

قال البيهقي في صدر رسالته: "أما بعد، عصمنا الله بطاعته وأقمنا بالاعتصام بسنة خيرته من بريته صلى الله عليه وسلم، وأعاننا على الاقتداء بالسلف الصالحين من أمته وعافانا في ديننا ودنيانا، وكفانا كل هول دون الجنة بفضله ورحمته، إنه واسع المغفرة والرحمة به التوفيق والعصمة. فقلبي للشيخ – أدام الله عصمته، وأيد أيامه - مفتد، ولساني له بالخير ذاكر، ولله على حسن توفيقه إياه شاكر.

وقد علم الشيخ اشتغالي بالحديث، واجتهادي في طلبه، ومعظم مقصودي منه في الابتداء، التمييز بين ما يصح الاحتجاج به من الأخبار وبين ما لا يصح، حين رأيت المحدثين من أصحابنا يرسلونها في المسائل على ما يحضرهم من ألفاظها، من غير تمييز منهم بين صحيحها، وسقيمها ثم إذا احتج عليهم بعض مخالفيهم بحديث يشق عليهم تأويله، أخذوا في تعليله بما وجدوه في كتب المتقدمين من أصحابنا تقليداً، ولو عرفوه معرفتهم لميزوا صحيح ما يوافق أقوالهم من سقيمه، ولأمسكوا عن كثير مما يحتجون به، وإن كان يطابق آراءهم، ولاقتدوا في ترك الاحتجاج برواية الضعفاء والمجهولين بإمامهم، فشرطه فيمن يقبل خبره عند من يعتني بمعرفته مشهور، وهو بشرحه في كتاب الرسالة مسطور".

وبعد أبحاث دقيقة مفيدة قال: "وكنت أسمع رغبة الشيخ رضي الله عنه في سماع الحديث، والنظر في كتب أهله، فأسكن إليه، وأشكر الله تعالى عليه، وأقول في نفسي ثم فيما بين الناس: قد جاء الله بمن يرغب في الحديث، ويرغب فيه

ص: 73

من بين الفقهاء ويميز فيما يرويه ويحتج به الصحيح من السقيم، من جملة العلماء، وأرجو من الله أن يحمي سنة إمامنا المطلبي في قبول الآثار، حيث أماتها أكثر فقهاء الأمصار، بعد من مضى من الأئمة الكبار الذين جمعوا بين نوعي علم الفقه والأخبار، ثم لم يرض بعضهم بالجهل به، حتى رأيته حمل العالم به بالوقوع فيه، والإزراء به، والضحك منه، وهو مع ذلك يعظم صاحب مذهبه ويجله، ويزعم أنه لا يفارق في منصوصاته قوله، ثم لم يدع في كيفية قبول الحديث ورده طريقته، ولا يسلك فيها سيرته، لقلة معرفته بما عرف، وكثرة غفلته عما عليه وقف.

هلا نظر في كتبه ثم اعتبر باحتياطه في انتقاده لرواة خبره؟ واعتماده فيمن اشتبه عليه حاله على رواية غيره؟ فيرى سلوك مذهبه مع دلالة العقل والسمع واجباً على كلّ من انتصب للفتيا، فإما أن يجتهد في تعلمه أو يسكت عن الوقوع فيمن يعلمه، فلا يجتمع عليه وزران، حيث فاته الأجران والله المستعان وعليه التكلان.

ثم إن بعض أصحاب الشيخ وقع إلى هذه الناحية فعرض على أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى (المحيط) فسررت به، ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار، لائقاً بما خص به من علم الأصل والفرع، موافقاً لما ميز به من فضل العلم والورع، فإذا أوّل حديث وقع عليه بصري فيه الحديث المرفوع في النهي عن الاغتسال بالماء المشمس، فقلت في نفسي: يورده ثم يضعفه أو يصحح القول فيه. فرأيته قد أملى: "والخبر فيه ما روى مالك

ص: 74

عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" فقلت: هلا قال: روي عن عائشة؟ أو روى عن ابن وهب عن مالك؟ أو روى عن إسماعيل بن عمرو الكوفي عن ابن وهب عن مالك؟ أو روى خالد ابن إسماعيل أو وهب بن وهب أبو البختر، عن هشام بن عروة؟ أو روى عمرو بن محمد الأعسم، عن فليح، عن الزهري، عن عروة؟ ليكون الحديث مضافاً إلى من يليق به مثل هذه الرواية، ولا يكون شاهداً على مالك بن أنس بما أظنه يبرأ إلى الله تعالى من روايته، ظناً مقروناً بعلم. والله أعلم1.

وهكذا سار البيهقي في نقده لكتاب الجويني، بهذا الأسلوب البارع الذي جعل الجويني ينزل عند حسن ظن البيهقي، فقد حمل رسالته هذه على أحسن المحامل، وعدها نصيحة نافعة تستوجب الشكر والثناء، بدليل عدوله عن إكمال الكتاب.

3 -

الفقه:

وقد أولاه عناية فائقة، حتى أصبح فيه إماماً ذا مكانة كبيرة، وقد فضل أن يتمسك في ذلك بمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، لأنه كان يرى فيه أنه أكثر المذاهب موافقة للحديث الذي وهبه جل حياته.

فبعد اعتذاره للأئمة عند وقوعهم في خطأ ما، بأن أحدهم إنما يخطئ عن غير قصد، بل لأنه غفل عن الحديث الذي خالفه أو عن موضع الحجة

1 انظر: الرسالة التي أخذت منها هذه المقتطفات في طبقات الشافعية للسبكي5/77-90، وهي ناقصة هنا، إلاّ أن الرسالة توجد مخطوطة كاملة، كما سأشير إلى مكان وجودها فيما بعد إن شاء الله.

ص: 75

فيه، ولو علم ذلك لما تردد عن القول بما يدل عليه، وقال بعد ذلك - مبرراً تفضيله لمذهب الشافعي على سواه:"وقد قابلت - بتوفيق الله تعالى - أقوال كل واحد منهم بمبلغ علمي من كتاب الله عز وجل، ثم بما جمعت من السنن والآثار في الفرائض والنوافل، والحلال، والحرام، والحدود والأحكام، فوجدت الشافعي رحمه الله أكثرهم اتباعاً، وأقواهم احتجاجاً وأصحهم قياساً، وأوضحهم إرشاداً.. فخرجت - بحمد الله ونعمته - أقواله مستقيمة وفتاواه صحيحة"1.

من أجل هذه النظرة لآراء الإمام الشافعي، أولى مذهبه عناية عظيمة حتى إن إمام الحرمين الجويني أحد معاصري البيهقي قد تملكه العجب من فرط اهتمام البيهقي بأقوال الإمام الشافعي حين ألف كتابه (المبسوط) جامعاً فيه نصوصه في الفقه، فوصفه بقوله:"ما من شافعي إلاّ وللشافعي في عنقه منة، إلاّ البيهقي فإن له على الشافعي منة، لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله"2.

وقد بلغ من اهتمامه بالفقه أن أفرد بعض مسائله المهمة بالتأليف مثل القراءة خلف الإمام، ومسألة الخاتم، كما ألف كتاباً تناول فيه المسائل الخلافية بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة.

وقد أشاد الذهبي بسعة اطلاع البيهقي في الفقه حيث قال عنه لو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهباً يجتهد فيه لكان قادراً على ذلك لسعة علومه، ومعرفته بالاختلاف3.

1 معرفة السنن والآثار1/141، 142.

2 طبقات الشافعية للسبكي4/10.

3 سير أعلام النبلاء11/ ل 185.

ص: 76

4 -

التفسير:

أما عن التفسير فإن البيهقي رحمه الله لم يكن له فيه من المكانة ماله في الفنون السابقة، إلاّ أنه كان ذا معرفة واسعة به، بدليل ما يتخلل كتبه من آراء، بعضها يرويها عن أئمة التفسير ويجتهد في الاختيار، وأفضل منهج عنده هو التفسير بالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أبعد عن الشبهات، أو ما روى عن الصحابة. أما إذا صار الأمر إلى تأويل الفقهاء فلا يجعل قول بعضهم حجة على بعض1.

ومن أهم الآراء - في نظره - التي توافق منهجه هذا: آراء الإمام الشافعي، إذ يقول عنها إنها من أصح الآراء، لدلالة الأدلة عليها. لذلك قام بعمل جليل، حيث جمع آراء الإمام الشافعي في التفسير في كتاب مستقل سمّاه (أحكام القرآن) .

5 -

اللغة:

وهذا العلم أيضاً كان للبيهقي منه نصيب الأسد، لأن من اشتغل بالعلوم الإسلامية لا بد وأن يكون على علم بالعربية وقواعدها، لأنها لغة القرآن.

وإدراكاً من البيهقي لأهمية هذا العلم تضلع فيه، حتى أصبح من أهل الخبرة به، ولا أدل على ذلك من الكتاب الذي ألّفه للرد على منتقدي الإمام الشافعي في مسائل لغوية ادعوا غلطه فيها، فرد عليهم البيهقي في

1 القراءة خلف الإمام ص: 151.

ص: 77

كتاب خصّصه لهذا العرض سمّاه (الانتقاد على أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي) . وذكر ثناء علماء اللغة على الشافعي، وأثبت صحة ما قاله، وخطأ انتقادهم، وذلك بأدلة لغوية دامغة مما ينبئ عن اطلاع واسع، وتمكن من هذا العلم الأصيل.

فالبيهقي رحمه الله كان ذا ثقافة واسعة، وعلم راسخ مما جعله يحتل المرتبة الأولى بين علماء عصره.

وقد وصفه أبو الحسن عبد الغافر1 في ذيل تاريخ نيسابور بقوله:

"أبو بكر البيهقي الفقيه الحافظ الأصولي،

واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، من كبار أصحاب الحاكم، ويزيد عليه بأنواع من العلوم"2.

وسيتضح لنا من خلال عرضنا لإنتاجه العلمي - فيما يأتي - بالإضافة إلى ما تقدم ذكره، سيتضح لنا من ذلك كله مدى ما وصل إليه البيهقي رحمه الله من تعمق في العلوم الإسلامية، التي قضى عمره من المهد إلى اللحد خادما لها ولطلابها.

1 أبو الحسن، عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي، من علماء العربية والتاريخ والحديث، فارسي الأصل، من أهل نيسابور، ولد سنة أربعمائة وإحدى وخمسين، وتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة. انظر الأعلام للزركلي4/157.

2 نقلاً عن تذكرة الحفاظ للذهبي3/1133.

ص: 78

مؤلفاته

لقد كان للبيهقي رحمه الله إنتاج علمي وفير، أثرى به المكتبة الإسلامية، سيما في مجال الحديث النبوي الشريف، الذي عُنِيَ به عناية فائقة شأنه في ذلك شأن أمثاله من المحدثين العظام، الذين بذلوا جهوداً مضنية في سبيل حفظ السنة وتنقيتها من كل دخيل، ببيان صحيحها من سقيمها، وجمعها في مؤلفات ضخمة، كانت ولا تزال إلى يومنا هذا، وستظل - إن شاء الله - نبراساً يضيء الطريق لطلاب المعرفة الصافية، ويبدد ظلمات الجهل، ويحفظ على الإسلام مصدراً من أهم مصادر العقيدة والتشريع.

وكان نبوغه في الحديث سبباً في أن مؤلفاته العقدية، جاءت ذات صبغة حديثية واضحة، نظراً لأنه سلفي المنهج، وتأليفه في العقيدة جاء على طريقة المحدثين.

وقد بلغت مصنفاته ما يقارب ألف جزء1.

وكانت لها ميزة خاصة انفردت بها، حيث جاءت منظمة تنظيماً دقيقاً لا يكاد يوجد في غيرها، ولذلك وصفت بأنه لم يسبق إلى مثلها، ولا يدرك فيها2.

1 طبقات الحفاظ للسيوطي ص: 434، وتبيين كذب المفتري ص:266.

2 انظر: البداية والنهاية لابن كثير12/94، ومختصر طبقات المحدّثين لابن عبد الهادي ص:200.

ص: 79

كما وصفها السبكي بأنها كلها مصنفات نظاف، مليحة الترتيب والتهذيب، كثيرة الفائدة، يشهد من يراها من العارفين بأنها لم تتهيأ لأحد من السابقين1.

وفيما يلي عرض لمؤلفاته، مع التعريف بما اطلعت عليه منها، وهذه المؤلفات جميعها ذكرت في المصادر التي ترجمت للبيهقي ومنها ما ذكره البيهقي نفسه وأحال عليه وهذه المصنفات هي:

1 -

إثبات عذاب القبر:

تناول فيه البيهقي ما يتعلق بإثبات هذه القضية، وما يتقدمها من سؤال الملكين، بسياق أدلة ذلك الإثبات من الكتاب والسنة، وتوضيح تلك الدلالة بأقاويل سلف الأمة.

ويوجد من هذا الكتاب نسخة مخطوطة بمكتبة أحمد الثالث ضمن مكتبة المتحف باستنبول، ضمن مجموعة رقمها:4288.

كما يوجد نسخة أخرى منه بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة.

2 -

أحكام القرآن:

ويقع في جزئين. وقد خصصه البيهقي لجمع أقوال الإمام الشافعي في تفسير آيات الأحكام، بعد أن كانت مفرقة في كتبه المصنفة في الأصول والأحكام2.

وقد قام بتحقيقه الشيخ محمّد زاهد الكوثري، وعني بنشره عزت العطار سنة 1371هـ، 1951م. وقد أعيد نشره بدار الكتب العلمية في بيروت سنة 1395هـ.

1 طبقات الشافعية4/10.

2 انظر: مقدمة البيهقي لهذا الكتاب ص: 19.

ص: 80

وهو الكتاب الوحيد الذي خصصه البيهقي لعلم التفسير مختاراً ما يتعلق بالأحكام من الآيات.

وقد وصف السبكي هذا الكتاب بأنه كتاب نفيس من ظريف مصنفات البيهقي1.

3 -

الآداب:

من هذا الكتاب نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقمها: 43 حديث. ويقع في اثنتين وستين ومائتي ورقة، ويتناول البيهقي في هذا الكتاب جملة من الآداب والأخلاق، التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المسلم، مع نفسه ومع أخيه ومع مجتمعه، وغير ذلك من الآداب الإسلامية الفاضلة التي حفل هذا الكتاب بذكرها، والحث عليها.

4 -

الأربعين الكبرى، والأربعين الصغرى:

كتابان متشابهان في التبويب والتنسيق، مختلفان في الجوهر والموضوع وقد ذكرهما جماعة ممن ترجموا للبيهقي بهذين الاسمين.

وقد ذكر حاجي خليفة كتاباً بعنوان الأربعين في الأخلاق، وذكر اشتماله على مائة حديث مرتبة على أربعين باباً، وأن أوله: الحمد لله كفاء حقه2.

وقد عثرت على نسخة من هذا الكتاب في مكتبة عاشر أفندي ضمن المكتبة السليمانية باستنبول، مع مجموعة منوعة، تحمل رقم 1179.

1 طبقات الشافعية2/97.

2 كشف الظنون1/53.

ص: 81

كما أشار البيهقي في مقدمته لهذا الكتاب إلى أنه ذكر فيه ما يحتاج أصحاب الحديث إلى معرفته، للاستعمال في أحوالهم وأخلاقهم، ليكون بلغة لهم فيما لا بد لهم من معرفته في عبادة الله تعالى1.

وأشار في نفسه الموضع إلى أنه ألف كتاباً آخر بنفس العنوان خصصه لبيان معالم دين الله تعالى.

ويدل ذلك – بوضوح - على صحة وجود كتابين بعنوان واحد ونعت مختلف. ولكن أيهما الكبرى، وأيهما الصغرى؟ هذا ما لا أستطيع تبينه لانعدام الدليل.

5 -

الأسماء والصفات:

ويعد هذا الكتاب من أهم المراجع التي اعتمدها العلماء في النصوص الواردة في موضوع الأسماء والصفات، لأنه يعد مني أوفى الكتب التي ألفت في هذه القضية، حيث شرحها البيهقي فيه شرحاً وافياً.

وقد طبع هذا الكتاب طبعتين، إحداهما بالهند سنة 1313? قام بتحقيقها محمّد محيي الدين الجعفري.

والأخرى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1358?، وقد قام بتحقيقها والتعليق عليها الشيخ محمد زاهد الكوثري.

ويوجد له نسخة خطية بمكتبة فيض الله باستنبول، رقمها: 1307، كتبت سنة 577?، وعدد أوراقها: 205 ورقات.

وينقسم هذا الكتاب إلى قسمين رئيسيين: أحدهما تناول فيه أسماء الله تعالى، وثانيهما تناولت فيه الصفات وما يتعلق بها.

1 كتاب الأربعين ل 3.

ص: 82

وقد وصف السبكي هذا الكتاب بقوله: "وأما كتاب الأسماء والصفات فلا أعرف له نظيراً"1.

وهو كتاب عظيم، نادر المثال دون شك، لأنه قد جمع فيه عق قضية الأسماء والصفات، من النصوص والآثار، ما لم يحصل لغيره مثله.

6 -

الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، على مذهب السلف، أهل السنة والجماعة:

وقد وضع هذا الكتاب ليكون مختصراً شاملاً لجميع مسائل العقيدة التي تناولها في كتب شتَّى، كما ذكر هو ذلك في مقدمته لهذا الكتاب2.

وقد طبع هذا الكتاب في القاهرة سنة: 1380?، بتصحيح الشيخ أحمد مرسي.

ويوجد لهذا الكتاب نسختان خطيتان، إحداهما بمكتبة لاله لي برقم:

2423، تقع في 81 ورقة.

والثانية بمكتبة نور عثمانية برقم: 1208/2، وتقع في 98 ورقة. وكلتاهما في استنبول.

كما يوجد نسخة ثالثة في مكتبة شستربتي بلندن تحت رقم 35 ضمن مجموعة. ومنها صورة بمكتبة مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة.

وقد ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون أن الإمام برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي، المتوفى سنة: 885? قد اختصر هذا الكتاب3.

1 طبقات الشافعية4/9.

2 الاعتقاد ص: 4.

3 كشف الظنون2/1393.

ص: 83

7 -

الألف مسألة:

وهو عبارة عن رسالة صغيرة لا تزيد عن أربع ورقات، بيّن فيها ضعف الحديث الذي رواه الجويباري أحمد بن عبد الله بن مخلد بسنده، عن عبد الله بن سلام أنه سأل النبيصلى الله عليه وسلمعن ألف مسألة، وبيّن أن الصحيح الثابت أن عبد الله بن سلام، إنما سأل النبيصلى الله عليه وسلمعن ثلاث مسائل فقط.

يوجد لهذه الرسالة نسخة ضمن مجموعة رقمها: 1127 بمكتبة أحمد الثالث باستنبول.

8 -

الانتقاد على الشافعي:

يرد البيهقي في هذا الكتاب على جماعة من المخالفين انتقدوا على الإمام الشافعي حروفاً من العربية، زعموا أنه خالف فيها أهل اللغة فبين البيهقي عدم صحة تلك الانتقادات بأسلوب علمي رصين، يدل على سعة اطلاع البيهقي وتمكنه من هذا الفن.

ويوجد من هذا الكتاب نسخة بخط حديث بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة، تقع في خمس عشرة ورقة.

9 -

البعث والنشور.

تناول في هذا الكتاب قضية البعث، وما يعقبها من أحداث. ويتفتت لنا موضوع الكتاب تفصيلاً من قول مؤلفه رحمه الله في مقدمته:

"نذكر ما ورد في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلمثم في أقاويل أهل التفسير من وجوب الإيمان به - أي بالبعث - وأشراط الساعة، وما يكون عند قيامها من بعث الناس وحشرهم إلى موقفها وأهوالها، وما جاء في الحساب والميزان، والحوض، والمرور على الصراط

ص: 84

ودخول الجنة والنار، وما جاء في خلقهما، ومن يخرج من النار بالشفاعة ومن يخلد فيها، وغير ذلك مما يتعلق بهذه الجملة1.

ويذكر الأستاذ السيد أحمد صقران الإمام الذهبي قد اختصر هذا الكتاب2.

ويوجد له مجموعة من النسخ مفرقة في بعض مكتبات العالم، منها ثلاث نسخ في استنبول بتركيا، إحداها بالمكتبة السليمانية ورقمها 1872 والأخريان بمكتبة المتحف رقم 2665-2666.

ونسختان بمكتبة شستربتي بلندن. إحداهما تحمل رقم 3909 والأخرى رقمها 3280، ويوجد لهما صورة ميكروفيلم بمكتبة مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة.

وقد ذكر بروكلمان - سوى هذه النسخ - نسختين، إحداهما بمكتبة الموصل بالعراق برقم 228/ 17.

والأخرى بمكتبة برلين برقم 27343.

10 -

بيان خطأ من أخطأ على الشافعي:

خصّص البيهقي هذا الكتاب للرد على من زعم أن للإمام الشافعي أخطاء حديثية، مبيناً أن ما نسب إليه من ذلك لا يخلو من أحد أمرين:

فإما أن يكون ذلك الخط الذي وجد في كتب الشافعي من جهة غيره بتقصيره، وعدم دقته في النقل عن الشافعي.

وإما يكون ناسب الخطأ إلى الشافعي قد وهم في اعتباره خطأ وليس كذلك.

1 البعث والنشور. مخطوط بمكتبة شستربتي بلند.

2 انظر: مقدمة كتاب معرفة السنن والآثار ص: 12.

3 انظر: تاريخ التراث العربي1/447 ط/ الألمانية.

ص: 85

وقد ناقش البيهقي رحمه الله تلك الأخطاء المنسوبة خطأ إلى الشافعي، وهذه الأوهام، مناقشة علمية دقيقة.

ويوجد لهذا المؤلّف نسخة خطية بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة تحت رقم (195) عام، و (80) مجاميع.

11 -

تخريج أحاديث الأم:

وقد تناول في هذا الكتاب تخريج أحاديث كتاب الأم للشافعي حديثاً حديثاً، مع ذكر سنده والتعليق عليه.

وقسمه على أبواب كتاب الأم.

ويوجد الجزء الأوّل منه بمكتبة شستربتي بلندن تحت رقم 3280، ويبلغ مجموع أوراقه 148 ورقة.

ويوجد الجزء الثاني بدار الكتب المصرية تحت رقم (911) حديث يقيم في 298 ورقة.

أما الجزء الثالث فلم أجد ذكراً له، ولم أعثر عليه.

12 -

الجامع في الخاتم:

رسالة صغيرة، لا تتجاوز خمس ورقات، بحث فيها مسألة لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاتم ومن أي معدن كان خاتمه عليه السلام، وصفة ذلك الخاتم.

ويوجد من هذه الرسالة القيمة نسخة بمكتبة أحمد الثالث ضمن المجموعة المشار إليها سابقا - عند رسالة الألف مسألة.

كما يوجد أخرى منها بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة.

ص: 86

13 -

الجامع لشعب الإيمان:

قسم البيهقي رحمه الله كتابه هذا على سبعة وسبعين باباً، تشمل مسائل شتى في أصول الدين وفروعه. وتقسيمه هذا كان مبنياً على ما صح عنده من ألفاظ حديث "الإيمان بضع وستون، أو سبعون شعبة" حيث أحصى في كتابه هذا بالتفصيل ما أشار إليه الحديث مجملاً وذكر أن السبب لتأليفه لهذا الكتاب، أن شيخه أبا عبد الله الحليمي قد ألف في هذا الموضوع كتاباً، كان مرشداً له في تقسيمه لأبواب هذا الكتاب، إلاّ أنه إنما ذكر المتون وحذف الأسانيد، تحرياً للاختصار، فرأى أن يذكر ما أورده شيخه مسنداً مع الاقتصار على ما لا يغلب كونه كذباً1.

وقد طبع جزء صغير من هذا الكتاب النفيس في حيدر أباد بالهند سنة 1395?، ويوجد له نسخة خطية من ثلاثة مجلدات في مكتبة المتحف باستنبول من رقم: 2667-2669 وقام باختصاره الشيخ أبو جعفر عمر القزويني المتوفى سنة 619?. وقام بتحقيق هذا المختصر والتعليق عليه زكريا علي يوسف، ونشره بالقاهرة.

14 -

حياة الأنبياء في قبورهم:

وهو عبارة عن كتيب صغير تناول فيه البيهقي ما يتعلق بحياة الأنبياء في قبورهم، وما ورد في ذلك مما رآه دليلاً على هذه القضية، وهذا الكتاب طبع في القاهرة بالمطبعة المحمودية، سنة: 1357?، بتعليق الشيخ محمّد بن محمّد الخانجي البوسنوي من علماء الأزهر.

1 انظر: الجامع لشعب الإيمان ل 1، وكتاب الحليمي الذي أشار إليه البيهقي يوجد منه نسختان بمكتبة المتحف باستنبول، إحداهما لا تحمل رقماً، وتقع في مجلد واحد بخط نسخ رفيع، وأوراقه من الحجم الكبير، والأخرى تقع في ثلاثة مجلدات من رقم: 2618-2620.

ص: 87

وقد وجدت نسخة من هذا الكتاب ضمن المجموعة المشار إليها عند الكلام على كتاب إثبات عذاب القبر، وهي بعنوان (كتاب العدة) ولم أجد أحداً ممن ذكره أشار إلى هذا العنوان.

وقد غلط حاجي خليفة عندما ذكر هذا الكتاب، ووصفه بأنه يشتمل على ألف مسألة جمعها البيهقي1. لأن الألف مسألة عبارة عن كتاب آخر، وقد تقدم ذكره.

كما غلط بروكلمان حينما ذكر كتابين مشيراً لكل منهما منفرداً عن الآخر، أحدهما بعنوان (حياة الأنبياء في قبورهم) والآخر بعنوان (ما ورد في حياة الأنبياء بعد وفاتهم) 2 وأشار إلى وجود الأخير بالمدينة المنورة دون الأوّل، والواقع أن الإثنين كتاب واحد هو (حياة الأنبياء في قبورهم) وهو بعينه الموجود في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة.

15 -

الخلافيات بين الشافعي وأبي حنيفة:

تناول البيهقي في هذا الكتاب جميع المسائل الفقهية التي وقع الاختلاف فيها بين الشافعي وأبي حنيفة، ورتبه على أبواب الفقه.

ويوجد لهذا الكتاب نسخة بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية مصورة عن نسخة أصلية في مكتبة سليم آغا من نسخة كتبت في القرن السابع. وتقع جزئين الأوّل يتكون من 172 ورقة والثاني من 174 ورقة. والجزءان بهما خروم من الأول والآخر.

ومنه نسخة أخرى بدار الكتب المصرية تحت رقم (94 فقه شافعي) مكتوب عليها أنها الجزء الثاني وتقع في 172 ورقة.

1 كشف الظنون2/1455.

2 تاريخ التراث العربي1/447.

ص: 88

ويبدو أن هذا الجزء مكمل لنسخة جامعة الدول العربية وإن لم تكن النسخة واحدة. لأن نسخة جامعة الدول العربية ينتهي جزؤها الثاني منها بمسائل الحج، التي بدأ بها الجزء الموجود بدار الكتب المصرية.

16 -

الدعوات الكبيرى:

ألف البيهقي رحمه الله هذا الكتاب استجابة لطلب أحد إخوانه أن يجمع له ما ورد من الأخبار المأثورة في الأدعية المرجوة، التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو علمها أحداً من صحابته، وقد ذكرها بأسانيدها، ورتبها على ترتيب كتاب المختصر لأبي بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة، وضمنه زيادات لم يذكرها ابن خزيمة1. وبدأ كتابه هذا بذكر ما للدعاء والذكر من الأجر والثواب.

ويوجد لهذا الكتاب نسخة مخطوطة بالمكتبة الأصفية بحيدر آباد بالهند رقمها (14) أدعية.

ويوجد منها صورة ميكروفيلم بمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية برقم 3163.

17 -

دلائل النبوة:

وهو كتاب قيم، يعتبر من أجمع المؤلفات في بابه، وقد تكلم فيه البيهقي رحمه الله عما يتعلق بالنبي محمّد صلى الله عليه وسلممن صفات ومعجزات، وفي إيضاح موضوعه يقول البيهقي:

"

أردت - والمشيئة لله تعالى – أن أجمع بعض ما بلغنا من معجزات نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم، ودلائل نبوته، ليكون عوناً لهم على إثبات رسالته، فاستخرت الله تعالى في الابتداء بما أردته، واستعنت به في إتمام ما قصدته، مع ما نقل إلينا من شرف أصله، وطهارة مولده، وبيان أسمائه

1 انظر: ل2 من المخطوطة.

ص: 89

وصفاته، وقدر حياته، ووقت وفاته، وغير ذلك مما يتعلق بمعرفته صلى الله عليه وسلم، على نحو ما شرطته في مصنفاتي، من الاكتفاء بالصحيح من السقيم، والاجتزاء من المعروف بالقريب، إلا فيما لا يتضح المراد من الصحيح أو المعروف دونه فأورده"1.

ويعتبر هذا الكتاب من أوثق كتب السيرة قاطبة، لما لمؤلفه من علو مكانة في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها.

وقد قام الشيخ عبد الرحمن محمّد عثمان بتحقيق وطبع الجزئين الأولين منه بدار النصر للطباعة بالقاهرة سنة 1389?.

كما قام الأستاذ السيد أحمد صقر بتحقيق الجزء الأوّل منه، وتولى نشره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة سنة 1395?.

ويوجد له نسخة خطية بمكتبة المتحف باستنبول تقع في أربعة مجلدات رقمها (6000-6003) كما يوجد له عدة نسخ بدار الكتب المصرية إلا أن جميعها ناقصة.

18 -

رسالة إلى أبي محمّد الجويني:

أوضح البيهقي للجويني في هذه الرسالة ما وقع فيه الأخير من أخطاء حديثية في كتابه الذي سماه (المحيط) عزم على أن لا يتقيد فيه بالمذهب وأن يقف على موارد الأحاديث مما حمل الجويني على العدول عن إتمام التأليف، شاكراً للبيهقي حسن صنيعه، وجميل نصحه.

ويوجد لهذه الرسالة نسخة خطية مكونة من سبع ورقات بمكتبة أحمد الثالث باستنبول ضمن مجموعة رقمها 1127.

وقد طبعت ناقصة ضمن طبقات الشافعية للسبكي، كما سبق أن ذكرت.

1 دلائل النبوّة1/63 تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان.

ص: 90

19 -

الزهد الكبير:

يتناول البيهقي رحمه الله في هذا الكتاب ما ورد من الأخبار والآثار عن السلف والخلف في الترغيب في الزهد في الدنيا، حيث ذكر رحمه الله أنه أورد في كتاب الجامع كثيراً من الأخبار، والآثار الواردة في هذا الموضوع، وأنه أورد في كتاب (دلائل النبوّة) وغيره، كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم، ونظراً لكثرة أقاويل السلف والخلف في فضيلة الزهد وكيفيته، أفرد لذكرها هذا المؤلف1 الذي يقع في خمسة أجزاء صغيرة، يبلغ عدد أوراقها مائة وتسع عشرة ورقة، ويوجد منه نسخة خطية نادرة بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة تحت رقم (142) حديث، كتبت سنة ست وعشرين وستمائة، وعليها عدة سماعات.

20 -

السنن الصغرى:

بيّن البيهقي في مقدمة قصيرة وضعها لهذا الكتاب أنه كما جعل كتاب الاعتقاد مختصراً في العقائد فقد جعل هذا المصنف مختصراً يرجع إليه في العبادات والمعاملات، والمناكحات، والحدود، والسير، والحكومات ويوجد لهذا الكتاب نسخة كاملة بمكتبة المتحف باستنبول تقع في اثنتين وتسعين وثلاثمائة ورقة، ورقمها:2664.

21 -

معرفة السنن والآثار:

وهو كتاب نفيس لا يستغني عنه فقيه شافعي - كما قال السبكي. بل لا يستغني عنه فقيه كائناً من كان.

ويبيّن رحمه الله موضوع الكتاب وسبب تأليفه له بقوله في مقدمة الطويلة: "ثم إني رأيت المتفقهة من أصحابنا يأخذهم الملال من

1 انظر: مقدمة الكتاب ل3.

ص: 91

طول الكتاب، فخرجت ما احتج به الشافعي رحمه الله من الأحاديث بأسانيده في الأصول والفروع، مع ما رواه مستأنساً به غير معتمد عليه، أو حكاه لغيره مجيباً عنه، على ترتيب (المختصر) ، ونقلت ما وجدت من كلامه على الأخبار بالجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل. وأضفت إلى بعض ما أجمله من ذلك من كلام غيره ما فسره، وإلى بعض ما رواه من رواية غيره ما قواه"1.

ويوجد لهذا الكتاب نسخة بمكتبة المتحف باستنبول، تبدأ من رقم 2638-2643.

وقد قام الأستاذ السيد أحمد صقر بتحقيق الجزء الأوّل منه، وتولى طبعه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر. ويطلق بعض العلماء على هذا الكتاب اسم (السنن الوسطى)2.

22 -

السنن الكبرى:

ويعتبر هذا الكتاب أهم مؤلفات البيهقي وأشهرها، جمع فيه أحاديث الأحكام، من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وتقريراته وما يتعلق بالأحكام من موقوفات الصحابة، ومراسيل التابعين، فكان موسوعة كبرى، رتبه مؤلفه على المباحث الفقهية مبتدئاً بكتاب الطهارة، ومنتهياً بكتاب عتق أمهات الأولاد، ويقع هذا الكتاب العظيم في عشرة مجلدات، قام بتحقيقه جماعة من علماء الدولة العثمانية، وطبع بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، وقد طبع بحاشيتها (الجوهر النقي في الرد على البيهقي) لابن التركماني.

1 معرفة السنن والآثار1/144.

2 انظر: مقدمة الكوثري على كتاب أحكام القرآن ص:17.

ص: 92

ويوجد منه بدار الكتب المصرية نسخة مخطوطة تحمل رقم (254- 267) حديث. وأخرى بمكتبة المتحف باستنبول رقم (2644-2660) .

ومما يدلّ على عظم مكانة هذا الكتاب بين كتب السنة، وانفراده بخصائص لم يحظ بها غيره، ما ورد من وصفه على ألسنة عدد كبير من جهابذة العلماء.

فمنهم الشيخ تقي الدين السبكي الذي قال عنه: "أما السنن الكبير فما صنف في علم الحديث مثله، تهذيباً، وترتيباً، وجودة"1.

ويقول الإمام الذهبي في وصف مصنفات البيهقي عامة وكتابه هذا خاصة: "تصانيف البيهقي عظيمة القدر، غزيرة الفوائد، قلّ من جود تواليفه مثل الإمام أبي بكر البيهقي، فينبغي للعالم أن يعتني بها، سيما سننه الكبير"2.

وقال الإمام السخاوي عند ذكره: "فلا تعد عنه، لاستيعابه لأكثر أحاديث الأحكام، بل لا تعلم - كما قال ابن الصلاح - في بابه مثله، ولذا كان حقه التقديم على سائر كتب السنن، ولكن قدمت تلك لتقدم مصنفيها في الوفاة، ومزيد جلالتهم"3.

وكان البيهقي رحمه الله قد قضى ردحاً طويلاً من حياته في تصنيف هذا الكتاب، حيث بدأ تأليفه سنة خمس وأربعمائة، وفرغ منه سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة4.

1 طبقات الشافعية4/9.

2 سير أعلام النبلاء11/ل185.

3 فتح المغيث للسخاوي2/333.

4 السنن الكبرى1/2، 10/351.

ص: 93

ونظراً لما لهذا الكتاب من أهمية بالغة فقد نال عناية العلماء دراسة وتهذيباً، إذ يذكر حاجي خليفة أن الشيخ إبراهيم بن علي المعروف بابن عبد الخالق الدمشقي المتوفى سنة 744? اختصر هذا الكتاب في خمسة مجلدات، كما ذكر ممن اختصره الحافظ شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748?، والشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني المتوفى سنة 974?، وأن الجوهر النقي في الرد على البيهقي، الذي أشرت إليه سابقاً - قد قام بتلخيصه وترتيبه على حروف المعجم الشيخ زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة 879? وسمّاه ترجيع الجوهر النقي1.

وهكذا تتضح لنا أهمية هذا الكتاب الجليل، الذي يعتبر – بحق – من أوسع الموسوعات العلمية قي أحاديث الأحكام.

23 -

القراءة خلف الإمام:

وهو من مصنفات البيهقي ذات الموضوع الواحد، تناول فيه مسألة القراءة للمأموم خلف الإمام، مورداً النصوص التي تناولتها، ومتبعاً أقوال العلماء فيها.

يوجد لهذا الكتاب نسخة مصورة بمعهد إحياء المخطوطات العربية تحت رقم (123) فقه شافعي، والأصل الذي صورت عنه يوجد بمكتبة أحمد الثالث، وتبلغ أوراقها إحدى وثمانين ورقة.

كما تم طبع هذا الكتاب طبعة حجرية بالهند بعناية (تلطف حسين) .

1 انظر: كشف الظنون2/1007، ويوجد من مختصر الذهبي المشار إليه هنا نسخة في مكتبة المتحف باستنبول، في ثلاثة مجلدات من رقم: 26661-2663.

ص: 94

24 -

القضاء والقدر:

خصّصه البيهقي رحمه الله لبحث ما يتعلق بهذا الموضوع، ويبين ما يشتمل عليه بقوله في أوّله:"كتاب إثبات القدر، والبيان من كتاب الله جل ثناؤه، وسنة رسوله محمّد صلى الله عليه وسلموعلى آله، وأقاويل الصحابة والتابعة، وأئمة المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين أن أفعال الخلق كلّها مقدرة لله عز وجل، مكتوبة له، وإن الله عز وجل لم يزل عالماً بما يكون، ولا يزال عالماً بما كان ويكون"1.

وقد عثرت لهذا الكتاب القيم على نسخة خطية نادرة بمكتبة الشهيد علي باشا، ضمن المكتبة السليمانية باستنبول، تقع في 110 ورقات، كتبت سنة ست وستين وخمسمائة وعليها عدة سماعات ورقمها في المكتبة المذكورة 1488.

25 -

المبسوط:

ألّفه البيهقي ليكون جامعاً لكلام الإمام الشافعي ونصوصه في المسائل الفقهية مضبوطة، بعد ما ضاق صدره بما وجده في الكتب الجامعة لكلام الإمام الشافعي، والموردة للحكايات عنه دون تثبت.

ولهذا السبب قام بتأليف هذا الكتاب، كما قال في رسالته إلى أبي محمّد الجويني: "

وكنت أدام الله عزّ الشيخ أنظر في كتب بعض أصحابنا وحكايات من حكى منهم عن الشافعي نصاً، وأبصر اختلافهم في بعضها فيضيق قلبي بالاختلاف، مع كراهية الحكاية من غير تثبت، فحملني ذلك على نقل مبسوط ما اختصره المزني على ترتيب المختصر"2.

1 القضاء والقدر ل2.

2 رسالة البيهقي إلى الجويني ل16 من المجموعة.

ص: 95

ثم ذكر رحمه الله من تلك الكتب التي وجد الاختلاف بينها في النقل عن الشافعي ثلاثة أورد أسماءها، ولم يذكر مؤلفيها وهي: التقريب وجمع الجوامع، وعيون المسائل1.

وقد وصف السبكي هذا الكتاب بأنه لم يصنف في نوعه مثله2.

كما وصفه حاجي خليفة بأنه من أعظم كتبه قدراً، وأبسطها علما، يكون في عشرين مجلداً3.

26 -

المدخل إلى كتاب السنن:

وهو عبارة عن مقدمة وضعها البيهقي لكتاب السنن الكبرى في كتاب مستقل، وموضوع الكتاب يدور حول فضل العلم والعلماء، وما يجب أن يتحلى به العالم من خصال حميدة.

ويوجد لهذا الكتاب نسخة خطية بمكتبة الجمعية الآسيوية بكلكتا تحت رقم 368، ويوجد من نفس النسخة صورة ميكروفيلم بمركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرّمة، وأخرى بمكتبة الشيخ عبد الرحيم صديقي. إلا أن النسخة ناقصة من أولها، حيث تبتدئ

1 ذكر الأستاذ السيد أحمد صقر مؤلفي هذه الكتب على النحو التالي: (التقريب) : للقاسم بن محمّد بن علي الشاشي، ابن الإمام القفال الكبير.

وكتاب (جمع الجوامع) ألفه أبو سهل بن العفريس الزوزني تلميذ الأصم. أما (عيون المسائل) فمؤلفه أبو بكر الفاسي، أحمد بن الحسن بن سهل تلميذ ابن سريج. انظر مقدمة السنن والآثار ص: 25، 26.

2 طبقات الشافعية4/9.

3 كشف الظنون2/1582.

ص: 96

بأثناء الباب الذي يسبق باب (الحديث الذي لم يرو خلافه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنتهي بباب (ما يخشى من رفع العلم وظهور الجهل) .

وهذه النسخة التي اطلعت عليها نادرة، وقد كان الفراغ من كتابتها سنة 635?، وعليها عدة سماعات بخط ابن الصلاح، والحافظ المزي وعدة سماعات أخرى.

27 -

مناقب الشافعي:

تناول البيهقي في هذا المصنف حياة الإمام الشافعي بجميع جوانبها استجابة لطلب بعض العلماء وفي ذلك يقول: "وقد سألني بعض أصحابنا من أهل العلم والبصيرة أن أجمع كتاباً مشتملاً على ذكر مولد الشافعي ونسبه، وتعلمه، وتعليمه، وتصرفه في العلم، وتصانيفه، واعتراف علماء دهره بفضله، وما يستدل به على كمال عقله، وزهده في الدنيا، وورعه، واشتهاره بخصال الخير، ومكارم الأخلاق - في وقته وبعد وفاته - فأجبته إلى مسألته"1.

ويقع هذا المؤلف في جزئين، قام بتحقيقهما الأستاذ السيد أحمد صقر، وطبع لأوّل مرة بدار النصر للطباعة بالقاهرة سنة 1391?.

وقد فاق البيهقي الكثيرين ممن كتبوا عن حياة الإمام الشافعي إذ أصبح كتابه هذا نموذجاً للتأليف في المناقب.

وقد نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء عند ترجمته للإمام الشافعي قدراً كبيراً من هذا الكتاب2.

1 انظر: مقدمة المحقّق1/8.

2 انظر: معجم الأدباء11/310-320.

ص: 97

وثمة مؤلفات أخرى سوى ما ذكرت فيما تقدم، عدها العلماء الذين ترجموا للبيهقي ضمن مؤلفاته، وقد أشار البيهقي إلى بعضها، وهذه المؤلفات هي:

1 -

كتاب الأسرى.

2 -

كتاب الإيمان.

3 -

الترغيب والترهيب.

4 -

الدعوات الصغير.

5 -

كتاب الرؤية.

6 -

الزهد الصغير.

7 -

فضائل الأوقات.

8 -

فضائل الصحابة.

9 -

مناقب الإمام أحمد.

ويوجد في فهرس المخطوطات المصورة بدار الكتب القطرية اسم لكتاب منسوب للبيهقي، وهذا الكتاب هو: العيون في الرد على أهل البدع1 وأشير عند ذكره إلى أنه مصور عن نسخة مخطوطة بمكتبة أمبروزيانا في ميلانو بإيطاليا تحت رقم 66.

وأخيراً أحب أن أشير إلى أن أحداً ممن ترجم للبيهقي، وعد مؤلفاته لم يدع استقصاءها، بل الكل يشير إلى أنه إنما ذكر بعضاً منها، وذلك

1 انظر: ص: 16 من الفهرس المذكور. وهو موجود بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة.

ص: 98

يدل على أن له مؤلفات غير هذه لم نهتد إلى أسمائها، وقد سبق أن نقلت عني السيوطي وابن عساكر أن مؤلفاته تصل إلى ألف جزء، مما يشير إلى أن بعضاً من كتب البيهقي لا زال في عالم المجهول.

وكثرة مؤلفاته رحمه الله تدل على عنايته بالتأليف واتجاهه إليه مما جعله ينتج هذا المقدار الضخم من المؤلفات في شتى ميادين المعرفة فجزاه الله عن الإسلام وأهله أوفر الجزاء.

ص: 99

‌الفصل السادس: منهج البيهقي في الاستدلال

لقد تعددت السبل، واختلفت المناهج في الاستدلال على مسائل العقيدة، سيما ما يتعلق منها بذات الله تبارك وتعالى، من إثبات لوجوده ووحدانيته، وأسمائه، وصفاته.

فقد ذهب أناس إلى تقديم الجانب العقلي على الجانب السمعي واعتبار العقل هو الأساس الذي يجب أن يكون تصوّره منطلقاً لإثبات مسائل العقيدة، وذلك هو ما اشتهر عن المعتزلة ومتكلمي الأشاعرة، لذلك اتبع هؤلاء منهجاً فلسفياً، وصفه الدكتور محمود قاسم بأنه أقل وضوحاً وقوة، وأنه منهج واه، لأنه منهج جدل، لا منهج إقناع، وأنه لا يصلح لا للعلماء، ولا للعامة بل هو أعجز عن أن يقنع المتكلمين أنفسهم1.

إلاّ أن البيهقي رحمه الله وإن كان أشعري العقيدة - كما سيتضح لنا ذلك فيما بعد إن شاء الله - فإنه سلك منهجاً متميزاً يتسم بحب واضح، وتفضيل أكيد لسلوك الأدلة النقلية الواردة لإثبات مسائل العقيدة، مع الأخذ بالأدلة العقلية إلى جانب النقلية، وذلك فيما للعقل فيه مجال، كإثبات الوجود، والوحدانية والصفات العقلية.

1 انظر: مقدمة مناهج الأدلة لابن رشد، تقديم الدكتور محمود قاسم ص:9.

ص: 103

فإثبات وجود الله مثلاً - وهو من أكبر قضايا العقيدة - كان المنهج فيه بين المتكلمين والفلاسفة محل اتفاق، إذ اتفقوا جميعاً على أن الإيمان بوجود الله تعالى، لا يكون إلاّ باستخدام العقل، والاعتماد عليه1.

وهو أمر سيتضح لنا في موضعه من هذا البحث إن شاء الله.

والبيهقي رحمه الله وإن اعترف للعقل بفضله ومكانته في إثبات هذه القضية، إلاّ أن الطرق العقلية التي سلكها في هذا المجال شرعية أيضاً، لأن الشرع أرشد إليها، ونبه الخلق عليها، مثل طريقي النظر في الملكوت وفي الأنفس، كما سلك طريق المعجزة، وكلّها طرق شرعية صحيحة إلاّ أنه أضاف إليها طريق الحدوث، وهو طريق سليم لا غبار عليه، لولا ما صاحبه من استدلال بحدوث الأعراض على حدوث الجواهر، وهو استدلال قرره المتكلمون، ووافقهم عليه البيهقي، إلاّ أنه لم يجعله أصلاً كما جعلوه بل وافق على إمكان سلوكه للاستدلال على وجود الله تعالى، مع أنه يرى أن طريقي النظر أولى بدليل فرط عنايته بهما، كما سيتبين لنا ذلك فيما بعد إن شاء الله.

وإذا كان هذا هو منهج الييهقي في إثبات قضية الوجود فإن منهجه في إثبات الأسماء والصفات رسم له حدوداً واضحة المعالم، إذ قال في إثبات أسماء الله تعالى:"إثبات أسماء الله تعالى ذكره بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة"2.

1 انظر: المصدر نفسه ص: 11.

2 الأسماء والصفات ص: 3.

ص: 104

وقال في إثبات الصفات: "لا يجوز وصفه إلاّ بما دل عليه كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه سلف هذه الأمة"1.

وهذا منهج واضح حدده البيهقي لإثبات الأسماء والصفات وسار عليه في الاستدلال، فإننا نجده يستدل لكل مسألة من مسائل العقيدة بإيراد نصوصها التي جاءت بإثباتها، وذكر الآثار المروية عن السلف في ذلك. وهذا منهج سلفي قويم طالما أكد السلف الالتزام به، وحذروا من تنكبه، فمن يطالع كتب السلف، ويقارن بها كتب البيهقي يجد منهج الاستدلال واحداً، وأسلوب العرض هو نفس الأسلوب الذي سلكه البيهقي.

وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله منهج السلف بقوله: "فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسله، نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه وقد علم أن طريقة السلف وأئمتهم إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه"2.

وإذا كان البيهقي قد اتفق مع السلف في منهج الاستدلال فهل اتفق معهم في تطبيق ذلك المنهج على جميع الصفات؟

الواقع أن الباب الثاني من هذا البحث سيفصل الجواب عن هذا السؤال، إلاّ أنني هنا أجمل الجواب ببيان موجز لمنهج التطبيق بعد أن عرفنا منهج الاستدلال.

1 المصدر السابق ص:110.

2 الرسالة التدمرية لابن تيمية ص: 4.

ص: 105

فالتطبيق الطبيعي لمنهج البيهقي السالف كان ينبغي أن تكون نتيجته الإثبات لجميع الصفات لتوفر جميع العناصر التي اشترطها في أدلتها. فكل صفة من صفات الله تعالى ورد إثباتها بالكتاب أو بالسنة أو بهما معاً، مع توفر الإجماع من جانب السلف على وصفه سبحانه بها لوضوح أدلتها، وصراحتها في ذلك. إلاّ أن ما حصل من البيهقي كان بخلاف ذلك، لأنه اتفق مع السلف في إثبات بعض الصفات، وخالفهم في بعضها الآخر، حيث أوله، أو فوض فيه.

فهذه ثلاثة مناهج سلكها البيهقي في أمر كان ينبغي أن يكون الكلام فيه على نمط واحد لأن ما يقال في بعض الصفات ينبغي أن يقال في بعضها الآخر، وهو إلزام لجميع نفاة الصفات لإثباتهم لذات الله تعالى والكلام عن الصفات لا بد وأن يكون فرعاً عن الكلام في الذات، فإذا ثبتت الذات كان لا بد من ثبوت صفاتها يقيناً، وأي شبهة يوردها أولئك النفاة فإنها تلزم ما أثبتوه من صفات، إذ لا فرق حينئذٍ بين القول في صفة والقول في أخرى.

وللبيهقي أسلوب خاص في التفريق بين ما يرى إثباته حقيقة وبين ما أوله أو فوض فيه، وذلك عن طريق الترجمة لبحث الصفة، لأنه حين يرمي إلى إثباتها إثباتاًحقيقياً يترجم لأدلتها بقوله:(باب ما جاء في إثبات كذا) كما هو الحال عند كلامه على الصفات العقلية كالحياة، والعلم، والقدرة وغيرها. حيث ترجم لصفة الحياة بقوله:(باب ما جاء في إثبات صفة الحياة) 1 وسلك في الترجمة نفس الأسلوب لبقية هذا النوع من الصفات.

1 الأسماء والصفات ص: 111.

ص: 106

وكذا كان فعله فيما أثبته من الصفات الخبرية، كاليدين والوجه والعينين.

أما ما لا يرى إثباته منها، بل سلك فيه أحد المنهجين الآخرين التفويض أو التأويل، فإنه اتخذ له طريقة أخرى في الترجمة كأن يقول (باب ما جاء في كذا، أو في ذكر كذا) . كما فعل في ترجمته لليمين والكف، والأصابع1. وقال في ترجمته لصفة الاستواء التي فوض فيها (باب ما جاء في قول الله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2.

وهو يرمي من وراء هذا الأسلوب أن يكون رأيه واضحاً من أول وهلة فما صرح فيه بالإثبات في الترجمة فإن ذلك يعني أنه يثبته إثباتاً حقيقياً على طريق السلف في ذلك.

أما إذا سلك أحد الطريقين الآخرين فإن ذلك يعني أنه إما مفوض في تلك الصفة، أو مؤول فيها.

فالصفات العقلية بنوعيها سنرى كيف أنه مثبت لها على طريقة السلف فوافق بذلك الإثبات ما أورده من أدلة لها.

أما بقية الصفات فإن البيهقي لم يتفق مع السلف في منهج التطبيق لما وردت به أدلتها، عدا ثلاث صفات هي: الوجه واليدين والعين من صفات الذات الخبرية مع أن ما أورده من أدلة لبقية الصفات صريحة في ذلك الإثبات، ومع ذلك أولها، لسبب سنعرفه في موضعه بإذن الله.

1 المصدر نفسه ص: 333.

2 المصدر نفسه ص: 405.

ص: 107

أما صفات الفعل الخبرية فلم يسعد منها شيء بالإثبات عند البيهقي إذ إنه سلك فيها مسلكين بعيدين كل البعد عن الإثبات هما: التأويل والتفويض. ففوض في الاستواء، والنزول وما في معناه كالإتيان والمجيء، وأول في ما تبقى منها.

وسنرى جميع ما أوجزته هنا واضحاً ومفصلاً في الجزء الثاني من هذا البحث بإذن الله.

إلاّ أنني أحب أن أنبه هنا إلى أن ما تقدم من عرض موجز لمنهج الاستدلال ومنهج التطبيق عند البيهقي يوضح لنا كيف أنه اتفق مع السلف في منهج الاستدلال وطريقة العرض لمسائل العقيدة، إلاّ أنه خالفهم عند التطبيق الذي هو الأهم، فلم يثبت جميع ما أثبتته الأدلة التي ساقها بل كان متردداً في منهج التطبيق، فهو سلفي في بعضه، وأشعري في بعضه الآخر. وهو أسلوب يجعلنا نحكم على البيهقي بالتناقض المنهجي في مجال التطبيق، لتردده بين الأشعرية والسلفية في ذلك، بينما كان السلف أصحاب منهج واحد استدلالاً وتطبيقاً، فأثبتوا ما كان مثبتاً بالدليل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، وكانوا بذلك أبعد الناس عن منهجي التأويل والتفويض.

وقد لاحظت من منهج البيهقي في إيراده لمسائل العقيدة والاستدلال عليها أنه لا يهتم برأي الخصوم في كل مسألة يوردها إذ أحيانا يتعرض لها ويناقشها، كما فعل عند بحثه لمسألة القول بخلق القرآن حين ذكر أن ذلك مذهب الجهمية، ثم تناول الرد عليهم بإسهاب

ص: 108

وتفصيل، وكما فعل حين رد على مؤولي ما أثبته من الصفات الخبرية، الوجه، واليدين، والعين بطريقة تشعر أساساً بأنه قصد أولاً بيان سلامة مذهبه ومن ثم رد ما ذهب إليه مخالفوه، وأحياناً أخرى لا يزيد على إيراد مذهبه وحده.

والحاصل أن ما احتوته مباحث الإلهيات عند البيهقي قصد منه أساساً تقرير ما يراه واجب الاعتقاد، حتى فيما تعرض له من آراء الخصوم.

وهذه أمور سيتضح لنا بيانها أكثر في الباب الثاني من هذا البحث الذي أنقل القارئ إليه في الصفحات التالية.

ص: 109

‌الباب الثاني: موقف البيهقي من الإلهيات

‌الفصل الأوّل: منهج البيهقي في إثبات وجود الله

1 -

تمهيد.

2 -

منهج البيهقي.

3 -

طريق النظر إلى المخلوقات.

4 -

طريق المعجزة.

5 -

طريق الحدوث.

تمهيد:

يعتبر الإيمان بوجود الله تعالى أصل الأصول في الدين، وهذا الإيمان أمر فطري في البشر جميعاً، إذ كل إنسان يقر بوجود الله تعالى - منذ عهد آدم عليه السلام، والعقل البشري يدرك هذه الحقيقة الجلية، بما أودع الله فيه من ضرورة يحس بها، دون أن يكون بحاجة إلى منهج مرسوم يسلكه للتعرف على خالقه، بارئه ومكونه، موجده من العدم، وميسر رزقه وتقلبه في هذه الحياة، إذ كانت الإشارات التي تشير إلى الله أكثر من أن تحصى، إنها تنبعث من كل موجود، من النبتة الصغيرة الملتصقة بالأرض، إلى النخلة الباسقة الذاهبة في السماء ومن النمل يدب على الأرض إلى النسور المحلقة في الفضاء.

بل من كل كائن في الأرض، إلى كل كوكب ونجم في السماء، كل هذه المخلوقات تشير إلى هذه الحقيقة، إشارة ضرورة لازمة، وحتمية مطلقة، فهي من الأمور القطعية، التي تضافرت الأدلة الحسية على إثباتها، يشهد لذلك قول ذلك الأعرابي:"البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟ "1

1 من خطبة لقس بن ساعده. انظر: جوهر الأدب لأحمد الهاشمي2/19، والبيان والتبيين للجاحظ1/163.

ص: 114

فهذا الأعرابي قد أدرك بفطرته السليمة التي فطره الله عليها أن هذه المخلوقات بما فيها من عجائب، ونظام محكم، من تعاقب الليل والنهار، ومن سماء مزينة بالنجوم والكواكب مسيرة بدقة متناهية لا يمكن أن توجد إلاّ بسبب أوجدها، وصيرها إلى ما هي فيه من إحكام وإتقان.

والتاريخ المصري القديم يحكي لنا قصة ذلك الرجل المغامر (سنوحى) الذي فر من مصر، وأخذ يتنقل في بلاد الشرق الأدنى وحظي فيها بضروب النعيم والشرف، ولكنه لم يطق فراق وطنه، فقد برح به، الحنين إلى بلاده، فاتخذ سبيله للعودة إليها، وفي الطريق لقي أهوالاً مروعة، فكان يناجي من يأخذ بيده، أنه لا يعرف من يناجيه ولكنه يثق في ضميره بأن هناك قوة مطلقة لا حدود لها، ولكن أين هي؟، وما كنهها؟ إنه لا يدري، ومع هذا فهو يهتف بها في أعماقه قائلاً:"ألا أيها الإله، أيا كنت، يا من قدرت على الفرار، أعدني إلى وطني"1.

إنها صرخة الاستغاثة والنجدة، تنطلق من ضمير الإنسان إلى تلك القوة المطلقة، التي يؤمن بوجودها دون أن يراها.

والقرآن الكريم يحكي لنا وجود هذه الفطرة في قلوب المشركين فهم يلوذون بها في حال الشدة كما قال تعالى عنهم: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2.

1 قصة الحضارة، ول، ديورانت 2/111.

2 سورة يونس آية: 33.

ص: 115

وهكذا، فإن هذه القضية وإن كانت جافة على الصعيد الفلسفي فهي بدهية على الصعيد الحسي، لا تحتاج إلى برهان، لأنها من ضرورات الفطرة، لذا فإن القرآن الكريم يطرحها كقضية مسلمة لا تحتاج إلى استدلال، ولا تحتمل الجدال والمماراة، انظر إلى قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. وهاك مثلاً آخر على ارتكاز هذه القضية في الفطرة، وضرورة الإحساس بها، فنحن نعلم جميعاً المطلب الأسمى الذي أفنى الفلاسفة حياتهم في سبيل الوصول إليه وتبين حقيقته فكل منهم سلك الطريق التي رآها مناسبة لإيصاله إلى بغيته، فوضع الأدلة، ووصل بها إلى ما أراد، فضلاً عن كونهم وصلوا إلى الإله الحق، أم أنهم وصلوا إلى مجرد وجود إله، أياً كان في تصورهم، إذ المهم أنهم وصلوا إلى حقيقة أحسوا بالضرورة إليها وعدم الاستغناء عنها فأدركوا أن لهذا الكون موجداً ثم إن هذه الغريزة الفطرية لم تكن قاصرة على البشر وحدهم بل كل مخلوق على هذه الأرض يحس بها ويهرع إليها، ولعل من أبرز الأدلة على ذلك قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام، التي ذكرها القرآن الكريم في قوله سبحانه حكاية عن الهدهد:{فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} - إلى قوله – {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 3.

1 سورة العنكبوت آية: 51.

2 سورة الزخرف آية: 87.

3 سورة النمل آية: 22-26.

ص: 116

فهذا كلام الهدهد كما اتفق على ذلك المفسرون، وهو طير من الطيور، فهو - كما يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – "غديم العقل، يصيح كغيره من الطيور، قد خاطب سليمان بأعظم التوحيد، وأعلمه بغير ذلك"1.

بعد هذا كله يتبين لنا أن وجود الله تعالى أمر فطري لا يحتاج إلى دليل، والدليل إنما يكون عند تغير الفطرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك قد تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها"2.

والشيطان دائم الحرص على تغيير هذه الفطرة، وإفسادها باجتبال من يقدر عليه من بني الإنسان، فنحن نلاحظ أن المجتمع الإنساني لا يخلو من وجود فئة ملحدة، تنكر وجود الله تعالى، لذلك وجد الاستدلال على هذه القضية الفطرية، لتقوم الحجة على تلك الطائفة الشاذة عن الطبيعة الإنسانية، والمتمردة على الفطرة الثابتة في نفوس البشر جميعاً، حتى فيهم أنفسهم، إذ إن ما يظهر من بعض الملحدين من الكفر بالله، والاستهزاء

1 مجموعة الرسائل الكبرى2/344.

2 مجموع الفتاوى6/73، وما قررناه هنا من أن الإقرار بالخالق أمر فطري، وأن الانحراف أمر طارئ على الإنسانية حين فساد الفطرة، هو ما قرره الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين)(1/ 93، 94) ، وابن القيم في (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)(2/152) ، وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة إلى الجمهور 2/202.

ص: 117

برسله الداعين إليه، وإلى إفراده بالعبادة فإن ذلك لا يعني أنه مبني على يقين كامل بعدم وجود إله واحد، خالق لهذا الكون، ومصرف لأموره، وإنما هو مكابرة، وتحويل للفطرة التي فطر الله الناس عليها، من أجل الحصول على غرض شخصي، من ادعاء للألوهية، كما فعل فرعودن، أو من أجل التجرد عن القيم الإنسانية التي دعا إليها الرسل والتفرغ للمادة وجعلها هي الإله كما فعل الملحدون في العصر الحديث.

والملحدون لا يقدرون على تقديم أدلة على إلحادهم، وكل ما يفعلونه شبه واهية، يوجهونها إلى الدين، وهي شبه واضحة البطلان.

وقصارى القول: إن الأدلة التي يرشد إليها القرآن الكريم إنما تكون للمؤمن ليزداد معرفة بالله، وعظمته، وكمال قدرته، وفي حق من فسدت فطرته واعظة ومرشدة للعودة إلى الفطرة التي ند عنها، وتنكر لها.

وقبل أن أبدأ في بيان الأدلة التي سلكها البيهقي لإثبات وجود الله، إليك إيجازاً لمسلك كل من الفلاسفة والمتكلمين في الاستدلال على هذه القضية، حتى يتبين لنا اتجاه شيخنا البيهقي:

1 -

المتكلمون:

سلك المفكرون في إثبات وجود الله تعالى طرقاً متعددة، فالمتكلمون كان عمدتهم في ذلك حدوث العالم، وقد بين ذلك صاحب المواقف بقوله:"قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض، وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه، فهذه وجوه أربعة"1.

1 المواقف للإيجي (قسم الإلهيّات) تحقيق الدكتور أحمد المهدي ص: هـ، وقد ذكر ابن رشد هذا المسلك على أنه للأشاعرة إلا أنه أشار إلى موافقة المعتزلة لهم فيه بقوله:"وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى، ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشاعرة". انظر مناهج الأدلة ص: 151، والأمر كما قال. انظر شرح الأصول الخمسة ص:92.

ص: 118

ولسنا بحاجة إلى بيان هذه الطرق جميعها، فإن فيها كلاماً كثيراً لا موضع له هنا، وحسبنا أن نشير إلى أن المتكلمين جميعاً بنوا رأيهم في إثبات وجود الله تعالى على حدوث العالم، ذهاباً منهم إلى أن الحدوث هو العلة المحوجة إلى المؤثر، وأنه إذا ثبت أن العالم حادث، كان لا بد له من محدث يخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود وسيأتي لهذا الدليل مزيد بيان - إن شاء الله - حيث إنه من الأدلة التي سلكها البيهقي، لاقتناعه بصحتها.

2 -

الفلاسفة:

وقد سلكوا في إثبات وجود الله تعالى طريق الوجوب والإمكان وقسموا الموجودات إلى واجب، وممكن، بدلاً من قديم وحادث، وذلك نظراً لأنهم لا يقولون بحدوث العالم، فاستدلوا بالإمكان بدل الحدوث، وقد لخص صاحب المواقف هذا الاستدلال فقال:"المسلك الثاني: للحكماء وهو أن - في الواقع - موجوداً، فإن كان واجباً فذاك، وإن كان ممكناً احتاج إلى مؤثر، ولا بد من الانتهاء إلى الواجب وإلا لزم الدور أو التسلسل"1. وهذا محال.

وليس هذا محل تفصيل لهذا الدليل فأكتفي بما أوردته من تلخيص الإيجي له، ومن أراد المزيد فعليه بإشارات ابن سينا الذي استوفى تفصيله هناك2.

1 المواقف ص:8.

2 انظر: الإشارات والتنبيهات لابن سينا3/447-445.

ص: 119

منهج البيهقي:

أمّا عن الشيخ البيهقي، فإنه قد تبين لنا من خلال تتبعنا لما ذكره من استدلال على هذه القضية أنه يركز على الأدلة الشرعية الواردة في هذا الموضوع، ويذكر طريقة المتكلمين أيضاً على أنها طريقة صحيحة، ورد بها القرآن الكريم، جرياً على ما ذكروه من تأييد لها، إلا أنه - كما سيتبين إن شاء الله - اهتم اهتماماً بالغاً بطريقة النظر التي أوردها القرآن الكريم، وبطريق المعجزة التي هي الأخرى من الطرق الشرعية التي يمكن الاستدلال بها. أما عن طريق الفلاسفة فإن البيهقي لم يتعرض لها بتأييد ولا نقد.

وإذاً فالطرق التي سلكها تنحصر في ثلاث:

- طريق النظر في المخلوقات.

- طريق المعجزة.

- طريق الحدوث.

ولنبدأ أوّلاً بأهم الطرق التي سلكها البيهقي رحمه الله وهي:

طريق النظر في المخلوقات:

فهذا الكون الفسيح، بما فيه من عجائب مخلوقات الله تعالى بل نفس الإنسان، وهي أقرب ما يمكن التفكر فيه، والتدبر في ذلك التناسق العجيب بين كافة الأعضاء، التي خلقها الله، وركبها في الجسم البشري، ووكل إلى كل منها وظيفة مهمة يؤديها على أكمل وجه وأدق نظام.

ص: 120

كلّ هذه الأمور وغيرها مما يشتمل عليه هذا الكون الفسيح من عجائب مخلوقات الله، كل ذلك يدل بوضوح على أن لهذا الكون خالقاً أوجده، وقدر جميع ما يجري فيه.

فالإنسان أينما جال بنظره، وتمعن بفكره، رأى دليلاً على وجود الله.

وهذا النظر عند البيهقي - إما أن يتجه إلى الكون بما فيه من مخلوقات، وإما أن يتجه إلى الإنسان نفسه.

1 -

فأما النظر في الملكوت:

فإن من نظر إلى السماوات، بما فيها من أجرام، وإلى الأرض بما فيها من كائنات مختلفة الأنواع والألوان، استطاع أن يصل من نظره ذاك إلى إثبات وجود الله خلق تلك الكائنات، وسيرها بنظام، وحكمة تدل على عظم خالقها، وقدرته البالغة.

يقول البيهقي بعد سوقه لقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1.

يقول: "فذكر الله عز وجل خلق السماوات، بما فيها الشمس، والقمر، والنجوم المسخرات، وذكر خلق الأرض بما فيها من البحار، والأنهار والجبال، والمعادن، وذكر اختلاف الليل والنهار، وأخذ أحدهما من الآخر

1 سورة البقرة آية: 164.

ص: 121

وذكر الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وذكر ما أنزل من السماء من المطر الذي فيه حياة البلاد، وبه وبما وضع الله في الليل والنهار من الحر والبرد يتم رزق العباد، والبهائم والدواب، وذكر ما بث في الأرض من كل دابة مختلفة الصور والأجساد، مختلفة الألسنة والألوان، وذكر تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وما فيهما من منافع الحيوانات وما في جميع ذلك من الآيات البينات لقوم يعقلون"1.

فهذه أمور واضحة محسوسة، إذا تمعن فيها الإنسان وحكم عقله خلص من ذلك إلى أن هذه كائنات لم يكن وجودها ذاتياً، ولم يكن لها أن تسير أنفسها بتلك الدقة المتناهية، وذلك التناسق العجيب بل وجودها وفق هذا النظام المحكم دليل واضح على أن لها موجداً خلقها، وقدر فيها وظائفها الموكول إليها تأديتها، وسيرها نحو أداء الغرض الذي خلقت من أجله بغاية الدقة والإحكام.

ثم أردف البيهقي رحمه الله بسوق آية أخرى تتضمن الأمر الإلهي بالنظر السابق حيث قال: "ثم أمر في آية أخرى بالنظر فيهما فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2. يعني - والله أعلم - من الآيات الواضحات والدلالات النيرات، وهذا لأنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض

1 الاعتقاد ص:6، 7.

2 سورة يونس آية: 101.

ص: 122

مبسوطة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وضروب النبات مهيأة للمطاعم والملابس والمآرب، وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب، مستعملة في المرافق، والإنسان كالمملك البيت المخول ما فيه، وفي هذا دلالة واضحة، على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعاً حكيماً، تام القدرة، بالغ الحكمة 1.

فهذا التكامل التام الذي نجده مودعاً في هذا الكون، أرضه وسماءه، يدلّ على وجود الخالق الذي أوجده وقدر ذلك الإحكام الكامل والتناسق التام، إذ لا قيمة لأرض بدون سماء هي مصدر نورها، ومنبع حياتها إذ منها ينزل المطر الذي جعله الله مصدر الحياة، ثم هذه الحياة لا قيمة لها بدون هذه الأرض التي أودع الله فيها صنوف الخيرات من أجل إسعاد هذا الإنسان الذي استخلفه الله، واستعمره فيها.

فالبيهقي - رحمه الله تعالى - يرى ضرورة الاستدلال لإثبات الصانع، بالأدلة الشرعية التي ورد بها القرآن الكريم، وهي نفس الآيات التي يستلزم العلم بها العلم بالله تعالى، استلزام العلم بالشعاع العلم بوجود مصدره. وهي - ولا ريب - طريقة سليمة، خالية من التعقيد، وجلية عن الغموض الذي اكتنف طرق المتكلمين، ولا غرو فهي طريقة القرآن الكريم التي أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها أن تكون في متناول جميع الطبقات، وفي مستوى جميع العقول.

وهذه الطرق قد اشتملت على نوعين، ذكرها ابن رشد، وبين أنهما الطرق الشرعية السليمة التي سلكها القران الكريم، وأرشد إليها2.

1 الاعتقاد ص: 7.

2 انظر: مناهج الأدلة ص: 151-155.

ص: 123

وهما ما يسمى بدليل العناية، ودليل الاختراع. وكلا الآيتين السابقتين متضمنة لهذين النوعين من الأدلة.

2 -

وأما النظر في الأنفس:

فإن فيها من آثار الصنعة الإلهية ما يشير إلى إثبات الصانع، لأن الإنسان إذا نظر في نفسه وجدها تشتمل على ما لا يستطيع هو إيجاده فللإنسان يدان يبطش بهما، ورجلان يمشي عليهما، وعينان يبصر بهما ويلاحظ من نفسه أموراً عجيبة، لا يمكن أن تكون وليدة صدفة، فلا بد لها من مكون، حكيم في صنعه وتقديره، فالإنسان بعد خروجه من بطن أمه يمر بأطوار شتى، فمن الطفولة يرتقي إلى طور أشد فأشد، ثم يرد في نهاية ذلك إلى أرذل العمر، وقبل ذلك في بطن أمه، يمر بأطوار أيضاً لا قدرة لمخلوق على القيام بإمرار نفسه فيها، فمن نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، ثم إلى عظام، ثم يكسو العظام لحماً، ثم يكون خلقاً آخر..

فتبارك الله أحسن الخالقين. ولبيان هذه الطريق يقول البيهقي: "وحثهم على النظر في أنفسهم والتفكر فيها، فقال:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1. يعني لما فيها من الإشارة إلى آثار الصنعة الموجودة في الإنسان، من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان يتكلم به، وأضراس تحدث له عند غناه عن الرضاع، وحاجته إلى الغذاء، يطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ

1 سورة الذاريات آية: 21.

ص: 124

الغذاء، وكبد يسلك إليها صفوه، وعروق ومعابر تنفذ فيها إلى الأطراف، وأمعاء يرسب إليها ثقل الطعام، ويبرز عن أسفل البدن فيستدل بها على أن لها صانعاً حكيماً، عالماً قديراً"1.

وهناك ظاهرة أخرى يلاحظها البيهقي في جسد الإنسان وهي وجود المتضادات والمتنافرات مجتمعة فيه من حرارة، وبرودة ورطوبة ويبوسة ورأى ذلك دليلاً حياً على أن هناك من قدر اجتماعها في بدن الإنسان، مع أنها من المتضادات التي لا يمكن لمخلوق أن يجمع بينها، وفي بيان ذلك يقول البيهقي:"ثم إنا رأينا أشياء متضادة من شأنها التنافر والتباين والتفاسد، مجموعة في بدن الإنسان، وأبدان سائر الحيوان، وهي الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، فقلنا إن جامعاً جمعها وقهرها على الاجتماع، وأقامها بلطفه، ولولا ذلك لتنافرت، ولتفاسدت، ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات، وتتقاوم من غير جامع يجمعها، لجاز أن يجتمع الماء والنار، ويتقاوما من ذاتهما من غير جامع يجمعهما، ومقيم يقيمهما، وهذا محال لا يتوهم، فثبت أن اجتماعها إنما كان بجامع قهرها على الاجتماع والالتئام، وهو الله الواحد القهار"2.

وهذا النوع من الاستدلال أشار إليه القرآن الكريم بقوله سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} 3.

1 الاعتقاد ص:8.

2 الاعتقاد ص:8.

3 سورة يس آية: 80.

ص: 125

ثم يلتفت البيهقي بعد ذلك إلى خلق الإنسان، ومروره بأطوار مختلفة، يستحيل عليه أن يمر بها بتقدير من نفسه وتدبير من ذاته حيث قال: "وقد بين الله تعالى في كتابه العزيز، تحول أنفسنا من حالة إلى حالة، وتغيرها، ليستدل بذلك على خالقها، ومحولها، فقال:{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} 1. وقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} 2.

فالإنسان إذا فكر في نفسه، رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً وعظماً، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل، التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده، عضواً من الأعضاء ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز، وقد يرى نفسه شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة، إلى الشيخوخة والهرم ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب، ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أن ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه وأن له صانعاً صنعه، وناقلاً نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل، ولا مدبر"3.

1 سورة نوح آية: 13-14.

2 سورة المؤمنون آية: 12-15.

3 الاعتقاد ص:9.

ص: 126

فهذا استدلال بخلق الإنسان على هذه الصورة على وجود خالقه ومدبره، وهو الله سبحانه، وهو دليل واضح لا غموض فيه، وسهل خال عن التعقيد، وعن هذا الدليل القيم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس إليها، وبينها وأرشد إليها، وهي عقلية، فإن نفس كون الإنسان حادثاً، بعد أن لم يكن، ومولوداً ومخلوقاً من نطفة، ثم من علقة، هذا لم يعلم بمجرد خبر الرسول، بل هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم، سواء أخبر به الرسول، أو لم يخبر، لكن الرسول أمر أن يستدل به، ودل به، وبينه، واحتج به، فهو دليل شرعي، لأن الشارع استدل به، وأمر أن يستدل به، وهو عقلي لأنه بالعقل تعلم صحته"1.

وإذاً، فهاتان الطريقتان اللتان سلكهما البيهقي للاستدلال على وجود الله، - أعني النظر في الملكوت والأنفس، - هما عقليتان، وشرعيتان في نفس الوقت، والاستدلال بمثل هذا النوع من الأدلة هو منهج السلف إذ من منهجهم قبول كل دليل اتفقت العقول على صحته، وكان شرعياً بمعنى أن الشارع قد أتى به، وأمر الناس أن يستدلوا به.

وبذلك تتضح موافقة البيهقي للسلف في هذا الاستدلال.

1 كتاب النبوّات ص:48.

ص: 127

طريق المعجزة:

وهي الطريق الثانية من الطرق التي سلكها البيهقي لإثبات وجود الله تعالى، فبعد أن ذكر طريق النظر السالفة، وساق أدلته عليها، عمد إلى هذه الطريق، وعزاها إلى بعض مشايخه، فساقها مؤيداً وموضحاً.

فالمجتمع الذي يبعث فيه نبي من الأنبياء، يجري الله تعالى على يديه معجزات تؤيد صدقه فيما ادعاه من النبوة، وإذا ثبتت النبوة أو الرسالة بتلك المعجزة، ثبت أن هناك مرسلاً لذلك الرسول أيده بها، لتكون دليلاً على صدقه، فيصدقونه في جميع ما أخبر به. وأهم ذلك كله وجود خالق واحد، خلقهم من العدم، واستخلفهم في هذه الأرض، من أجل عبادته فيها وحده لا شريك له، وهو الله سبحانه وتعالى، هذا إذا كانت تلك المعجزة عن شهود من ذلك المدعو وحضور لوقائعها، أما من غاب

ص: 128

عنها، فإن دلائلها تثبت عنده بطريق الاستفاضة لتلك المعجزة ورسالة صاحبها. فإذا ثبتت النبوة فإنها تكون أصلاً في وجوب قبول جميع ما دعا إليه النبي.

وفي بيان هذه الطريق يقول الشيخ البيهقي رحمه الله: "وقد سلك بعض مشايخنا1 - رحمنا الله وإياهم - في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة، ومعجزات الرسالة، لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق الاستفاضة لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلاً في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسل صلوات الله عليهم أجمعين"2.

ثم ذكر قصة جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم مع النجاشي، ليدلل بها على صحة هذه الطريق، حيث ساقها بسنده عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم، لما فتن أصحابه بمكة أشار عليهم أن يلحقوا بأرض الحبشة، فذكر3 الحديث بطوله إلى أن قال: فكلمه جعفر رضي الله عنه يعني النجاشي - فقال: كنا على دينهم - يعني على دين أهل مكة - حتى بعث الله عز وجل فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وعفافه، فدعا إلى أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، ونخلع ما يعبد قومنا وغيرهم من دونه، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، وأمرنا بالصلاة والصيام، والصدقة وصلة الرحم، وكل ما يعرف من الأخلاق الحسنة، فتلا علينا تنزيلاً جاءه من الله عز وجل لا يشهد شيء غيره، فصدقناه، وآمنا به، وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجل، ففارقنا عند ذلك قومنا، وآذونا.

فقال النجاشي: هل معكم مما نزل عليه شيء تقرؤونه عليّ؟

فقال جعفر: نعم، فقرأ {كهيعص} فلما قرأها بكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلت مصاحفهم، وقال النجاشي:

1 يقصد أبا سليمان الخطابي، وسيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله.

2 الاعتقاد ص: 10.

3 الضمير هنا راجع إلى أبي بكر بن عبد الرحمن راوي الحديث عن أم سلمة.

ص: 129

"إن هذا الكلام والكلام الذي جاء به عيسى عليه السلام ليخرجان من مشكاة واحدة"1.

ثم ذكر رحمه الله بعد سوقه لهذا الحديث وجه الاستدلال به حيث قال: "فهؤلاء مع النجاشي وأصحابه استدلوا بإعجاز القرآن على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من الرسالة فاكتفوا به وآمنوا به، وبما جاء به من عند الله، فكان فيما جاء به إثبات الصانع وحدوث العالم"2.

ولم يكن البيهقي- بكلامه هذا- ليظن بأن النجاشي وأصحابه لا يعرفون وجود الله تعالى، فلما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي عرف صدقه عن طريق معجزته وهي القرآن علموا ذلك - لكنه يقصد بهذا أن ثبوت صدق الرسول بالمعجزة التي استدل بها هؤلاء يقتضي تصديقه في جميع ما يخبر به، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن لهذا الكون خالقاً، كما في حديث أنس رضي الله عنه الذي أردف البيهقي بذكره لبيان مقصوده، حيث ساق بسنده إلى أنس رضي الله عنه أنه قال: "كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فأتاه رجل منهم فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فقال: صدق. قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال فمن نصب هذه الجبال؟ قال: الله. قال: فمن جعل فيها هذه المنافع؟ قال: الله. قال فبالذي خلق السماء والأرض، ونصب الجبال، وجعل فيها هذه المنافع آلله أرسلك؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال صدق. قال فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا

1 الاعتقاد ص: 11.

2 المصدر نفسه.

ص: 130

صدقة في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال نعم. قال: وزعم رسولك أن خلينا صوم شهر في سنتنا، قال. صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال. نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إلبه سبيلاً، قال: صدق، قال فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فلما مضى قال: لئن صدق ليدخلن الجنة" 1.

قال البيهقي رحمه الله في بيان وجهة الاستدلال بهذا الحديث: "فهذا السائل كان قد سمع بمعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت مستفيضة في زمانه، ولعله سمع أيضاً ما كان يتلوه من القرآن، فاقتصر في إثبات الخالق، ومعرفة خلقه على سؤاله وجوابه عنه وقد طالبه بعض من لم يقف على معجزاته بأن يريه من آياته ما يدل على صدقه، فلما أراه إياه، ووقف عليه آمن به، وصدقه فيما جاء به من عند الله عز وجل "2.

وقد ذهب إلى الاستدلال بهذه الطريق الشيخ أبو سليمان الخطابي3 في كتاب الغنية عن الكلام وأهله، والقاضي أبو يعلى4 في عيون المسائل. ذكر ذلك عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية5.

1 الاعتقاد ص: 12.

2 المصدر نفسه.

3 حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، الخطابي، البستي مصنف غريب الحديث، ومعالم السنن، ونسبته (الخطابي) إلى جده، ولد سنة سبع عشرة وثلاثمائة ببست، وتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. انظر: اللباب1/452.

4 هو: محمّد بن الحسين بن محمّد بن خلف به الفراء، أبو يعلى الحنبلي ولد سنة: 380?، وتوفي سنة 458?، انظر تاريخ بغداد 2/256.

5 مجموع الفتاوى11/377.

ص: 131

وهي طريقة شرعية سليمة، لأن القرآن الكريم قد جاء بها، كما في قصة فرعون الذي كان منكراً للربّ سبحانه وتعالى، فعرض عليه موسى عليه السلام معجزة واضحة، تدل على صدق ما ادعاه من وجود الله الذي أرسله إلى فرعون وقومه ليؤمنوا به وحده لا شريك له، لأنه هو وحده القادر على كل شيء، إذ دلت المعجزة على وجوده وكمال قدرته سبحانه على جميع خلقه بمن فيهم فرعون الذي أبى واستكبر وادعى الألوهية من دون الله سبحانه، منكراً أن يكون ثمة إله غيره، حتى بعد مشاهدة تلك المعجزة البينة، والحجة الدامغة، وما ذلك إلاّ استكباراً وعناداً.

قال الله تعالى - مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} إلى قوله - {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قال قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 1.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد سوقه للآيات السالفة الذكر: "فهنا قد عرض عليه موسى الحجة البينة، التي جعلها دليلاً على صدقه في

1 سورة الشعراء آيات: 15-33.

ص: 132

كونه رسول ربّ العالمين، وفي أن له إلهاً غير فرعون يتخذه، وكذلك قال تعالى:{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} الآية1.

فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة، وذلك لأن المعجزة - التي هي فعل خارق للعادة - تدل بنفسها على ثبوت الصانع، كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الربّ عندها، ويمجد، ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل في النفوس ذلة من ذكر عظمته، ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها، وتدل بظهورها على الرسول، وإذا تبيّن أنه تدعو إلى الإقرار بأنه رسول الله، فتقرر بها الربوبية والرسالة"2.

فهذه ملاحظات هامة من ابن تيمية على هذه الطريق إذ رآها أبين دلالة من الطريقين السالفين، نظراً لأن هناك استدلالاً بحوادث معتادة يشاهدها الناس – غالباً - كل يوم، لا تنفك عن حياتهم. أما المعجزة فهي شيء غريب يشاهد على خلاف المعتاد، مما يعطيها مكانة أقوى في الدلالة.

وقد هاجم ابن رشد من ذهب إلى هذه الطريق، واستدل بها ووصمهم بأنهم حشوية - ويقصد بذلك السلف - وزعم وجوب معرفة الباري سبحانه عن طريق الاقتصار على الأدلة العقلية المنصوص عليها، وهي ما تقدم ذكره من النظر3.

1 سورة هود آية: 14.

2 مجموع الفتاوى11/378.

3 انظر: مناهج الأدلة ص: 135.

ص: 133

ورأيه في هذه الطريق واضح التهافت، لأن فيه هجراً لأصول شرعية أخرى، وهي ما ورد من وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقول، والسلف رحمهم الله ذهبوا إلى الجمع بين طريقي العقل والسمع، وكلاهما شرعي، إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين جميع الأدلة والبراهين الحسية، والعقلية والآيات الدالة على هذا المطلب أحسن بيان، فدل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، من إثبات للربوبية والوحدانية، والصفات، والمعاد الجسماني، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة السمعية، وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية، وإن كان لا يحتاج إلى بعضها فإن كثيراً من الأمور يعرف بالخبر الصادق، ومع هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم بيّن الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطريقين؛ السمعي والعقلي.

فهذه الطريق التي سلكها البيهقي، إلى جانب الطريق العقلي السالف، طريق صحيحة لا غبار عليها، وانتقاد ابن رشد لها في غير محله، لأن السلف لم يوجبوا معرفة الله عن طريقها فحسب، بل يقرّون بسلامة الطرق العقلية السابقة، كيف لا وهي طريقة القرآن الكريم الذي جاء بطريق المعجزة إلى جانبها كما أوضحت.

ومهاجمة ابن رشد لأصحابها ضرب من الخصومة الفكرية المنحرفة لأنه - مع أخذه بجانب من الأدلة الشرعية، وهي العقلية المنصوص عليها - قد عطل جانباً آخر، دون مبرر. ولا غرو فهو فيلسوف، والفلاسفة يغلب عليهم الجانب العقلي مع نبذ سواه.

ص: 134

طريق الحدوث

تقدم استدلال البيهقي بطريق النظر، وطريق المعجزة، وسبق أن قررت صحة استدلاله ذاك لموافقته طريقة القرآن الكريم، وهنا أعرض دليلاً آخر ضمه البيهقي إلى الأدلة السالفة في صحة الاستدلال به وهو ما يسمى بدليل الحدوث فقد قال رحمه الله في بيان هذا الدليل: "ثم إن الله تعالى حضّهم على النظر في ملكوت السموات والأرض، وغيرهما من خلقه في آية أخرى فقال:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 1. يعني بالملكوت الآيات2.

يقول: "أولم ينظروا فيها نظر تفكر وتدبر، حتى يستدلوا بكونها محلاً للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه على هيئة لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات، كما استدل إبراهيم الخليل عليه السلام بمثل ذلك، فانقطع عنها كلها إلى ربّ هو خالقها ومنشئها"3.

ويؤيد البيهقي رأيه هذا بقول أبي سليمان الخطابي رحمه الله عن استدلال إبراهيم عليه السلام حيث قال: "قال أبو سليمان الخطابي كل وقت وزمان، أو حال ومقام، حكم الامتحان فيها قائم فللاجتهاد

1 سورة الأعراف آية: 185.

2 ذكر في كتاب الأسماء والصفات أن هذا التفسير لمجاهد. انظر: ص:280، وهو كما قال لوجوده في تفسيره. انظر: تفسير مجاهد ص: 218.

3 الاعتقاد ص: 7.

ص: 135

والاستدلال فيها مدخل، وقد قال إبراهيم عليه السلام حين رأى الكوكب هذا ربّي ثم تبيّن فساد هذا القول لما رأى القمر أكبر جرماً، وأبهر نوراً فلما رأى الشمس وهي أعلا في منظر العين، وأجلى للبصر، وأكثرها ضياء وشعاعاً، قال: هذا ربّي، هذا أكبر، فلما رأى أفولها وزوالها وتبيّن له كونها محل الحوادث والتغييرات، تبرأ منها كلّها، وانقطع عنها إلى ربّ هو خالقها ومنشئها، لا تعترضه الآفات ولا تحلّه الأعراض والتغييرات1.

ففي هذا الدليل موافقة من البيهقي للمتكلمين في طريقتهم التي سلكوها في الاستدلال على وجود الله تعالى، وهي الاستدلال بحدوث العالم. وهذا في حدّ ذاته استدلال صحيح، غير أن الأمر الذي هو محل النقد في هذا الدليل هو طريقتهم في إثبات العالم، ومن ثم زعمهم أن طريقتهم تلك هي طريق إبراهيم الخليل عليه السلام.

ولنبدأ أولاً بإيضاح موافقة البيهقي لهم في هذا المجال فالمتكلمون ذهبوا إلى أن الله تعالى لا يمكن أن يكون محلاً للحوادث لأن من كان محلاً للحوادث، فإنه لا بد أن يكون حادثاً، لأن الحوادث لا تحت إلاّ بحادث مثلها لوجوب أن يكون لها أوّل - في نظرهم - وهذا هو مذهب البيهقي الواضح من كلامه السابق.

والتغيرات الحاصلة في هذا العام من وجود، وعدم، وتحول من حال إلى حال سكون بعد حركة، أو حركة بعد سكون، وغير ذلك عبارة عن أعراض حلّت بجواهر هذا العالم، والأعراض حادثة بعضها بالمشاهدة

1 الأسماء والصفات ص: 281.

ص: 136

وبعضها بالدليل وما حلّت به الأعراض فهو حادث مثلها، إذا العالم حادث. وإبراهيم عليه السلام رأى هذه الأعراض حالة بتلك الكواكب، حيث تحركت وانتقلت من محل لآخر والحركة والسكون عرضان من الأعراض، وهذا دليل حدوثها وما دامت حادثة فهي غير صالحة لأن تكون إلهاً1.

هذا ما رآه المتكلّمون من استدلال إبراهيم عليه السلام حيث أرادوا إسناد مذهبهم بدليل شرعي، وهذا بعينه ما رآه البيهقي وأراده.

وهذا الدليل الذي أورده البيهقي يشتمل على أمور ثلاثة:

1 -

نفي حلول الحوادث بذات الباري سبحانه، بحجة أن الحوادث لا تحلّ إلاّ بحادث مثلها، وهذه دعوى لا تهمنا هنا، ولها مكان آخر، فيما بعد إن شاء الله.

2 -

طريق الاستدلال على حدوث العالم بحدوث أعراضه، حيث يفهم من كلام البيهقي موافقته للمتكلّمين على ما ذهبوا إليه من هذا الاستدلال.

3 -

ادعاء أن تلك الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام وهاتان القضيتان الأخيرتان هما محور الكلام، ومناط الحديث.

أما طريقتهم في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها، فإنها طريقة باطلة لأن من المعلوم بداهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستدل بها، ولم يدع أحداً من أمته إلى

1 راجع المواقف بشرح الجرجاني (مطلب الآلهيّات) ص: 5 وما بعدها.

ص: 137

الاستدلال بها على وجود الله تبارك وتعالى، وقد اعترف كثير من المتكلّمين بأنها ليست طريقة الرسل عليهم السلام، ولا طريقة أتباعهم، وهي طريقة مخالفة للطرق التي دعا إليها الإسلام لما تشتمل عليه من ضعف، وما يرد عليها من التزامات فاسدة، ويكفي في بيان زيفها وتهافتها ما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من تفنيدها وإظهار لباطلها، حيث قال:

"هذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوّة أنبيائه، ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام - كالأشعري وغيره - بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم بل المحقّقون على أنها طريقة باطلة، وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعي بها مطلقاً، ولهذا تجد من اعتمد في أصول دينه فأحد الأمرين لازم له.

إما أن يطلع على ضعفها، ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم، فتتكافأ عنده الأدلة، أو يرجح هذا تارة وهذا تارة، كما هو حال طوائف منهم.

وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل، كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار1. والتزم لأجلها الهذيل انقطاع

1 جهم هذا هو: جهم بن صفوان، من أهل خراسان، ينسب إلى سمرقند وترمذ، ومحتده الكوفة، ويكنى أبا محرز أخذ الكلام عن الجعد بن درهم، قتل سنة: 128هـ، وقد قال جهم بفناء الجنة والنار بعد دخول أهلهما فيهما، وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بجحيمها. انظر: تاريخ الجهمية والمعتزلة لجمال الدين القاسمي ص:10، والمنية والأمل لابن المرتضى، ص: 107، والملل والنحل للشهرستاني1/87.

ص: 138

حركات أهل الجنة1.

والتزم قوم لأجلها - كالأشعري وغيره - إن الماء والتراب له طعم،

ولون، وريح، ونحو ذلك.

والتزم قوم لأجلها، ولأجل غيرها أن جميع الأعراض كالطعم واللون وغيرهما، لا يجوز بقاؤهما بحال، لأنهم احتاجوا إلى جواب النقض الوارد عليهم، لما أثبتوا الصفات لله، مع الاستدلال على حدوث الأجسام بصفاتها، فقالوا:"صفات الأجسام أعراض، أي أنها تعرض فتزول، فلا تبقى بحال، بخلاف صفات الله فإنها باقية"2.

كما تناول ابن رشد3 في كتابه مناهج الأدلة هذا الدليل فأوسعه نقضاً، وبدت صعوبته على الخاصة فضلاً عن الجمهور4، والأدلة على هذه القضية المهمة يجب أن تكون في متناول الجميع.

1 أبو الهذيل هو: محمّد بن الهذيل العبدي العلاف. من الطبقة السادسة للمعتزلة توفي سنة 235? في أيام المتوكل، وقد اشتهر عنه القول بانقطاع حركات أهل الخلدين، وأنهم يصيرون إلى سكون دائم. انظر: المنية والأمل ص: 148، ومقالات الإسلاميين للأشعري2/167.

2 درء تعارض العقل والنقل1/39، 40.

3 هو: أبو الوليد محمّد بن أحمد بن محمّد بن رشد، أحد مشاهير الفلاسفة المسلمين، ولد في قرطة سنة: 520?، وتوفي سنة 595? انظر: الأعلام للزركلي6/212.

4 مناهج الأدلة ص: 136-144.

ص: 139

ومن الأمور التي كابر بها المتكلمون الحس والعقل في بدعتهم هذه، هو جعلهم الطريق إلى معرفة حدوث الأجسام حدوث أعراضها ونحن نشهد حدوث الأجسام نفسها مثل حدوث الزرع، والثمار وحدوث الإنسان، والحيوان وحدوث السحاب، والمطر، ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها، غير حدوث الأعراض، كالحركة والسكون، والحرارة والبرودة، والضوء، والظلمة وغير ذلك. فلسنا في حاجة لمعرفة حدوث الجسم إلى واسطة.

أما زعمهم أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم عليه السلام فيما حكاه الله عز وجل عنه بقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 1.

فإن هذا زعم باطل للأمور الآتية:

1 -

إن الأفول ليس هو الحركة، وذلك باتفاق أهل اللغة والمفسرين فلا يسمى في اللغة كلّ متحرك أو متغير آفلاً ولا يقال للمتحرك إنه آفل، فلا يقال للمصلي، أو الماشي إنه آفل، ولا يقال للتغير الذي هو استحالة كالمرض واصفرار الشمس، إنه أفول، فلا يقال للشمس إذا اصفرت إنها أفلت، وإنما يقال:"أفلت إذا غابت، واحتجبت، وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب، أن آفلاً بمعنى غائب".

قال في القاموس: "يقال أفلت الشمس، غابت، ونجوم أفل، وكلّ شيء غاب فهو آفل، قال:

1 سورة الأنعام آيات: 75/78.

ص: 140

فدع عنك سعدي إنما تسعف النوى....قران الثريا مرة ثم تأفل1

قال الخليل: "وإذا استقر اللقاح في قرار الرحم فقد أفل"2.

2 -

إن الكواكب التي رآها إبراهيم عليه السلام كانت متحركة في بزوغها فلو أنه عليه السلام كان يستدل بالحركة التي يسمونها تغيراً، لكان قد قال ذلك من حين رآها بازغة، ولما انتظر أفولها.

3 -

إن إبراهيم عليه السلام لم يكن بصدد إثبات الصانع، حتى يستدل بحادث على محدث، لأن قومه كانوا مشركين، يعبدون الكواكب والأصنام، ويقرون بالصانع، ولهذا قال الخليل عليه السلام:{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 3.

فذكر ما كانوا يصنعون من اتخاذ الكواكب والشمس واالقمر ربّاً يعبدونه، ويتقرّبون إليه، فكانوا بذلك يشركون معه غيره في العبادة، فأراد أن يبيّن لهم أنه هو المستحقّ للعبادة وحده.

وبهذا يتبين لنا بطلان تعلق المتكلمين بقصة إبراهيم عليه السلام.

ويبدو أن الشيخ البيهقي استشعر ضعف هذا الطريق فلم يقل ما قاله كثير من المتكلمين من جعله أصلاً من أصول الدين يجب معرفة الله تعالى عن طريقه وهو ما ذهب إليه إمام الحرمين الجويني4 - وهو من

1 هذا البيت منسوب إلى كثير عزة.

2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس1/119، مادة: أفل.

3 سورة الشعراء آيات: 75-77.

4 عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمّد الجويني الملقّب بإمام الحرمين. ولد في جوين سنة: 419?، وتوفي بنيسابور سنة: 478?، انظر: الأعلام4/356.

ص: 141

المعاصرين للبيهقي - حيث قال: "أوّل ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ، أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح، المفضي إلى العلم بحدوث العالم، والنظر في اصطلاح الموحدّين، هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً، وغلبة ظن"1.

وممن قال بالإيجاب من المتكلّمين الشيخ سعد الدين التفتازاني حيث قال بعد إيراده لنظرية الجوهر الفرد التي جعلها أصلاً من الأصول التي اعتمد عليها في إثبات حدوث العالم: "قلنا في إثبات الجوهر الفرد نجاة عن كثير من ظلمات الفلاسنة مثل إثبات الهيولي والصورة، المؤدي إلى قدم العالم، ونفي حشر الأجساد.. إلخ"2.

وهذا غاية الغلو في التمسك بهذه النظرية المتهافتة، والتي تبين فسادها أكثر في العصر الحديث بعد تحطيم الذرة التي هي الجوهر عندهم. فالنجاة من الظلمات الفلسفية وغيرها، بل ومن الظلمات التي حاكها المتكلّمون حول العقيدة الإسلامية ـ زعماً منهم أنهم بذلك يرسخون العقيدة ويوضحونها، ويذبون عنها ـ النجاة من ذلك كلّه يكون في التمسك بأهداب الوحي، من كتاب أو سنة، فهما الينبوعان الصافيان من كلّ كدر، الهاديان إلى صراط الله المستقيم من تمسك بهما لن يعدم خيراً، ومن التجأ إليها لن يضام، ومن جعلهما نبراس حياته فسيكون في منأى عن المهالك، وفي مأمن من الزيغ والضلال. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك".

1 الإرشاد ص: 3.

2 شرح العقائد النسفية مع مجموعة الحواشي البهية1/75.

ص: 142

وقال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا، كتاب الله وسنتي".

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد أن أشار إلى إيجابهم سلوك هذا الطريق -: "والتحقيق ما عليه السلف أنه ليس بواجب أمراً ولا هو صحيح خبراً، بل هو باطل منهي عنه شرعاً. فإن الله تعالى لا يأمر بقول الكذب والباطل، بل ينهى عن ذلك، لكن غلطوا حيث اعتقدوا أنّه حقّ وأن الدين لا يقوم إلاّ على هذا الأصل الذي أصّلوه".1

ويقول أستاذنا الكبير الدكتور محمّد خليل هراس رحمه الله يقول في نقد اتجاه المتكلّمين إلى تأصيل نظرية الجوهر الفرد هذه وجعلها أصلاً من أصول الدين يجب معرفة الله تعالى عن طريقه: "وإن من أعظم الحرج أن نكلف العامة، ومن لا قدرة لهم على النظر أصلاً بتحصيل معنى الإمكان والحدوث والتغير، والجوهر والعرض، وغير ذلك مما يدخل في تركيب هذه الأدلة، ثم نقول لهم إنكم لا يصح إيمانكم بالله إلاّ من هذه الطريق، فنضيق عليهم وحمة الله ونصدهم عن سبيله، ونكلفهم من الأمر ما لا يطيقون، بل لعل أولى من ذلك، وأقرب إلى الفطرة، وأضمن للوصول إلى الغاية أن ندعو الناس إلى ما أرشد إليه القرآن من النظر في ملكوت السموات والأرض، وما فيهما من عجائب تدل على عظيم قدرة الله تعالى وجسيم نعمته، ونشرح لهم ما أودع الله في الأشياء المختلفة من خواص، ومنافع سخرها لهم وأنه كيف وهب كل مخلوق من القوى، والآلات ما يحتاجه في تحصيل قوته وحفظ حياته"2.

1 النبوّات ص: 65.

2 ابن تيمية السلفي ص: 82-83.

ص: 143

وهذه النظرية التي قدسها المتكلمون يونانية الأصل، حيث إن أوّل من قال بها "ديمقريطس1 من فلاسفة اليونان2.

فما كان ينبغي لمسلم أن يلجأ إلى نظرية هذا مصدرها وهي غير سالمة من النقد فيتعب نفسه في بيانها وتقريرها والذب عنها، ولكن المتكلمين فعلوا. إلاّ أن حججهم التي اعتمدوها هنا واهية، أو هي من خيط العنكبوت.

حجج تهافت كالزجاج تخالها

تبقى وكل كاسر مكسور

وشيخنا البيهقي رحمه الله كما هو معروف عنه من التمسك بالسنة والذب عنها، لم يكن ليقود ما قاله المتكلمون في تمجيد هذه النظرية، بل إنه اقتصر على إيراد دليل الحدوث، على سبيل الحصر للطرق السليمة التي يراها - في نظره - صالحة للاستدلال على هذا المطلب، فإنه كما يلاحظ قدم طريقة القرآن الكريم، مما ينبئ عن اهتمامه بها، وجعله مثل هذه الطريق ثانوية يمكن الاستغناء عنها، مع إمكان سلوكها، فالرجل اقتنع بصحتها، ولم يقل بوجوبها، والاستغناء بها عن سواها. إذ إن منهجه السلفي منعه من الوقوع في مثل ما وقع فيه المتكلمون.

أما عن الوحدانية فإن أدلته لإثباتها هي عين أدلته لإثبات الوجود، لذلك لا أرى ثمة ضرورة لعقد فصل مستقل، فأكتفي بما ذكرت عن أدلة الوجود.

1 فيلسوف يوناني توفي حوالي 430 ق. م. انظر أعلام الفلاسفة للدكتور هنري توماس ص: 74، ترجمة متري أمين.

2 انظر حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية1/75، ضمن مجموعة الحواشي البهية.

ص: 144

الفصل الثاني: أسماء الله تعالى

طريق إثباتها

لقد كان ثبوت أسماء الله تعالى بما ورد من أدلة صريحة واضحة مصدرهما كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة امراً واضحاً، إذ أصبح بذلك من المسلمات التي لا تحتاج إلى إمعان نظر، ولا تقبل المراء.

ومع ذلك فقد وجد بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام من خالف في ذلك، فلم يقر بثبوت أسماء الله تعالى ثبوتاً حقيقياً.

ومجمل الآراء في ذلك ذكرها فخر الدين الرازي حيث قال:

"اعلم أن من الناس نفى ثبوت الأسماء لله تعالى وسلم ثبوت الصفات، ومنهم من عكس، سلم ثبوت الأسماء وأنكر ثبوت الصفات، ومنهم من اعترف بالأسماء والصفات لله تعالى"1.

ونفي أسماء الله تعالى مصيبة عظمى، وإلحاد صريح وأصحاب هذا الرأي هم الجهمية أتباع جهم بن صفوان الترمذي الذي ذهب إلى نفي أسماء الله تعالى حيث قال بنفي كل اسم يرى جواز إطلاقه على المخلوق

1 شرح الأسماء الحسنى للرازي ص: 29.

ص: 147

وأثبت بعض الأسماء التي يرى أن الله مختص بها ولا يجوز تسمية المخلوق بها، كالخالق، والمحيي والمميت، والقادر، والموجد، والفاعل1، كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء الله. والمعروف أن هؤلاء الجهمية ينفون الصفات جميعاً، مع ما نفوه من أسماء ولا أعرف أحداً نفى الأسماء وأثبت الصفات، كما قال الرازي.

وأحب أن أنبه على أن هؤلاء النفاة لم ينكروا إطلاق الألفاظ على الله تعالى، إلا أنهم يقولون إن إطلاقها عليه سبحانه مجازي لا حقيقة ولا ريب إن هذا نفي محض.

ولذلك قال ابن القيم عن أصحاب هذا الرأي: "إنهم لا يتمكنون بعد ذلك من إثبات حقيقة لله البتة، لا في أسمائه ولا في الإخبار عنه بأفعاله وصفا ته"2.

أما منكرو أسماء الله تعالى بألفاظها ومعانيها فهم الملاحدة وهؤلاء لم يعرفوا وجود الله، فكيف يعرفون أسماءه. ووافقهم على ذلك غلاة الفلاسفة والقرامطة3. وهذا كما هو واضح تكذيب صريح لكتاب الله تعالى فهو كفر واضح.

أما رأي الجهمية فالمبرر الوحيد له عندهم: أن إثبات هذه الأسماء وتلك الصفات على حقائقها يستلزم تشبيه الله بخلقه في زعمهم4.

1 انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص: 212.

2 مختصر الصواعق المرسلة2/113.

3 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية6/209، والرسالة التدمرية له ص:63.

4 انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة ص: 28.

ص: 148

ويرد السلف عليهم رأيهم هذا، فيقول الإمام ابن خزيمة رحمه الله – "

وليس في تسميتنا بعض الخلق ببعض أسامي الله بموجب عند العقلاء الذين يعقلون عن الله خطابه، أن يقال: إنكم شبهتم الله بخلقه إذ أوقعتم بعض أسامي الله على بعض خلقه، وهل يمكن عند هؤلاء الجهال حل هذه الأسامي من المصحف، أو محوها من صدور أهل القرآن، أو ترك تلاوتها في المحاريب والكتاتيب وفي الجدور والبيوت، أليس قد أعلمنا منزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه الملك، وسمى بعض عبيده ملكاً، وخبرنا أنه السلام، وسمى تحية المؤمنين بينهم سلاماً في الدنيا وفي الجنة، فقال:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 1.

ونبيّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قد كان يقول بعد فراغه من تسليم الصلاة: "اللهم أنت السلام ومنك السلام"2. وقال عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} 3. فثبت بخبر الله أن الله هو السلام، كما في قوله:{السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} 4، وأوقع هذا الاسم على غير الخالق الباري وأعلمنا عز وجل أنه المؤمن، وسمى بعض عباده المؤمنين

"5 إلى آخر ما قاله رحمه الله في الرد على هذا الرأي المتهافت. وغرضه من هذا كله أن يقوله: إن تسمية الخلق ببعض أسامي الله عز وجل، لا يقتضي تشبيهاً أو تمثيلاً، لأن معناها في حق الله عز وجل على ما يليق به، وفي حق خلقه على ما يليق بهم.

1 سورة الأحزاب آية: 44.

2 رواه مسلم في كتاب المساجد رقم: 135 1/414.

3 سورة النساء آية: 94.

4 سورة الحشر آية: 23.

5 كتاب التوحيد لابن خزيمة ص: 28-29.

ص: 149

فإثبات أسماء الله تعالى كما جاءت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، هو ما قالت به جماهير الأمة، وهو أمر واجب، إذ إنه من تمام التوحيد، ومن كمال معرفة الربّ سبحانه وتعالى كما يقول السيد محمّد بن المرتضى اليماني في كتابه "إيثار الحق": مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم وما يجب له من نعوته، وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد، الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائها الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم، ولذلك عد مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها من أعظم مكائدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلاً وسمعاً، فذموا الأمر المحمود، ومدحوا الأمر المذموم القائم مقام النفي والجحد المحض، وضادوا كتاب الله ونصوصه الساطعة"1.

هذا عن النفي والنفاة، وما قيل في الرد عليهم. فماذا عن الإثبات والمثبتين الذين يتصدرهم شيخنا البيهقي؟ إذ إنه رحمه الله قد أولى هذا الأمر عناية كبرى، فألف كتاباً ضخماً، حفل بحشد من النصوص الشرعية التي دلل بها على ثبوت أسماء الله تعالى ثبوتاً قاطعاً لا شك فيه.

وقد كان أولئك المثبتون يذهبون في طريق الإثبات مذهبين ذكرهما الرازي فقال: "مذهب أصحابنا - يعني الأشاعرة - إنها توقيفية وقالت الممعتزلة والكرامية: إن اللفظ إذا دل العقل على أن المعنى ثابت في حق الله سبحانه جاز إطلاق ذلك اللفظ على الله تعالى، سواء ورد التوقيف به أو لم يرد، وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني من أصحابنا"2، وهذا الرأي الأخير هو ما يسمى عند علماء الكلام بالطرق القياسية.

1 إيثار الحقّ على الخلق، لابن المرتضى ص:168.

2 شرح الأسماء الحسنى للرازي ص: 36.

ص: 150

فمذهب جمهور الأشاعرة إذاً هو القول بالتوقيف، وقد سلك شيخنا البيهقي هذا المسلك، وإليك بيان رأيه في هذا الموضوع:

يقوله رحمه الله: "إثبات أسماء الله تعالى ذكره بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة"1.

فالبيهقي بهذا الكلام يصرح برأيه في أن أسماء الله تعالى لا يجوز إطلاقها عليه ما لم تدل عليها إحدى هذه الطرق الثلاث لأن التوقيف وحده هو مجال الإثبات لها. وذكر رحمه الله مجموعة من النصوص القرآنية، والحديثية تدل على ثبوت هذه الأسماء، التي أنكرها من لا اعتبار برأيه من أرباب الأهواء، وأصحاب البدع. فالله تعالى يقول:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 2 وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3.

وروى بسنده عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه قال: "اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت، وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"4.

إلى غير ذلك الآيات والأحاديث التي ذكرها في كتاب الأسماء والصفات مستدلاً بها على ثبوت هذه الأسماء لله تعالى، ثبوتاً حقيقياً

1 الأسماء والصفات ص: 3.

2 سورة الأعراف آية: 180.

3 سورة الإسراء آية: 110.

4 الأسماء والصفات ص: 3. والحديث رواه البخاري في كتاب الدعوات. انظر: صحيح البخاري مع شرحه، حديث رقم: 6312، 11/113.

ص: 151

ألفاظاً، ومعاني. وهو برأيه هذا يوافق ما أجمع عليه السلف من جعل هذه الطرق هي الدليل االأوحد لثبوت أسماء الله تعالى.

يقول أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن أبي زمنين1 من أئمة المالكية: "اعلم أن أهل العلم بالله، وبما جاءت به أنبياؤه ورسله، يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً، والعجز عن ما لم يدع إليه إيماناً، وإنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، على لسان نبيه"2.

فالبيهقي رحمه الله بل جمهور الأشاعرة يتفقون مع السلف في هذا الاتجاه، الذي يعتبر في رأيي أصلاً كان يجب أن يعتمد عليه في إثبات العقائد جميعها، إذ إن القرآن كلام الله والسنة وحي منه إلى نبيه، والإجماع مستند إلى أحد هذين الأصلين - أعني كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن النبي عليه السلام قوله:"لا تجتمع أمتي على ضلالة".

أما القياس الذي قال به المعتزلة ومن حذا حذوهم، فلا مكان له عند السلف في مجال إثبات الأسماء، والبيهقي لم يعتد به، بل نبذه، وسلك طريق السلف في اعتبار عدم صلاحيته في هذا المجال إذ إن الأسامي التي قد تطلق على الله تعالى عن طريق تصور العقل صحة إطلاقها، قد لا تكون

1 هو محمّد بن عبد الله بن عيسى المري، أبو عبد الله، المعروف بابن أبي زمنين، فقيه مالكي، من الوعاظ الأدباء. من أهل البيرة سكن قرطبة، ثم عاد إلى البيرة، فتوفي بها سنة 399هـ انظر الأعلام للزركلي 7/101.

2 نقلاً عن مجموع الفتاوى لابن تيمية5/57.

ص: 152

لائقة المعنى بالنسبة لله تعالى، وإن تصور العقل ذلك، ويكفينا الاقتصار على الوحي فالله تعالى لم يترك المجال لعقولنا في هذه التسميات، بل أخبر بأسمائه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

والعقل الذي يعتبر ركيزة القياس قد يستطيع أن يصل إلى إثبات بعض العقائد كما تقدم في إثبات وجود الله، وكما سيأتي في الصفات العقلية، إلا أنه لا يستطيع الاستقلال بذلك فيرشده الوحي ويقدم له تصوراً كاملاً لذلك الاعتقاد. ومن هنا كان الوحي هو الأساس في العقائد جميعها.

عدد أسماء الله تعالى

أمّا عن عدد أسماء الله تعالى، فقد ورد حديث رواه البيهقي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة"1.

فهل هذا الحديث على ظاهره من حصر أسماء الله تعالى في هذا العدد، أم لا؟

يكاد الإجماع ينعقد على أن العدد الوارد في هذا الحديث لا مفهوم له يقتضي الحصر لأسماء الله تعالى في تسعة وتسعين فقط، ولم أجد مخالفاً في ذلك سوى ابن حزم الذي أخذ بظاهر الحديث، وابن حزم - كما هو معروف - ظاهري، ومذهب أهل الظاهر في الأخذ بظواهر النصوص لا يخفى. فقد قال رحمه الله في كتاب المحلى ما نصه:

1 الأسماء والصفات ص: 4. والحديث متفق عليه. انظر كتاب التوحيد من صحيح البخاري مع شرحه حديث رقم:7392، 13/377. وصحيح مسلم، كتاب الذكر حديث رقم: 2677، 4/2062، 2063.

ص: 153

"إن له عز وجل تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد، وهي أسماؤه الحسنى، من زاد شيئاً من عنده فقد ألحد في أسمائه، وهي الأسماء المذكورة في القرآن والسنة

وقد صح أنها تسعة وتسعون اسماً فقط، ولا يحل لأحد أن يجيز أن يكون له اسم زائد، لأنه عليه السلام قال:"مائة غير واحد" فلو جاز أن يكون له تعالى اسم زائد لكانت مائة اسم، ولو كان هذا لكان قوله عليه السلام:"مائة غير واحد" كذباً، ومن أجاز هذا فهو كافر"1.

وقد رد عليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري بأن الحصر المذكور باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائداً على ذلك فقد أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد2.

ويذكر ابن حزم أيضاً عن الباقلاني، وعن محمّد بن الحسن بن فورك شيخ البيهقي أنهما يقولان بأنه ليس لله تعالى إلا اسم واحد فقط، وشنع عليهما في ذلك3. وهذا الأخير ظاهر البطلان لما فيه من المخالفة الصريحة للكتاب والسنة.

وإذا كان هذا هو موقف العلماء من عدد أسماء الله تعالى فماذا يقول البيهقي في هذه المسألة، أيقف عند العدد الوارد كما فعل ابن حزم، أم يذهب مذهب شيخه ابن فورك، أم أنه يرى رأي الجمهور؟

1 المحلى لابن حزم1/36.

2 فتح الباري11/221، وقد رد عليه بإسهاب شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى. انظر22/482-486.

3 انظر: الفصل لابن حزم5/32.

ص: 154

يقول رحمه الله: "باب البيان أن لله جل ثناؤه أسماء أخر، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تسعة وتسعون اسماً" نفي غيرها، وإنما وقع التخصيص بذكرها لأنها أشهر الأسماء، وأبينها معاني، وفيها ورد الخبر أن "من أحصاها دخل الجنة" 1.

وقال أيضاً: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً" لا ينفي غيرها، وإنما أراد - والله أعلم - إن من أحصى من أسماء الله عز وجل تسعة وتسعين اسماً دخل الجنة، سواء أحصاها مما نقلنا في الحديث الأوّل، أو مما ذكرنا في الحديث الثاني 2 أو من سائر ما دل عليه الكتاب والسنة أو الإجماع3.

فهذان النصان اللذان أوردتهما من كلام البيهقي يدلان بوضوح على أن رأيه في العدد الذي ورد به الحديث أنه لا يقتضي الحصر، وأن العدد المجمل في صدر الحديث المفصل في جزئه الآخر - إن صح ذلك التفصيل عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما المقصود منه أن تلك الأسماء الواردة هي أشهر أسماء الله تعالى، وأبينها معاني، وهي التي من أحصاها دخل الجنة، كما وضح من قوله في كتاب الأسماء والصفات.

أما رأيه الثاني الذي أورده في كتاب الاعتقاد والذي يتضمن توجيهاً آخر وهو أن المقصود أن من أحصى تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله

1 الأسماء والصفات ص: 6.

2 يقصد بهذين الحديثين ما رراه في كتاب الاعتقاد ص: 13-14 من ذكر أسماء الله تعالى مفصلة، بعد ذكر عددها.

3 الاعتقاد ص: 14-15.

ص: 155

تعالى، دون التقيد بالأسماء الواردة بعينها في حديث أبي هريرة، بل كان إحصاؤها مما وردها في الأحاديث الأخرى أو الآيات الكريمات، أن من أحصاها دخل الجنة، فإن هذا الأخير لا يناقض الأوّل لأنه يقصد به عند عدم صحة ورود تلك الأسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إنه رحمه الله يشك في أن الأسماء الواردة في الحديث هي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهناك احتمال أن تكون مدرجة من بعض الرواة، ويذكر هذا الرأي أيضاً عن الشيخين الجليلين البخاري ومسلم.

وفي هذا الموضوع يقول: "ويحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة

ولهذا الاحتمال ترك البخاري ومسلم إخراج حديث الوليد في الصحيح، فكأنه قصد أن من أحصى من أسماء الله تعالى تسعة وتسعين اسماً دخل الجنة، سواء أحصاها مما نقلنا في حديث الوليد بن مسلم، أو مما نقلنا في حديث عبد العزيز بن الحصين1 أو من سائر ما دل عليه الكتاب والسنة - والله أعلم.

وهذه الأسامي كلّها في كتاب الله، وفي سائر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً أو دلالة"2.

فالبيهقي إذاً يرى أن العدد الوارد لا يقتضي الحصر، وأوّله تأويلاً مقبولاً، بل إن تأويله إلى معنى لا يقتضي الحصر هو ما تدل عليه النصوص الواردة في أن أسماء الله تعالى كثيرة، وليست تسعة وتسعين فحسب،

1 وهما الحديثان اللذان تقدمت الإشارة إليهما، واللذان تضمنا ذكر الأسماء تفصيلاً.

2 الأسماء والصفات ص: 8.

ص: 156

ولهذا فإن البيهقي استدل لصحة تأويله ذاك بما رواه بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب مسلماً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله عنه همه، وأبدله مكان همه فرحاً، قالوا: يا رسول الله ألا نتعلم هذه الكلمات؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن"1.

وقد عقب على هذا الحديث بقوله: "في هذا الحديث دلالة على صحة ما وقعت عليه ترجمة هذا الباب"2 يعني ما تقدم من قوله في الترجمة لهذا الباب: "باب البيان أن لله جلّ ثناؤه أسماء أخر

"3.

والذي يبدو لي أن ذكر الأسماء ليس ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الوليد بن مسلم، وهو راوي أحد الحديثين اللذين تضمنا ذكر الأسماء يذكر عن بعض العلماء أن سرد الأسماء في الحديث مدرج فيه كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله – "والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم، وعبد الملك بن محمّد الصنعاني عن زهير بن حرب أنه بلغه عن غير

1 الأسماء والصفات ص:6. ورواه أحمد في المسند1/291.

2 الأسماء والصفات ص: 6.

3 انظر: ص (155) من هذا البحث.

ص: 157

واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي: أنهم جمعوها من القرآن، كما روى عن جعفر بن محمّد، وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي"1.

أمّا الحق في عدد أسماء الله تعالى فهو ما تبناه البيهقي إذ هو الرأي السديد الذي لا يسعنا الذهاب إلى غيره، لأنه يتفق مع نصوص الكتاب والسنة، وعليه تجتمع الأدلة، وقد قال به جمهور الأمة سلفاً وخلفاً.

وممن قال به أبو سليمان الخطابي، حيث بين رأيه في تأويل الحديث بقوله:"قوله: "إن لله تسعة وتسعين اسماً" فيه إثبات هذه الأسماء المحصورة بهذا العدد، وليس فيه نفي ما عداها من الزيادة عليها، وإنما وقع التخصيص بالذكر لهذه الأسماء، لأنها أشهر الأسماء وأبينها معاني، وأظهرها، وجملة قوله: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" قضية واحدة لا قضيتان ويكون تمام العمل بها في خبر أن قوله: "من أحصاها دخل الجنة" لا في قوله: "تسعة وتسعين اسماً" وإنما هو بمنزلة إن لزيد ألف درهم أعدها للتصدق، وكقولك إن لعمرو مائة ثوب من زاره خلعها عليه، وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، ولا من الثياب أكثر من مائة ثوب، وإنما دلالته أن الذي أعده زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم، وإن الذي رصده عمرو من الثياب للخلع مائة ثوب"2.

واستدل على صحة هذا التأويل بنفس الحديث الذي استدل به البيهقي - أعني حديث عبد الله بن مسعود - السالف الذكر.

1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير2/269.

2 تفسير الأسماء والصفات للخطابي ل 6.

ص: 158

والخطابي كثيراً ما ينقل عنه البيهقي ويعتمد آراءه، كما سيتضح لنا ذلك من هذا البحث فيما بعد إن شاء الله.

وممن ذهب إلى القول بعدم الحصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذكر توجيهاته لحديث أبي هريرة التي أجاد فيها وأوضح مستند القائلين بأن لله أسماء أخرى غاية الإيضاح 1. وقد ذهب إلى ذلك أيضاً تلميذه ابن القيم رحمه الله2، والإمام البغوي3.

وقد تبنى هذا الرأي قبل البيهقي الشيخ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي، وهو أحد مشايخه، إلا أن له نظراً في تأويل الحديث يختلف عن التأويلات السابقة حيث قال:"وليست الفائدة في حصر أسمائه الحسنى بتسعة وتسعين المنع من الزيادة عليها، لورود الشرع بأسماء له سواها، وإنما فائدته أن معاني جميع أسمائه محصورة في معاني هذه التسعة والتسعين"4.

ومهما اختلفت وجهات نظر القائلين بعدم الحصر في بيان المقصود من العدد الوارد في الحديث، فإنها جميعاً تتفق على أن العدد الوارد له معنى لا يقتضي الحصر، وكلّها آراء محتملة.

والبيهقي رحمه الله يذهب في إثبات أسماء أخرى لله تعالى إلى مدى أبعد، فإنه ممن يقول بأن الحروف المقطعات في أوائل بعض السور هي من أسماء الله، متابعاً بذلك ابن عباس رضي الله عنه، وغيره من المفسرين5.

1 انظر: مجموع الفتاوى22/482-486.

2 انظر: بدائع الفوائد1/166.

3 انظر: شرح السنة5/35.

4 أصول الدين للبغدادي ص:120.

5 انظر: الأسماء والصفات ص: 94، و95.

ص: 159

وقد ذكر هذا الرأي عن ابن عباس، والشعبي، والسدي وغيرهم من المفسرين ابن كثير في تفسيره1.

وقصارى القول أن رأي البيهقي هذا، والذي شارك به جماهير العلماء، رأي صائب، متفق مع الحق الذي نطقت به النصوص الشرعية، التي هي مناط الاستدلال لأهل الحق دائماً وأبداً. فأسماء الله أكثر من أن تحصر. وما ورد عن بعض العلماء من أنها ألف أو خمسة آلاف - كما ذكر ذلك الرازي في تفسيره عن بعض العلماء - إنما هي دعوى لا دليل عليه، لأن من أسمائه تعالى ما استأثر بعلمه فكيف لنا أن نصل إلى حصره وعده. فأسماء الله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها.

حقيقة الاسم المسمى

وهذه قضية من القضايا الرئيسية التي كثر النزاع فيها بين العلماء وقبل البدء في بيان رأي البيهفي فيها، أرى من المناسب أن أذكر أولاً إجمالاً لآراء العلماء حتى يتبين لنا موقع رأي البيهقي منها.

فأقول وبالله التوفيق: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد ذكر وجود هذا الخلاف بعد عصر الأئمة، أحمد بن حنبل وغيره، كما ذكر أن الخلاف قد وقع على خمسة مذاهب هي:

1 -

أن الاسم عين المسمى، وهو رأي أكثر المنتسبين إلى السنة كأبي القاسم الطبري، واللالكائي، وأبي محمد البغوي صاحب شرح السنة، وغيرهم. وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري مما أختاره أبو بكر بن فورك وغيره.

1 انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير1/36.

ص: 160

2 -

أن الاسم غير المسمى، وهو رأي الجهمية، ورأى المعتزلة، وتابعهما في ذلك جماعة من الأشاعرة كالغزالي، والرازي وغيرهما، يقول الرازي: "واختيار الغزالي

أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متباينة، وهو الحقّ عندي، لأن أسماء الله كثيرة، فالاسم غير المسمى"1.

وقد بنى الجهمية رأيهم هذا على أن أسماء الله مخلوقة وما دامت كذلك فهي غيره، وذكر ابن تيمية رحمه الله أن هؤلاء هم الذين ذمهم السلف، وغلظوا القول فيهم، لأن أسماء الله من كلامه وكلامه غير مخلوق بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء 2.

وهذا الرأي هو الذي ناصره ابن حزم بشدة، فأرغى وأزبد في تأييده، والتشنيع على أصحاب الرأي الأوّل3.

3 -

التوقف، وأصحاب هذا الرأي جماعة من السلف، يذكر ابن تيمية عنهم أنهم توقفوا في ذلك نفياً وإثباتاً، أي أنهم لا يقولون إن الاسم هو المسمى ولا غيره، إذ كان كل من الإطلاقين بدعة - في نظرهم - ويذكر أن الخلال ذكر ذلك عن إبراهيم الحربي4 رغيره كما ذكره أبو جعفر الطبري في كتابه صريح السنة.

4 -

أن الاسم للمسمى، ويذكر ابن تيمية أيضاً أنه اختيار أكثر المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره.

1 لوامع الينات للرازي ص:3-4.

2 مجموع الفتاوى6/186.

3 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل5/27-36.

4 هو: الإمام الحبر، إبراهيم بن إسحاق بن بشير أبو إسحاق الحربي الحافظ، تفقه على الإمام أحمد، وبرع في العلم. ولد سنة: 198?، وتوفي سنة: 285?. انظر: تاريخ بغداد6/27، وشذرات الذهب2/190.

ص: 161

5 -

التفصيل، وتذكر ابن تيمية أنه المشهور عن أبي الحسن الأشعري، وذكر طريقتهم في ذلك1.

ولسنا بحاجة إلى الإطالة في بيان هذه الأقوال وأدلتها، إذ المهم هو رأى البيهقي في هذه القضية، ومدى موافقته للحقّ فيها فأقول:

إن البيهقي رحمه الله قد ذكر رأيين فقط من الآراء الخمسة السالفة، وكلاهما موجود في المذهب الأشعري وهذان الرأيان هما:

1 -

إن الاسم عين المسمى، وهو الأوّل من الآراء التي ذكرها ابن تيمية.

2 -

التفصيل، وهو الخامس من الأقوال السابقة.

ولبيان ذلك أورد ما ذكره رحمه الله نصاً، ثم أوضح أي الرأيين - عنده - أرجح، فقد قال رحمه الله حاكياً عن شيخه أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم الإسفرائيني2:

"

واعلم أن أسامي الله تعالى على ثلاثة أقسام، قسم منها للذات وقسم لصفات الذات، وقسم لصفات الفعل.

1 انظر تفصيل هذه الأقوال الخمسة والقائلين بها عند ابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/185-189.

2 هو: إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران، الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، أحد أئمة الدين كلاماً، وأصولاً، وفروعاً، روى عنه جماعة منهم: البيهقي. توفي سنة:418?. انظر: طبقات الشافعية4/256.

ص: 162

فالقسم الأوّل: الاسم والمسمى واحد، وهو مثل قديم، وشيء، وإله، ومالك.

الثاني: الاسم صفة قائمة بالمسمى، لا يقال إنها هي المسمي ولا يقال إنها غير المسمى، وهو مثل: العالم، والقادر، لأن الاسم هو العلم والقدرة.

والقسم الثالث: هو من صفات الفعل، فالاسم فيه غير المسمى وهو مثل: الخالق والرازق، لأن الخلق والرزق غيره.

وذهب بعض أصحابنا من أهل الحق في جميع أسماء الله عز وجل إلى أن الاسم والمسمى واحد. قال: والاسم في قولنا: عالم، وخالق لذات البارئ التي لها صفات الذات، مثل: العلم والقدرة وصفات الفعل مثل: الخلق والرزق، قال: ولا نقول لهذه الصفات، إنها أسماء، بل الاسم ذات الله الذي له هذه الصفات"1.

فهذان رأيان حكاهما أبو إسحاق الإسفرائيني، ونقلهما عنه البيهقي فبأيهما يختار البيهقي؟

لقد عزا رحمه الله الرأي الأخير إلى بعض الأشاعرة، ومنهم شيخه ابن فورك، وساق استدلالهم عليه ثم صرح باختياره حيث قال: "وإلى هذا ذهب الحارث بن أسد المحاسبي، فيما حكاه عنه الأستاذ أبو بكر بن الحسن بن فورك، قال: ويصح ذلك عندي بما يشهد له اللسان بذلك، ألا ترى إلى قوله عز وجل:{بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} 2، فأخبر أن اسمه يحيى، قال: يا يحيى، فخاطب اسمه، فعلم أن المخاطب يحيى وهو اسمه، واسمه هو، وكذلك قال:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} 3

1 الجامع لشعب الإيمان للبيهقي1/ ل15، الاعتقاد ص:22.

2 سورة مريم آية: 7.

3 سورة يوسف آية: 40.

ص: 163

وأراد المسميات، ولأنه لو كان غيره، أولاً هو المسمى، لكان القائل إذا قال عبدت الله، والله اسمه، أن يكون عبد اسمه، إما غيره وإما لا يقال انه هو، وذلك محال، وقوله:"إن لله تسعة وتسعين اسماً" معناه تسميات العباد لله، لأنه في نفسه واحد. قال الشاعر:

"إلى الحول ثم اسم السلام عليكما"1.

قال أبو عبيد -: أراد: ثم السلام عليكما، لأن اسم السلام هو السلام..

قال البيهقي: "والمختار من هذه الأقاويل ما اختاره الشيخ أبو بكر بن فورك رحمه الله"2.

وهكذا يصرح البيهقي باختياره للرأي القائل في جميع أسماء الله تعالى بأن الاسم عين المسمى. وقد تقدم طرف من أدلة أصحاب هذا الرأي المختار عند البيهقي، وفي كتاب الاعتقاد ذكر طرفاً آخر منها كقوله تعالى:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} 3 كما قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} 4، كما قال:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 5 هذا من القرآن الكريم.

1 نسب ابن حزم هذا البيت إلى لبيد وذكره كاملاً وهو:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

2 الجامع لشعب الإيمان1/ ل15.

3 سورة الرحمن آية: 78.

4 سورة الفرقان آية: 1.

5 سورة الملك آية: 1.

ص: 164

كما ذكر رحمه الله أدلة هذا الرأي من السنة المطهرة فروى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم فراشه فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات فإنه لا يدري ما خلفه عليه، وليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"1.

وروى بسنده أيضاً حديث عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام جاءه وهو يوعك فقال: "أرقيك من كل داء يؤذيك، ومن كل حسد حاسد ومن كل عين، واسم الله يشفيك"2.

إلى غير ذلك مما أورده رحمه الله من أدلة لهذا الرأي.

وكما عزا هذا الرأي الذي اختاره إلى الحارث بن أسد المحاسبي وأبي بكر بن فورك، فقد عزاه أيضاً إلى أبي عبيد القاسم بن سلام والإمام محمد ابن إدريس الشافعي فقد روى عن الشافعي رحمه الله قوله:"من حلف بالله أو باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة.."3.

وقال بعد ذلك معلقاً على هذا القول: فجعل اليمين باسم من أسماء الله كاليمين بالله ثم قال: ومن حلف بشيء غير الله فلا كفارة عليه، فبين

1 الاعتقاد ص: 23. ورواه البخاري في كتاب الدعوات حديث رقم: 6320، 11/125.

2 الاعتقاد ص: 23. ورواه أحمد في المسند5/323. وأوّله عنده "باسم الله أرقيك".

3 مناقب الشافعي للبيهقي1/403.

ص: 165

بذلك أنه لا يقال في أسماء الله وصفاته أنها أغيار، كأنما يقال أغيار لما يكون مخلوقاً"1.

وهذا رد على القائلين بأن الاسم غير المسمى كالمعتزلة وهو رأي لا ريب شنيع، لأنه مبني على أصل فاسد وهو القول بأن كلام الله تعالى الذي ورد بذكر أسمائه سبحانه مخلوق فتكون أسماؤه مخلوقة، وهو رأي واضح البطلان.

فرأي البيهقي إذاً قد اتضح بأنه القول بأن الاسم عين المسمى وهو رأي جماعة من السلف، منهم الشافعي، وأبو عبيد القاسم بن سلام كما ذكر ذلك البيهقي نفسه، واللالكائي، والبغوي، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله يقول البغوي في شرح السنة:"والاسم هو المسمى وذاته"2. وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري، اختاره أبو بكر ابن فورك منهم كما تقدم.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هؤلاء الذين قالوا. إن الاسم هو المسمى لم يوفقوا إلى الصواب، وذكر من أبرز هؤلاء القوم أبا بكر بن فورك وذكر كلامه نصاً في الآراء الواردة في هذا الشأن وذكر بعد ذلك ترجيحه لهذا الرأي بقوله: قال: والذي هو الحق عندنا قول من قال: "اسم الشيء هو عينه وذاته، واسم الله هو الله، وتقدير قول القائل: بسم الله أفعل، أي بالله أفعل وإن اسمه هو هو"3. وهذا هو القول الذي أشار البيهقي إلى اختياره كما تقدم.

1 مناقب الشافعي للبيهقي1/404.

2 شرح السنة للبغوي5/29.

3 مجموع الفتاوى لابن تيمية6/190.

ص: 166

وذكر ابن تيمية رحمه الله أن السبب الذي أدى بهم إلى مجانبة الصواب أنهم لم يقتصروا على أن أسماء الشيء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات، كما ذكروه في قوله:"يا يحيى" ونحو ذلك ولو اقتصروا على ذلك لكان صحيحاً، لأنه معنى واضح لا ينازع فيه من فهمه، ولعدم اقتصارهم على ذلك أنكر قولهم جمهور أهل السنة لاشتماله على أمور باطلة مثل دعواهم إن لفظ اسم الذي هو "اس م" معناه ذات الشيء ونفسه، وإن الأسماء - التي هي الأسماء - مثل زيد وعمرو هي التسميات، ليست هي أسماء المسميات، وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه. فإنهم يقولون إن زيداً وعمراً ونحو ذلك هي أسماء الناس والتسمية جعل الشيء اسمًا لغيره، وهي مصدر سميته تسمية، إذا جعلت له اسمًا، والاسم هو القول الدال على المسمى، ليس الاسم الذي هو لفظ اسم هو المسمى، بل قد يراد به المسمى، لأنه حكم عليه، ودليل عليه1.

وجميع ما استدلوا به لا دليل لهم فيه، لأنه لا يوجد في واحد منها ما يدل على أن اسم الشيء هو ذات الشيء بعينه لأن هذا لا يتفق مع الواقع. وقد رد ابن تيمية كل دليل من الأدلة السابقة منفرداً عن الآخر بعد أن ساق الرد مجملاً، وهنا اكتفى بالرد المجمل السابق أما الرأي الأصح والأسلم منها هو ذلك التفصيل الذي أورده شارح الطحاوية فقال: "الاسم يراد به المسمى تارة، ويراه به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت:

1 المصدر نفسه6/191-192.

ص: 167

قال الله كذا أو سمع الله لمن حمده ونحو ذلك فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم هاهنا هو المراد، لا المسمى، ولا يقال غيره، لما في لفظ الغير من الإجمال فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد إن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى"1.فهذا تفصيل منطقي سليم، بعيد عن التعقيد، وأصحاب هذا الرأي هم جمهور أهل السنة، وهم الذين يقولون: إن الاسم للمسمى وهم بهذا القول موافقون لصريح الكتاب والسنة، بل وللمعقول أيضاً لأن الله تعال يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقال: {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسمًا" 2 وقال صلى الله عليهوسلم: "إن لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب"3.

ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هؤلاء إنما يلجأون إلى التفصيل الآنف الذكر عندما يسألون أهو المسمى أم غيره4.

1 شرح الطحاوية ص: 69.

2 متفق عليه وقد تقدم.

3 رواه البخاري في كتاب المناقب، حديث رقم: 3532، 6/454، ورواه مالك في الموطّأ، كتاب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم 2/1004.

4 انظر: مجموع الفتاوى6/207.

ص: 168

وفي هذا التفصيل عند الحاجة إليه غنية عن أي قول سواه لأنه هو الواقع المستند إلى الدليل.

أما التفصيل الذي ذكره البيهقي فيما مضى، وأشار إلى أنه رأى بعض متقدمي أصحابه، فإنه تفصيل يعوزه الدليل فلا اعتبار له كما أن قول البيهقي ومن وافقه أن الاسم هو المسمى غير صحيح أيضاً لما تقدم.

مسألة

ذهب البيهقي رحمه الله إلى إطلاق اسم القديم على الله تبارك وتعالى، موافقاً بذلك جمهور المتكلمين، ويحتج لصحة هذا الإطلاق بما ورد في حديث عبد العزيز بن الحصين الذي رواه في كتاب الاعتقاد1 حيث ورد ضمن الأسماء المذكورة مفصلة بعد الإجمال اسم "القديم". كما احتج بما رواه بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث وفيه: قالوا: "جئناك نسألك عن هذا الأمر، قال: "كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره" 2. ثم ذكر تأييداً لهذا الرأي قول شيخه الحليمي3 في معنى القديم: إنه الموجود الذي ليس

1 انظر ص:14، من كتاب الاعتقاد، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث، وعلى حديث الوليد بن مسلم في ص:(165) من هذا البحث.

2 الأسماء والصفات ص: 9. رواه البخاري في كتاب التوحيد بلفظ: "ولنسألك عن أوّل هذا الأمر ما كان

" الحديث. انظر: حديث رقم: 7418، 13/403.

3 هو: الحسين بن الحسن بن محمّد بن حليم البخاري الجرجاني أبو عبد الله فقيه شافعي، قاضٍ، كان رئيس أهل الحديث في ما وراء النهر، مولده بجرجان سنة: 338? ووفاته ببخارى سنة: 403?. انظر: الأعلام2/253.

ص: 169

لوجوده ابتداء والموجود الذي لم يزل، وأصل القديم في اللسان السابق، لأن القديم هو القادم"1.

وعقب البيهقي على قول الحليمي هذا بقوله: "فقيل لله عز وجل قديم، بمعنى أنه سابق للموجودات كلها، ولم يجز إذ كان كذلك أن يكون لوجوده ابتداء، لأنه لو كان لوجوده ابتداء لاقتضى ذلك أن يكون غير له أوجده، وأوجب أن يكون ذلك الغير موجوداً قبله، فكان لا يصح حينئذ أن يكون هو سابقاً للموجودات، فقد أوجبنا ألاّ يكون لوجوده ابتداء، فكان القديم في وصفه جل ثناؤه عبارة عن هذا المعنى"2.

وهكذا يتضح لنا تجويزه إطلاق اسم القديم على الله سبحانه ومن ثم وصفه بالقدم، لأن كل اسم عنده يشتمل على صفة كما سيأتي.

ولكن، ما مدى صحة ما ذهب إليه البيهقي في ذلك؟

الواقع إن ما ذهب إليه البيهقي هنا من تجويز إطلاق اسم القديم على الله سبحانه وتعالى مجانب للصواب ومناقض لما سبق تقريره من أنه يرى في إثبات أسماء الله تعالى التزام جانب التوقيف، ولبيان ذلك أقول: إن ما التزمه البيهقي من الاقتصار على التوقيف في أسماء الله تعالى غير متوفر له هنا، وإن حاول المحافظة على هذا المبدأ باستناده إلى ما ورد في حديث عبد العزيز بن الحصين المشار إليه آنفاً، إلاّ أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون دليلاً له على ما ذهب إليه لما تقدم أيضاً من أنه هو نفسه

1 الأسماء والصفات ص: 9.

2 الأسماء والصفات ص: 9. وانظر هذا المعنى في: الاقتصار في الاعتقاد للغزالي ص: 92، والمسامرة بشرح المسايرة لابن أبي شريف القدسي ص: 22.

ص: 170

يشك في صحة ورود تفصيل الأسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لاحتمال أن يكون ذلك مدرجاً من جهة بعض الرواة، والدليل كما هو معروف في قواعد الأصول إذا تطرق إليه الاحتمال بطل له الاستدلال، وذلك في الفروع، فما بالك بالعقائد؟

وأما حديث عمران ابن حصين فلا دليل فيه لعدم اشتماله على إطلاق هذا الاسم على الله سبحانه.

ثم إن القديم في لغة العرب التي نزل بها القران، هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، قال ابن فارس: القدم خلاف الحدوث، ويقال شيء قديم، إذا كان زمانه سالفاً1. فلم يستعملوا هذا إلاّ في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 2. والعرجون القديم الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول "قديم" وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} 3.

فالأقدم مبالغة في القديم.. وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} 4. أي يتقدمهم ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً، كما يقال: أخذت ما قدم وما حدث، ويقال هذا قدم هذا، وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدماً لأنها تقدم بقية بدن الإنسان5.

1 معجم مقاييس اللغة5/65 مادة: (ق د م) .

2 سورة يس آية: 39.

3 سورة الشعراء آية: 75-76.

4 سورة هود آية: 98.

5 انظر: شرح الطحاوية ص: 52-53.

ص: 171

وبعد أن أورد شارح الطحاوية هذه المناقشة في تقرير معنى القديم، عقب عليها بقوله: ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم فإن ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق، لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه الأوّل، وهو أحسن من القديم، لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه، وتابع له، بخلاف القديم، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة"1.

وهكذا يتضح لنا أن المعنى الذي ذكره المتكلمون للفظ القديم وارتضاه البيهقى وهو أن القديم هو الذي لا أول لوجوده، يتضح لنا أن هذا اللفظ ليس قاصراً على هذا المعنى، بل شامل له ولغيره من المعاني السابقة، ولذلك فإنه لا يكون من الأسماء الحسنى، لأن الأسماء الحسنى تشتمل على خصوص ما يمدح به سبحانه ولفظ القديم ليس كذلك.

ومن أجل هذا لم يرد الإذن الشرعي بإطلاق هذا الاسم على الله سبحانه، وإنما الإذن ورد بإطلاق اسم الأول، وهو أصح من اسم القديم لغة وشرعاً.

وقد أنكر ابن حزم بشدة هذا الإطلاق2، أما ما وجدناه عند بعض العلماء المتمسكين بالمنهج السلفي من إطلاق هذا اللفظ على الله كما جاء عند ابن القيم في نونيته:

1 شرح الطحاوية ص: 53.

2 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل2/152.

ص: 172

وهو القديم فلم يزل بصفاته سبحانه متفرداً بل دائم الإحسان فإنه ليس قصدهم إطلاق هذا اللفظ على سبيل التسمية أو الوصف، بل على سبيل الإخبار، وباب الأخبار أوسع من باب الصفات، كما ذكر ذلك الشيخ محمّد بن مانع ابن القيم في "البدائع" وقال بعد ذلك: وأهل العلم لم يذكروا لفظة القديم في الأسماء الحسنى ولكنهم يخبرون عنه سبحانه بذلك. وجعل قول ابن القيم السابق من هذا النوع1.

والحاصل أن إطلاق لفظ القديم على الله سبحانه بقصد التسمية غير سديد، لافتقاره إلى دليل يجوز لنا ذلك الإطلاق.

صلة الأسماء بالصفات

لقد سبق أن ذكرت المذاهب في أسماء الله تعالى، وعرفنا أن هناك من ينفيها وينفي الصفات معها وهم الجهمية، وأوضحت أنه لا مجال للحديث حينئذ في العلاقة بين معدومين.

وهناك من يثبت الأسماء وينفي الصفات، وهم المعتزلة، وهنا أيضاً لا علاقة، إذ أن أحد الأمرين لا وجود له، أما من يثبت الأسماء والصفات جميعاً لله سبحانه وتعالى، مع وجود الاختلاف في طريق الإثبات، والمقصود منه، فإن أصحاب هذا الرأي هم الذين بحثوا العلاقة بين الأسماء والصفات.

ولا ريب أن شيخنا البيهقي- رحمه الله من أبرز أولئك المثبتين وقد بحث هذه العلاقة، وأثبت وجود صلة وثيقة بين أسماء الله سبحانه وتعالى وبين صفاته، حيث قال: "

فلله عز وجل أسماء وصفات وأسماؤه صفاته، وصفاته أوصافه"2.

1 انظر: تعليق الشيخ محمّد بن مانع على العقيدة الطحاوية ص: 6، وشرح الشيخ الألباني عليها ص:19.

2 الاعتقاد ص: 21.

ص: 173

إلا أنه رحمه الله لا يريد من كلامه هذا أن الأسماء هي الصفات بعينها، وإلا لما كان ثمة حاجة إلى تأليف كتاب كبير يفرق فيه بين مباحث الأسماء ومباحث الصفات، ثم إن قوله:"وفي إثبات أسمائه إثبات صفاته، لأنه إذا ثبت كونه موجوداً فوصف بأنه حي فقد وصف بزيادة صفة على الذات هي الحياة، وإذا وصف بأنه قادر فقد وصف بزيادة صفة هي القدرة وإذا وصف بأنه عالم فقد وصف بزيادة صفة هي العلم، كما إذا وصف بأنه خالق فقد وصف بزيادة صفة هي الخلق، وإذا وصف بأنه رازق فقد وصف بزيادة صفة هي الرزق، وإذا وصف بأنه محيي فقد وصف بزيادة صفة هي الإحياء إذ لولا هذه المعاني لاقتصر في أسمائه على ما ينبىء عن وجود الذات فقط"1.

في هذا القول بيان لتلك العلاقة التي يراها بين أسماء الله تعالى وصفاته وهي دلالة تلك الأسماء على اتصافه سبحانه بما تتضمنه من صفات. وفي قوله – راوياً عن شيخه الحليمي: "وإنما تشتق أسماؤه من صفاته التي كلها مدائح، وأفعاله التي أجمعها حكمه"2 دليل على أنه يرى التلازم بين الصفة والاسم فكما أن الصفة تدل على الاسم، فالاسم أيضاً دليل على الصفة، بمعنى أن الصفة إذا ذكرت منفردة فهي تدل بطريق اللزوم على الاسم المشتق منها، والاسم إذا ذكر منفرداً دل بطريق اللزوم أيضاً على الصفة التي اشتقّ منها، وأعني بالصفات هنا الصفات الدالة على الأسماء الحسنى.

1 الأسماء والصفات ص: 110.

2 المصدر نفسه.

ص: 174

وهذا الرأي في العلاقة بين أسماء الله تعالى وصفاته، الذي ذهب إليه البيهقي هو الرأي السديد الذي يتفق مع العقل والمنطق ولم يخالفه فيه من مثبتي الأسماء سوى ابن حزم الذي يرى أن الأسماء جامدة ليست مشتقة أصلاً فلا علاقة بينها وبين الصفات حيث يقول:

".. وأما قولهم: هل يفهم من قول القائل "الله" كالذي يفهم من قوله عالم فقط، أو يفهم من قوله عالم معنى غير ما يفهم من قوله "الله"؟ فجوابنا أننا لا نفهم من قولنا قدير وعالم إذا أردنا بذلك الله تعالى إلا ما نفهم من قولنا الله فقط، لأن كل ذلك أسماء أعلام لا مشتقة من صفة أصلاً"1.

فهو لا يرى ثمة علاقة بين الأسماء والصفات وهذا قول باطل وادعاء لا دليل عليه، إذ أن اللغة العربية التي نزل بها القرآن وخاطب الله بها أهلها لا تساعده على ما أراد، فإنه لا يفهم من عالم وعليم وقادر وقدير إلا ذات اتصفت بصفة2.

وهذا الرأي هو صريح مذهب المعتزلة أيضاً لأنهم أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، ومعنى هذا أنهم لا يرون أن الصفة ثبتت بثبوت الاسم، ولذلك مزيد بيان فيما بعد إن شاء الله.

وفي قول البيهقي السابق: بأنه لولا هذه المعاني لاقتصر في أسمائه على ما ينبىء عن وجود الذات فقط، في هذا القول رد على من ذهب هذا المذهب الذي تبناه ابن حزم ووافقته عليه المعتزلة، كما أن شيخ

1 الفصل في الملل والأهواء والنحل2/128-129.

2 انظر: حاشية الفصل لابن حزم الصفحات السابقة نفسها.

ص: 175

الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد رد عليه، واحتد في ذلك حتى وصفه بأنه شبيه برأي القرامطة الباطنية وقال بعد ذلك: ".. فإنا نعلم باضطرار الفرق بين الحي والقدير، والعليم، والملك والقدوس، والغفور، وإن العبد إذا قال: رب اغفر لي، وتب علي إنك أنت التواب الغفور، كان قد أحسن في مناجاة ربه، وإذا قال اغفر لي وتب علي إنك أنت الجبار المتكبر الشديد العقاب لم يحسن في مناجاته، وإن الله أنكر على المشركين الذين امتنعوا من تسميته بالرحمن فقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} 1.

وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.

ومعلوم أن الأسماء إذا كانت أعلاماً وجامدات لا تدل على معنى لم يكن فرق فيها بين اسم واسم، فلا يلحد في اسم دون اسم، ولا ينكر عاقل اسماً دون اسم، بل قد يمتنع عن تسميته مطلقاً، ولم يكن المشركون يمتنعون عن تسمية الله بكثير من أسمائه، وإنما امتنعوا عن بعضها وأيضاً فالله له الأسماء الحسنى دون السوآى، وإنما يتميز الاسم الحسن عن الاسم السيئ بمعناه، فلو كانت كلها بمنزلة الأعلام الجامدات التي لا تدل على معنى لم تنقسم إلى حسنى وسوآى، بل هذا القائل لو سمى معبوده بالميت والعاجز والجاهل، بدل الحي والعالم والقادر لجاز ذلك عنده"3

1 سورة الفرقان آية: 60.

2 سورة الأعراف آية: 180.

3 شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص: 76-78.

ص: 176

ويقول ابن القيم- رحمه الله في تقرير الرأي الذي ذهب إليه البيهقي، والرد على مخالفيه: "

لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات، لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها، فلا يقال يسمع ويرى ويعلم، ويقدر ويريد، فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها وأيضا فلو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قام به، فكانت كلها سواء، ولم يكن فرق بين مدلولاتها، وهذه مكابرة صريحة وبهت بين، فإن من جعل معنى اسم "القدير" هو معنى اسم "السميع البصير" ومعنى اسم "التواب" هو معنى اسم "المنتقم" ومعنى اسم المعطي هو معنى اسم "المانع" فقد كابر العقل، واللغة والفطرة"1.

فرأى البيهقي الذي يثبت معاني أسماء الله تعالى وبذلك يثبت الصفات التي تدل عليها هو الرأي الحق، وقد وافق فيه السلف، أما رأي ابن حزم المقابل لرأي البيهقي فقد تبين بطلانه، وهو في نظري لا يبعد كثيراً عن رأي الجهمية الذي سبق أن أشرت إليه وهو القائل بنفي أسماء الله تعالى، وإطلاقها عليه على سبيل المجاز.

1 مدارج السالكين لابن القيم1/29.

ص: 177