الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الصفات العقلية
تمهيد:
تقدم لنا معرفة الضابط الذي وضعه البيهقي لهذه الصفات وهو تعريفه لها بياضا ماكان طريق إثباته أدلة العقول مع ورود السمع به1 بمعنى أن الله تعالى وصف نفسه بها، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلت عليها العقول. وكما اتضح لنا من التقسيم الذي تبناه البيهقي كما سبق بيانه في الفصل السابق، فإن هذه الصفات منها ما هو ذاتي، ومنها ماهو فعلي. وقبل أن أبدأ تفصيل موقف البيهقي من هذه الصفات أرى من المناسب أن أذكر بين يدي ذلك عرضاً موجزاً لآراء الفرق الإسلامية فيها، حتى يتبين لنا موقع رأي البيهقي منها فأقول:
إن من أبرز تلك الطوائف التي وقع بينها النزاع حول هذه الصفات خمس فرق هي: الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، وهذه تمثل فريق النفاة، والكرامية والأشاعرة، وهاتان الفرقتان تمثلان فريق المثبتين.
فأما الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان، فهؤلاء ينفون صفات الله تعالى نفياً قاطعاً، فيرون أن كل صفة يجوز إطلاقها على الإنسان فإنه لا يجوز أن يوصف بها الباري سبحانه، لأن في ذلك تشبيهاً لله بخلقه وفي بيان رأي هذه الفرقة في الصفات يقول البغدادي:
1 الاعتقاد ص: 21 وقد تقدم.
"
…
وامتنع - أي الجهم - مما وصف الله تعالى بأنه شيء أو حيّ، أو عالم، أو مريد، وقال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء وموجود، وحي، وعالم، ومريد، ونحو ذلك. ووصفه بأنه قادر، وموجد وفاعل، وخالق، ومحي، ومميت، لأن هذه الأوصاف مختصة به وحده"1.
ووصف الجهم لله سبحانه بأنه قادر مع أن العبد قادر أيضاً مبني على مذهبه الذي يرى فيه أن العبد مجبور على فعله، وأنه كالريشة المعلقة في مهب الريح، وإضافة الفعل إلى العبد إنما يكون على سبيل المجاز.
وأما المعتزلة: فإنها بجعلها الصفات غير زائدة على الذات فقد دخلت في طائفة النفاة، لأن حقيقة مذهبهم نفي صفات الله سبحانه وتعالى، لأنهم وإن أثبتوا أن الله سبحانه وتعالى قادر، حي، موجود، إلاّ أنهم اختلفوا في كيفية استحقاقه سبحانه هذه الصفات.
فأما أبو عليّ الجبّائي، وأبو الهذيل العلاف فذهبا إلى أن الله تعالى يستحق هذد الصفات لذاته، فهو سبحانه عالم لذاته، قادر لذاته مريد لذاته.
وقال أبو هاشم: "إن هذه الصفات أحوال وراء الذات، فالله تعالى عالم بعالمية، قادر بقادرية، وهذه الأحوال لا موجودة ولا معدومة"2.
وأبرز معالم هذا المذهب أن الصفات عندهم غير زائدة على الذات، بحجة "أنه لا صفة للقديم أخصّ من كونه قديماً، أو مما يقتضي كونه قديماً من الصفة النفسية"3.
1 الفرق بين الفرق للبغدادي ص: 211-212.
2 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار ص: 182.
3 المغني للقاضي عبد الجبّار4/251.
وإن في إثبات زيادة الصفات على الذات ما يؤدي إلى تعدد القدماء، فتشارك الله سبحانه في أخص وصف ذاته وهو القدم، وبذلك تتعدد الإلهية على حد زعمهم.
كما قال القاضي عبد الجبّار في بيان هذه الشبهة الضالة:
"والأصل في ذلك أنه تعالى لو كان يستحق هذه الصفات لمعان قديمة، وقد ثبت أن القديم إنما يخالف مخالفه بكونه قديماً، وثبت أن الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق، بها تقع المماثلة عند الاتفاق وذلك يوجب أم تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى، حتى إذا كان القديم تعالى عالماً لذاته، قادراً لذاته، وجب في هذه المعاني مثله ولوجب أن يكون الله تعالى مثلاً لهذه المعاني"1.
وبهذا يتبين لنا أن مذهبهم في الصفات على هذا الوجه هو في الحقيقة نفي لها.
وأما الطائفة الثالثة من النفاة فهم:
الفلاسفة: وهؤلاء يتفقون أيضاً جمع المعتزلة في نفي الصفات عن الله سبحانه، إلأ أن حجتهم على ذلك االنفي تختلف عن حجة سابقيهم إذ إن المعتزلة - كما تقدم - برروا نفيهم ذاك بأن إثبات صفات لله سبحانه زائدة على الذات، يؤدي إلى القول بتعدد القدماء.
أما الفلاسفة فإنهم يخالفونهم مخالفة جذرية في هذا التبرير، إذ إنهم يجوزون تعدد القدماء مثل العقول العشرة، والأفلاك، فإنها قديمة عندهم.
1 شرح الأصول الخمسة ص: 195.
وإنما كان نفيهم للصفات خشية التركيب، فالله تعالى - عندهم واحد بسيط، والصفات الواردة في الشرع من العلم، والقدرة، والإرادة ونحوها من الصفات يزعمون أن إثباتها سلوباً وإضافات لا يستلزم الكثرة والتركيب في ذاته، لأن مفهوم ذلك كله عندهم شيء واحد هو نفس الذات.
يقول ابن سينا في النجاة: "فإذا حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود أنه إن وموجود، ثم الصفات الأخرى يكون بعضها المتعين فيه هذا الوجود مع إضافة، وبعضها هذا الوجود مع السلب وليس واحداً منها موجباً في ذاته كثرة البتة ولا مغايرة"1.
ومن هذا النص يتضح لنا أن الفلاسفة إنما يصفون الله سبحانه بأنه "أن وموجود" والوجود لا يوجب كثرة ولا تعدداً، أما ما عدا ذلك من الصفات فإنها إضافات أو سلوب. وهم بهذا يتفقون مع المعتزلة على نفي الصفات.
أما فريق المثبتين فيمثله طائفتان: الأشاعرة، والكرامية.
فأما الأشاعرة: أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري فإنهم يثبتون لله سبحانه وتعالى سبع صفات زائدة على الذات، ويطلقون عليها اسم صفات المعاني بمعنى وجود معنى لها زائد على الذات وهذه الصفات هي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.
وقد استدلوا على زيادة هذه الصفات على الذات بأمور ثلاثة.
1 النجاة لابن سينا ص: 251.
1 -
قياس الغائب على الشاهد، العالم في الشاهد من قام به العلم ولا يختلف الأمر غائباً وشاهداً، لأن العلة واحدة، والشرط واحد فعلة كون الشخص عالماً هو العلم، وكذالك الأمر في الغائب.
2 -
إن هذه الصفات لو لم تكن زائدة على الذات لكان مفهوم كونه حياً، عالماً، قادراً، نفس ذاته، ولم يكن لحملها على ذاته فائدة، وكان قولنا على طريقة الأخبار: الله الواجب، أو العالم أو القادر، بمثابة حمل الشيء على نفسه، واللازم باطل.
3 -
لو كانت هذه الصفات نفس ذاته لكان المفهوم منها كلها أمراً واحداً، وذلك ضروري البطلان1.
ولهذه الصفات عند الأشاعرة أحكام أربعة:
1 -
إن هذه الصفات ليست هي الذات بل زائدة عليها.
2 -
إنها كلّها قائمة بذاته سبحانه، ولا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته، سواء كان في محل أو لم يكن في محل.
3 -
إن هذه الصفات كلّها قديمة، فإنها إن كانت حادثة كان القديم سبحانه محلاً للحوادث، وهو محال.
4 -
إن الأسامي المشتقة لله سبحانه من هذه الصفات صادقة عليه أزلاً وأبداً2.
وأما الكرامية: أتباع أبي عبد الله محمّد بن كرام السجستاني فقد أثبتوا أيضاً صفات المعاني لله سبحانه وتعالى، زائدة على ذاته. فالله تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حيّ بحياة، سميع، بصير، وجميع هذه الصفات قديمة أزلية قائمة بذاته سبحانه.
1 انظر: الوجوه الثلاثة في المواقف بشرح الجرجاني (قسم الإلهيّات) تحقيق الدكتور أحمد المهدي ص: 78-80.
2 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص: 150-166.
وقالوا أيضاً: إنه تعالى لم يزل خالقاً، رازقاً، منعماً، من غير وجود خلق ورزق ونعمة منه. وأن معنى خالقيته قدرته على الخلق ورازقيته قدرته على الرزق وإنعامه قدرته على الإنعام1.
وبعد هذه الإلمامة الموجزة بمذاهب المتكلمين حول الصفات العقلية، يأتي أساس الكلام عن هذه القضية، وهو ما يتعلق برأي البيهقي، وسوف أقسم هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين:
المبحث الأوّل: صفات الذات العقلية.
المبحث الثاني: صفات الفعل العقلية.
1 الفرق بين الفرق للبغدادي ص: 219.