الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: نشأته العلمية
لقد بدأ البيهقي- رحمه الله حياته العلمية في سن متأخرة نسبيآ بالنظر إلى أبناء عصره، إذ بدأ بسماع الحديث وهو في سن الخامسة عشرة من عمره1.
وليس بعيداً أن يكون قد بدأ بحفظ القرآن الكريم قبل بدئه بسماع الحديث، لأن ذلك من عادة العلماء في ذلك العصر، وإن كنا لا نجد في المصادر التاريخية ما يشير إلى ذلك.
ويذكر المؤرخون أن أوّل سماعه كان من مشايخ خراسان2، ثم رحل إلى أماكن شتى في سبيل طلب العلم، فكانت مرحلة التلقي قد بدأت برحلة إلى خراسان، وفيما يلي نذكر رحلاته العلمية التي كان لها أثر كبير في تحصيله وسعة علمه.
1 سير أعلام النبلاء11/ ل184.
2 قال ياقوت: "خراسان بلاد واسعة، أوّل حدودها مما يلي العراق أزاذوار، قصبة جوين وبيهق، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان، وغزنة وسجستان، وكرمان. وليس ذلك منها، إنما هو أطراف حدودها". معجم البلدان 2/350.
رحلاته العلمية
لقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - حريصين على عدم مغادرة المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن حبهم العظيم له جعلهم لا يقوون على الابتعاد عنه، لذلك وجدنا المكثرين من رواية الحديث عنه لازموا المدينة حتى وفاته عليه السلام، ولم يغادروها الاّ لحاجة، ثم يعودوا إليها.
حتى كان عهد الفتوحات الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين حيث بدأت رحلاتهم، وخروجهم من المدينة، فانتشروا في الأمصار، حاملين معهم حديث رسوله الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكونوا جميعاً بدرجة واحدة في التحمل من رسوله الله صلى الله عليه وسلم، بل كان أحدهم يسمع ما لا يسمعه الآخر، ويحفظ ما نسيه غيره، مما جعلهم هم أنفسهم يرحلون إلى بعضهم لسماع حديث اختص بتحمله واحد منهم دون سواه، أو التثبت من حديث بلغه ذكره عن أحدهم، فكانت الرحلة لطلب الحديث منذ ذلك الحين سنة متبعة، سلكها علماء هذا الفن الشريف، حتى حملت إلينا كتب التاريخ عجائب رحلاتهم، فقد كان أحدهم يقطع المسافات الشاسعة لسماع حديث واحد بلغه عن غيره.
فهذا الصحابي الجليل، جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: "بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: تعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني أنك سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة – أو قال العباد – عراة غرلاً بهماً" قال: قلنا وما بهما؟ قال: ليس معه شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قال: قلنا كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات 1.
وكانت الرحلة في عهد التابعين أوسع، لأن كل واحد منهم كان يطمع في الحصول على أكبر قدر ممكن من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع ذلك إلاّ بالرحلة إلى أقطار شتى، حيث تفرق فيها الصحابة رضوان الله عليهم.
وثمة عامل آخر للرحلة، وهو طلب علو الإسناد، فكان بعضهم إذا بلغه الحديث بواسطة شخص ما عن أحد الصحابة يحرص على سماعه من الصحابي نفسه فيرحل إليه، وإذا بلغه عن شخص بينه وبين الصحابي آخر، وكان الصحابي قد مات يحرص أيضاً على سماعه ممن سمعه من الصحابي مباشرة لإسقاط إحدى الواسطتين حتى يعلو إسناده.
وهكذا أصبحت الرحلة لطلب العلم سنة متبعة بين طلابه.
وقد حرص البيهقي رحمه الله على أن يحوز ما أمكنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلك هذه الطريقة التي سنها الصحابة
1 مسند أحمد3/495.
والتابعون، فرحل إلى خراسان، والعراق، والحجاز، وفيما يلي عرض لهذه الرحلات، وأسماء بعض شيوخه الذين أخذ عنهم فيها:
رحلته إلى خراسان
ذكر الذهبي أن البيهقي رحمه الله بدأ سماع الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة من أبي الحسن محمد بن الحسين العلوي والحاكم أبي عبد الله الحافظ وعبد الله بن يوسف الأصبهاني، وأبي علي الروذباري وأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي بكر بن فورك
…
ثم سرد عشرين شيخاً من أوّل من سمع منهم البيهقي1.
وفي تذكرة الحفاظ ذكر هؤلاء الستة الذين نقلتهم عنه من سير أعلام النبلاء، ثم ذكر أن سماعه منهم كان بخراسان2، كما ذكر هؤلاء أيضاً ابن هداية الله، وذكر أن سماعه منهم كان أيضاً بخراسان3.
وذلك كله يؤكد لنا أن سماعه بخراسان لم يسبقه سماع بغيرها، فبدأ الرحلة قبل السماع من علماء بلده بيهق، وبهذا يتحدد لنا تاريخ رحلته إلى خراسان بعام تسعة وتسعين وثلاثمائة، وهي السنة التي شهدت بداية طلبه لعلم الحديث.
1 سير أعلام النبلاء11/ ل184.
2 تذكرة الحفاظ3/1132.
3 مختصر طبقات المحدّثين ص: 200.
رحلته إلى العراق
كما رحل البيهقي رحمه الله إلى العراق قاصداً حاضرة العلم والعلماء في ذلك الوقت، مدينة بغداد، وسمع بها من هلال بن محمد بن جعفر الحفار وعلي بن يعقوب الأيادي، وأبي الحسين بن بشران وطبقتهم1.
ثم توجه إلى الكوفة أيضاً قاصداً علماءها، فأفاد بها من جناح بن نذير القاضي وغيره2.
ولم أجد ذكراً لتاريخ رحلته هذه، ولا المدة التي قضاها في كل من بغداد والكوفة، إلاّ أن السبكي يشير إلى أن ذلك كان وهو في طريقه إلى الحج3.
رحلته إلى الحجاز
ولما كان الحجاز يضم مهوى أفئدة المسلمين، شد البيهقي رحاله إليه، قاصداً مكة المكرمة، لأداء فريضة الحجّ، ولكنه رأى هذه المناسبة فرصة سانحة للاستفادة من علماء البلد الحرام، فجلس فيها إلى الحسن بن أحمد بن ضراس، وأبي عبد الله بن نظيف، وغيرهما. فأفاد منهما فائدة كبيرة4.
1 سير أعلام النبلاء 11/ل 184، ومختصر طبقات المحدّثين ص:200.
2 المصدر نفسه.
3 طبقات الشافعية4/8.
4 طبقات الشافعية4/8، ومختصر طبقات المحدّثين ص:200.
وهذه الرحلة – كسابقتها – لا يعرف لها تاريخ، إذ إن حياة البيهقي يكتنفها شيء من الغموض في بعض جوانبها، ومن تلك الجوانب تحركاته لتحصيل العلم، إذ لم نجد تفصيلات كافية عن مدى الفائدة التي حصلها من كل رحلة وإن كانت رحلاته في جملتها ذات أثر عظيم في تكوينه العلمي.
ويذكر الأستاذ السيد أحمد صقر في مقدمته (لمعرفة السنن والآثار) أن للبيهقي تحركات كثيرة في البلدان المجاورة لموطنه، إذ سمع بكنوقان واسفرايين، وطوس، والمهرجان، وأسداباذ، وهمذان، والدامغان وأصبهان والري، والطابران1.
إلاً أنني لم أجد ذكراً لمشايخه بها، لذلك اقتصرت على رحلاته التي أطلعنا على شيوخه الذين أفاد منهم خلالها.
1 معرفة السنن والآثار، مقدّمة المحقّق ص:1.