المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس: منهج البيهقي في الاستدلال - البيهقي وموقفه من الإلهيات

[أحمد بن عطية الغامدي]

الفصل: ‌الفصل السادس: منهج البيهقي في الاستدلال

‌الفصل السادس: منهج البيهقي في الاستدلال

لقد تعددت السبل، واختلفت المناهج في الاستدلال على مسائل العقيدة، سيما ما يتعلق منها بذات الله تبارك وتعالى، من إثبات لوجوده ووحدانيته، وأسمائه، وصفاته.

فقد ذهب أناس إلى تقديم الجانب العقلي على الجانب السمعي واعتبار العقل هو الأساس الذي يجب أن يكون تصوّره منطلقاً لإثبات مسائل العقيدة، وذلك هو ما اشتهر عن المعتزلة ومتكلمي الأشاعرة، لذلك اتبع هؤلاء منهجاً فلسفياً، وصفه الدكتور محمود قاسم بأنه أقل وضوحاً وقوة، وأنه منهج واه، لأنه منهج جدل، لا منهج إقناع، وأنه لا يصلح لا للعلماء، ولا للعامة بل هو أعجز عن أن يقنع المتكلمين أنفسهم1.

إلاّ أن البيهقي رحمه الله وإن كان أشعري العقيدة - كما سيتضح لنا ذلك فيما بعد إن شاء الله - فإنه سلك منهجاً متميزاً يتسم بحب واضح، وتفضيل أكيد لسلوك الأدلة النقلية الواردة لإثبات مسائل العقيدة، مع الأخذ بالأدلة العقلية إلى جانب النقلية، وذلك فيما للعقل فيه مجال، كإثبات الوجود، والوحدانية والصفات العقلية.

1 انظر: مقدمة مناهج الأدلة لابن رشد، تقديم الدكتور محمود قاسم ص:9.

ص: 103

فإثبات وجود الله مثلاً - وهو من أكبر قضايا العقيدة - كان المنهج فيه بين المتكلمين والفلاسفة محل اتفاق، إذ اتفقوا جميعاً على أن الإيمان بوجود الله تعالى، لا يكون إلاّ باستخدام العقل، والاعتماد عليه1.

وهو أمر سيتضح لنا في موضعه من هذا البحث إن شاء الله.

والبيهقي رحمه الله وإن اعترف للعقل بفضله ومكانته في إثبات هذه القضية، إلاّ أن الطرق العقلية التي سلكها في هذا المجال شرعية أيضاً، لأن الشرع أرشد إليها، ونبه الخلق عليها، مثل طريقي النظر في الملكوت وفي الأنفس، كما سلك طريق المعجزة، وكلّها طرق شرعية صحيحة إلاّ أنه أضاف إليها طريق الحدوث، وهو طريق سليم لا غبار عليه، لولا ما صاحبه من استدلال بحدوث الأعراض على حدوث الجواهر، وهو استدلال قرره المتكلمون، ووافقهم عليه البيهقي، إلاّ أنه لم يجعله أصلاً كما جعلوه بل وافق على إمكان سلوكه للاستدلال على وجود الله تعالى، مع أنه يرى أن طريقي النظر أولى بدليل فرط عنايته بهما، كما سيتبين لنا ذلك فيما بعد إن شاء الله.

وإذا كان هذا هو منهج الييهقي في إثبات قضية الوجود فإن منهجه في إثبات الأسماء والصفات رسم له حدوداً واضحة المعالم، إذ قال في إثبات أسماء الله تعالى:"إثبات أسماء الله تعالى ذكره بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة"2.

1 انظر: المصدر نفسه ص: 11.

2 الأسماء والصفات ص: 3.

ص: 104

وقال في إثبات الصفات: "لا يجوز وصفه إلاّ بما دل عليه كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه سلف هذه الأمة"1.

وهذا منهج واضح حدده البيهقي لإثبات الأسماء والصفات وسار عليه في الاستدلال، فإننا نجده يستدل لكل مسألة من مسائل العقيدة بإيراد نصوصها التي جاءت بإثباتها، وذكر الآثار المروية عن السلف في ذلك. وهذا منهج سلفي قويم طالما أكد السلف الالتزام به، وحذروا من تنكبه، فمن يطالع كتب السلف، ويقارن بها كتب البيهقي يجد منهج الاستدلال واحداً، وأسلوب العرض هو نفس الأسلوب الذي سلكه البيهقي.

وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله منهج السلف بقوله: "فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسله، نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه وقد علم أن طريقة السلف وأئمتهم إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه"2.

وإذا كان البيهقي قد اتفق مع السلف في منهج الاستدلال فهل اتفق معهم في تطبيق ذلك المنهج على جميع الصفات؟

الواقع أن الباب الثاني من هذا البحث سيفصل الجواب عن هذا السؤال، إلاّ أنني هنا أجمل الجواب ببيان موجز لمنهج التطبيق بعد أن عرفنا منهج الاستدلال.

1 المصدر السابق ص:110.

2 الرسالة التدمرية لابن تيمية ص: 4.

ص: 105

فالتطبيق الطبيعي لمنهج البيهقي السالف كان ينبغي أن تكون نتيجته الإثبات لجميع الصفات لتوفر جميع العناصر التي اشترطها في أدلتها. فكل صفة من صفات الله تعالى ورد إثباتها بالكتاب أو بالسنة أو بهما معاً، مع توفر الإجماع من جانب السلف على وصفه سبحانه بها لوضوح أدلتها، وصراحتها في ذلك. إلاّ أن ما حصل من البيهقي كان بخلاف ذلك، لأنه اتفق مع السلف في إثبات بعض الصفات، وخالفهم في بعضها الآخر، حيث أوله، أو فوض فيه.

فهذه ثلاثة مناهج سلكها البيهقي في أمر كان ينبغي أن يكون الكلام فيه على نمط واحد لأن ما يقال في بعض الصفات ينبغي أن يقال في بعضها الآخر، وهو إلزام لجميع نفاة الصفات لإثباتهم لذات الله تعالى والكلام عن الصفات لا بد وأن يكون فرعاً عن الكلام في الذات، فإذا ثبتت الذات كان لا بد من ثبوت صفاتها يقيناً، وأي شبهة يوردها أولئك النفاة فإنها تلزم ما أثبتوه من صفات، إذ لا فرق حينئذٍ بين القول في صفة والقول في أخرى.

وللبيهقي أسلوب خاص في التفريق بين ما يرى إثباته حقيقة وبين ما أوله أو فوض فيه، وذلك عن طريق الترجمة لبحث الصفة، لأنه حين يرمي إلى إثباتها إثباتاًحقيقياً يترجم لأدلتها بقوله:(باب ما جاء في إثبات كذا) كما هو الحال عند كلامه على الصفات العقلية كالحياة، والعلم، والقدرة وغيرها. حيث ترجم لصفة الحياة بقوله:(باب ما جاء في إثبات صفة الحياة) 1 وسلك في الترجمة نفس الأسلوب لبقية هذا النوع من الصفات.

1 الأسماء والصفات ص: 111.

ص: 106

وكذا كان فعله فيما أثبته من الصفات الخبرية، كاليدين والوجه والعينين.

أما ما لا يرى إثباته منها، بل سلك فيه أحد المنهجين الآخرين التفويض أو التأويل، فإنه اتخذ له طريقة أخرى في الترجمة كأن يقول (باب ما جاء في كذا، أو في ذكر كذا) . كما فعل في ترجمته لليمين والكف، والأصابع1. وقال في ترجمته لصفة الاستواء التي فوض فيها (باب ما جاء في قول الله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2.

وهو يرمي من وراء هذا الأسلوب أن يكون رأيه واضحاً من أول وهلة فما صرح فيه بالإثبات في الترجمة فإن ذلك يعني أنه يثبته إثباتاً حقيقياً على طريق السلف في ذلك.

أما إذا سلك أحد الطريقين الآخرين فإن ذلك يعني أنه إما مفوض في تلك الصفة، أو مؤول فيها.

فالصفات العقلية بنوعيها سنرى كيف أنه مثبت لها على طريقة السلف فوافق بذلك الإثبات ما أورده من أدلة لها.

أما بقية الصفات فإن البيهقي لم يتفق مع السلف في منهج التطبيق لما وردت به أدلتها، عدا ثلاث صفات هي: الوجه واليدين والعين من صفات الذات الخبرية مع أن ما أورده من أدلة لبقية الصفات صريحة في ذلك الإثبات، ومع ذلك أولها، لسبب سنعرفه في موضعه بإذن الله.

1 المصدر نفسه ص: 333.

2 المصدر نفسه ص: 405.

ص: 107

أما صفات الفعل الخبرية فلم يسعد منها شيء بالإثبات عند البيهقي إذ إنه سلك فيها مسلكين بعيدين كل البعد عن الإثبات هما: التأويل والتفويض. ففوض في الاستواء، والنزول وما في معناه كالإتيان والمجيء، وأول في ما تبقى منها.

وسنرى جميع ما أوجزته هنا واضحاً ومفصلاً في الجزء الثاني من هذا البحث بإذن الله.

إلاّ أنني أحب أن أنبه هنا إلى أن ما تقدم من عرض موجز لمنهج الاستدلال ومنهج التطبيق عند البيهقي يوضح لنا كيف أنه اتفق مع السلف في منهج الاستدلال وطريقة العرض لمسائل العقيدة، إلاّ أنه خالفهم عند التطبيق الذي هو الأهم، فلم يثبت جميع ما أثبتته الأدلة التي ساقها بل كان متردداً في منهج التطبيق، فهو سلفي في بعضه، وأشعري في بعضه الآخر. وهو أسلوب يجعلنا نحكم على البيهقي بالتناقض المنهجي في مجال التطبيق، لتردده بين الأشعرية والسلفية في ذلك، بينما كان السلف أصحاب منهج واحد استدلالاً وتطبيقاً، فأثبتوا ما كان مثبتاً بالدليل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، وكانوا بذلك أبعد الناس عن منهجي التأويل والتفويض.

وقد لاحظت من منهج البيهقي في إيراده لمسائل العقيدة والاستدلال عليها أنه لا يهتم برأي الخصوم في كل مسألة يوردها إذ أحيانا يتعرض لها ويناقشها، كما فعل عند بحثه لمسألة القول بخلق القرآن حين ذكر أن ذلك مذهب الجهمية، ثم تناول الرد عليهم بإسهاب

ص: 108

وتفصيل، وكما فعل حين رد على مؤولي ما أثبته من الصفات الخبرية، الوجه، واليدين، والعين بطريقة تشعر أساساً بأنه قصد أولاً بيان سلامة مذهبه ومن ثم رد ما ذهب إليه مخالفوه، وأحياناً أخرى لا يزيد على إيراد مذهبه وحده.

والحاصل أن ما احتوته مباحث الإلهيات عند البيهقي قصد منه أساساً تقرير ما يراه واجب الاعتقاد، حتى فيما تعرض له من آراء الخصوم.

وهذه أمور سيتضح لنا بيانها أكثر في الباب الثاني من هذا البحث الذي أنقل القارئ إليه في الصفحات التالية.

ص: 109