المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: عصر البيهقي - البيهقي وموقفه من الإلهيات

[أحمد بن عطية الغامدي]

الفصل: ‌الفصل الأول: عصر البيهقي

‌الباب الأول: حياة البيهقي

‌الفصل الأوّل: عصر البيهقي

لقد رأيت من الضروري - وقد اخترت مجال بحثي شخصية هامة من أبرز الشخصيات التي كان لها أثر بارز في حفظ التراث الإسلامي، وخدمته وتقديمه لطلابه في أبهى صوره وأكمل حالاته - رأيت من الضروري أن أقدم بين يدي دراستي لهذه الشخصية دراسة موجزة للظروف التي أحاطت بها وبيئتها التي ترعرعت في أكنافها. ذلك لأن عادة الباحثين في مجال كهذا قد جرت بذلك، وهو أمر من الضرورة بمكان، إذ إنه يمكن ذلك الباحث من الوقوف على العوامل التي كان لها دور فعال في نبوغ تلك الشخصية، وفي التأثير على اتجاهها، لأن الإنسان كما يتأثر ببيئته التي يعيش فيها ومشايخه الذين تلقى عنهم، فإنه بنفسه القدر يكون تأثره بالأحوال والظروف المحيطة به من الناحيتين: السياسية، وللاجتماعية. إذ إن هذه الظروف يكون لها - حتماً - أثر بارز في المسلك الذي ينهجه من عايشها.

لذلك كان لزاماً علي وأنا أدرس شخصية إسلامية مهمة، أن أعطي القارئ فكرة موجزة عن عصرها من نواحي ثلاث:

1 -

الناحية السياسية.

2 -

الناحية الاجتماعية.

3 -

الناحية العلمية.

ص: 25

الناحية السياسية

عاش البيهقي رحمه الله في الفترة الواقعة ما بين عام أربعة وثمانين وثلاثمائة (384) حيث كانت ولادته، وثمانية وخمسين وأربعمائة (458) حيث كانت وفاته.

ومعنى ذلك أن البيهقي عاصر الدولة العباسية في أحلك أيامها حيث كان عهد الدويلات المتناحرة، وحيث أفل الوجود الفعلي للسلطة العليا.

فقد عاصر البيهقي من خلفاء بني العباس القادر بالله الذي تربع على عرش الخلافة سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة (371) ، أثر قبضه على الخليفة الطائع لله، وخلعه له [1] . واستمرت خلافته إلى حين وفاته سنة سبع وستين وأربعمائة (467)[2] .

وكان الضعف قد دب في أوصال الدولة العباسية منذ عهد الخليفة محمد المنتصر بن المتوكل، الذي تواطأ مع جماعة من الأمراء سنة سبع وأربعين ومائتين على قتل أبيه المتوكل [3] . ذلك الرجل العظيم الذي أعز الله به السنة، وقمع به البدعة، حين أنهى مهزلة دامت ردحاً طويلاً من الزمن امتحن فيها أئمة عظام من أئمة أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ألا وهي محنة القول بخلق القرآن.

1 البداية والنهاية11/308.

2 المصدر نفسه12/110.

3 المصدر نفسه10/349.

ص: 26

فبعد مقتل هذا الخليفة العظيم، بدأت الفتن تستشري والأحوال تضطرب، وسلطان الخلفاء يتلاشى، وذلك بسبب اعتمادهم على الفرس والترك وفتكهم ببني أمية ومناصبتهم العلويين العداء، وظهور كثير من الطوائف المارقة عن الدين، مما أدى في نهاية الأمر إلى سقوطها في أيدي التتار سنة ست وخمسين وستمائة، بعد مقتل آخر خلفائها أبي أحمد، عبد الله المستعصم على يد هولاكو خان [1] .

لذلك فإن هذين الخليفتين اللذين عاصرهما البيهقي يعتبران من آخر خلفاء بني العباس، وكان تربعهما على عرش الخلافة اسماً فقط، أما السلطة الفعلية فقد سلبت منهم إذ أصبحوا ألعوبة في يد البويهيين والسلاجقة، الذين بالغوا في إذلالهم، حتى بلغ بهم الأمر إلى أن ضيقوا عليهم حتى في حياتهم الخاصة، واضطروهم إلى بيع ما يملكون، فضاقت على الخليفة رقعة بلاده رغم اتساعها، فلم يبق له غير بغداد وأعمالها، وحتى هذه لم تكن له عليها سيطرة كاملة [2] .

ومع ذلك فقد كان الخليفة آنذاك يتمتع بقوة معنوية عظيمة، جعلت الحكام والسلاطين يحرصون على الظفر بموافقته حتى يكتسبوا الصفة الشرعية فكان يستقبل السفراء، ويلبس بردة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويضع أمامه مصحف عثمان توكيداً لسلطته الدينية [3] .

ولا يخفى أن حالاً كهذه، مشجعة لذوي الطموحات للظفر بالسلطة كي يتسببوا في التمرد الذي يؤدي إلى الانقسام، وهذا ما حدث فعلاً في جهات كثيرة من نواحي الدولة العباسية آنذاك.

1 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري2/480.

2 تاريخ الإسلام السياسي، د. حسن إبراهيم حسن3/249.

3 المصدر نفسه.

ص: 27

فناحية المشرق - وهي الجهة التي كان يقطنها البيهقي - تنازعتها في تلك الفترة ثلاث دول.

1 -

الدولة البويهية من 334- 447هـ.

2 -

الدولة الغزنوية من 351- 582هـ.

3 -

الدولة السلجوقية من 429- 522هـ.

فالبويهيون كانت لهم السيطرة على بغداد ونواحيها، وقد استبدوا بأمر الدولة، رغم قربهم من مقر الخليفة، حيث شاركوه في بعض مظاهر الخلافة، إذ كان الأمير البويهي هو الذي يتولى إصدار الأوامر، أما الخليفة فما عليه إلا توقيعها، لتأخذ صفة الشرعية أمام الرأي العام.

وأما الدولتان الأخريان فقد كانتا في خراسان، ناحية شيخنا البيهقيئ، وقد كان الأمراء فيهما يستقلون بالتصرف في شؤونها، دون رجوع إلى الخليفة في ذلك.

وقد كانت معاصرة البيهقي في صدر حياته للنغزنويين، وهم في أوج قوتهم، إذ كانت لهم السيطرة الكاملة على هذه البلاد في أواخر القرن الرابع، وأوائل القرن الخامس الهجريين، وكان السلطان محمود بن سبكتكين المتوفى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة من أعظم ملوكهما، وأكثرهم فتوحاً، وأشدهم بطشاً بأعدائه، حتى ألقى بزعماء السلاجقة في غياهب السجون [1] .

1 تاريخ دولة آل سلجوق، لعماد الدين الأصفهاني ص:6.

ص: 28

وما إن توفي هذا السلطان، حتى دب النزاع بين ولديه بشأن الملك مما شجع السلاجقة على تجميع صفوفهم، وإعادة كرتهم في محاولة الاستيلاء على خراسان، حتى تمكنوا من ذلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وأعلنوا قيام دولتهم في هذا التاريخ، إلا أن اعتراف الخليفة العباسي بهما تأخر حتى عام اثنين وثلاثين وأربعمائة [1] .

وهذا من أوضح الشواهد على ضعف سلطان الخليفة، لأن حدوث الخلافات بين الأمراء في الولايات التابعة له، واقتتالهم من أجل السلطة وعدم تدخله لحسم النزاع فيما بينهم، إلى حين تمام الغلبة لأحد الفريقين فيكون تدخله حينئذ قاصراً على الاعتراف بالسلطة الجديدة، التي تمت دون إرادة منه، ذلك كله يدل على أنه لم يكن له حول ولا طول، وأنه مغلوب على أمره.

وقد بلغ من تحرج مركزه وضعفه، وانتزاع سلطانه منه، أن عمت الفوضى البلاد، وكثر فيها الفساد.

أما بقية أنحاء العالم الإسلامي، فلم تكن بأحسن حالاً من المشرق فقدكانت مشتتة على رأس كل منها أمير أو خليفة،. فالأمويون في الأندلس ينازهم العلويون من ذرية إدريس بن عبد الله، فكانت الحال هناك في اضطراب يشبه ما كان في المشرق، ويزيد عليه [2] .

1 العبر في ديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون3/452.

2 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري2/400.

ص: 29

أما أفريقيا، ومصر، والشام، فقد تعاقب عليها تلك الفترة أمراء فاطميون، إلى غير ذلك من الانقسامات التي تميز بها ذلك العصر، مما كان له أثره البالغ في تفرق كلمة المسلمين، وإطماع أعدائهم في النيل منهم.

وقصارى القول: أن عصر البيهقي تميز بكثرة الدويلات الإسلامية المتناحرة، وانعدام االسلطة المركزية، وتفشي الفساد السياسي، وكثرة القتل والنهب والترويع، الأمر الذي أقضّ مضاجع العلماء في ذلك العصر ومنهم البيهقي.

ولا ريب أن فساد الحالة السياسية سينعكس على الحالة الاجتماعية كما ستبيّن فيما يلي.

ص: 30

الناحية الاجتماعية

لقد اتضح لنا فيما سبق أن الحالة السياسية في تلك الحقبة من أيام الدولة العباسية - التي عاصرها البيهقي - قد بلغت من الفوضى أقصاها فليس لنا بعد ذلك أن نتصور الحالة الاجتماعية طيبة ثابتة، لأن الفزع والرعب سيطرا على القلوب، حتى أصبح لا يطمئن أحد من الناس على نفسه وماله، فمن المعلوم بداهة أن الحروب تحدث دائماً تأثيراً بالغاً في حياة المجتمعات التي تعاصرها، لأنها تنهك الاقتصاد، وتقضي على موارد البلاد، وتشجع على إشاعة الفوضى في شتى ميادين الحياة.

فبدلاً من أن يعنى الحكام بالموارد الشرعية للدولة، وتوزيع نتائجها توزيعاً عادلاً بين الناس، نراهم يسلكون لجمع المال طرقاً غير سليمة، فالغنائم الحاصلة من الحروب فيما بينهم تشكل أهم الموارد لأموال الدولة، كما أن أموال الناس التي كانت تصادر لأتفه الأسباب تشكل مورداً آخر [1] .

وبيوت الحكام كانت تتعرض في بعض الأحيان للنهب والسلب من قبل جنودهم الخارجين عليهم [2] .

فإذا كان الحكام أنفسهم يتطلعون لما في أيدي الآخرين ويتحينون الفرص لضمه لما في أيديهم، وإذا كانت منازلهم قد تعرضت للسلب والنهب فكيف لنا أن نتصوّر المجتمع الذي يحكمونه بمساعدة أولئك الجند، كيف يمكن أن نتصوّره إلا راسخاً في أوحال تلك الفوضى؟

1 الكامل لابن الأثير7/182-206.

2 الكامل8/2، وشذرات الذهب لابن العماد3/204.

ص: 31

فإن أولئك الأجناد، كانوا إذا غضبوا على الحاكم تمردوا عليه، ونهبوا أمواله، ثم التفتوا إلى أموال الناس فنهبوها، وقتلوا من يقف في طريقهم، كما حدث في سنة سبع عشرة وأربعمائة [1] .

إن حالاً كهذه تؤكد لنا المعاناة التي كان يعيشها الناس، فضعف السلطان كان سبباً مباشراً لشيوع شريعة الغاب بين الناس في ذلك العهد حين استفحل أمر اللصوص فأغاروا على المنازل في وضح النهار، حتى إذا لم يجدوا شيئاً مما يريدون في المنزل الذي أغاروا عليه أخذوا صاحبه، وتفننوا في تعذيبه حتى يرشدهم إلى المكان الذي أخفى فيه ماله - إن كان له مال - كما حدث من جماعة العيارين ببغداد [2] .

واشتد أمر هؤلاء المجرمين سنة أربع وعشرين وأربعمائة وست وعشرين وأربعمائة، حين أخذوا أموال الناس عياناً، وقتلوا صاحب الشرطة، ونهبوا المتاجر، وأظهروا الفسق والفجور، والفطر في رمضان [3] .

وقد صاحب هذه الحوادث المروعة غلاء شديد في المعيشة، فقد اشتد الغلاء بخراسان جميعها وعدم القوت، فكان الإنسان يصيح: الخبز، الخبز ويموت [4] .

ولم تكن الحالة في العراق بأحسن مما هي عليه في خراسان، فقد اضطر الناس من شدة الجوع - إلى أكل الكلاب والحمر [5] .

1 الكامل7/325.

2 شذرات الذهب3/204، والكامل7/323.

3 شذرات الذهب3/226-229.

4 الكامل7/255.

5 شذرات الذهب3/192.

ص: 32

وزاد الأمر سوءا تفشي الرذيلة في العراق، لضعف الحكم، فانتشر شرب الخمر، وكثرت المواخير، وظهرت موجة انحلال خلقي [1] .

كما كان للكوارث الأخرى من أوبئة وزلازل دورها في تنغيص العيش وإنزال النكبات، وتدهور الأحوال، فقد انتشرت الأوبئة، وعمت جميع البلاد وكثر الموت في الناس، حتى عجزوا عن أن يتدافنوا من كثرة الموتى [2] .

كما وقع سنة أربع وأربعين وأربعمائة زلزال عظيم بخراسان هلك بسببه كثير، وكان أشده بمدينة بيهق، ناحية شيخنا البيهقي [3] .

وخلاصة القول: أنك إذا استعرضت صفحات التاريخ لتلك الحقبة من الزمن وجدتها تطالعك بحوادث مروعة تعكس مدى الوضع الاجتماعي المتدهور، الذي عاشه الناس في ذلك العصر، فمن نهب وسلب، إلى قتل وانتهاك للحرمات، إلى جوع شديد يصير من اعتراه إلى الموت في أحيان كثيرة، إلى زلازل وأوبئة فتّاكة.

فهي فترة عصيبة، اتسمت حياة أهلها الاجتماعية، بمثل ما كانت عليه من الناحية السياسية، التي انعكست أحداثها الرهيبة على الوضع الاجتماعي الذي وصل إلى مثل ما وصلت إليه من انحطاط رهيب يشيب لهوله الولدان فإنا لله وإنا إليه راجعون.

1 ظهر الإسلام لأحمد أمين1/124.

2 الكامل4/55، و8/3.

3 الكامل8/64.

ص: 33

أما الحالة العلمية فسنرى في المبحث التالي كيف أنها كانت على العكس من الحالتين السالفتين، حيث بذل العلماء جهوداً مضنية للحفاظ على العلم، ومحاولة جعله بعيداً عن التأثيرات السلبية للأحداث السابقة حتى كان ذلك، العصر - بحق - عصر النهضة العلمية كما سيتضح لنا ذلك في المبحث التالي إن شاء الله.

ص: 34

الحالة العلمية

إن من يطلع على الأحوال السياسية والاجتماعية في ذلك العصر، ويقف على ما وصلت إليه من سوء وانحطاط، فإنه لا يبعد بالناحية العلمية عنهما بل يتصورها كما وجد في الحالتين الأخريين، إلا أن الواقع كان خلاف ذلك فإن سوء الحالتين السياسية والاجتماعية لم يكن له أي أثر سلبي على الناحية الثقافية فقد عرفت تلك الحقبة من الزمن أنها كانت من أزهى عصور الإسلام الثقافية، إذ توافر فيها عدد ضخم من رواد العلم والثقافة، ففيها عاش أئمة المحدثين وجهابذة المفسرين وأساطين الأدباء، ومشاهير الفلاسفة وأرباب الكلام، وكانت الثقافة قد بلغت أوجها، والاهتمام بالتأليف بلغ ذروته.

وها نحن اليوم نعيش أثر تلك النهضة العلمية الجبارة فنستقبل كل يوم من كتبهم أسفاراً ضخمة يقدمها لنا المحققون في عصرنا الحاضر، وما بين أيدينا اليوم من تراثهم الوفير إنما هو غيض من فيض، لأنهم قدموا لطلاب العلم والثقافة آلاف المجلدات في كلّ فنّ، إلا أن الحروب الدامية لم تقتصر على إراقة دماء البشر، بل امتدّ أوارها حتى أتى على كثير من مكتبات العالم الإسلامي، كما حدث إبان إغارة التتار على بغداد، التي كانت مكتباتها تزخر بدرر العلم، التي جادت بها قرائح علمائنا الأجلاء في ذلك العصر وقبله وبعده.

وقد بلغ الاهتمام بنشر العلم في ذلك العصر، إلى حدّ أن بعض كبار العلماء قام بإنشاء مدارس مستقلة عن المسجد لأوّل مرة في تاريخ الإسلام الأمر الذي كان له أكبر الأثر في الإقبال على التحصيل، وتشجيع طلاب العلم وصيانته عن أيدي العابثين.

ص: 35

ويعتبر البيهقي من أوّل من ساهم في إنشاء تلك المدارس، حيث قام بإنشاء مدرسة بنيسابور، عرفت باسمه، وعنها وعن غيرها من المدارس التي ظهرت في ذلك العصر يقول المقريزي في خططه:"ويعتبر ظهور المدرسة في هذا العصر بشكل مستقل عن المسجد خير دليل على الاهتمام بالعلم وكانت الأولى هي المدرسة البيهقية بنيسابور التي تعددت فيها المدارس بعد ذلك"[1] .

ويذكر تاج الدين السبكي عدداً من المدارس التي كانت بنيسابور في ذلك العصر، بالإضافة إلى مدرسة البيهقي التي ذكرها المقريزي ومن تلك المدارس: المدرسة السعدية، بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود، لما كان والياً بنيسابور، ومدرسة ثالثة بنيسابور بناها أبو سعد إسماعيل بن علي بن المثنى الإستراباذي، ومدرسة رابعة بنيسابور أيضاً بنيت للأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني [2] .

كما قام الوزير نظام الملك، الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي ببناء مدارس جديدة، مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراه، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان، ومدرسة بالموصل [3] . وهذه المدارس تعرف بالمدارس النظامية [4] .

1 الخططة للمقريزي2/363.

2 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي4/314.

3 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي4/314.

4 كان أشهر هذه المدارس مدرسة نيسابور التي كان يدرس بها إمام الحرمين الجويني.

ص: 36

وقد كان لتعدد المدارس في ذلك العهد أثر كبير في انتشار العلوم الإسلامية وكثرة العلماء.

ولعل من أهم الأسباب التي حدت بذوي الشأن لإقامة هذه المدارس أن المساجد لم يكن يحسن تخصيصها للتدريس بما يتبعه من مناظرة وجدل، قد يخرج بأصحابه أحياناً عن الأدب الذي تجب مراعاته للمسجد [1] .

فالقرن الرابع كان بداية ظهور هذه المعاهد، التي بقيت طريقة متبعة إلى أيامنا هذه.

ومما سلف يتضح لنا أن نيسابور كانت مهد هذه المعاهد، فكانت بذلك تضاهي بغداد، حاضرة العلم والعلماء في ذلك العصر.

وقد بلغت العناية بالعلم وطلابه إلى حد أن كثيراً من أهل الفضل كانوا ينفقون على الطلاب من مالهم الخاص، ويقفون عليهم كتبهم، كما حدث من أبي بكر البستي الذي بنى مدرسة لطلاب العلم على باب داره، وأوقف عليها جملة من ماله الوفير، وهذا الرجل كان من كبار المدرسين والمناظرين بنيسابور [2] .

وهكذا نتبين أن الحالة العلمية في ذلك العصر كانت قد بلغت أرقى درجاتها، وأن تلك الحقبة قد تميزت بابتكار أسلوب جديد للتعليم، وهو إنشاء المدارس مستقلة عن المسجد، وإن تلك الناحية من البلاد الإسلامية كانت ثرية بأعلام العلماء، ولا أدل على ثرائها بهم مما ذكره الذهبي من

1 انظر: الحضارة الإسلامية لآدم متز1/336.

2 طبقات الشافعية للسكبي4/80.

ص: 37

أن الخطيب البغدادي المتوفى سنة: 463هـ، أراد الرحلة إلى ابن النحاس في مصر فاستشار البرقاني في ذلك فقال له:"إن خرجت إلى مصر إنما تخرج إلى رجل واحد، فإن فاتك ضاعت رحلتك، وإن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة فخرج إلى نيسابور"[1] .

ويقول المقدسي عن أهل خراسان: "إنهم أشد الناس فقهاً، وهم أكبر الأقاليم علماً"[2] .

وهكذا نرى أن الإمام البيهقي عاصر نهضة علمية جبارة كان له فيها نصيب الأسد، فاقترن اسمه بها منذ ذلك العهد، لمشاركته الإيجابية وأثره في مدارسها معلماً ومتعلماً.

1 تذكرة الحفاظ3/1137.

2 أحسن التقاسيم ص: 294، 322، 334.

ص: 38