الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: خلق الله لأفعال العباد
وهذه قضية أخرى من أهم القضايا التي تناولها العلماء بالحديث وقد بلغت عنايتهم بها إلى حدّ أن بعضهم أفردها بالتأليف، كما فعل الإمام الجليل محمّد بن إسماعيل البخاري رحمه الله حيث ألف فيها كتابه القيم "خلق أفعال العباد".
وقد أدلى البيهقي رحمه الله بدلوه في بحث هذه المسألة مبيناً وجه الحقّ الذي يراه بشأنها.
وهذه المسألة ذات صلة وثيقة بمسألة القضاء والقدر، التي أفردها البيهقي بالتأليف في كتاب مستقل.
وقبل أن أبدأ بالحديث عنها أحبّ أن أشير إلى أن بدعة إنكار القدر قد وجدت في عصر مبكر، من أيام الصحابة رضوان الله عليهم الذين شددوا النكير على أصحابها حين بلغتهم مقالتهم، وتبرؤوا منهم. فقد ذكر البيهقي رحمه الله عن يحيى بن يعمر أنه قال: "كان أوّل من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقنا حجاجاً أنا وحميد بن عبد الرحمن، فلما قدمنا قلنا: لو لقينا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقوله هؤلاء القوم في القدر، قال فوافقنا عبد الله بن عمر في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله.
قال يحيى: فظننت أن صاحبي يكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إنه ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويعرفون العلم، يزعمون أن لا
قدر، إنما الأمر آنف. فقال عبد الله: فإذا لقيتم أولئك فأخبروهم أني بريء منهم وهم مني براء. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لوكان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله عز وجلمنه، حتى يؤمن بالقدر كلّه خيره وشره"1.
ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي ذكر فيه سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وفيه: "
…
ثم قال يا محمّد، أخبرني عن الإيمان فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر كلّه خيره وشرّه من الله تعالى" 2.
وقد اشتهرت هذه المقالة الفاسدة عن معبد الجهني، الذي يعد أوّل مبتدع لها، وتابعه عليها غيلان الدمشقي الذي سال في الحديث عنها سيل المأء حتى قتله الخليفة هشام بن عبد الملك سنة: 106? حين استفحل أمره بالدعوة جهاراً إلى بدعته3.
إلا أن تلك البدعة المشؤومة لم تمت بموت صاحبها، فقد احتضنها المعتزلة، الذين أنكروا القدر، وأسندوا أفعال العباد إلى قدرهم موافقة لرأي معبد وغيلان، حتى اشتهر تلقيبهم بالقدرية لذلك4.
وقد عرف البيهقي رحمه الله الإيمان بالقدر بقوله: "الإيمان بالقدر هو: الإيمان بتقدم علم الله سبحانه بما يكون من إكساب الخلق وغيرها، من المخلوقات وصدور جميعها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها"5.
1 الاعتقاد ص: 54.
2 المصدر نفسه.
3 انظر: تاريخ الجهمية والمعتزلة لجمال الدين القاسمي ص: 73.
4 المصدر السابق ص: 71.
5 الاعتقاد ص: 54.
وبهذا التعريف تتبيّن لنا العلاقة بين مسألة القدر ومسألة أفعال العباد. فهذه الأخيرة جزء من تلك المسألة الشائكة. والبيهقي رحمه الله من مثبتي القدر، وقد ألف في إثباته كتاباً خاصاً، إلا أنني هنا أقصر الحديث على جانب واحد، وهو أهم جوانب هذه القضية ألا وهو الحديث عن خلق أفعال العباد.
وقبل أن أبدأ الحديث عن رأي البيهقي فيها أحبّ أن أبيّن الآراء التي اشتهرت حول هذه المسألة وهي عبارة عن رأيين متقابلين:
أحدهما: رأي الجهمية الجبرية.
وثانيهما: رأي المعتزلة القدرية.
1 -
فأمّا الجبرية ورئيسهم جهم بن صفوان السمرقندي فزعمت أن التدبير في أفعال الخلق كلّها لله تعالى، وهي كلّها اضطراريّة كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله.
2 -
وأمّا المعتزلة فقابلت هؤلاء الجبرية إذ قالوا إن جميع الأفعال الاتحارية من جميع الحيوانات بخلقها، لا تعلق لها بخلق الله تعالى1.
أما البيهقي فإنه حينما تناول هذه المسألة بالحديث عنها فإنه - بما أورده من أدلة لتقرير ما ذهب إليه - يرد بذلك على المعتزلة الذين يقولون بما يخالف رأيه.
1 شرح الطحاوية ص: 431.
فقد ذهب رحمه الله إلى اعتقاد أن أفعال العباد جميعها مخلوقة ومقدرة لله سبحانه وتعالىمستدلاً على ذلك بما ورد في كتاب الله تعالى حيث قال رحمه الله: قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1. فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر وقال: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} 2. فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق فلو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله سبحانه خالق بعض الأشياء دون جميعها، وهذا خلاف الآية.
ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان فلو كان الله خالق الأعيان والناس خالقي الأفعال لكان خلق الناس أكثر من خلقه، ولكانوا أتم قوة منه، وأولى بصفة المدح من ربّهم سبحانه. ولأن الله تعالى قال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 3. فأخبر أن أعمالهم مخلوقة لله عز وجل"4.
إلى غير ذلك من الآيات التي استدل بها البيهقي على أن الله عز وجلخانق لجميع أفعال عباده خيرها وشرها.
ومما ذهب إليه البيهقي رحمه الله أن أفعال العباد جميعها مقدرة لله تبارك وتعالى، لا يخرج شيء منها عن قدرته ومشيئته، لأن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى. واستدل لذلك بقوله سبحانه: {وَمَا
1 سورة غافر آية: 62.
2 سورة الرعد آية: 16.
3 سورة الصفات آية: 96.
4 الاعتقاد ص: 60.
تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال بعد إيرادها: فأخبر أنّا لا نشاء شيئاً إلا أن يكون الله قد شاء1.
وهو بهذا موافق لرأي السلف في هذه القضية إذ قالوا كما قال واستدلوا بما استدل به كما، ذكر ذلك البخاري في خلق أفعال العباد2، بل ذكره البيهقي نفسه حين أورد الأبيات المشهورة عن الإمام الشافعي فيما يتعلق بالقدر والمشيئة وهي قوله:
ما شئت كان وإن لم أشأ
…
وما شئت إن لم تشألم يكن
خلقت العباد على ما علمت
…
ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت
…
وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد
…
ومنهم قبيح ومنهم حسن
وذكر بعد ذلك أن هذاً أيضاً مذهب أعلام الصحابة والتابعين ومذهب فقهاء الأمصار الأوزاعي ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم3.
إلا أن البيهقي - وإن اتفق مع السلف على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وتابعة لمشيئته فإنه قد خالف السلف في أهم عنصر في هذه القضية ألا وهو قدرة العبد، وهل لها تأثير في فعله أم لا؟
1 المصدر نفسه ص: 68.
2 خلق أفعال العباد ص: 17.
3 الاعتقاد ص: 73.
فقد ذهب – رحمه الله – إلى أن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، مستدلاً بقوله تعالى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. وقوله سبحانه: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 2. حيث قال مبيناً وجه استدلاله: "فسلب عنهم فعل القتل والرمي والزرع، مع مباشرتهم إياه، وأثبت فعلها لنفسه، ليدل بذلك على أن المعنى المؤثر في وجودها بعد عدمها هو إيجاده وخلقه، وإنما وجدت من عباده مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة أحدثها خالقنا عز وجلعلى ما أراد، فهي من الله سبحانه خلق، على معنى أنه هو الذي اخترعها بقدرته القديمة، وهي من عباده كسب على معنى تعلق قدرة حادثة بمباشرتهم التي هي إكسابهم"3.
ثم أردف ذلك بذكر عبارة شيخه أبي الطيب الصعلوكي ملخصاً المبدأ الذي عناه البيهقي حيث قال راوياً عنه: "وكان الإمام أبو الطيب سهل بن محمّد بن سليمان يعبر عن هذا بعبارة حسنة فيقول: فعل القادر القديم خلق، وفعل القادر المحدث كسب فتعالى القديم عن الكسب وجل، وصغر المحدث عن الخلق وذل"4.
وهذا تصريح من البيهقي ينفي تأثير قدرة العبد في فعله ويثبت له مجرد الكسب الذي اشتهر القول به عن جمهور الأشاعرة والمعروف بكسب الأشعري، يقول الآمدي - حاكياً مذهب هؤلاء القوم - وذهب
1 سورة الأنفال آية: 17.
2 سورة الواقعة آية: 64.
3 الاعتقاد ص: 60، والقضاء والقدر ل:26.
4 الاعتقاد ص: 61.
أهل الحق إلى أن أفعال العباد مضافة إليهم بالاكتساب وإلى الله تعالى بالخلق والاختراع، وأنه لا أثر للقدرة الحادثة فيها أصلاً"1.
وقال الإيجي في المواقف: - المقصد الأوّل في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد"2.
ثم عرف الكسب المذكور بقوله: "والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون منه تأثير"3.
وقد أراد البيهقي ومن وافقه بإثبات الكسب محاولة التوسط بين مذهب الجبرية، ومذهب القدرية بجعلهم للعبد قدرة حادثة غير مؤثرة في فعله بخلاف ما ذهب إليه الجبرية من نفي قدرة العبد أصلاً، وما ذهب إليه القدرية من إثبات قدرة بها يخلق الإنسان فعله، إلا أن هذه محاولة يائسة؛ لأن مذهب الكسب يعود إلى مذهب الجبرية إذ النتيجة واحدة، لأن إثبات قدرة لا أثر لها إنما هو نفي للقدرة أصلاً، ولهذا قيل عن كسب الأشعري هذا إنه من الأمور التي لا تعقل، كما قال ابن القيم رحمه الله:"لم يثبت هؤلاء من الكسب أمراً معقولاً، ولهذا يقال محالات الكلام ثلاثة: كسب الأشعري، وأحوال أبي هاشم وطفرة النفام"4.
1 غاية المرام للآمدي ص: 207.
2 المواقف بشرح الجرجاني (مطلب الإلهيّات) ص: 237.
3 المصدر السابق نفسه.
4 شفاء الغليل لابن القيم ص: 110.
وقد اعترف الأشاعرة أنفسهم بعدم وجود فرق بين مذهبهم وبين مذهب الجبرية، ولهذا التزم بعضهم القول بالجبر، كما فعل عضد الدين الإيجي حين قال عند مناقشته للمعتزلة في موضوع الحسن والقبح العقلين: "لنا أن الحسن والقبح ليسا عقليين وجوهاً:
الأول: أن العبد مجبور في أفعاله
…
1.
ولا يختفى بطلان هذا المذهب، لأنه - مثل مذهب الجبرية - غلوّ في إثبات القدر بنفي صنع العبد أصلاً.
فالحق أن أفعال العبد من جملة مخلوقات الله وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، إلا أن هذا لا يلزم منه أن يكون العبد ليس فاعلاً حقيقة، ولا مريداً ولا مختاراً. لأن كلّ دليل صحيح يقيمه القدرة فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مراد له، مختار له حقيقة وأن نسبته وإضافته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى، فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله، ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذمّ.
1 المواقف بشرح الجرجاني ص: 302.
ولذلك فرق الله تعالى بين المستطيع القادر وغير المستطيع فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1، وقد أثبت سبحانه للعبد مشيئة وفعلاً كما قال:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. وقال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. لكن الله سبحانه خالقه، وخالق كل ما فيه من قدرة ومشيئة وعمل، فإنه لا ربّ غيره ولا إله سواه، وهو خالق كلّ شيء وربه ومليكه"4.
أما ما استدلّ به البيهقي لنفي تأثير قدرة العبد في فعله فإنه استدلال في غير محله، لأن قوله تعالى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وليس فيه سلب لقدرة العبد على فعله، لأن القتل الذي نفاه سبحانه هنا إنما حصل بأمور خارجة عن قدرتهم، وقد كان هذا خاصاً في بدر حين أنزل الله تبارك وتعالى الملائكة، فكان المسلمون يرون رجالاً يقتلون ولا يرون من قتلهم، وهذا خرق للعادة في ذلك. إذ صارت رؤوس المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة، وصارت الجريدة تتحول إلى سيف يقتل به.
وكذلك رميه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليصل إلى عيون جميع المشركين لولا قدرة الله تعالى، فكان ما وجد القتل وإصابة الرمية خارجاً عن قدرتهم
1 سورة آل عمران آية: 97.
2 سورة التكوير آية: 28-29.
3 سورة الأحقاف آية: 14.
4 انظر: شرح الطحاوية ص: 432، وشفاء الغليل لابن القيم ص: 112، ورسالة القضاء والقدر ضمن مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية2/93-94.
المعهودة، فسلبوه لانتفاء قدرتهم عليه. ولهذا نسب الله فعل الرمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونفى عنه الإصابة وبه صح الجمع بين النفي والإثبات {وَمَا رَمَيْتَ} أي: ما أصبت {إِذْ رَمَيْتَ} إذ طرحت، {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أصاب.
وهكذا كل ما فعله الله من الأفعال الخارجة عن القدرة المعتادة بسبب ضعف، كإنباع الماء وغيره من خوارق العادات، أو الأمور الخارجة عن قدرة الفاعل1.
ولو أراد بذلك أن فعل العبد هو فعل الله لكان ينبغي أن يقال ذلك في كل فعل، ينفيه عن العبد، وإضافته إلى الله سبحانه.
أما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} فإن معنى الآية: أأنتم تصيرونه زرعاً، أم نحن نجعله كذلك2. فهو سبحانه إنما نفى عنهم قدرتهم على إنبات ماحرثوا، ولهذا أثبت لهم فعل الحرث الذي هو وضع الحب في باطن الأرض – وذلك في صدر الآية حين قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} فأثبت هم فعلاً لقدرتهم عليه هو الحرث، ونفى عنهم ما هو خارج عن قدرتهم وهو الإنبات، فالآية إنما تدلّ على إثبات أن العبد قادر على فعله قدرة تأثير، إذ كان وضعه للحب في باطن الأرض سبباً في إنبات الله له.
إلا أن البيهقي لا يقول بتأثير الأسباب في مسبباتها ونفى أن تكون أعمال العبد سبباً للجزاء المترتب عليها إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ، لأن الأعمال - عنده - مجرد إعلام للثواب والعقاب عندها يكون ذلك الثواب أو العقاب لا بها كما تقدم في أعمال العباد التي قرر أن قدرة العبد لا تأثير لها فيها.
1 اننظر: مجموع الفتاوى15/40.
2 جامع البيان للطبري27/198.
وقد أوضح رأيه في كون أعمال العباد ليست سبباً لشقائهم أو نعيمهم بما أورده عن أبي سليمان الخطابي، وأبي الطيب الصعلوكي في المراد من حديث عمران بن حصين الذي قال فيه: قيل: "يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم. قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له"1.
قال البيهقي: "قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله فيما بلغني عنه في هذا الحديث: فأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن العلم السابق في أمرهم واقع على معنى تدبير الربوبية، وأن ذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية، إلا أنه أخبر أن كلاً ميسر لما دبر له في الغيب، فيسوقه العمل إلى ما كتب له من سعادة أو شقاوة، فيثاب ويعاقب على سبيل المجازاة، فمعنى العمل التعريض للثواب والعقاب وبه وقعت الحجة، وعليه دارت المعاملة.
وكان الشيخ أبو الطيب سهل بن محمّد بن سليمان رحمه الله يقول: أعمالنا أعلام الثواب والعقاب"2.
ثم عقب البيهقي على ذلك بقوله: "وليس لقائل أن يقول إذا خلق كسبه ويسره لعمل أهل النار ثم عاقبه عليه كان ذلك منه ظلماً، كما ليس له أن يقول إذا مكنه منه، وعلم أنه لايتأتى منه غيره ثم عاقبه، كان ذلك منه ظلماً، لأن الظلم في كلام العرب مجاوزة للحد، والذي هو خالقنا وخالق أكسابنا، لا آمر فوقه، ولا حاد دونه وكل من سواه خلقه وملكه، فهو يفعل في ملكه ما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} "3.
1 الاعتقاد ص: 62.
2 الاعتقاد ص: 63.
3 الاعتقاد ص: 63. والآية من سورة الأنبياء آية: 23.
وهذا الكلام الذي ساقه البيهقي عن الخطابي والصعلوكي - معجباً بما تضمنه - يدلّ على اعتقادهما أن الأعمال لا تأثير لها في جلب السعادة أو الشقاوة لصاحبها وإنما هي علامات عليها فقط، ولذلك عقب البيهقي بدفع ما قد يتوهم من الظلم في الجزاء الذي يحصل للعبد، ببيان أن العبد ملك لخالقه، وللمالك حق التصرف في مملوكه ولا يسأل – على أي وجه كان تصرفه – عن سبب ذلك التصرف، لأنه حر في ملكه يفعل به ما يريد ولا يكون ظالماً مهما فعل.
وهذا الكلام الأخير - وإن كان صحيحاً في حق الله تبارك وتعالى لأن العباد لا يخرجون عن قدره سبحانه، ولا يسأل عما قدره على عباده من خير أو شرّ، إلا أن فعل العبد له تأثير في حصول القدر على الوجه الذي حصل عليه، لأنه عمل بالأسباب الموصلة إلى ما قدره الله تبارك وتعالى من خير أو شرّ.
كما قال ابن القيم رحمه الله: "وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي هي مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية
…
فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم
…
وقد يسر كلاً لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها، كان أشد اجتهاداً في فعلها، من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه
…
فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا االطريق يفضي به إلى رياض مونقة، وبساتين معجبة، ومساكن طيبة، ولذة نعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها، واجتهاده في المسير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه
…
فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها، ومتقضى لها، لا أنه مناف لها وصاد عنها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سبب السعادة:
الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شرّه، وذلك نظام االشرع1.
وهذا كان الإنسان مهتدياً بسلوكه الطريق الموصل إلى السعادة، ضالاً بسلوكه طريق الشر. والهداية والإضالال من المسائل التي كان رأي البيهقي فيها مرتبطاً برأيه في أفعال العباد، حيث جعل هذه المسألة - أعني الهداية والإضلال - من الأمور التي ليس للعبد فيها اختيار، مستدلاً على ذلك بمجموعة من الآيات والأحاديث، حيث أورد قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"2.
وأورد بعده قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} 3.
وقال بعد ذلك: "وفيه وفي السنة دلالة على أن الله تعالى إن شاء هداهم وثبتهم، وإن شاء أزاغ قلوبهم وأضلهم"4.
وهذا الكلام بظاهره هذا لا غبار عليه، إلا أنه أراد بذلك أن العبد ليس له عمل به يكون مهتدياً أو ضالاً، بناء على ما تقدم من أن قدرته لا تأثير لها في فعله، وليس الأمر كذلك بل العبد مهتد أو ضال بفعل نفسه الذي لا يخرج عن قضاء الله وقدره، فهو سبحانه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.
1 شفاء العليل ص: 57.
2 الاعتقاد ص: 66، وقد تقدم الحديث في ص:(387) من هذا البحث.
3 سورة آل عمران آية: 8.
4 الاعتقاد ص: 66.
فاهتداء العبد هو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي، قال تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 1 ولا سبيل إلى وجود الأثر إلاّ بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد2.
وهكذا يتضح لنا أن ما ذهب إليه البيهقتي من القول بعدم تأثير قدرة العبد في فعله - موافقاً بذلك أصحابه الأشاعرة - مخالف للعقل والشرع معاً، لأن العقل يلاحظ من الإنسان قدرته على الفعل والترك بطوعه واختياره، أما الشرع فقد نسب الفعل إلى العبد في أكثر من موضع كما صرح بأن العبد وفعله مخلوقان لله تبارك وتعالى، ومشيئة العبد تابعة لمشيئته سبحانه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وهناك مسائل كنا نود لو عثرنا فيها على رأي للبيهقي مثل: مسألة هل يجب على الله بعض الأفعال، كالصلاح والأصلح، إلا أنه لم يتعرض لها، ولم يذكرها.
1 سروة الكهف آية: 17.
2 انظر: شفاء العليل لابن القيم ص: 174.