المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: صفات الذات العقلية - البيهقي وموقفه من الإلهيات

[أحمد بن عطية الغامدي]

الفصل: ‌المبحث الأول: صفات الذات العقلية

‌المبحث الأوّل: صفات الذات العقليّة

عرف البيهقي رحمه الله صفات الذات عامة بأنها: ما استحقه فيما لم يزل ولا يزإل، كما تقدم بيانه. ومثل للعقلية منها بسبع صفات هي - كما تقدم -: الحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، والسمع، والبصر، والكلام. وهذه الصفات السبع هي ما اصطلح المتكلمون على تسميته صفات معان.

وإلى جانب الأدلة النقلية التي أسهب في إيرادها لإثبات هذه الصقات السبع، أورد أدلة عقلية أيضاً لنفس الغرض، وذلك بناء على رأيه فيها أنها ثابتة بالأمرين جميعاً، وسيكون الكلام في هذا المبحث على عدة نقاط تتعلق بهذا النوع من الصفات، ولا ريب أن الكلام على ما يتعلق بالإثبات له الصدارة، وسيكون الكلام على الاستدلال النقلي سابقاً لأنه هو الأصل.

الأدلة النقليّة:

وقد كانت أدلته هذه منبعها الكتاب والسنة، كما ذكر أيضاً أنه استند في ذلك إلى إجماع سلف الأمة. ثم عقد لكلّ صفة من هذه الصفات السبع باباً أورد فيه ما يدل على ثبوتها من النقل ونحن نسير معه في طريقته التي سار عليها من إيراد لكل صفة مستقلة عن الأخرى، إلاّ أننا نقتصر فيما نورده من أدلة على ذكر أمثلة مما ذكره البيهقي من نصوص.

ص: 197

صفة الحياة

وفي إثباتها قال: "باب ماجاء في إثبات صفة الحياة"، ثم شرع في إيراد مجموعة من الآيات والأحاديث اشتملت على إثبات هذه الصفة.

فأما الآيات فمنها قول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1. وقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} 2 وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 3

وأما ما أورده من الأحاديث فمنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوله: "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك، لا إله إلاّ أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون"4. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي ساقها لإثبات هذه الصفة.

وهي وإن كانت لم تتناول صفة الحياة بصريح العبارة وإنما اشتملت على إثبات اسمه الحي، فإنها دليل أيضاً على ثبوت هذه الصفة لله سبحانه وتعالى، إذ قد بين البيهقي رحمه الله أنه إذا ثبت أن الله موجود، ووصف بأنه حي، فقد وصف بزيادة صفة على الذات هي الحياة، لأن كل اسم يشتمل إثباته على إثبات الصفة التي يدل عليها، إذ لولا ذلك لاقتصر الله صلى الله عليه وسلم فيما سمى به نفسه على ما ينبىء عن وجود الذات فقط، وقد سبق بيان ذلك5.

1 سورة البقرة آية: 255.

2 سورة غافر آية: 65.

3 سورة الفرقان آية: 58.

4 الأسماء والصفات ص: 110. والحديث رواه مسلم رقم: 2717، 4/2086.

5 انظر ص: (192) من هذا البحث.

ص: 198

صفة العلم

وأورد لإثباتها مجموعة من الآيات والأحاديث. فمما أورده من الآيات قوله تعالى: {يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} 1. وقوله سبحانه: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 2

أما من السنة فقد أورد قصة الخضر مع موسى عليهما السلام وفيها: "

وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر عليه السلام: ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.." 3.

ومن أجل ما قد يتوهم من كلام الخضر هذا أن علم الله تعالى يعتريه النقص، دفع البيهقي هذا التوهم الذي قد يتبادر لبعض ضعاف العقول، دفعه بما رواه عن أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي4 في معنى هذا الكلام وتخريجه: "هذا له وجهان: أحدهما: أن نقر العصفور ليس بناقص للبحر، فكذلك علمنا لا ينقص من علمه شيئاً وهذا كما قيل:

1 سورة البقرة آية: 255.

2 سورة النساء آية: 166.

3 أخرج البيهقي الحديث بطوله في كتاب الأسماء والصفات ص: 116-117، وهو متفق عليه. انظر: حديث رقم: 4725 من صحيح البخاري8/409، وحديث رقم: 2380 من صحيح مسلم4/1847.

4 هو: الإمام أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي أبو بكر الجرجاني، أحد الحفاظ الأعيان. كان شيخ المحدّثين والفقهاء. وأجلهم في المروءة والسخاء. توفي سنة: 370?. انظر: شذرات الذهب لابن العماد3/72.

ص: 199

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم.....بهن فلول من قراع الكتاتب

أي: ليس فيهم عيب، وعلى هذا قول الله عز وجل:{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَاّ سَلاماً} 1 أي: لا يسمعون فيها لغواً البتة.

والآخر: إن قدر ما أخذناه جميعاً من العلم إذا اعتبر بعلم الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء، لا يبلغ من علم معلوماته في المقدار إلاّ كما يبلغ أخذ هذا العصفور من البحر، فهو جزء يسير فيما يدرك قدره، فكذلك القدر الذي علمناه الله تعالى في النسبة إلى ما يعلمه عز وجل، كهذا القدر اليسير من هذا البحر2.

ولدفع هذا التوهم أيضاً قال الإمام النووي: قال العلماء لفظ النقص هنا ليس على ظاهره، وإنما معناه: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله تعالى كنسبة ما نقره هذا العصفور إلى ماء البحر، هذا على التقريب إلى الإفهام، وإلاّ فنسبة علمهما أقل وأحقر3. وهذا هو الوجه الثاني الذي ذكره الإسماعيلي كما رواه عنه البيهقي.

صفة القدرة

وبنفس الأسلوب يثبت هذه الصفة، فمما أورده من الآيات قوله تعالى:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 4، وقوله تعالى:{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} 5

1 سورة مريم آية: 62.

2 الأسماء والصفات ص: 118.

3 شرح صحيح مسلم للنووي15/141.

4 سورة القيامة آية: 4.

5 سورة المؤمنون آية: 95.

ص: 200

أما من السنة المطهرة فأورد مجموعة كبيرة من الأحاديث، ومن أبرزها حديث الاستخارة الذي رواه بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة كما يعلّمنا السورة من القرآن يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك

" الحديث1.

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي ساقها البيهقي.

الإرادة

وقد أثبتها بنفس الأسلوب الذي أثبت به الصفات السابقة. فمما أورده من آيات قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. وقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3 وقوله سبحانه: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} 4 وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5

1 الأسماء والصفات ص: 124-125. ورواه البخاري في صحيحه حديث رقم: 6382، 11/182.

2 سورة المائدة آية: 6.

3 سورة البقرة آية: 185.

4 سورة الإسراء آية: 54.

5 سورة النساء آية: 116.

ص: 201

أما من السنة: فمما أورده منها: حديث معاوية بن أبي سفيان الذى رواه بسنده عن حميد بن عبد الرحمم بن عوف قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو خطيب يقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله"1.

وحديث الرجل الذي يبقى بين الجنة والنار يقول: "يارب اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيقول الله عز وجل: فهل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول لا وعزتك فيعطي ربه ما يشاء من عهد وميثاق، فيصرف الله تعالى وجهه عن النار، فإذا أقبل بوجهه على الجنة فرأى بهجتها فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال: يا رب، قدمني عند باب الجنة

" الحديث2.

إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والحديثية التي أوردها لإثبات صفة الإرادة التي هي والمشيئة بمعنى واحد3.

السمع والبصر

ومما أثبت به هاتين الصفتين من القرآن الكريم قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4، وقوله:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 5.

1 الأسماء والصفات ص: 151. الحديث متفق عليه. انظر: صحيح البخاري مع شرحه حديث رقم: 71، 1/164، وصحيح مسلم رقم: 1037، 2/718.

2 الأسماء والصفات ص: 161. والحديث متفق عليه أيضاً. انظر: صحيح البخاري مع الشرح حديث رقم: 7427، 13/419. وصحيح مسلم رقم: 299، 1/63.

3 انظر: ما أورده البيهقي من أدلة في كتاب الأسماء والصفات ص: 151-175.

4 سورة غافر آية: 56.

5 سورة النساء آية: 134.

ص: 202

أما من السنة: فحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفاً أو نعلو شرفاً، ولا نهبط في واد إلاّ رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم ما تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته

" الحديث"1.

صفة الكلام

ومما أورده البيهقي رحمه الله لإثبات هذه الصفة من القرآن الكريم قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 2. وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 3 وغيرها من الآيات.

أما من السنة: فقد أورد حشداً كبيراً من النصوص منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله، لا

1 الأسماء والصفات ص: 178-179. والحديث متفق عليه. انظر: صحيح البخاري ع شرحه حديث رقم: 7386، 13/372. وصحيح مسلم حديث رقم: 2704، 4/2076.

2 سورة الكهف آية: 109.

3 سورة لقمان آية: 27.

ص: 203

يخرجه من بيته إلاجهاد في سبيل الله، وتصديق كلمته بأن يدخد الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة" 1.

والأحاديث التي تدل على ثبوت هذه الصفة كثيرة جداً، وقد أورد البيهقي رحمه الله عدداً كبيراً منها. وأولى هذه الصفة عناية خاصة. ونظراً لفرط اهتمامه بها، وتشعب الكلام فيها، ومكانتها من مسألة القول بخلق القرآن، التي تعتبر من أخطر القضايا التي احتدم النزاع فيها بين المعتزلة من جهة، والأشاعرة والسلف من جهة أخرى نظراً لذلك كله سأفرد هذه الصفة بالبحث في فصل مستقل، وذلك بعد الفراغ من بحث الصفات العقلية بنوعيها إن شاء الله.

وقصارى القول: أن هذه الصفات السبع قد أولاها البيهقي عناية كبيرة، فدلل على ثبوتها عقلاً ونقلاً، وقد رأيت أن يكون إيرادي لأدلته النقلية فيما سبق محض تمثيل، ليكون القارىء على بصيرة من المنهج الذي سلكه لإثباتها، ولأن محاولة الإتيان على جميع الأدلة النقلية التي أوردها لهذا الغرض يطول علينا الكلام، مع أن آية واحدة أو حديثاً صحيحاً واحداً كاف لإثبات الصفة التي ورد بها.

وغرضي من الطريقة التي سرت عليها هنا هو بيان منهجه السلفي الذي سلكه لإثبات هذه الصفات.

بقي هنا عرض الجانب الآخر من استدلال البيهقي وهو الجانب العقلي، إذ سبق أن عرفنا تسميته لهذه الصفات عقلية لثبوتها بالعقل أيضاً.

1 الأسماء والصفات ص: 182-183. والحديث متفق عليه. انظر: صحيح البخاري مع شرحه حديث رقم: 7463، 13/444. وصحيح مسلم رقم: 1876، 3/1496.

ص: 204

الأدلة العقلية:

وهذا هو الجانب الآخر الذي يثبت البيهقي به ما تقدم من الصفات ويتمثل ذلك الاستدلال جملة في أنه لو لم يتصف بإحدى الصفتين المتقابلتين لكان متصفاً بالأخرى لا محالة فإذا لم يكن حياً، كان ميتاً وإذا لم يكن عالماً كان جاهلاً وإذا لم يكن قادراً كان عاجزاً.

ولذلك يكون دليل حياته وقدرته وعلمه ظهور فعله – سبحانه - في خلقه، وظهور ذلك الفعل بما يشتمل عليه من إحكام وإتقان يدلنا على أن فاعله متصف بالحياة والقدرة والعلم، لأن ذلك لا يصح وقوعه من متصف بأضداد هذه الصفات من موت وعجز وجهل.

وفي ذلك يقول البيهقي: "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه حي عالم قادر؟ قيل ظهور فعله دليل حياته، وقدرته، وعلمه لأن ذلك لا يصح وقوعه من ميت ولا عاجز ولا جاهل به دل ذلك على أنه بخلاف وصف من لا يتأتى ذلك منه، ولا يكون بخلاف ذلك إلا هو حي قادر عالم"1.

أما دليل اتصافه بالإرادة فثبوت اتصافه بالحياة والقدرة والعلم لأن من كان كذلك لم يكن مكرهاً ولا مغلوباً، ومن لم يكن كذلك لا بد أن يكون مريداً.

يقول البيهقي: "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه مريد؟ قيل: لأنه حي عالم ليس بمكره ولا مغلوب، ولا به آفة تمنعه، وكل حي خلا مما يضاد العلم، ولم يكن به آفة تخرجه من الإرادة، كان مريداً مختاراً، قاصداً"2.

1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

2 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

ص: 205

وأما اتصافه بصفتي السمع والبصر، فدليل ذلك أنه قد ثبتت له سبحانه صفة الحياة، ووجود حي خال من الاتصاف بما يدرك المسموع والمرئي ومن الاتصاف بالآفة المانعة من ذلك أمر مستحيل، ويستحيل وصفه بالآفة من هذين الوصفين، لأن ذلك يقتضي كونه ممنوعاً، والممنوع لا بد له من مانع، وذلك من صفات المحدثين، والله تعالى منزه عن ذلك.

وفي بيان هذا الاستدلال يقول البيهقي رحمه الله: "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه سميع بصير؟ قيل: لأنه حي، ويستحيل وجود حي يتعرى عن الوصف بما يدرك المسموع والمرئي أو بالآفة المانعة منه، ويستحيل تخصيصه من أحد هذين الوصفات بالآفة، لأنها منع والمنع يقتضي مانعاً وممنوعاً، ومن كان ممنوعاً كان مغلوباً، وذلك من صفات المحدث، والبارئ قديم لم يزل، فهو سميع بصير لم يزل ولا يزال"1.

رأما دليل اتصافه بالكلام فهو ثبوت الحياة له أيضاً، وثبوت عدم وجود آفة تمنعه من الكلام، وكل حي خلا من ذلك فلا بد وأن يكون متكلماً كما أن مخاطبته سبحانه لخلقه على لسان نبيه بالأمر والنهي، دليلاً على اتصافه بهذه الصفة.

ولبيان ذلك يقول: "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه متكلم؟ قيل: لأنه حي ليس بساكت، ولا به آفة تمنعه من الكلام، وكل حي كان كذلك كان متكلماً، ولأنه يستحيل لزوم الخطاب، ووجود الأمر عمن لا يصح منه الكلام، فوجب أن يكون متكلماً"2.

1 المصدر نفسه.

2 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

ص: 206

ويلاحظ أن طريقة البيهقي هذه تتضمن طريق الأولى التي سلكها كثير من علماء السلف، كما ستأتي إشارة ابن تيمية إلى ذلك إن شاء الله، لأنها تتضمن القول بأن ذلك إذا كان ثابتاً في حقّ المخلوق وهو صفة كمال، فالخالق سبحانه أولى بالاتصاف به، وإذا تنزه المخلوق عن الاتصاف بضده فإن الخالق أولى بالتنزه عنه.

والبيهقي وإن لم يصرح بذلك إلا أن ذلك مفهوم طريقته، والبيهقي بذلك يوافق السلف في الطرق التي سلكوها، إذ السلف كما يستدلون بالنصوص فإنهم لا يهملون العقل في هذه الناحية، بل يرون أنها كما ثبتت بالنص فهي ثابتة بالعقل أيضاً1.

إلا أن ثمة عدة طرق عقلية لإثبات هذه الصفات قال بها السلف وهذه التي سلكها البيهقي واحدة منها، ويقررها ابن تيمية بقوله:"من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب أنه لولم يكن موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم، وطرد ذلك أنه لولم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات، فتنزيه الخالق عنها أولى"2.

1 مجموع الفتاوى لابن تيمية3/ج.

2 مجموع الفتاوى لابن تيمية (ص د، ?) .

ص: 207

وهذه الطريقة في إثبات الصفات طردها السلف في جميع الصفات، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية بقوله: "وطرد ذلك

" بخلاف البيهقي فإنه قصرها على هذه الصفات السبع التي أثبتها.

ويذكر ابن تيمية أن هذه الطريقة تختلف عن طريقة إثبات الصفات بأنفسها، وإن كانتا تتفقان في أن كليهما يدخل في قياس الأولى. وفي بيان اختلاف بين الطريقتين يقول رحمه الله:

"وهذه الطريق غير قولنا إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى، فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها"1.

وإذا اتضح لنا إثبات البيهقي رحمه الله لهذه الصفات ودليله لذلك الإثبات من النقل والعقل، فقد وضح أيضاً أنه يلتزم في ذلك الإثبات مبدأ طالما التزمه السلف، وجعلوه أساساً للإثبات، وهو إثباتها له سبحانه على وجه يليق بجلاله وعظمته، لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد منهم.

وفي إيضاح دليل هذا المبدأ الذي يتضمن المبدأ نفسه يقول البيهقي: "فإن قال قائل: فما الدليل على أنه لا يشبه المصنوعات ولا يتصوّر في الوهم؟

قيل لأنه لو أشبهها لجاز عليه ما يجوز على المصنوعات من سمات النقص، وآمارات الحدوث، والحاجة إلى محدث غيره وذلك يقتضي نفيه، فوجب أنه كما وصف نفسه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.

1 المصدر نفسه (3/?) .

2 سورة الشورى آية: 11.

ص: 208

ولأنا نجد كل صنعة فيما بيننا لا تشبه صانعها كالكتابة لا تشبه الكاتب، والبناء لا يشبه الباني، فدل ما ظهر لنا من ذلك على ما غاب عنا، وعلمنا أن صنعة الباري لا تشبهه"1.

فهذا دليل عقلي ساقه البيهقي رحمه الله ليسند به رأيه في إثبات هذه الصفات على ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقد جمع سبحانه في هذه الآية بين إثبات الصفات، وبين تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقات، فصفاته سبحانه تليق بجلاله وكماله، وصفات خلقه تليق بضعفهم وافتقارهم.

وهكذا يتضح لنا أن البيهقى إنما يتفق مع الأشاعرة في إثبات هذه الصفات، إلا أنه يختلف معهم في طريقة الإثبات، فالبيهقي سلك لذلك طريقي العقل والنقل جميعاً، أما الأشاعرة فاكتفوا بالاستدلال العقلي2.

والبيهقي بهذا يتفق مع السلف لأنه جمع بين الأمرين مثلهم، كما سبق أن ذكرت إشارة ابن تيمية إلى ذلك.

زيادة الصفات على الذات:

ولهذا الموضوع أهمية خاصة نظراً لكونه المحك الرئيسي في وضوح الرؤية، وبيان المقصد في الكلام عن الصفات، ولهذا لم يهمله البيهقي بل أولاه من العناية ما يليق بأهميته.

وقد سبق أن ذكرت عن المعتزلة نفيهم لهذه الصفات مع أنهم حينما يذكرونها، ويتحدثون عنها، إنما يكون حديثهم ذاك على أساس أنه إثبات للصفات، فهم لا يعترفون لنا بما نتهمهم به مع أنه صريح مذهبهم وإنما

1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

2 انظر: استدلال الأشاعرة على هذه الصفات في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص: 119-139.

ص: 209

كانوا نفاة لأنهم يثبتون الصفات ألفاظاً لاحقائق لها وراء الذات. فالصفة عندهم - كما سبق أن أوضحت - هي عين الذات، ليست زائدة عليها، وهم يعتبرون رأيهم إثباتاً لا نفي فيه، وأنه هو الذي يجب أن يقال من أجل البعد عن إشراك غير الله معه في أخص وصفه الذي هو القدم عندهم، ومن أجل البعد عن التشبيه، فهذا القول من جانبهم يعتبرونه تصحيحاً للتوحيد.

وقد قابل البيهقي رحمه الله رأي المعتزلة هذا، برأيه المقابل له، والذي هو بعينه رأي الأشاعرة جميعاً - موافقين بذلك السلف، وهذا الرأي الذي ارتضاه البيهقي مقابل تماماً لرأي المعتزلة، ويتضمن الرد عليهم.

فعند استدلاله رحمه الله على ثبوت هذه الصفات عنون لذلك المنهج بقوله "باب ذكر آيات وأخبار وردت في صفات زائدات على الذات قائمات"1.

ثم سرد الأدلة التي أثبت بها الصفات، وعند تقسيمه للصفات العقلية إلى قسمين ذكر أن القسم الثاني منها "ما يدل خبر المخبر عنه ووصف الواصف له به على صفات زائدات على ذاته قائمات به، وهو كوصف الواصف له بأنه حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم"2.

ومن هذا يتضح لنا أن رأي البيهقي رحمه الله هو أن الصفات زائدة على الذات، على العكس من رأي المعتزلة.

1 الاعتقاد ص: 25.

2 الاعتقاد ص: 22.

ص: 210

وقد استدل لهذا الرأي بدليلين: أحدهما عقلي، والآخر شرعي نقلي.

فأما الدليل النقلي: فثبوت اتصافه سبحانه بهذه الصفات عن طريق نطق النصوص صراحة بإثبات بعضها، أو عن طريق إثبات الأوصاف له سبحانه التي هي بدورها تدل على ثبوت الصفة. وقد بين البيهقي ذلك بقوله: "فإن قال قائل، وما الدليل على أنه حي قادر عالم مريد سميع بصير متكلم، له الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام؟ قيل: لأ نه يستحيل إثبات موجود بهذه الأوصاف مع نفي هذه الصفات عنه، وحين لزم إثباته بهذه الأوصاف، لزم إثبات هذه الصفات له، قال الله عز وجل:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} 1.

وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2 فأثبت القوة لنفسه وهي القدرة، وأثبت العلم، فدل على أنه عالم بعلم قادر بقدرة"3.

فهاتان الصفتان - أعني العلم والقدرة - اللتان وردتا في هاتين الآيتين ثبتتا صفتين بصريح النص القرآني في كل منهما، أما بقية الصفات فقد ثبتت أوصافاً، لأن الوصف يستلزم ثبوت الصفة – كما بيت البيهقي – رحمه الله – ولا معنى لثبوت الصفة إلا زيادتها على مفهوم الذات.

وهذا ما ذكره التفتازاني أيضاً في شرح العقائد النسفية حيث قال: "وله صفات، لما ثبت من أنه عالم حي قادر، إلى غير ذلك ومعلوم أن

1 سورة البقرة آية: 255.

2 سورة الذاريات آية: 58.

3 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

ص: 211

كلاً من ذلك يدل على معنى زائد على مفهوم الواجب، وليس الكل ألفاظاً مترادفة، وإن صدق المشتق على الشيء يقتضي ثبوت مأخذ الاشتقاق له، فثبت له صفة العلم، والقدرة، والحياة وغير ذالك

"1.

وأما الدليل العقلي: فإن العقل لا يتصور وجود وصف لا يقوم بموصوف، كما أنه لا يتصور موصوفاً لا وصف له، ومثل الصفة والموصوف في ذلك كمثل الأثر والمؤثر، فلو جاز وجود فاعل ليس له فعل، لجاز وجود فعل بدون فاعل، إلا أن الأوّل مستحيل، وإذا استحال وجود الأول منهما وهو الفاعل بدون فعل، استحال أيضاً وجود الثاني وهو فعل لا فاعل له. وإذا استحال ذلك استحال أيضاً وجود صفة بدون موصوف كما يستحيل وجود موصوف بدون صفة، لأنه لا معنى لموصوف إلا من قامت به الصفة، ولا معنى لصفة إلا إذا كانت قائمة بموصوف، مثلها في ذلك مثل الفعل الذي لا يمكن وجوده إلا بفاعل، كما لا يمكن وجود الفاعل ولا فعل له.

وفي بيان هذا الاستدلال العقلي يقول البيهقي: "لو جاز عالم لا علم له، لجاز علم لا لعالم به، كما أنه لو جاز فاعل لا فعل له، لجاز فعل لا لفاعل فلما استحال فاعل لا فعل له، كما استحال فعل لا فاعل له، كذلك يستحيل عالم لا علم له، كما يستحيل علم لا عالم له، ولأن العلم لولم يكن شرطاً في كون العالم عالماً، لم يضر عدمه في كل عالم، حتى يصح كل عالم أن يكون عالماً مع عدم العلم، وحين كان شرطاً في كون

1 شرح العقائد النسفية ص: 69.

ص: 212

بعضهم عالماً، وجب ذلك في كل عالم، لامتناع اختلاف الحقائق في الموصوفين، ولأن أحكام الفعل يمتنع مع عدم العلم منا به، كما يمتنع مع كوننا غير عالمين به فكما وجب استواء جميع المحكمين في "كونهم علما"1 كذلك يجب استواؤهم في كون العلم لهم، لاستحالة وقوعه من غير ذي علم به منا، ولأن حقيقة العلم ما يعلم به العالم، وبعدمه يخرج من كونه عالماً"2.

فهذا الدليل العقلي الذي ساقه البيهقي يشتمل على عدة نقاط:

1 -

أنه يستحيل عقلاً وجود صفة بدون موصوف، كما يستحيل وجود موصوف لا صفة له.

2 -

أن العلم شرط في كون العالم عالماً، كما هو مشاهد فيما بيننا من العلماء، أن العالم من له علم قائم به.

3 -

قياس الغائب على الشاهد في ذلك، بمعنى أنه إذا كان العالم فيما هو مشاهد بيننا لا يستحق هذه الصفة إلا إذا قامت به حقيقة، فكذلك ما غاب عنا من العلماء ينطبق عليهم نفس المبدأ فالله تعالى عالم بعلم لا يشبه علوم المخلوقات، لأنه يليق بجلاله وعظمته، وكذلك يقال في بقية الصفات.

4 -

أن إحكام الفعل يدل على علم صاحبه واتصافه بجميع صفات الكمال.

5 -

أنه لا معنى لحقيقة العلم في اللغة إلاّ ما يعلم به العالم، لأن من لم يكن كذلك كان جاهلاً، وبهذا يرى البيهقي أن الاستعمال اللغوي يتمشى مع مذهبه.

1 هكذا في الأصل المخطوط. ولعل الصواب: "في كون لهم علماً".

2 الجامع لشعب1/ ل17-18.

ص: 213

وذكرالبيهقي رحمه الله لصفة العلم هنا دون غيرها لأن ما يقال فيها وينبطق عليها، ينطبق على بقية الصفات، ويقال فيها وإنما ما أراد أن يبيّن طريقة الاستدلال العقلي بتطبيقه على واحدة منها وقد بيّن هدفه هذا حين قال بعد ذلك:"ويقال في بقية الصفات ما قيل في صفة العلم"1.

وهكذا، فإن البيهقي يقرر رأيه القائل بزيادة الصفات على الذات، ردّاً بما ساقه من أدلة نقلية وعقلية على المعتزلة القائلين بأنها عين الذات.

وممن ردّ على المعتزلة في هذا الموضوع الإمام السلفي ابن قتيبة حيث قال في كتابه: "الاختلاف في اللفظ":

"وتعين آخرون في النظر، وزعموا أنهم يريدون تصحيح التوحيد بنفي التشبيه عن الخالق، فأبطلوا الصفات مثل: العلم، والقدرة، والجلال، والعفو، وأشباه ذلك، فقالوا: نقول هو الحليم ولا نقول بحلم وهو القادر ولا نقول بقدرة، وهو العالم ولا نقول بعلم، كأنهم لم يسمعوا إجماع الناس على أن يقولوا: "أسألك عفوك" وأن يقولوا: "يعفو بحلم ويعاقب بقدرة" والقدير هو ذو القدرة، والعفو هو ذو العفو، والجليل هو ذو الجلال، والعليم هو ذو العلم.

فإن زعموا أن هذا مجاز، قيل لهم: ما تقولون في قول القائل: غفر الله لك، وعفا عنك، وحلم الله عنك. أمجاز هو أم حقيقة؟

فإن قالوا هو مجاز، فالله لايغفر لأحد ولا يعفو عن أحد، ولا يحلم عن أحد على الحقيقة، ولن يركبوا هذه وإن قالوا حقيقة فقد وجب في

1 الجامع لشبع الإيمان1/ ل18.

ص: 214

المصدر ما وجب في الصدر، لأنا نقول: غفر الله مغفرة، وعفا عفواً، وحلم حلماً، فمن المحال أن يكون واحد حقيقة والآخر مجازاً"1.

ومن هذا يخلص ابن قتيبة إلى إبطال رأي المعتزلة في الصفات القائل بأنها عين الذات بأمرين:

أحدهما: مخالفة ذلك الرأي لإجماع المسلمين.

وثانيهما: مخالفته لقواعد اللغة العربية.

أما شيخ الإسلام بن تيمية فيرد عليهم بأن الذات الموصوفة لا تنفك عن الصفات أصلاً ولا يمكن وجود ذات خالية عن الصفات، فدعوى المدّعي وجود حي عليم، قدير، بصير، بلا حياة، ولا علم، ولا قدرة، كدعوى قدرة وعلم وحياة لا يكون الموصوف بها حياً عليماً قديراً، بل دعوى شيء موجود قائم بنفسه قديم أو محدث عري قد جميع الصفات ممتنع في صرريح العقل2.

وما ذكره ابن تيمية هنا موافق لما ذكره البيهقي فيما تقدم، إلا أنني أرى كلام ابن تيمية هنا أوجز وأوضح.

وهكذا نتبيّن اتفاق البيهقي، والأشاعرة، والسلف، في القول بزيادة الصفات على الذات خلافاً للمعتزلة. ووضوح الأدلة الشرعية في إثبات هذه الصفات لله سبحانه وتعالى إثباتاً زائداً عل مفهوم الذات، لم يكن يستدعي مثل هذا البحث، لأن ذللك من الأمور العقلية المسلمة، إلاّ أن لذلك

1 الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة، ضمن مجموعة عقائد السلف ص: 232-233.

2 مجموع الفتاوى3/336.

ص: 215

سبباً ذكره ابن تيمية رحمه الله وهو أن الجهمية لما كانوا ينفون أن يكون لله وصف قائم به، علم أو قدرة، أو إرادة أو كلام، وقد أثبتها المسلمون، صاروا يقولون: هؤلاء أثبتوا صفات زائدة على الذات، وقد صار طائفة من مناظريهم الصفاتية يوافقونهم على هذا الإطلاق، ويقولون: الصفات زائدة على الذات التي وصفوا - لها صفات ووصف - فيشعرون الناس أن هناك ذاتاً متميزة عن الصفات، وأن لها صفات متميزة عن الذات1.

والبيهقي رحمه الله – وإن كان رد على نفاة الصفات من المعتزلة الذين جعلوها عين الذات، بالقول بزيادتها على الذات على النحو السابق، إلاّ أنه لا يقول بالتمييز بين الذات والصفة، وإنما غرضه أن يبين عدم صحة وجود ذات بدون صفات، كما اتضح مما ذكرت آنفاً والذي هو عين التحقيق الذي ارتضاه ابن تيمية. ولذلك يبين البيهقي الصلة التي يراها بين الذات والصفات فيقول:"ونعتقد في صفات ذاته أنها لم تزل موجودة بذاته، ولا تزال، ولا نقول فيها إنها هو ولا غيره، ولا هو هي ولا غيرها"2.

وفي كتاب الجامع بين رحمه الله مراده من نفي الغيرية والعينية، بأن نفي العينية لأن إثباتها يقتضي أن تكون الصفة موصوفة بما اتصفت به الذات المرادفة لها، فيكون العلم عالماً، والقدرة قادرة وذلك مستحيل،

1 مجموع الفتاوى3/335.

2 الأٍسماء والصفات ص: 110.

ص: 216

كما نفيت الغيرية لاستحالة مفارقة الصفة للموصوف، ولأن من معاني الغيرية ما لا يستحيل مفارقة أحدهما لصاحبه بوجه"1.

ورأي البيهقي هذا موافق لما عليه أئمة أهل السنة، الذي ذكره ابن تيمية فقال: "قالت الأئمة: لا نقول الصفة هي الموصوف، لأنا لا نقول: لا هي هو، ولا هي غيره، فإن لفظ الغير فيه إجمال، قد يراد به المباين للشيء، أو ما قارن أحدهما الآخر، وما قاربه بوجود أو زمان أو مكان، ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر وعلى الأول فليست الصفة غير الموصوف، ولا بعض الجملة غيرها، وعلى الآخر فالصفة غير الموصوف، وبعض الجملة غيرها.

فامتنع السلف والأئمة من إطلاق لفظ الغير، على الصفة، نفياً أو إثباتاً، لما في ذلك من الإجمال والتلبيس، حيث صار الجهمي يقول: القرآن هو الله أو غير الله؟ فتارة يعارضونه بعلمه، فيقولون: علم الله هو الله أو غيره؟ إن كان ممن يثبت العلم، أو لا يمكنه نفيه. وتارة يحلون الشبهة ويثبتون خطأ الإطلاقين: النفي والإثبات، لما فيه من التلبيس، بل يستفصل السائل فيقال له: إن أردت بالغير ما يباين الموصوف فالصفة لا تباينه، فليست غيره، وإن أردت بالغير ما يمكن فهم الموصوف على سبيل الإجمال وإن لم يكن هو، فهو غير بهذا الاعتبار"2.

وهناك إطلاق آخر ذكره ابن تيمية عن بعض الصفاتية وهو القول بأن الصفة لا هي الموصوف ولا غيره، وهو قول أبي الحسن الأشعري3.

1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل18.

2 مجموع الفتاوى3/336.

3 المصدر نفسه.

ص: 217

وهذا الإطلاق له معنى صحيح وهو أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة، بل هي غيرها، وليست غير الموصوف بل الموصوف بصفاته شيء واحد غيرمتعدد1.

وهكذا نرى أن إثبات البيهقي رحمه الله للصفات مقابل لرأي المعتزلة، الذي يثبت صفات هي عين الذات، وذلك - كما ذكرت آنفاً - نفي لتلك الصفات، لأنه لا معنى لاتصافه سبحانه بصفة إلاّ ومفهوم تلك الصفة زائد على مفهوم الذات، مع عدم انفكاك الصفة عن الذات الموصوفة بها، وعدم جواز خلوها عنها. فالله سبحانه حي بحياة، قادر بقدرة، عالم بعلم، سميع بسمع بصير ببصر، مريد بإرادة، متكلم بكلام، لا كما قال المعتزلة إنه عالم بعلم هو ذاته، أو إنه عالم بعالمية، على ما أثبته أبو هاشم المعتزلي من أحوال لا وجود لها.

قدم الصفات:

أما عن قدم هذه الصفات، فإن القول به هو رأي البيهقي رحمه الله موافقاً بذلك أصحابه من الأشاعرة، فقد تقدم تعريفه لها بأنها ما استحقه – سبحانه - فيما لم يزل ولا يزال2. بمعنى أن جميع هذه الصفات السبع قديمة، لا يجوز أن يكون شيء منها حادثاً.

وهذا الرأي هو أحد الأحكام الأربعة التي وضعها المتكلمون من الأشاعرة لهذه الصفات3.

وقد استدل البيهقي لقدمها بدليل عقلي يقول فيه "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه لم يزل حياً، قادراً، عالماً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلتما؟

1 انظر: شرح الطحاوية ص: 68.

2 الأسماء والصفات ص: 110.

3 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص: 150-166.

ص: 218

قيل: لأنه لولم يكن كذلك لكان موصوفاً بأضدادها من موت أو عجز أو آفة، ولو كان كذلك لاستحال أن يقع منه فعل، وفي صحة الفعل منه دليل على أنه لم يزل كذلك ولا يزال كذلك 1.

أي: إنه سبحانه لولم يكن متصفاً بهذه الصفات في الأزل، لكان متصفاً بأضدادها، لاستحالة خلوه من الصفة وضدها، ووقوع الفعل منه سبحانه على هذا الوجه الذي نرى دليل على اتصافه بها. وهذا هو بعينه دليل ثبوتها الذي سبق أن ذكرت عنه، فهي إذن ثابتة له في الأزل.

والقول باتصافه سبحانه بها الأزل محل الاتفاق بين البيهقي ومن وافقه، وبين السلف. فهي عنده قديمة، ولا يجوز أن يوصف شيء منها بالحدوث، بحجة أننا إذا جوزنا حدوث شيء منها فقد جوزنا حلول الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى، والحوادث لا تحل إلاّ بحادث مثلها.

وقبل أن أشرع في إيضاح الآراء في مسألة حلول الحوادث بذات الله تعالى، ووجه الحقّ فيها، أحبّ أن أبيّن أن ما قاله البيهقي والأشاعرة عن قدم الصفات هو ما ارتضاه متأخرو الماتوريدية في جميع الصفات، الذاتية منها والفعلية2.

حلول الحوادث بذات الله تعالى:

أما عن هذه القضية فإن البيهقي ومن وافقه في القول بقدم الصفات وعدم جواز حدوث شيء منها، يرون أن ما نشاهده مما يدل على حدوث هذه الصفات، من المرئيات التي حدثت بعد أن لم تكن والمسموعات التي ظهرت، إلى غير ذلك، يرون أنها من متعلقات الصفات القديمة، وليس في شيء منها دليل على حدوث الصفة.

1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

2 انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور عليّ سامي النشار1/232، والمسايرة لابن الهمام ص: 39، ط. الأولى تعليق محمّد محي الدين عبد الحميد.

ص: 219

وفي ذلك يقول البيهقي: "علم الله عز وجل أزلي متعلق بالمعلومات عند حدوثها"1.

"وسمعه أزلي متعلق بإدراك المسموعات عند ظهورها وبصره أزلي متعلق بإدراك المرئيات عند وجودها من غير حدوث معنى فيه تعالى الله عن أن يكون محلاً للحوادث، وأن يكون شيء من صفات ذاته محدثاً"2.

وهذه الجملة الأخيرة ترشدنا إلى الشبهة التي حملت البيهقي ومن وافقه على القول بقدم الصفات، لأننا إذا جوزنا حدوثها فقد جوزنا حلول الحوادث بذات الله تعالى، وذلك محال عندهم. وهذه القضية أعني القول بمنع حلول الحوادث، بذات الله تعالى، محل اتفاق بين المتكلّمين من أشاعرة ومعتزلة، وكذلك الفلاسفة.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى "هو مذهب أكثر أهل الحديث، بل قول أئمة الحديث، وهو الذي نقلوه عن سلف الأمة، وأئمتها. وكثير من الفقهاء والصوفية أو أكثرهم، وفيهم من الطوائف الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية الحنابلة، من لا يحصي عدده إلاّ الله"3.

1 ما قد يفهم من هذه العبارة من أن البيهقي يرى أن الله لا يعلم الأشياء إلاّ عند حدوثها كما هو رأي الجهم، غير مراد البيهقي. لأنه يقول بالقدر، وإن الله عالم بما كان وما سيكون، وإنما أراد هنا بيان أن العلم قديم وليس حادثاً.

2 الاعتقاد ص: 32.

3 بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية1/203.

ص: 220

كما ذكر الرازي في كتاب الأربعين أن هذا القول لازم لجميع الطوائف التي أنكرته، بل ذكر أن أبا البركات البغدادي وهو من أشهر الفلاسفة المتأخرين قال به صراحة1.

ففي هذه المسألة إذاً رأيان:

أحدهما: يقول بجواز حلول الحوادث بذات الله تعالى، وهو رأي جمهور المحدّثين وأئمتهم.

والآخر: يمنع ذلك، وهو مذهب البيهقي، ومن وافقه من المتكلمين والفلاسفة.

وكل من الفريقين لا بد وأن يسلك في الاستدلال على مذهبه في هذه القضية السمع، أو العقل، أو الاثنين جميعاً، وهما طريقان ليس للنفاة فيهما نصيب مما يقوي رأي المحدثين، ويدل على أنه الحقّ فالشبهة الوحيدة التي قادت النفاة ومنهم البيهقي على سلوك هذا المنهج ذكرها إمام الحرمين الجويني من معاصري شيخنا وهي: أنه قامت الحوادث به لم يخل عنها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث2.

وهي متضمنة للدليل الذي سبق أن ذكرت استدلال البيهقي به على حدوث العالم. إلأ أن هذا الكلام لا دليل لهم فيه على هذه القضية فهو كلام مجمل يشتمل على حق وباطل، لأنه إن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح.

1 الأربعين في أصول الدين للرازي ص: 118.

2 لمع الأدلة للجويني ص: 96.

ص: 221

وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول، والاستواء، والإتيان، كما يليق بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل1. وهو ماقصده النفاة هنا، ووجه بطلانه أنه ينفي اتصاف الله سبحانه بصفات الكمال المتعلقة بمشيئته وقدرته، مما يؤدي إلى إضافة العجز إلى الله سبحانه وتعالى.

أما المثبتون فإن استدلالهم سليم لسلامة المنهج الذي ساروا عليه، والتصور العقلي المتناسق والمنسجم مع روح ذلك المنهج ذلك أنهم سلكوا طريقي النقل والعقل.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا ريب أن الطرق الدالة على الإثبات والنفي، إما السمع وإما العقل، أما السمع فليس مع النفاة منه شيء بل القرآن والأحاديث هي من جانب الإثبات كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} 3 وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} 4، وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 5. وأمثال ذلك مما وردها القرآن فإنه كثير..

1 انظر: شرح الطحاوية ص: 67، ورسالة حروف القرآن وأصواتنا به ضمن مجموعة شذرات البلاتين ص: 400-401.

2 سورة يس آية: 82.

3 سورة القصص آية: 65.

4 سورة التوبة آية: 105.

5 سورة الأعراف آية: 54.

ص: 222

وأما الطرق العقلية فالمثبتون يقولون إنها من جانبهم دون جانب النفاة، كما تزعم النفاة أنها من جانبهم وذلك أنهم قالوا إن قدرته على ما يقوم به من الكلام والفعل صفة كمال، ومن المعلوم أن من قدر على أن يفعل ويتكلم أكمل ممن لا يقدر على ذلك كما أن قدرته على أن يبدع الأشياء صفة كمال، والقادر على الخلق أكمل ممن لا يقدر على الخلق، وقالوا: الحي لا يخلو عن هذا والحياة هي المصححة لهذا كما هي المصححة لسائر الصفات، وإذا قدر حي لا يقدر على أن يفعل بنفسه، ويتكلم بنفسه، كان عاجزاً بمنزلة الزمن والأخرس"1.

وهذا الرأي الذي اختاره ابن تيمية وذكر أنه مذهب السلف وأنه الحق الذي يؤيده الدليل الشرعي والعقلي هو بعينه رأى الكرامية.

وكل ما بين الكرامية والسلف من خلاف في هذه المسألة هو أنهم يجعلون لما يحدث في ذاته ابتداء ويقولون: إنه لم يكن متكلماً ولا فاعلاً في الأزل ثم صار متكلماً وفاعلاً فيما لا يزال، كما إن ما يحدث في ذاته عندهم لا يقبل العدم والزوال2.

وهكذا يتضح لنا أن القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى بمعنى أنه يتكلم متى شاء ويفعل ما يريد هو الرأي الصحيح بدلالة العقل والنقل. كما اتضح لنا موافقة البيهقي للأشاعرة على ما وضعوه من أحكام لهذه الصفات، والتي سبق ذكرها في أوّل هذا الفصل.

1 شرح العقيدة الإصفهانية لابن تيمية ص: 69-70.

2 انظر: ابن تيمية السلف للدكتور محمّد خليل هراس ص: 134.

ص: 223