الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: صفات الفعل الخبريّة
لقد عرفنا في المبحث السابق ما ذهب إليه البيهقي في صفات الذات الخبرية ورأينا كيف أنه سلك فيها منهجا - هما: الإثبات لبعضها والتأويل للبعض الآخر، وفي هذا المبحث سوف يكون الحديث عن صفات الفعل الخبرية، وهي القسم الثاني من الصفات الخبرية.
وقبل أن أبدأ الحديث عنها مفصلاً أحب أن أبيّن أن البيهقي رحمه الله سلك فيها منهجين أيضاً هما: التأويل والتفويض وليس لها من الإثبات نصيب عند البيهقي، مع أنه أورد أدلتها صريحة واضحة من النصوص الشرعية إلا أنه فوض القول في الاستواء والنزول وما في معناه كالمجيء والإتيان، زاعماً أن هذا هو مذهب السلف وهو أسلم في هذه الصفات خاصة، وقد كان تقويضه لها على أساس أن الآيات الواردة بذكرها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وإن حظ الراسخين في العلم أن يقولوا:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} كما سيتبين لنا في موضعه من هذا المبحث بإذن الله.
إلا أنني أرى من المناسب أن أقدم بين يدي هذا المبحث إجمالاً لمعنى المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح، فأقول:
إن للمحكم في اللغة إطلاقات متعددة، منها ما ذكره ابن منظور حين قال: "
…
والعرب تقول: حكمت، وأحكمت، وحكمت، بمعنى منعت ورددت ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكماً، لأنه يمنع الظالم من الظلم. قال الأصمعي: أصل الحكومة ردّ الرجل عن الظلم قال: ومنه سميت حكمة اللجام لأنها ترد الدابة. وقال الأزهري: وحكم الشيء
وأحكمه كلاهما منعه من الفساد"1. إلى غير ذلك من الإطلاقات التي تتفق جميعها في معنى عام هو - كما يقول الشيخ محمّد رشيد رضا: "المنع"2.
أما المتشابه: فيطلق في اللغة على المماثلة بين شيئين والعبارات الواردة في معنى المتشابه لا تعني أكثر من ذلك.
يقوله ابن منظور: "الشَّبْه والشَّبَه، والشَّبِيه، المثل، والجمع أشباه وأشبه الشيء ماثله
…
"3.
أما في اصطلاح العلماء: فقد وقع بينهم في ذلك اختلاف كبير فقد ذكر الإمام الطبري عن السلف في ذلك ما لا يقل عن سبعة أقوال:
فمن قائل إن المحكمات هي الناسخ، والحلال والحرام، والحدود والفرائض، وما يؤمن به ويعمل به.
والمتشابهات: المنسوخ، الأمثال، والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به. وهذا مروي عن ابن عباس، وقتادة، وابن مسعود، والسدي والضحاك وغير هم.
ومنهم من قال: إن المحكم ما أحكم الله فيه بيان الحلال والحرام وما سوى ذلك فهو متشابه، يصدق بعضه بعضاً. وهو مروي عن مجاهد وعكرمة.
1 لسان العرب12/141، 143.
2 تفسير المنار3/163، ومناهل العرفان للزرقاني2/166.
3 لسان العرب13/503.
ومنهم من قال: إن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل بعض السور مثل: "الم" و"المص". وهذا القول مروي عن ابن عباس أيضاً.
إلى غير ذلك من الأقوال التي أوردها الطبري عن السلف1. التي لا يوجد فيها أي قول يجعل آيات الصفات من المتشابه، وإنما القول بذلك حدث متأخراً من بعض العلماء، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذكره أيضاً الشيخ محمود الألوسي في تفسيره فقال: "واعلم أن كثيراً من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد، والقدم، والنزول إلى السماء الدنيا، والضحك، والعجب، وأمثالها من المتشابه"2.
وهذا القول مشهور عن بعض الأشاعرة ومنهم البيهقي إلا أن البيهقي يختلف عنهم في أنه لم يجعل جميع هذه الصفات من المتشابه، بل اقتصر على صفة الاستواء والنزول وما في معناه، أما بقية الصفات فأثبتها كما تقدم في اليد والعين والوجه، أو أوّلها كما هو مذهبه في بقيتها.
ولا داعي للاستطراد في ذكر ما دار حوله هذه المسألة من نزاع طويل، إذ المهم أن نعرف أن السلف بريئون من ذلك، إذ لم يقل أحد منهم بالتفويض لأن آيات الصفات من المتشابه كما ادعى ذلك البيهقي، وسيتضح لنا ذلك أكثر من ثنايا هذا المبحث بإذن الله ولنبدأ أولاً بما فوض فيه من هذه الصفات وهي الاستواء والنزول والمجيء والإتيان.
1 انظر: جامع البيان للطبري3/172-175.
2 روح المعاني للألوسي3/78، وانظر: تفسير الإخلاص لابن تيمية ص: 141، والإتقان للسيوطي2/6، والمفرادات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني كتاب (الشين) .
صفة الاستواء
وهي من أهم الصفات التي بحثها البيهقي رحمه الله كما أن الكلام حولها يعد من أكثر ما دار الكلام حوله من مباحث الصفات.
وقد ورد إثبات هذه الصفة لله تبارك وتعالى في سبعة مواضع من كتابه العزيز وهي:
قوله تعالى: في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1.
وقوله في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 2.
وقوله في سورتي الأعراف ويونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3.
وقوله في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 4.
وقوله في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 5.
وقوله في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 6.
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة الفرقان آية: 59.
3 سورة الأعراف آية: 54، وسورة يونس آية:3.
4 سورة الرعد آية: 2.
5 سورة السجدة آية: 4.
6 سورة الحديد آية: 4.
فأمّا العرش فإن البيهقي رحمه الله قد ذهب إلى القول بأنه السرير، وأنه جسم مجسم، خلقه الله تعالى، وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه، والطواف به، كما خلق في الأرض بيتاً، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وذكر أن أقوال المفسرين مجتمعة على هذا الرأي1.
وأما الاستواء: فإنه يذهب فيه إلى القول بالتفويض زاعماً أن هذا هو مذهب السلف، وأنه هنا أسلم من التأويل الذي رأيناه يذهب إليه في بعض ما مضى من الصفات الخبرية. ولذلك رأيناه يصدر كلامه عن هذه الصفة بذكر هذا الرأي وتأييده بعبارات نقلها عن السلف، ظاناً أنها ترمي إلى القول بالتفويض.
يقول رحمه الله بعد إيراده للآيات السابقة - التي بها ثبتت هذه الصفة لله تبارك وتعالى يقول: "فأما الاستواء، فالمتقدمون من أصحابنا رضي الله عنهم كانوا لا يفسرونه، ولا يتكلمون فيه، كنحو مذهبهم في أمثال ذلك"2.
ثم ذكر بسنده عن الأوزاعي قوله: "كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ويؤمن بما وردت به السنة من صفاته جل وعلا".
وذكر بسنده أيضاً عن يحيى بن يحيى أنه قال: "كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى فكيف استوى؟ قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، فأمر به أن يخرج".
1 الأسماء والصفات ص: 392.
2 المصدر نفسه ص: 407.
وذكر عن ربيعة الرأي أنه سئل عن قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: الكيف مجهول والاستواء غير معقول ويجب علي وعليك الإيمان بذلك كلّه".
وذكر عن سفيان بن عيينة قوله: "كلّ ما وصف الله تعالى من نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه". ثم قال: "وعلى هذه الطريقة يدلّ مذهب الشافعي رضي الله عنه، وإليها ذهب أحمد بن حنبل، والحسين بن الفضل البلخي، ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي"1.
وذكر بعد ذلك آراء أخرى سأعرض لذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
إلا أنني أحب أن أقرّر هنا أوّلاً أن التفويض هو الرأي الصحيح في نظر البيهقي بدليل تأييده له بآثار السلف السابقة، وبدليل ما ذكره في كتاب الاعتقاد الذي يعتبر آخر كتاب جمع فيه ما يراه واجب الاعتقاد حيث قال بعد أن ورد النصوص الواردة في هذا الشأن:
"ثم المذهب الصحيح في جميع ذلك الاقتصار على ما ورد به التوقيف دون التكييف، وإلى هذا ذهب المتقدمون من أصحابنا، ومن تبعهم من المتأخرين، وقالوا: الاستواء على العرش قد نطق به الكتاب في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة، وقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز"2.
1 انظر هذه الآثار وتعقيب البيهقي عليها في: كتاب الأسماء والصفات ص: 408-410.
2 الاعتقاد ص: 42.
وهذه الطريقة هي إحدى طريقتين أشار البيهقي إليهما، ونسبهما إلى أصحاب الحديث، حيث قال:
"وأهل الحديث فيما ورد به الكتاب والسنة من أمثال هذا، ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله على قسمين:
منهم من قبله وآمن به ولم يؤوله، ووكل علمه إلى الله، ونفى الكيفية والتشبيه عنه.
ومنهم من قبله، وآمن به وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة، ولا يناقض التوحيد"1.
وهو يشير بذلك إلى انحصار الحق في هاتين الطريقتين اللتين اختار الأولى منهما هنا، وسلك الثانية في كثير من المواضع كما تقدم.
فالبيهقي رحمه الله يرى أن الاستواء قد ورد بإثباته لله تبارك وتعالى مجموعة من الآيات لا يسع أحد إنكار ما جاء فيها، إلا أنه لا يرى الإثبات الحقيقي، لذلك عمد - هنا - إلى التقيد باللفظ فقط مع التفويض في المراد بالمعنى، فجوز اعتقاد أن الله في السماء على العرش، لأنه سبحانه - أخبر بذلك، ولكن ما معناه؟ هذا أمر يتوقف البيهقي عن الخوض فيه، زاعماً أن هذه هي طريقة السلف، وأن هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله.
فقد ذكر - بعد سوقه لهذا الرأي عن السلف - ذكر بسنده عن عائشة رضي الله عنها قولها: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
1 المصدر نفسه ص: 44.
تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الأَلْبَابِ} 1.
قالت رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2.
وقد سبق أن ذكرت أنه لم يقل أحد من السلف بأن آيات الصفات من المتشابه، بل ذلك ابتدعه جماعة من المتأخرين، وليس لقولهم هذا ما يسنده من كلام السلف، فنسبته إليهم بدون دليل لا اعتبار له بل المشهور والمعروف عنهم إثباتهم للصفات جميعها بما فيها الاستواء إثباتاً حقيقياً.
وسوف أتناول بعد قليل النظرتين إلى مذهب السلف - أعني من نظر إليهم على أنهم مفوضون، ومن نظر إليهم على أن مذهبهم التأويل، إلا أنني هنا أذكر بقية الآراء التي تعرض لها البيهقي في هذه الصفة، إذ يوجد آراء أخرى تعرض لها البيهقي وهي:
1 -
أن الله جل ثناؤه فعل في العرش فعلاً سماه استواء، كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقاً ونعمة، أو غيرهما من أفعاله، وهو رأي أبي الحسن الأشعري.
وهذا الرأي مستحسن عند البيهقي، بدليل تعقيبه عليه بقوله:"ثم لم يكيف الاستواء، إلا أنه جعله من صفات الفعل، لقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وثم للتراخي، والتراخي إنما يكون في الأفعال، وأفعال الله توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة"3.
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 الاعتقاد ص: 45.
3 الأسماء والصفات ص: 410.
وهذا الرأي يشتمل على نفي لقيام الصفات الاختيارية بذات الله تبارك وتعالى.
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان المقصود من هذا الرأي في الاستواء: "ومعنى ذلك عنده - أي عند الأشعري - وعند من ينفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته أن يخلق في العرش معنى يسميه استواء، وهو عند الأشعري تقريب العرش إلى ذاته من غير أن يقوم به فعل، بل يجعل أفعاله اللازمة كالنزول والاستواء، كأفعاله المتعدية كالخلق والإحسان، وكلّ ذلك عنده هو المفعول المنفصل عنه"1.
والبيهقي رحمه الله وإن استحسن هذا الرأي في كتاب الأسماء والصفات فإنه جزم بصحة الرأي السابق وأرجحيته واقتصر عليه في كتاب الاعتقاد الذي يعتبر متأخراً في التأليف عن كتاب الأسماء والصفات.
2 -
أن معنى الاستواء: الاعتلاء، كما يقول: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو، فوجد فوق رأسي، والقديم سبحانه عال على عرشه. ونسب هذا القول إلي أبي الحسن علي بن محمّد الطبري، وذكر أنه رأى أصحابه من الأشاعرة مستنداً إلى ما ذكره أبو بكر بن فورك منهم2.
1 مجموع الفتاوىي5/386.
2 الأسماء والصفات ص: 410.
وقد ذكره البيهقي على أن أصحابه يقصدون علوّ المكانة لا علوّ الذات، إلا أن هذا غير صحيح، فعلي بن محمّد الطبري قصد بذلك إثبات الاستواء على طريقة السلف كما ذكر ذلك عنه الذهبي1.
وسيأتي مزيد بيان لهذا المذهب إن شاء الله.
والقول بأن معنى الاستواء علوّ المكانة والقهر ذهب إليه جماعة من الأشاعرة منهم أبو بكر بن فورك شيخ البيهقي، كما في كتابه مشكل الحديث2.
3 -
وثمة رأي ثالث في الاستواء ذكره البيهقي وهو القول بأن معناه: الاستيلاء والغلبة والقهر، كما يقال استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها، واستدل أصحابه بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ودم مهراق
ونسبه البيهقي أيضاً إلى كثير من متأخري الأشاعرة3، ومنهم سيف الدين الآمدي، وأبو حامد الغزالي وغيرهما4. وهو رأي المعتزلة أيضاً5.
إلا أن هذا الرأي مرفوض تماماً عند البيهقي، لأن الاستيلاء عبارة عن غلبة مع توقع ضعف6.
1 العلوّ للعلي الغفار للذهبي ص: 168.
2 مشكل الحديث ص: 146.
3 الأسماء والصفات ص: 412.
4 انظر: غاية المرام للآمدي ص: 141، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص:104.
5 متشابه القرآن للقاضي عبد الجبّار1/73، 351.
6 الأسماء والصفات ص: 412.
وذكر ردّ ابن الأعرابي من علماء اللغة على رجل قال له: إنما معنى استوى استولى، فقال له ابن الأعرابي ما يدريك؟ العرب لا تقول استولى على العرش فلان حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل قد استولى عليه، والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر1.
وهذه الآراء التي ذكرها البيهقي تعتبر من أشهر الآراء في مسألة الأستواء، وإلا فهناك آراء أخرى، ولكن لا داعي لاستقصائها لأن الذي يهمنا هنا هو تحديد رأي البيهقي، ومن ثم معرفة المذهب الصحيح في هذه الصفة.
وقد تحدد لنا رأي البيهقي أنه التفويض، الذي زعم أنه مذهب السلف، بعباراته التي نقلها عنهم في أكثر من مكان.
وممن ذهب إلى القول بأن مذهب السلف التفويض الإمام السيوطي حيث قال: "وجمهور أهل السنة، منهم السلف، وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها"2. ونقل السيوطي الرأي نفسه عن الرازي أيضاً3.
وممن نسب التفويض إلى السلف الشيخ عبد العظيم الزرقاني في مناهل العرفان حيث قال: "مذهب السلف ويسمى مذهب المفوضة
…
وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده، بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة4.
1 المصدر نفسه ص: 415.
2 الإتقان في علوم القرآن للسيوطي2/6.
3 المصدر نفسه.
4 مناهل العرفان2/182-183.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل صرح بعض المتأخرين بأن السلف متفقون مع الخلف على التأويل بمعني صرف نصوص الصفات عن ظواهرها، غير أن السلف كان تأويلهم إجمالياً، بمعنى أنهم يقطعون بأن ظاهر النصوص غير مراد، إلا أنهم لم يعينوا المراد، أما الخلف فقد عينوه1.
وكلا الادعائين غير مسلم بهما.
لأن المذهب الصحيح الذي تدل عليه النصوص المثبتة للصفات الاختيارية عامة، وصفة الاستواء على وجه الخصوص تدل على الإثبات الحقيقي لتلك الصفة، وفق ما تضمنه ذلك النص من معنى، مع الجزم بعدم المشابهة في ذلك بين الخالق والمخلوق.
وهذا هو مذهب السلف القويم، فلا تأويل ولا تفويض في المعنى الذي أريد إثباته لله تبارك وتعالى وفيما يلي نورد تصويراً لمذهب السلف الصحيح، كما صوره أتباعهم السلفيون من أئمة أهل السنة من المحدثين والفقهاء، بإيراد بعض أقوالهم التي يثبتون لنا بها أن ما يظهر من نصوص الصفات هو المراد عند السلف دون ما عداه من المعاني، ولا يترتب على ذلك أي شبهة من تشبيه أو تجسيم، أو نحو ذلك مما يدعيه المتأخرون عن علماء الكلام.
1 انظر: تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص: 57، وشرح الخريدة البهية ص: 75، والعقيدة الإسلامية والأخلاق للدكتور عوض الله جاد حجازي، ومحمّد عبد الستار أحمد نصار ص: 38-40.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً، مثل: إن الله فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم
…
علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منها قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك
…
إلى أن قال: ما رأيت أحداً منهم نفاها (يعني الصفات الخبرية) وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً"1.
وقال في موضبع آخر: "وقد فسر الإمام أحمد النصوص التي تسميها الجهمية متشابهات، فبين معانيها آية، آية، وحديثاً حديثاً، ولم يتوقف في شيء منها هو والأئمة قبله مما يدلّ على أن التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف الألفاظ عن ظواهرها، لم يكن مذهباً لأئمة السنة، وهم أعرف بمذهب السلف، وإنما مذهب السلف إجراء معاني آيات الصفات على ظاهرها بإثبات الصفات له حقيقة، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها، وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرّف، ولا يلحد فيها"2.
وقال ابن القيم: "تنازع الناس في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في آيات الصفات، وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها، وإمرارها، مع فهم معانيها، وإثبات حقائقها أعني فهم أصل المعنى، لا فهم الكنه والكيفية"3.
1 الحموية الكبرى، ضمن مجموع الرسائل الكبرى1/470-471.
2 تسير سورة الإخلاص ص: 134-135، والإكليل ضمن مجموعة الرسائل الكبرى2/22-23.
3 مختصر الصواعق المرسلة1/15.
هذا عن مذهب السلف في الصفات عامة.
أما بالنسبة للاستواء خاصة فقد ثبت عن غير واحد من السلف أنهم فسروه بما يتفق مع مذهبهم من الإثبات، فقد قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في تفسير معنى الاستواء:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: علا1.
وقال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ارتفع.
وقال مجاهد: "استوى": علا على العرش2.
وحكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس "استوى بمعنى استقر، وفسر أبو عبيدة استوى بمعنى صعد"3.
وبهذه التفسيرات الواردة عن غير ابن عباس في تفسير الاستواء بالعلو والارتفاع، يندفع ما وجهه البيهقي إلى التفسير الذي ذكره عن ابن عباس من أنه فسر قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي: صعد4.
حيث ذكر أن هذا النقل عن ابن عباس فيه ضعف لضعف ناقله وهو الكلبي. واختار التفسير القائل: إن استوى بمعنى أقبل، فقد قال رحمه الله – استوى: بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء والقصد هو الإرادة، وذلك هو جائز في صفات الله تعالى ولفظ ثم تعلق بالخلق لا بالإرادة5.
1 غاية الأماني في الردّ على النبهاني1/460.
2 صحيح البخاري مع شرحه13/403.
3 الإتقان للسيوطي2/706.
4 الأسماء والصفات ص: 412.
5 الأسماء والصفات ص: 413.
إلأ أن رواية ذلك عن غير ابن عباس، يؤيد صحته وهذه المعاني التي صرح بها بعض السلف هي ما أراده الأئمة بعباراتهم التي نقلها عنهم البيهقي، فيما تقدم على أنهم يقصدون التفويض وليس كذلك.
قال أبو عمر بن عبد البر حافظ المغرب، وهو - كما هو معروف - من أئمة المالكية، فهو أعرف من غيره بما قصده مالك من عبارته السابقة - التي ذكرها البيهقي. قال أبو عمر:"أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلّها في القرآن، والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك"1.
وقال القاضي أبو يعلى في بيان مقصد الأئمة من أمثال أقوالهم التي نقلها البيهقي: "لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها، وأنها من صفات الله، لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد، وسائر الأئمة. وذكر كلام بعضهم في ذلك"2.
والخلاصة: إن المذهب الصحيح أن يقال في الصفات قول السلف رضي الله عنهم الذي تحقق أنه إجراء لنصوصها على ظاهرها فنثبتها إثباتاً حقيقياً، لا تمثيل فيه، ولا تحريف ولا تعطيل. فكما أن الله تعالى واحد في ربوبيته، وإلهيته، فهو واحد في صفاته، لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد منهم.
1 نقلاً عن الحموية الكبرى لابن تيمية، ضمن مجموع الرسائل الكبرى 1/452-453.
2 المصدر نسفه 1/454-455.
فالاستواء إذاً ثابت لله تبارك وتعالى حقيقة فهو مستوى على عرشه بمعنى أنه عال ومرتفع عليه من غير حاجة منه سبحانه إليه، لأنه هو الذي خلقه وجعله أعلى المخلوقات ثم استوى عليه تبارك وتعالى.
ومذهب الإثبات هذا هو ما ذكره البيهقي عن أبي الحسن الطبري على أنه علو مكانة، وهي نظرة إلى هذا القول غير صائبة، إذ إنه رحمه الله قصد بذلك الإثبات على طريقة السلف، فهو عال بذاته على عرشه.
وإذا ثبت أن الله تبارك وتعالى مستو على عرشه، وعرشه فوق سمواته وأعلى مخلوقاته، فقد ثبت بذلك إثبات جهة العلو لله تبارك وتعالى، وهذا الأمر - يعني إثبات الجهة لله تبارك وتعالى قد نفاه البيهقي رحمه الله.
ذلك أنه حينما اختار القول بالتفويض في صفة الاستواء فوقف على اللفظ كما ورد به النص دون أن يتجاوز ذلك إلى تفسيره بالنسبة لله تبارك وتعالى لأن ذلك في نظره من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله - أتى إلى الجهة الثابتة لله تبارك وتعالى ثبوتاً قطعياً فنفاها. وهاتان المسألتان - أعني الجهة والاستواء - بينهما صلة وثيقة لأن الجهة لازمة للاستواء.
يقوله رحمه الله مبيناً مذهبه في عدم إثبات جهة لله تبارك وتعالى: "
…
لكنه مستو على عرشه كما أخبره، بلا كيف، بلا أين"1.
1 الاعتقاد ص: 44.
بمعنى أن الاستواء ثابت لله تبارك وتعالى خبراً، إلا أنه لا ينبغي لنا البحث عن معناه، لأن ذلك بحث في الكيف، كما أن الإشارة إليه بأين تؤدي إلى إثبات الجهة، ولا جهة له، لأننا إنما أثبتنا الاستواء لورود الخبر به، فأثبتناه لفظاً، مفوضين في المراد منه.
ويقول في موضع آخر: "
…
فإنه عز وجل لا يرى في جهة كما يرى المخلوق
…
وهو يتعالى عن جهة"1. وهذا تصريح بنفي الجهة.
ومن أبرز ما استدل به البيهقي على نفي الجهة والمكان عن الله سبحانه وتعالى حديث الادلاء، وهو ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما هذه التي فوقكم.." إلى أن قال: "والذي نفس محمّد بيده لو أنكم دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة لهبط على الله تبارك وتعالى"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 2.
قال البيهقي: "
…
والذي روي في آخر هذا الحديث إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان فهر في القرب والبعد من الله تعالى سواء، وأنه الظاهر فيصح إدراكه بالأدلة والباطن فلا يصح إدرإكه بالكون في مكان.
واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" 3، وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان"4.
1 الاعتقاد ص: 51.
2 سورة الحديد آية: 3.
3 رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء رقم: 2713، 4/2084.
4 الأسماء والصفات ص: 400.
فهذا الحديث وتلك الآية كما استدلّ بها الجهمية القائلون بالحلول، استدل بها الأشاعرة القائلون بنفي أن يكون الله في جهة من الجهات. ولا شك في بطلان الاستدلالين معاً. أما الأوّل فبشاعته لا تخفى، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل، وأما الثاني - وهو ما ذهب إليه البيهقي - فإنه استدلال غير صحيح، لأن الأسماء الأربعة الواردة في الحديث متقابلة، اسمان منها لأزلية الربّ سبحانه وتعالى وأبديته واسمان لعلوه وقربه. فالمراد بالظهور هنا العلو، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} 1. أي: يعلوه2.
وأما اسم الباطن فإنه يدلّ على أن الله مع علوّه بذاته سبحانه على جميع مخلوقاته، فإنه قريب منهم بعلمه سبحانه كما ورد في تفسير قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية3، فالحديث دليل لمثبتي الجهة لا لنفاتها.
وقد صرح السلف- رحمهم الله بإثبات علوّه سبحانه بذاته على جميع المخلوقات - كما ذكر البيهقي ذلك عن عبد الله بن المبارك رادّاً على من تعلق بقوله لإثبات الجهة فقال: "
…
وأما الحكاية التي تعلق بها من يثبت لله تعالى جهة
…
وذكر بسنده إلى علي بن الحسن قال: سألت عبد الله بن المبارك، قلت: كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه. قلت: فإن الجهمية تقول هو هذا. قال إنا لا نقول كما قالت الجهمية، نقول: هو هو، قلت: بحد؟ قال أي والله بحد، قال البيهقي: إنما
1 سورة الكفف آية: 97.
2 انظر: شرح الطحاوية ص: 254.
3 سورة المجادلة آية: 7.
أراد عبد الله بن المبارك بالحق حد السمع، وهو أن خبر الصادق ورد بأنه على العرش استوى فهو على عرشه كما أخبر، وقصد بذلك تكذيب الجهمية فيما زعموا نه بكل مكان وحكايته تدلّ على مراده1.
فإما أن ابن المبارك قصد الردّ على الجهمية القائلين بأن الله تعالى بكل مكان، فهذا صحيح، لأن قولهها هذا كفر بواح، إذ إنه تكذيب لله تبارك وتعالى فيما أخبر عن نفسه أنه على عرشه لا أنه بكل مكان كما قال هؤلاء.
وإما أن هذا الكلام لا يدل على أن ابن المبارك يقول بإثبات الجهة، وأن اعتماد مثبتيها على كلامه هذا ليس في محله فإن هذا ادعاء خاطىء، لأن ابن المبارك لم يقصد التقيد الوارد في النص دون معرفة معناه، وإنما أراد تحديد المراد من الآية أن الله تعالى بذاته مستو على عرشه استواء حقيقياً، معروف المعنى، مجهول الكيف، كما أنه لم يقصد بالحد بيان مسافة وأبعاد، تعالى الله عن أن نضيف إليه ما لم يصف به نفسه، فالسلف متقيدون بالنصوص في باب العقيدة كلّه، والصفات بوجه أخص.
كل علّق البيهقي على قول آخر لابن المبارك يثبت الاستواء والفوقية لله تبارك وتعالى وهو قوله: "نعرف ربّنا فوق سبع سموات على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية إنه ههنا - وأشار إلى الأرض" علّق عليه البيهقي بقوله: "قلت: قوله: بائن من خلقه، يريد به ما فسره بعده من نفي قول الجهمية، لا إثبات جهة من جانب آخر، يريد ما أطلقه الشرع".
1 الأسماء والصفات ص: 427.
فكلّ ما تقدم يدلّ على نفي البيهقي للجهة، بل صريح في ذلك. أما النصوص الواردة بإثباتها فقد عمد البيهقي رحمه الله إلى تأويلها كقوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1، وقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2، وقوله:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 3. أوّلها بأنها محمولة على ما ورد في آيات الاستواء، فيكون المعنى في الجميع: من على العرش4.
إلا أن إثباته أن الله على العرش إنما هو لموافقة الدليل المصرح بذلك مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وهو أمر أثبته البيهقي لفطاً فقط، وفوض في معناه، فيكون موقفه فيما أوّله على منوالها التفويض أيضاً، لأن الإحالة على معنى مفوض فيه تفويض كذلك.
وهذا كما هو ظاهر تحكم لا دليل عليه، وقد سبق أن بينت بطلان كون مذهب السلف التفويض.
كما أول قوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 5 بأن صعود الكلم الطيب والصدقة الطيبة إلى السماء عبارة عن حسن القبول لهما، وأوّل عروج الملائكة الوارد في قوله تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 6 بأن المراد عروجهم إلى مقامهم في السماء7.
1 سورة الملك آية: 16.
2 سورة النحل آية: 50.
3 سورة الأنعام آية: 18.
4 الاعتقاد ص: 42.
5 سورة فاطر آية: 10.
6 سورة المعارج آية: 4.
7 الأسماء والصفات ص: 426.
إلا أن إثبات العلوّ والفوقيّة لله تبارك وتعالى. تواترت به الأدلة العقلية والنقلية ومن أبرز الأدلة التي تدل على أن الله في السماء عال على عرشه الذي هو أعلى مخلوقاته سبحانه حديث الجارية، الذي ذكره البيهقي، وأعله بالاضطراب. إلا أن الحديث ثابت في صحيح مسلم وفيه قال راوي الحديث معاوية بن الحكم السلمي:
"
…
وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فأطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليّ قلت: يارسول الله، أفلا أعتقها؟ قال:"ائتني بها" فأتيته بها فقال لها: "اين الله؟ " قالت في السماء. قال: "من أنا؟ ": قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة"1.
قال البيهقي: "وهذا صحيح قد أخرجه مسلم مقطعاً، من حديث الأوزاعي ججاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية. وظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه"2.
والواقع أن مسلماً قد ذكر قصة الجارية ولم يهملها، وهذا يدل على صحتها، وأن البيهقي لم يكن متأكداً من قوله ذاك، أو لعل النسخة التي كانت بيده كانت ناقصة.
فقصة الجارية صحيحة، وهي من أوضح الأدلة على إثبات جهة العلو لله تبارك وتعالى، وعلى صحة الإشارة إليه بأين التي أنكرها البيهقي وأصحابه3.
1 رواه مسلم في كتاب المساجد رقم: 537، 1/382.
2 الأسماء والصفات ص: 422.
3 الاعتقاد ص: 44.
فالأدلة الشرعية متضافرة على إثبات العلوّ لله تبارك وتعالى وكما هو ثابت بالسمع. فهو ثابت بالعقل والفطرة أيضاً.
أما السمع: فجميع الآبات المثبتة للاستواء، ولا تقدّم مما تأوّله البيهقي دون دليل، وحديث الجارية الواضح الدلالة، وحديث الرؤية المشبهة برؤية الشمس والقمر، وحديث الإسراء الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرضت عليه الصلاة خمسون بقي يتردد بين موسى عليه السلام في السماء السابعة، وبين ربّه جتى خفّفت إلى خمس صلوات، وغير ذلك من الأدلة الكثيرة المتواترة التي تصل بنا إلى درجة اليقين الذي لا شبهة فيه ولا داعي لذكر المزيد.
أما العقل فيثبت ذلك من وجوه ذكرها شارح الطحاوية.
أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كلّ موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات.
وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر.
الثاني: أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه قي ذاته أو خارجاً عن ذاته. والأوّل باطل. أما أوّلاً فبالاتفاق وأما ثانياً فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
والثاني: يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته فيكون منفصلاً فتعينت المباينة، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.
الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية، لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه والأوّل باطل، فتعيّن الثاني، فلزمت المباينة1.
1 شرح الطحاوية ص: 263.
وأمّا ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهما عند الدعاء، ويقصدون جهة العلوّ بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمّد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلّم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان. فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرووة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلوّ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا، قال: فلطم أبو المعالي رأسه ونزل. وقال. حيّرني الهمداني حيّرني. أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقّوه من المرسلين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله، ويطلبه في العلوّ1.
وقد ألف الشيخ ابن قيم الجوزية كتاباً مستقلاً2 لإثبات هذه القضية حشد فيه من الأدئة الدامغة ما يجعلها من المسلمات التي لا تقبل المراء.
وقبل أن أختم الحديث عن هذه القضية أحب أن أبيّن أن لفظ الجهة فيه إجمال وتفصيل فنحن نوافق على نفيه عن الله تبارك وتعالى من وجه، ولكننا نثبته من الوجه الآخر.
ذلك أنه قد يراد بنفي الجهة أن الله تعالى ليس موجوداً في داخل هذا العالم، فإن إريد هذا، فإن الله تبارك وتعالى منزه عن أن يكون في شيء من مخلوقاته.
1 شرح الطحاوية ص: 263-264.
2 هو كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية.
وإن كان المقصود بنفي الجهة نفي الجهة العدمية التي هي عبارة عن أن الله تعالى فوق هذا العالم كلّه، فإن هذه جهة عدمية لا وجودية، ولما كان الله تعالى فوق خلقه، فلا يصح أن يقال إنه سبحانه ليس في جهة، بقصد نفي فوقيّته وعلوّه على خلقه. وعلى هذا فالجهة قسمان:
1 -
جهة يجب أن ينزه الله تبارك وتعالى عنها، وهو هذا العالم الوجودي. فإن الله تعالى ليس حالاً في شيء من مخلوقاته.
2 -
الجهة الثانية عدم محض، وهو ما فوق العالم. فإثبات جهة لله تبارك وتعالى بمعنى أنه فوق العالم على عرشه بائن من خلقه. فهذا واجب شرعاً، مع مراعاة عدم التشبيه والتكييف والتعطيل. لأن هذه الجهة ثابتة لله تبارك وتعالى بما تواتر من نصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. بل جميع الأديان السماوية والكتب المنزلة تثبت ذلك. فمن قال إن الله تبارك وتعالى فوق العالم، لم يقل بجهة وجودية، بل بجهة عدمية أثبتها الشرع، وأثبتتها الفطرة، والعقل أيضاً.
أما نفي علماء الكلام لهذه الجهة، والذي وافقهم البيهقي عليه فهذا نفي باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
وهذا التفصيل هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وسبقه إليه ابن رشد. فقد قال ابن تيمية موضحاً هذا المعنى: "إذا كان سبحانه فوق الموجودات كلّها، وهو غني عنها، لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها فضلاً عن أن يحتاج إليها.
وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذلك ليس بشيء، ولا هو أمر وجودي، وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا، وأوهموا إذا كان في جهة كان في شيء غيره، كما يكون الإنسان في بيته، ثم رتبوا على ذلك أن يكون محتاجاً إلى غيره والله تعالى غني عن كل ما سواه"1.
فإثبات الجهة لله تبارك وتعالى بالمعنى الذي ذكره ابن تيمية رحمه الله موافقاً في ذلك ابن رشد، هو ما تضافرت الأدلة الشرعية والعقلية، والفطرية على إثباته.
أما نفي أن يكون الله تبارك وتعالى في جهة على الإطلاق، كما هو مذهب البيهقتي فإن هذا إثبات وهمي، وحقيقته نفي الوجود وإن كان أصحابه لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا التنزيه إلا أنهم وقعوا في خطأ جسيم، خالفوا به الشرع والعقل والفطرة.
النزول وما في معناه
وبعد أن اتضح لنا رأي البيهقي في الاستواء وأنه اختار القول بالتفويض فيه فإنه هنا سلك نفس المسلك، ورضي القول نفسه، ويدخل في معنى النزول من الصفات الثابتة لله تبارك وتعالى الإتيان والمجيء فأما الإتيان والمجيء، فقد أورد البيهقي مجموعة من الآيات مصرحة بإثباتهما لله تبارك وتعالى، منها قوله سبحانه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} 2. وقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 3.
1 نقض تأسيس الجهمية1/520، وانظر: مناهج الأدلة لابن رشد ص: 178.
2 سورة البقرة آية: 210.
3 سورة الفجر آية: 22.
أمّا النزول فقد أورد حديثه المشهور المروي عن أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله إلى السماء الدنيا لشطر الليل - أو لثلث الليل - الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ أو يسألني فأعطيه؟ ثم يقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم"1.
وقد أورده بروايات متعددة عن مجموعة من الصحابة رضوان الله عليهم وهذه نصوص قطعية من الكتاب والسنة في إثبات هذه الصفات، ولكن ما هي الطريق التي اختارها البيهقي لتوجيه ما جاء فيها؟.
الواقع أن البيهقي قد وجدته هنا كحاله عند الحديث عن الاستواء حيث كان أوّل شيء بعد هذه النصوص هو سياقه لرأي أبي الحسن الأشعري بطريقة تشعر برضاه عنه.
فقد قال: "وأما الإتيان والمجيء فعلى قول أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه: يحدث الله تعالى يوم القيامة فعلاً يسميه إتياناً ومجيئاً، لا بأن يتحرك، أو ينتقل فإن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام، والله تعالى أحد صمد ليس كمثله شيء، وهذا كقوله عز وجل:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} 2، ولم يرد به إتياناً من حيث النقلة، وإنما أراد إحداث الفعل الذي به خرب بنيانهم وخر عليهم السقف من فوقهم، فسمّى ذلك الفعل إتياناً.
1 الأسماء والصفات ص: 448. ورواه البخاري في كتاب التوحيد، رقم: 7494، 13/464، ومسلم حديث رقم: 758، 1/521.
2 سورة النحل آية: 26.
وهكذا قال في أخبار النزول، إن المراد به فعل يحدثه الله عز وجل في سماء الدنيا كلّ ليلة يسميه نزولاً بلا حركة ولا نقلة، تعالى الله عن صفات المخلوقين"1.
ومثل هذا القول ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قول من ينفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى كالأشعري وغيره2.
والبيهقي رحمه الله أحد نفاتها، إلا أنه هنا وإن ساق رأي الأشعري ومن وافقه فإنه بعد ذلك، اختار القول بالتفويض، والتفويض مسلك آخر لنفاة قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى واختياره اللتفويض يدل عليه ما ساقه عن أبي سليمان الخطابى حيث قالك "قال أبو سليمان رحمه الله في معالم السنن: وهذا من العلم الذي أمرنا أن تؤمن بظاهره، وأن لا نكشف عن باطنه، وهو من جملة المتشابه، ذكره الله تعالى في كتابه فقال:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية3.
فالمحكم منه يقع به العلم الحقيقي والعمل، والمتشابه يقع به الإيمان والعلم الظاهر، ويوكل باطنه إلى الله عز وجل، وهو معنى قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ} وإنما حظ الراسخين أن يقولوا آمنا به كلّ من عند ربنا، وكذلك ما جاء من هذا الباب في القرآن كقوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ
1 الأسماء والصفات ص: 448، 449.
2 شرح حديث النزول ص: 48.
3 سورة آل عمران آية: 7.
أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} 1 وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 2 والقول في جميع ذلك عند علماء السلف هو ما قلناه"3.
وبعد أن أورد البيهقي هذا النص عن الخطابي علق عليه بما يدل على أنه المذهب المختار عنده دون سواه حيث قال: "قلت: وفيما قاله أبو سليمان- رحمه الله كفاية وقد أشار إلى معناه القتيبي في كلامه فقال: لا نحتم على النزول منه بشيء، ولكنا نبيّن كيف هو في اللغة والله أعلم بما أراد"4.
وقد صرّح البيهقي باختيار هذا المذهب - أعني التفويض- في كتاب الاعتقاد الذي يعتبر آخر ما ألّف في العقيدة، فبعد أن اختار القول بالتفويض في مسألة الاستواء على نحو ما تقدّم ذكره قال بعد ذلك: وعلى مثل هذا درج أكثر علمائنا في مسألة الاستواء، وفي مسألة المجيء والنزول والإتيان5.
فهذه الصفات إذاً ثابتة عند البيهقي رحمه الله لورود النصوص الشرعية بها، إلا أن ثبوتها عنده يقتصر على القول بها لفظاً أما المعنى المراد منها فموكول علمه إلى الله سبحانه وتعالى وقد أيد مذهبه هذا بنصوص
1 سورة البقرة آية: 210.
2 سورة الفجر آية: 22.
3 الأسماء والصفات ص: 454. وانظر: معالم السنن للخطابي على متن سنن أبي داود5/101.
4 الأسماء والصفات، ص:456.
5 الاعتقاد: ص: 43.
أوردها عن جماعة من السلف، استنتج منها أن مذهبهم القول بالتفويض في هذا النوع من الصفات، منها ما رواه عن سفيان بين عيينة أنه قال. كلّ ما وصف الله من نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه1.
ونظراً لأن البيهقي لا يقول بالتفويض في جميع الصفات عقب على هذاً القول الشامل لها جميعاً بقوله: "وإنما أراد به - والله أعلم - فيما تفسيره يؤدي إلى تكييف، وتكييفه يقتضي تشبيهاً له بخلقه في أوصاف الحدث"2.
أي أن هذا القول من سفيان إنما أراد به مثل هذه الصفات التي رأى البيهقي أن الحقّ فيها القول بالتفويض، مع أن ابن عيينة ومن قال من السلف بما يشبه قوله هذا لا يريدون به التفويض كما سبق أن بيّنت وإنما يريدون عدم التعرض لنصوصها بتأويل خلاف ظاهرها المتبادر منها.
وكذا ما رواه بسنده عن الوليد بن مسلم قال: "سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيفية"3.
وقد سبق أن ذكرت من شارك البيهقي في القول بالتفويض كما سبق أن ذكرت أيضاً مذهب السلف الصحيح ألا وهو القول بالإثبات الحقيقي، وعدم لزوم التشبيه لما أثبتوه لأنهم يثبتون صفات الله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، لا يشبهه أحد من خلقه فيها، فكما أنه واحد في ذاته، فهو واحد في صفاته.
1 الاعتقاد ص: 44.
2 الاعتقاد ص: 44.
3 الأسماء والصفات ص: 453.
وكذلك الأمر هنا فالسلف يثبتون هذه الصفات لله تبارك وتعالى مع اعتقادهم عدم مشابهة نزوله لنزول خلقه، ومجيئه لمجيئهم، وإتيانه لإتيانهم، وفي بيان ذلك قال الإمام أبو عثمان الصابوني: "ويثبت أصحاب الحديث نزول الربّ سبحانه وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزوله المخلوقين، ولا بتمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه ويمرّون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز وجلاسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عز وجل:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} ، وقوله عزّ اسمه:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 1.
وقال أيضاً: "فلما صحّ خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرّ به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه وتعالى لا تشبه صفات الخلق كما أن ذاته لا تشبه الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوّاً كبيراً"2.
وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: "نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الربّ من غير أن نصف الكيفية، لأن نبيّنا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك، ولا نبيه عليه السلام
1 عقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني، ضمن مجموع الرسائل المنيرة1/112.
2 المصدر نفسه ص: 117.
بيان ما بالمسلمين إليه الحاجة من أمر دينهم، فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف كيفية النزول. وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا، الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إليه إذ محال في لغة العرب أن يقول ينزل من أسفل إلى أعلا، ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلا إلى الأسفل"1.
فالسلف يثبتون النزول لله تبارك وتعالى إثباباً حقيقياً على ما هو متبادر وظاهر اللفظ الوارد وكذلك الإتيان والمجيء.
والتنزيل والإنزال حقيقة مجيء الشيء، أو الإتيان به من علو إلى أسفل، هذا هو المفهوم منه لغة وشرعاً، ذكر ذلك ابن القيم - رحمه الله2.
وهكذا يتضح لنا أن رأي البيهقي القائل بالتفويض لهذه الصفات مخالف لرأي السلف القائل بإثباتها لله تبارك وتعالى على ظاهر المعنى المتبادر منها مع نفي الشبيه عنها.
ولكن البيهقي مع موقفه هذا القائل يتفويض هذه الصفات وعدم معرفة مراد الله منها، فإنه يجزم أنه لا يريد بها إثبات حركة وانتقال له سبحانه، ولذلك أورد نقد الخطابي لمن أثبت ذلك حيث قال: "وقد زل
1 كتاب التوحيد ص: 125-126، ويعني بآخر كلامه أن نزوله إلى السماء الدنيا يقتضي وجوده فوقها، فإنه انتقال من علوّ إلى أسفل. كذا قال المعلق الدكتور محمّد خليل هراس. رحمه الله.
2 مختصر الصواعق المرسلة2/217.
بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى معرفته بالحديث والرجال فحاد عن هذه الطريقة حين ووى حديث النزول ثم أقبل على نفسه فقال: إن قال قائل: كيف ينزل ربّنا إلى السماء؟ قيل له ينزل كيف يشاء. فإن قال: هل يتحرك إذا نزل؟ فقال: إن شاء يتحرك، وإن شاء لم يتحرك، وهذا خطأ فاحش عظيم، والله تعالى لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله تبارك وتعالى متعال عنهما ليس كمثله شيء"1.
إلا أن لمثبتي هذه الصفات من علماء السلف حول قضية الحركة والانتقال بالنسبة لله تبارك وتعالى أقوالاً ثلاثة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "واختلف أصحاب أحمد وغيرهم من المنتسبين إلى السنة والحديث في النزول والإتيان والمجيء وغير ذلك، هل يقال: إنه بحركة وانتقال؟ أم يقال بغير حركة وانتقال؟ أم يمسك عن الإثبات والنفي؟ على ثلاثة أقوال:
فالأول: قول أبي عبد الله بن حامد وغيره.
والثاني: قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته.
والثالث: قول أبي عبد الله بن بطة وغيره"2.
1 الأسماء والصفات ص: 454.
2 مجموع الفتاوى5/402.
فأما قول ابن حامد فقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن الحامل له عليه هو أنه يرى أن إثبات النزول حقيقة لا يكون إلاّ بهذا الوجه، لأن حقيقته لا تثبت إلاّ بالانتقال، وأنه لا يوجد في العقل ولا في النقل ما يحمل الانتقال عليه، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط والانتقال جنس لأنواع المجيء والإتيان والنزول. وليس في القول بلازم النزول والمجيء والإتيان ونحوها محذور البتة، ولا يستلزم ذلك نقصاً لا سلب كمال، بل هو الكمال نفسه، وهذه الأفعال كمال ومدح فهي حقّ دال عليه النقل، ولازم الحقّ حقّ.1
أما أصحاب القول الثاتي وهو القول الذي ارتضاه البيهقي فقد ردّ عليهم ابن القيم رحمه الله بقوله: "وأما الذين نفوا الحركة والانتقال فإن نفوا ما هو من خصائص المخلوق فقد أصابوا، ولكن أخطؤوا في ظنّهم أن ذلك لازم أثبته لنفسه"2.
وأما القول الثالث وهو الإمساك عن الإثبات والنفي فهو القول الأسعد بالصواب والأولى بالاتباع، لأن فيه التزاماً بما ورد في النصوص من إثبات ما أثبتته والسكوت عما سكتت عنه.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله "أن صحة هذه الطريقة تظهر ظهوراً تاماً فيما إذا كانت الألفاظ التي سكت النصّ عنها مجملة محتملة لمعنيين صحيح وفاسد كلفظ الحركة والانتقال
…
ونحو ذلك من الألفاظ التي تحتها حقّ وباطل، فهذه لا تقبل مطلقاً، ولا ترد
1 انظر: مختصر الصواعق المرسلة2/254.
2 المصدر نفسه2/257.
مطلقاً فإن الله سبحانه لم يثبت لنفسه هذه المسميات ولم ينفها عنه، فمن أثبتها مطلقاً فقد أخطأ ومن نفاها مطلقاً فقد أخطأ، فإن معانيها منقسمة إلى ما يمتنع إثباته لله، وما يجب إثباته له، فإن الانتقال يراد به انتقال الجسم والعرض من مكان هو محتاج إليه إلما مكان آخر يحتاج إليه، وهو يمتنع إثباته للرّب تبارك رتعالى، وكذلك الحركة إذا أريد بها هذا المعنى امتنع إثباتها لله تعالى.
ويراد بالحركة والانتقال حركة الفاعل من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، وانتفاله أيضاً من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، فهذا المعنى حق في نفسه لا يعقل كون الفاعل فاعلاً إلاّ به، فنفيه عن الفاعل نفي حقيقة الفعل، تعطيل له.
وقد يراد بالحركة والانتقال ما هو أعم من ذلك وهو فعل يقوم بذات الفاعل يتعلق بالمكان الذي قصد له وأراد إيقاع الفعل بنفسه فيه،. وقد دلّ القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة وينزل لفصل القضاء بين عباده، وبأتي في ظلل من الغمام والملائكة وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة.. وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة، فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقات، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له.."1.
فالسكوت عن الإثبات والنفي هو المنهج السليم الذي يتفق مع النصوص الشرعية، مع اعتقاد إثبات المعنى الصحيح من هذه الألفاظ المجملة والسكوت عن اللفظ فقط.
1 مختصر الصواعق المرسلة ص:257-258.
والحاصل أن النزول والإتيان والمجيء صفات ثابتة لله تبارك وتعالى على الحقيقة، ولا يجوز التأوبل فيها ولا يجوز التفويض أيضاً لأن ذلك كله مخالف لصريح النصوص الشرعية الثابتة. فالبيهقي جانب طريق السلف في اعتقاده سلامة التفويض.
أما مؤوّلوا هذه الصفات فهم المعتزلة ومتأخرو الأشاعرة وجماعةمن أصحاب الإمام أحمد كابن الجوزي وابن الزاغوني زاعمين أن هذا مروي عن أحمد، فقد أولوا النزول بنزول أمره ورحمته وكذلك المجيء والإتيان1.
وتأولها جماعة بمعنى القصد والإرادة ونحو ذاك، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن ابن الزاغوني وغيره جعلوا ذلك إحدى الروايتين عن أحمد ورد عليه بقوله:
"والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل من الصحابة شيئاً منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث"2.
فالنزول والإتيان والمجيئء صفات ثابتة لله تبارك وتعالى على الحقيقة. فهو سبحانه ينزل ويجيء ويأتي وهو لا يزال فوق عرشه ولا يخلو العرش منه مع دنوّه منه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض، بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك3.
1 انظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص: 55 وما بعدها.
2 شرح حديث النزول لابن تيمية ص: 63.
3 المصدر نفسه ص: 66.
مع أن إثبات الحقيقة هو ما جاءت به النصوص، إلاّ أن تصوّر كيفيّتها أمر مستحيل، لأن الأمر متعلق بذات الله تبارك وتعالى التي لا يمكننا إدراكها أو تصوّرها، إلاّ أننا نؤمن قطعاً أنها ليست كذوات خلقه.
فلا التفويض الذي قال به البيهقي صحيح، ولا التأويل الذي ذهب إليه غيره. إذ هذان المنهجان لا مكان لهما عند السلف بل الإثبات الحقيقي هو ما ذهبوا إليه.
رأيه في بقيّة الصفات
وإذا كان البيهقي رحمه الله قد رضي التفويض في صفتي الاستواء والنزول على نحو ما تقدم، فإنه سلك في بقية صفات الفعل الخبرية مسلكاً آخر هو مسلك التأويل، ومن هذه الصفات التي ارتضى فيها التأويل صفة الضحك، والغضب، والمحبة، والتعجب، والكراهية ونحو ذلك. وسأورد هنا أمثلة من تلك الصفات وما ذهب إليه من معان لتأويلعها.
فأما الضحك: فقد ذهب رحمه الله إلى أنه قد يراد منه الإخبار عن الرضى. وأورد مما يراه يصدق عليه هذا المعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يضحك الله إلي رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيقاتل في سبيل الله فيستشهد"1.
1 الأسماء والصفات ص: 467، ورواه البخاري في كتاب الجهاد حديث رقم:2826. ومسلم في كتاب الإمارة حديث رقم: 1890، 3/1504.
وقد روى هذا التأويل عن أبي سليمان الخطابي رحمه الله حيث قال: "قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله قوله "يضحك الله سبحانه": الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو يستنفرهم الطرب غير جائز على الله عز وجل، وهو منفي عن صفاته، إنما هو مثل ضربه لهذا الصنيع الذي يحل محلّ العجب عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه في صفة الله عز وجل الإخبار عن الرضى بفعل أحدهما والقبول للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما الجنة، مع اختلاف أحوالهما وتباين مقاصدهما"1.
وقد يراد بالضحك أيضاً - عند البيهقي - الإظهار والبيان وأورد من هذا النوع حديث أبي رزين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ضحك ربنا من قنوط عباده، وقرب خيره"، فقلت يا رسول الله ويضحك الرب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم، قلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً"2.
وأسند البيهقي هذا التأويل إلى أبي الحسن بن مهدي الطبري حيث قال: "قال أبو الحسن: فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يضحك الله" أي: يبين ويبدي من فضله ونعمه ما يكون جزاء لعبده الذي رضي عمله"3.
وقد استدل البيهقي لصحة هذا التأويل بما رواه عن العرب من مثل قولها: "ضحكت الأرض إذا أنبتت"؛ وقول الشاعر:
"وضحك المزن بها ثم بكى"4.
1 الأسماء والصفات ص: 469.
2 الأسماء والصفات ص: 473. ورواه أحمد في المسند4/11، 12.
3 المصدر نفسه.
4 المصدر نفسه.
فالبيهقي رحمه الله يرى التأويل للنصوص الواردة بإثبات هذه الصفة حسب ما يقتضيه السياق، والحامل له على التأويل ما تقدم من قوله راوياً عن أبي سليمان الخطابي أن الضحك الذي نعرفه هو ما يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح، أو يستنفرهم الطرب. ولشبهة أن يكون المتبادر إلى الذهن - عند الإثبات الحقيقي - هذا المعنى عمد البيهقي إلى القول بالتأويل.
إلأ أن هذا التأويل غير صحيح كما أن تلك الشبهة فاسدة فأما فساد الشبهة فإننا إذا أثبتنا صفة الضحك لله تبارك وتعالى، فإننا نثبته على ما يليق بجلاله، لأنه سبحانه يتعالى عما يعتري البشر من انفعالات، هي صفة نقص يجب أن يتنزه الرب تبارك وتعالى عنها.
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ردّ هذه الشبهة وذلك التأويل: "الضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قدر حيان أحدهما يضحك مما يضحك منه، والآخر لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ينظر الرب إليكم قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب".
فقال له أبو رزين العقيلي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟ قال:"نعم قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً". فجعل الأعرابي العاقل بصحّة فطرته ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه، فدلّ على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب إنه:{يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} .
وقد روي أن الملائكة قالت لآدم: "حياك الله وبياك" أي: أضحكك. والإنسان حيوان ناطق ضاحك. وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال، فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزماً لشيء من النقص، فالله منزه عن ذلك وذلك الأكثر مختص لا عام. فليس حقيقة الضحك مطلقاً مقرونة بالنقص، كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص أيضاً"1.
وهكذا يتضح لنا أن الحقّ في هذه الصفة أنها كمال ثابت لله تبارك وتعالى، لا يجوز نفيه عنه بحجّة أن ضحك الإنسان مستلزم لنقص فيه من خفة روح واستنفار طرب، لأننا حين نثبت هذه الصفة له تبارك وتعالى فإننا نثبتها كمالاً مطلقاً لله تبارك وتعالى، وننزهه سبحانه عما يلزمها من النقص بالنسبة للمخلوق، لأن صفات الله جميعها كمال مطلق لا يعتريه نقص، لأن النقص من لوازم صفات المخلوقين والخالق يتعالى عن ذلك. فالصفة تابعة للذات المتصفة بها وذات الله منزهة عن كلّ نقص وهي بذلك لا تشبه ذواتنا فلا يلزمها ما يلزم ذواتنا من النقص.
وهكذا القول في بقيّة هذا النوع من الصفات، والتي ذهب البيهقي إلى تأويلها، وذلك بعد أن ساق أدلتها من الكتاب والسنة، ولا أرى ثمة
1 مجموع الفتاوى6/121-122.
ضرورة للاستطراد في سرد تلك الأدلة إلاّ أنني أبيّن وجهة نظر البيهقي بشأن ما أوّله سالكاً طريق التمثيل والإجمال.
فمثلاً على ذلك بالإضافة إلى ما تقدم في صفة الضحك نأخذ صفات المحبة والبغض والكراهية الواردة في كثير من النصوص التي أوردها البيهيقي، كقوله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} 1
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"2.
وجديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الأنصار: "لا يحبهم إلاّ مؤمن، ولا يبغضهم إلاّ منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"3.
وحديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "من أحب لقاء الله أحب الله، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " قال: فقالت عائشة، أو بعض أزاوجه: إنا نكره الموت، قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكراماته، فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فإذا بشر بذلك كره لقاء الله وكره الله لقاءه 4.
1 سورة آل عمران آية: 31.
2 رواه البخاري في كتاب التفسير حديث رقم: 4523، 8/188.
3 رواه البخاري ومسلم. انظر: حديث رقم: 3783 من صحيح البخاري8/113، وحديث رقم: 129 من صحيح مسلم1/85.
4 رواه البخاري ومسلم. انظر: حديث رقم: 6507 من صحيح البخاري11/357 وحديث رقم: 2674 من صحيح مسلم4/2065.
وغير ذلك مما جاء في إثبات هذه الصفات، وقد أورده البيهقي1.
حيث ذهب البيهقي رحمه الله إلى تأويل المحبة بمعنى المدح والإكرام، والبغض والكراهية بالذم والإهانة.
وقد أشار إلى أن أبا الحسن الأشعري قد أرجع جميع هذه الصفات إلى معنى الإرادة.
يقول رحمه الله: "المحبة والبغض والكراهية عند بعض أصحابنا من صفات الفعل، فالمحبة عنده بمعنى المدح له بإكرام مكتسبه والبغضة والكراهية بمعنى الذمّ له بإهانة ما اكتسبه
…
وهما عند أبي الحسن يرجعان إلى إرادته إكرامهم وتوفيقهم، وبغضه غيرهم أو من ذمّ فعله إلى إرادته إهانتهم وخذلانهم، ومحبّته الخصال المحمودة يرجع إلى إرادته إكرامه ما اكتسبتها، وبغضه الخصال المذمومة يرجع إلى إرادته إهانة ما اكتسبها"2.
ولا شكّ أن رأي البيهقي هو الأول الذي قال به جمهور الأشاعرة بدليل جعله هذه الصفات تحت نوع الصفات الفعلية، وإنما غرضه من ذكر رأي أبي الحسن الأشعري بيان الجانب الآخر الذي ذهب إليه شيخ المذهب الذي ينتسب إليه الأشاعرة وهو بهذا يوافق متأخري أصحابه من الأشاعرة، وعلى رأسهم شيخه أبو بكر بن فورك رحمه الله3.
1 انظر: الأسماء والصفات ص: 498-501.
2 الأسماء والصفات ص: 502.
3 انظر: مشكل الحديث ص: 162 وما بعدها.
وسار في بقيّة هذا النوع من الصفات على هذه الطريق المخالفة كما سبق أن بيننا لما عليه السلف من الإثبات اللائق لله تبارك وتعالى.
وبهذا يتبيّن لنا أن البيهقي رحمه الله إنما أثبت من الصفات الخبريّة ثلاث صفات هي: اليد، والعين، والوجه. أما بقيّة الصفات فسلك فيها منهجي التأويل والتفويض التأويل لبعضها والتفويض لبعضها الآخر.
وهذا أمر واضح الدلالة على تردد البيهقي وعدم ثبوته على منهج واحد في مجال التطبيق لما ساقه من أدلة لهذه الصفات إذ جمع في ذلك بين المناهج الثلاثة.
وهذا مفارقة واضحة لمنهج السلف الذي اختار القول الإثبات لجميع الصفات.
بقي أن نعرف رأي البيهقي في مسألة الرؤية التي اهتم بها اهتماماً بالغاً، حتى أفردها التأليف في كتاب مستقل، وهذا ما سيتضح لنا من الفصل التالي. إن شاء الله.