المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع: رؤية الله تعالى - البيهقي وموقفه من الإلهيات

[أحمد بن عطية الغامدي]

الفصل: ‌الفصل السابع: رؤية الله تعالى

‌الفصل السابع: رؤية الله تعالى

وهذه المسألة ذات شقين: رؤية في الدنيا، ورؤية في الآخرة.

أما رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا فقد وقع النزاع فيها بين العلماء حول نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، هل رأى ربّه ليلة الإسراء أم لا؟ على رأيين فمنهم من أثبتها، ومنهم من نفاها.

وكان الخلاف في ذلك قد وقع منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم وقد شددت عائشة رضي الله عنها النكير على من قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه1.

أما من عداه من الخلق فلم يقع خلاف بين العلماء في عدم وقوعها لهم، إذ اتفقوا جميعاً على أنه لم يره أحد منهم في الدنيا.

وليست هذه المسألة هي ما نحن بصدد بحثه هنا، بل الغرض من عقد هذا الفصل هو الحديث عن موقف البيهقي من رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، التي هي من أشرف مسائل أصول الدين، وأجلها، لأنها الغاية التي يتسابق المؤمنون من أجل نيلها، والحصول من نعيم الجنة - التي هي غايته - عليها، لذلك كانت هذه القضية العظمى محل اهتمام كبير من البيهقي رحمه الله إذ أولاها عناية خاصة، حتى إنه أفردها بالتأليف في كتاب مستقلّ، كما أشار إلى ذلك في كتاب الاعتقاد2.

1 انظر: الطحاية ص: 151.

2 الاعتقاد ص: 48. وقد سبق أن أشرت إلى أن هذا الكتاب لا يزال مفقوداً. انظر: ص (98) من هذا البحث.

ص: 377

وقد كان الخلاف في هذه القضية على رأيين:

أحدهما: القول بإثباتها للمؤمنين يوم القيامة وهو مذهب سلف الأمة جميعاً، وقد ذهب إليه الأشاعرة بمن فيهم البيهقي.

وثانيهما: القول بالمنع، وهو مذهب الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية1، واستدلوا بأدلة تعرض لها البيهقي بالنقض والتفنيد، مبنياً أنها إنما تدل على مذهب الإثبات، لا على ماذهبوا إليه من باطل.

وسوف أقوم أولاً بإيضاح رأي البيهقي وأدلته على النحو التالي:

لقد ذهب رحمه الله إلى القول بإثبات رؤية المؤمنين لربّهم بأبصارهم يوم القيامة وفي ذلك يقول: "باب القول في إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة بالأبصار"2. ثم شرع في إيراد أدلته على هذا الإثبات من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فأما أدلته من القرآن الكريم فمنها:

1 -

قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3.

حيث يرى رحمه الله أنّ النظر الوارد في الآية المقصود به الرؤية. وقد روى تفسير هذه الآية بذلك عن ابن عباس وغيره من السلف4.

1 انظر: شرح الطحاوية ص: 142، ومقالات الإسلاميين للأشعري1/238.

2 الاعتقاد ص: 45.

3 سورة القيامة آية: 23.

4 الاعتقاد ص: 49.

ص: 378

وهذه الآية من أظهر الأدلة على هذه القضية، ومع ذلك عمد النفاة إلى تأويلها، وتحريفها عن موضعها، حيث قاموا بتأويل النظر الوارد في الآية إلى معنى الانتظار فكأنه - تعالى - قال: وجوه يومئذ ناضرة لثواب ربها منتظرة1.

إلا أن البيهقي رحمه الله تصدى لهذا التأويل، فرده حيث قام بحصر معاني النظر الواردة في القرآن الكريم، متوصلاً بذلك إلى أن المقصود به في هذه الآية الرؤية، حيث قال رحمه الله:

"وليس يخلو النظر من وجوه: إما أن يكون الله عز وجل عنى به نظر الاعتبار كقوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} 2، أو يكون عنى به نظر الانتظار كقوله:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} 3 أو يكون عنى نظر التعطف والرحمة كقوله: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} 4، أو يكون عنى الرؤية كقوله:{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} 5.

ولا يجوز أن يكون الله سبحانه عنى بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر التفكر والاعتبار، لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار، وإنما هي دار اضطرار، ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار لأنه ليس في شيء من أمر الجنة انتظار، لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، والآية خرجت مخرج

1 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار ص: 245، وديوان الأصول للنيسابوري، ص:604.

2 سورة الغاشية آية: 17.

3 سورة يس آية: 49.

4 سورة آل عمران آية: 77.

5 سورة محمّد آية: 20.

ص: 379

البشارة لأهل الجنة، فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من العيش السليم، والنعيم المقيم، فهم ممكنون مما أرادوا، وقادرون عليه، وإذا خطر ببالهم شيء أتوا به مع خطوره ببالهم، وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يكون الله أراد بقوله {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر الاعتبار.

ولأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجوه فمعناه: نظر العينين اللتين في الوجه. كما قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 1، وأراد بذلك تقلب عينيه نحو السماء ولأنه قال:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ونظر الانتظار لا يكون مقروناً بإلى، لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار "إلى" ألا ترى أن الله عز وجل قال:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} 2، لم يقل "إلى" إذ كان معناه الانتظار

ولا يجوز أن يكون الله سبحانه أراد نظر التعطف والرحمة، لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم.

فإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع من أقسام النظر وهو أن معنى قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أنها رائية ترى الله عز وجل. ولا يجوز أن يكون معناه إلى ثواب ربّها ناظرة، لأن ثواب الله غير الله، وإنما قال:{إِلَى رَبِّهَا} ولم يقل: إلى غيرربها ناظرة، والقرآن على ظاهره، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة"3.

فالبيهقي رحمه الله يرى أن هذه الآية صريحة في الرؤية لأن الاستعمالات الواردة في النظر لا مكان لها هنا، لأن كل استعمال له صيغة خاصة وهذه تختلف عنها، وقد قرن النظر فيها صراحة بالوجه ولا معنى لذلك سوى الرؤية بالعينين اللتين فيه.

1 سرة البقرة آية: 144.

2 سورة يس آية: 49.

3 الاعتقاد ص: 45، 46.

ص: 380

2 -

ومما استدل به رحمه الله على إثبات الرؤية وله تعالى حاكياً قول كليمه موسى له: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 1.

كما استدل البيهقي رحمه الله بهذه الآية لإثبات الرؤية فقد استدل بها من قال بنفيها2.

لذلك كان عرضه لوجهة استدلاله بها متضمناً للرد على أولئك النفاة حيث قال رحمه الله: "وما يدلّ على أن الله عز وجل يرى بالأبصار قول موسى الكليم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ولا يجوز أن يكون نبي من الأنبياء، قد ألبسه الله جلباب النبيين، وعصمه مما عصم منه المرسلين يسأل ربّه ما يستحيل عليه، وإذا لم يجز ذلك على موسى عليه السلام، فقد علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلاً، وإن الرؤية جائزة على ربنا عز وجل.

ومما يدل على ذلك قول الله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} .

فلما كان الله قادراً على أن يجعل الجبل مستقراً كان قادراً على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى، فدلّ ذلك على أن الله قادر على أن يري نفسه عباده المؤمنين وأنه جائز رؤيته، وقوله:{لَنْ تَرَانِي} أراد به في الدنيا دون الآخرة، بدليل ما مضى من الآية"3.

وهذا الكلام الذي ساقه البيهقي هنا يتضمن أمرين:

أحدهما: وجهة الاستدلال على الإثبات.

1 سرة الأعراف آية: 143.

2 انظر: شرح الأصول الخمسة ص: 233.

3 الاعتقاد ص: 47.

ص: 381

وثانيهما: طريقة الردّ على من استدل بها لنفي.

أما وجهة الاستدلال فهي: أن موسى عليه السلام نبي من الأنبياء وقد عصمهم الله، ولو كانت رؤية الله مستحيلة لما طلبها موسى عليه السلام، فطلبه لها دليل على جوازها.

كما أن الحائل الذي وضعه الله دون رؤية موسى لربه وهو عدم استقرار الجبل دليل على أن الله تعالى لو جعله مستقراً لرآه موسى عليه السلام، وذلك دليل على جواز رؤية العباد لربّهم وأن الله قادر على أن يريهم ذاته سبحانه.

أما طريقة الردّ على النفاة: فبالإضافة إلى ما تقدم في وجهة الاستدلال فإن قوله: {لَنْ تَرَانِي} أراد به في الدنيا لا في الآخرة.

3 -

ومما استدل به البيهقي- رحمه الله لإثبات هذه المسألة قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 1، وقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2.

حيث ذكر رحمه الله أن المراد بالزيادة في هاتين الآيتين النظر إلى وجه الله الكريم يوم القيامة، وأورد تفسير الزيادة هنا بالرؤ ية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أورد ذلك التفسير عن جماعة من السلف رضوان الله عليهم.

يقول رحمه الله: "

ولأنه قال: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله عز وجل، فمن بعده من الصحابة الذين أخذوا عنه، والتابعين الذين أخذوا عن

1 سورة ق آية: 35.

2 سورة يونس آية: 26.

ص: 382

الصحابة أن الزيادة في هذه الآية النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، وانتشر عنه وعنهم إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة بالأبصار"1.

ثم ذكر من الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية حديث صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً لم تروه؛ قال: فيقولون: فما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه. قال: فوالله ما أعطاهم الله عز وجل شيئاً هو أحب إليهم منه".

قال ثم قرأ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2.

وروى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان، وأبي موسى الأشعري من الصحابة، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط وقتادة وغيرهم من التابعين3.

وقد استدل نفاة الرؤية بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 4.

فردّ البيهقي على هؤلاء بأن هذه الآية خاصة في الدنيا أو أن المراد بها نفي الإدراك الذي هو الإحاطة دون الرؤ ية، وفي ذلك يقول:

1 الاعتقاد ص: 47.

2 المصدر السابق نفسه ص: 48. وروى مسلم حديث صهيب هذا في كتاب الإيمان رقم: 297، 1/163.

3 المصدر نفسه ص: 49.

4 سورة الأنعام آية: 103.

ص: 383

"

ولا حجة لهم في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فإنه إنما أراد به لا تدركه أبصار المؤمنين في الدنيا دون الآخرة، ولا تدركه أبصار الكافرين مطلقاً، كما قال:{كَلَاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1.

فلما عاقب الكفار بحجبهم عن رؤيته دل على أنه يثبت المؤمنين برفع الحجاب لهم عن أعينهم حتى يروه، ولما قال في وجوه المؤمنين:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} فقيدها بيوم القيامة، ووصفها فقال:{نَاضِرَةٌ} ثم أثبت لها الرؤية فقال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} علمنا أن الآية الأخرى في نفيها عنهم في الدنيا دون الآخرة، وفي نفيها عن الوجوه الباسرة دون الوجوه الناضرة جمعاً بين الآيتين، وحملاً للمطلق من الكلام على المقيد منه.

ثم قد قال بعض أصحابنا: إنما نفى عنه الإدراك دون الرؤ ية، والإدراك هو الإحاطة بالمرئي دون الرؤ ية، فالله يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علما"2.

وقد اختار هذا التفسير الأخير للآية جماعة من مثبتي الرؤية من السلف وغيرهم، وجعلوها دليلاً على الإثبات على نقيض تصور نفاة الرؤية لما اشتملت عليه، ومن هؤلاء الذين اختاروا هذا الاتجاه فخر الدين الرازي من أئمة الأشاعرة، والإمام ابن القيم، وابن تيمية والألوسي وغيرهم من العلماء

1 سورة المطففين آية: 16.

2 الاعتقاد ص: 47.

ص: 384

يقول الرازي في تقرير وجه الدلالة: "لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته، والعلوم والقدرة، والإرادة، والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها، فثبت أن قوله:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدلّ على أن قوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يفيد كونه تعالى جائز الرؤية.

وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته، فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤ يته ومن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته"1.

وقال ابن القيم رحمه الله مبيناً دلالة الإثبات وأن هذا ما ذهب إليه شيخه ابن تيمية "

والاستدلال بهذه الآية على جواز الرؤية أعجب، فإنها من أدلة النفاة، وقد قرر شيخنا وجه الاستدلال بها أحسن تقرير وألطفه، وقال: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا في ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها، فإن الله سبحانه وتعالى إنما ذكرها في سياق التمدح ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية.

وأما العدم المحض فليس بكمال ولا يمدح الربّ تبارك وتعالى بالعدم إلا إذا تضمن أمراً وجودياً كتمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن

1 تفسير الفخر الرازي13/125.

ص: 385

كمال القيومية،

فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ كَلَاّ

} 1 فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} من أدل شيء على أنه يرى ولا يدرك"2.

ولا تخفي وجاهة رأي من ذهب إلى الاستدلال بها على الرواية مفسرين الإدراك في الآية بالإحاطة.

وأما الأحاديث الدالة على إثبات الرؤية فمتواترة، وقد ذكر البيهقي رحمه الله بعضاً منها، ومما ذكره منها:

1 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ناساً قالوا: يارسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تمارون في رؤية القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب؟ " قالوا لا يارسول الله، قال:"هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا يارسول الله، قال:"فإنكم ترونه كذلك"3.

2 -

حديث جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "أما إنكم ستعرضون على ربّكم

1 سورة الشعراء آية: 61.

2 حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ص: 228، وانظر رأي الألوسي في روح المعاني7/244-245.

3 الاعتقاد ص: 51. والحديث رواه البخاري في كتاب التوحيد حديث رقم: 7437، 13/419. ورواه مسلم في كتاب الإيمان، حديث رقم: 299، 1/163.

ص: 386

عز وجل، فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" 1.

3 -

حديث أبي سعيد الخدري قال: قلنا يارسول الله، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال:"هل تمارون في رؤية الشمس في الظهيرة صحواً ليس دونها سحاب؟ " قال: قلنا لا يارسول الله. قال: "فهل تمارون في وؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيه حجاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال:"ما تمارون في رؤيته يوم القيامة إلا كما تمارون في رؤية أحدهما"2.

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة المتواترة في هذه المسألة وإنما أردت التمثيل لا الاستقصاء.

وبعد أن أورد رحمه الله هذه الأحاديث علق عليها ببيان اتفاق سلف هذه الأمة على ما جاء فيها من إثبات رؤية الله تعالى وأن الخلاف فيها لم يوجد بينهم أبداً، إذ لو وجد لنقل إلينا.

يقول رحمه الله معلقاً: "وروينا في إثبات الرؤية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس وأبي موسى، وغيرهم رضي الله عنهم، ولم يرو عن أحد منهم نفيها ولو كانوا فيها مختلفين لنقل اختلافهم إلينا، وكما أنهم لما اختلفوا في رؤيته بالأبصار في الدنيا نقل اختلافهم في ذلك إلينا، فلما

1 الاعتقاد ص: 50. والحديث رواه البخاري في كتاب التوحيد، حديث رقم: 7434، 13/419.

2 الاعتقاد ص: 52. ورواه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه حديث رقم: 7439، 13/420. ورواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه حديث رقم: 302، 1/167.

ص: 387

نقلت رؤية الله بالأبصار عنهم في الآخرة ولم ينقل عنهم في ذلك اختلاف - يعني في الآخرة - كما نقل عنهم فيها اختلاف في الدنيا علمنا أنهم كانوا على القول برؤية الله بالأبصار في الآخرة متفقين مجتمعين"1.

ولا ريب أن ما ذهب إليه البيهقي من إثبات لهذه المسألة هو الرأي الذي لا يجوز العدول عنه لصراحة ما أورده من أدلة لذلك، ولإجماع سلف الأمة عليه، وكما حكى البيهقي رحمه الله هذا المذهب القويم عن سلف الأمة حكاه عنهم أيضاً غيره من علماء السلف أنفسهم.

وممن حكاه من السلف، وانتصر له، وقرر عدم جواز الذهاب إلى سواه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله حيث قال - بعد أن أورد - الأدلة التي ذكرها هنا البيهقي:

"فهذه الأحاديث كلّها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها، والإيمان بها، أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا ولم يزل المسلمون قديماً وحديثاً يروونها، ويؤمنون بها لا يستنكرونها، ولا ينكرونها، ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال بل كان من أكبر رجائهم، وأجزل ثواب الله في أنفسهم، النظر إلى وجه خالفهم، حتى ما يعدلون به شيئا من نعيم الجنة"2.

وقال أيضاً: "قد صحت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعده من أهل العلم، وكتاب الله الناطق به، فإذا اجتمع الكتاب وقول الرسول، وإجماع الأمة، لم يبق لمتأوّل عندها تأويل إلا لمكابر أو جاحد"3.

1 الاعتقاد ص: 53.

2 الردّ على الجهمية للدارمي ص: 53، 54.

3 المصدر نفسه ص: 54.

ص: 388

ثم سرد تلك الأدلة التي ذكرها البيهقي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار سلف الأمة، ووجهها نفس التوجيه وردّ على المؤوّلين بما رد به البيهقي.

وإذا كان البيهقي رحمه الله يتفق مع السلف في إثبات رؤية المؤمنين لربّهم، وهو الأمر الذي قال به الأشاعرة أيضاً، فهل ذلك الاتفاق حول هذه المسألة تام من جميع الوجوه؟

الواقع أن ثمة مسألة مهمة تتعلق بهذه القضية هي مسألة الجهة، لأن السلف حين أثبتوا الرؤية أثبتوا الجهة أيضاً، لأنها لازمة لها أما البيهقي ومعه أصحابه الأشاعرة فقد أثبتوا الرؤية ونفوا لازمها وقد سبق الحديث عن مسألة الجهة عند الكلام عن الاستواء وبينا كيف أن ثبوتها أمر حتمي عقلاً وشرعاً وفطرة بالمعنى الصحيح الذي أشرت إليه هناك.

إلا أن البيهقي استدل على نفيها هنا بحديث جرير بن عبد الله السابق، والذي فيه:"لا تضامون في رؤيته".

ووجه استدلاله به: أن التضام المذكور معناه: لا يجتمع بعضكم إلى بعض في جهته، لأنه يرى في جميع الجهات، وليس له جهة معينة كما للمخلوق.

وفي إيضاح ذلك يقول رحمه الله حاكياً عن شيخه أبا الطيب الصعلوكي1 قال: "سمعت الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمّد بن سليمان رحمه الله يقول فيما أملاه علينا في قوله: "لا تضامون في

1 هو: سهل بن محمّد بن سليمان بن محمّد بن سليمان بن موسى بن إبراهيم العجلي، الفقيه الأديب أبو الطيب بن أبي سهل الحنفي الصعلوكي مفتي نيسابور. توفي بها سنة: 404هـ. انظر: تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص: 211، وطبقات الشافعية للسبكي4/396.

ص: 389

رؤيته" - بضم التاء وتشديد الميم – يريد: لا تجتمعون لرؤيته في جهته، ولا يضم بعضكم إلى بعض لذلك، فإنه عز وجل لا يرى في جهة كما يرى المخلوق في جهة، ومعناه - بفتح التاء -: لا تضامون لرؤيته، مثل معناه بضمها، لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة وهو دون تشديد الميم، من الضيم معناه: لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض، وإنكم ترونه في جهاتكم كلّها، وهو يتعالى عن جهة.

قال والتشبيه برؤية القمر ليعين الرؤية، دون تشبيه المرئي تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"1.

وقد ذكر هذا التوجيه عن أبي بكر بن فورك شيخ البيهقي، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وردّ عليه، بأن هذا القول انفرد به هؤلاء الأشاعرة دون بقية طوائف الأمة، وأن هذا معروف الفساد ضرورة ولأجل ذلك ذهب بعض حذاقهم إلى موافقة المعتزلة في ما ذهبوا إليه من نفي الرؤية والجهة معاً وتفسير الرؤية بأنها زيادة انكشاف وليس رؤية حقيقية2.

ثم قام بعد ذلك برد الاستدلال بالحديث الذي استدلّ به البيهقي لنفي الجهة بقوله رداً على ما ذكره عن ابن فورك مما يتفق مع ما ذهب إليه البيهقي تماماً: "وأما قوله: إن الخبر يدلّ على أنهم يرونه لا في جهة، وقوله "لا تضامون" معناه لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته؛ فإنه لا في جهة، فهذا تفسير للحديث بما لا يدلّ عليه ولا قاله أحد من أئمة العلم،

1 الاعتقاد ص: 51.

2 انظر: مجموع الفتاوى16/85.

ص: 390

بل هو تفسير منكر عقلاً وشرعاً، ولغة. فإن قوله "لا تضامون" يروى بالتخفيف، أي: لا يلحقكم ضيم في رؤيته كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال، فإنه قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يرى وهو سبحانه يتجلى تجلياً ظاهراً فيرونه كما ترى الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته، وهذه الرواية المشهورة.

وقيل "لا تضامون" بالتشديد، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض، كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال

فإما أن يروى بالتشديد ويقال: "لا تضامون" أي: لا تضمكم جهة واحدة فهذا باطل لأن التضام انضمام بعضهم إلى بعض. فهو تفاعل كالتماس والتراد، ونحو ذلك

ثم يقال: الراؤون كلّهم في جهة واحدة على الأرض، وإن قدر أن المرئي ليس في جهة فكيف يجوز أن يقاله:"لا تضمكم جهة واحدة" وهم كلّهم على الأرض - أرض القيامة - أو في الجنة، وكل ذلك جهة ووجودهم نفسهم لا في جهة ومكان ممتنع حساً وعقلاً"1.

وبهذا يتضح لنا أن البيهقي قد أخطأ في استدلاله بالحديث الآنف الذكر على نفي الجهة، لعدم صحة تفسيره له، وتصوّره لما ورد الحديث من أجله.

وقد لاحظت أن إثبات البيهقي وأصحابه للرؤية ونفي لازمها إنما هو نفي للرؤية نفسها، لأن نفي اللازم نفي للملزوم. لذلك كان المعتزالة أكثر منطقية مع أنفسهم حين ذهبوا إلى نفي الأمرين فراراً من الوقوع في التناقض الذي وقع فيه الأشاعرة.

1 مجموع الفتاوى16/85، 86.

ص: 391