الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: مشروعية التأمين للإمام
اختلف العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في مشروعية التأمين للإمام على قولين:
القول الأول: يُشرع للإمام التأمين بعد فراغه من قراءة الفاتحة.
وإلى هذا القول ذهب: جمهور العلماء. منهم: أبو حنيفة وأصحابه 1، والشافعي في القديم، وهو الأصح2، وأحمد3، وداود4، والليث5، ومالك في
1 انظر: مختصر اختلاف الفقهاء 1/202، المبسوط 1/32، الهداية 1/48، بدائع الصنائع 1/207، البحر الرائق 1/331، تحفة الملوك ص 71، تنوير الأبصار وحاشية ابن عابدين 1/492، 476، التمهيد7/13،الاستذكار4/254،حلية العلماء2/90، المغني2/161 ونسب ذلك لأصحاب الرأي. قال السرخسي:(فأما آمين، فالإمام يقولها بعد الفراغ من الفاتحة) .
تنبيه: نسب الشوكاني في نيل الأوطار 2/244 لأبي حنيفة والكوفيين القول في التأمين، كقول مالك. فقال:(ذهب مالك إلى: أن الإمام لا يؤمّن في الجهرية. وفي رواية عنه: مطلقاً. وكذا روي عن أبي حنيفة والكوفيين) . وهو سبق قلم، أو عدم تحرير للقول. إذ الفرق بيّن بين عدم التأمين، وعدم الجهر به.
2 انظر: المهذب 1/72، الحاوي2/110، المجموع 3/371، روضة الطالبين 1/247، المنهج القويم 1/194. قال الشافعي 1/109:(فإذا فرغ الإمام من قراءة أم القرآن قال: آمين) .
3 انظر: الإرشاد ص55، مختصر الخرقي ص19، المقنع لابن البنا 1/352، المغني 2/161، المقنع مع الشرح الكبير 3/447، شرح الزركشي 1/551، المحرر 1/54، المبدع 1/439، منتهى الإرادات 1/210، التوضيح 1/304، كشاف القناع 1/395.
4 انظر: التمهيد 7/13، الاستذكار 4/254، حلية العلماء 2/90، المجموع 3/373.
5 انظر: مختصر اختلاف الفقهاء 1/202.
رواية المدنيين1، وفقهاء المدينة 2، والثوري، وعطاء، وإسحاق، وأبو ثور، والأوزاعي، وابن المبارك3، وابن أبي شيبة، والطيالسي4، والبخاري، ومسلم5، وابن خزيمة، وابن المنذر 6وغيرهم. وهو مروي عن ابن عمر، وابن الزبير7. وقال الترمذي: (وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين، لا يُخفيها. وبه
1 انظر: التمهيد 7/13، الاستذكار 4/252، الجامع لأحكام القرآن 1/129 وصححها القرطبي، بداية المجتهد 1/146، شرح الزرقاني 1/259. وقال ابن عبد البر في التمهيد:(وهو قول جمهور علماء المسلمين. وممن قال ذلك: مالك في رواية المدنيين عنه، منهم: عبد الملك ابن الماجشون، ومطرف بن عبد الله، وأبو مصعب الزهري، وعبد الله بن نافع، وهو قولهم. قالوا: يقول: آمين. الإمام ومن خلفه. وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، وأصحابهما، والثوري، والحسن بن حي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وداود، والطبري، وجماعة أهل الأثر) .
وبه قال ابن حبيب من المالكية. انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/7.
2 انظر: المستدرك للحاكم 1/219.
3 انظر: التمهيد 7/13، الاستذكار 4/254، حلية العلماء 2/90، المغني 2/161، الشرح الكبير 3/447، شرح السنة 3/58، المجموع 3/373. الثلاثة الأخيرين، اختص ابن عبد البر بذكرهم.
4 انظر: المغني 2/161.
5 ترجم البخاري لذلك بـ (باب جهر الإمام بالتأمين) . وانظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 2/262. وقال الحاكم في المستدرك 1/223: (واتفقا على تأمين الإمام، وعلى تأمين المأموم وإن أخفاه الإمام) . وانظر لبيان هذا القول والقائلين به: المغني 2/160، 161.
6 انظر: المجموع 3/373.
7 أخرجه البخاري تعليقاً في الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين (111) 2/262 مجزوماً به. وانظر: المغني 2/161، الشرح الكبير 3/447، المجموع 3/373.
يقول: الشافعي، وأحمد، وإسحاق) 1.
القول الثاني: لا يُشرع للإمام التأمين عقب قراءة الفاتحة. وإنما يُشرع لمن خلفه من المأمومين.
وإلى هذا القول ذهب: أبو حنيفة في رواية الحسن عنه2، ومالك في رواية ابن القاسم، وهو قول ابن القاسم، والمصريين من أصحاب مالك3، والمشهور في المذهب: أنه لا يؤمّن في الجهرية 4.
1 سنن الترمذي 1/157.
2 انظر: المبسوط 1/32، البحر الرائق 1/331، حاشية ابن عابدين 1/493.
3 انظر: المدونة 1/73، التمهيد 7/11، الاستذكار 4/253، أحكام القرآن لابن العربي 1/7، الجامع لأحكام القرآن 1/129، شرح الزرقاني 1/259، المحلى 3/264، حلية العلماء 2/90، المغني 2/161، الشرح الكبير 3/447، مختصر اختلاف الفقهاء 1/202، المجموع 3/373، بدائع الصنائع 1/207، حاشية ابن عابدين 1/493، تفسير ابن كثير 1/32، فتح الباري 2/263، سبل السلام 1/173. وعزاه الحاكم في المستدرك 1/223 لأحمد وجماعة من أهل الحديث.
4 تنبيه مهم: المشهور من المذهب عند المتأخرين، خلاف ما حكاه المتقدمون. بل جُلُّ من حكى مذهب مالك أشار إلى خلافه لرأي الجمهور. وأنه يرى عدم قولها، لا الإسرار بها. أو أشار إلى أن له روايتين: إحداهما، موافقة لقول الجمهور في مشروعية التأمين، لا الجهر به، كأبي حنيفة، وهي رواية المدنيين. والثانية، خلاف قول الجمهور. أي: بعدم قولها. وهي رواية ابن القاسم.
قال الماوردي في الحاوي 2/111: (إذا فرغ الإمام من قراءة الفاتحة فقال: {وَلا الضَّالِّينَ} فمن السنة أن يقول بعده: آمين. ليشترك فيه الإمام والمأموم جهراً في صلاة الجهر..، وقال أبو حنيفة: يُسر به الإمام والمأموم في صلاة الجهر والإسرار. وقال مالك: يقوله المأموم وحده، دون الإمام) . وقال الصنعاني في سبل السلام 1/173: (يُشرع للإمام التأمين بعد قراءة الفاتحة جهراً..، وبشرعيته قالت الشافعية..، وقالت الحنفية: يُسر بها في الجهرية. ولمالك قولان: الأول كالحنفية. والثاني: أنه لا يقولها) . وظاهر ما في المدونة يدل على ذلك، فقد جاء فيها 1/73:(وقال مالك: إذا فرغ الإمام من قراءة أم القرآن، فلا يقل هو: آمين. ولكن يقول ذلك من خلفه. وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فلا يقل هو: اللهم ربنا لك الحمد. ولكن يقول ذلك من خلفه. وإذا صلى الرجل وحده فقال: سمع الله لمن حمده، فليقل: اللهم ربنا ولك الحمد أيضاً. قال: وإذا قرأ وهو وحده، فقال: {وَلا الضَّالِّينَ} فليقل: آمين. قال مالك: ويخفي من خلف الإمام. آمين. ولا يقول الإمام: آمين. ولا بأس للرجل إذا صلى وحده أن يقول: آمين) .
أما المتأخرون: فقد ذهبوا إلى أن الإمام لا يؤمّن في الجهرية، ويؤمّن في السرية. قال خليل في مختصره:(وتأمين فذٍ مطلقاً، وإمام بسر) . وقال في شرح منح الجليل: “ (وإمام بسر) أي: في قراءة سرية، لا في قراءة جهرية”. وقال الدردير في الشرح الصغير على بلغة السالك 1/449: “ (وتأمين فذٍ مطلقاً) في السر والجهر (كإمام في السر) فقط”. وقد بيّن الزرقاني 1/259 أن لمالك روايتين غير رواية المدنيين، فقال:(وقال مالك في رواية ابن القاسم، وهي المشهورة: لا يؤمّن الإمام في الجهرية. وعنه: لا يؤمّن مطلقاً) . وانظر: القوانين الفقهية ص 68، شرح منح الجليل 1/156.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول، القائلون: بمشروعية التأمين للإمام. بما يلي:
1-
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ إذا أمّن الإمام، فأمّنوا. فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفِر له ما تقدم من ذنبه “. قال ابن شهاب: ”وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين. “ 1. وقال ابن عبد البر في بيان وجه الاستدلال
1 متفق عليه. وأخرجه مالك في الموطأ في النداء، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام 1/87. وقد تقدّم تخريجه في المبحث الثاني. وقال عنه ابن عبد البر في الاستذكار4/252:(هو أصح حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب) . واعترض بعض المالكية على حديث ابن شهاب: بأنه لم يرو في حديث غيره. وهي علة لا تقدح. فابن شهاب إمام لا يضره التفرد. مع أن ذلك جاء في حديث غيره أيضاً. انظر: شرح الزرقاني على الموطأ 1/259.
منه: “في هذا الحديث أيضاً: أن الإمام يقول: آمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أمّن الإمام، فأمّنوا “. ومعلوم أن تأمين المأموم قوله: آمين. فكذلك يجب أن يكون قول الإمام سواء، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سوّى بينهما في اللفظ، ولم يقل: إذا دعا الإمام، فأمّنوا”. وقال أيضاً: “ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم: “ إذا أمن الإمام، فأمنوا “ لم يرد به فادعوا مثل دعاء الإمام {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة. وهذا ما لا يختلف فيه. وإنما أراد من المأموم قول: آمين، لا غير. وهذا إجماع من العلماء. فكذلك أراد من الإمام قول: آمين. لا الدعاء بالتلاوة، لأنه قد سوى بينهما في لفظه صلى الله عليه وسلم بقوله: “ إذا أمّن الإمام، فأمنوا “ فالتأمين من الإمام، كهو من المأموم سواء. وهو قول: آمين. هذا ما يوجبه ظاهر الحديث. فكيف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم “ أنه كان يقول آمين إذا فرغ من قراءة فاتحة الكتاب “ وهذا نص يرفع الإشكال، ويقطع الخلاف. وهو قول جمهور علماء المسلمين”1.
2-
وعن وائل بن حُجر رضي الله عنه قال: “ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين. ويرفع بها صوته “. وفي رواية “ ومدّ بها صوته “ 2.
1 انظر: التمهيد 7/11، 12. وقد اعتُرض على الاستدلال بهذا الحديث، وأجاب عليه الشوكاني في نيل الأوطار 2/244. فقال: (“ إذا أمّن الإمام “ فيه مشروعية التأمين للإمام. وقد تُعقب: بأن القضية شرطية، فلا تدل على المشروعية. ورُدّ: بأن " إذا " تُشعر بتحقق الوقوع، كما صرّح بذلك أئمة المعاني) .
2 أخرجه أحمد 4/316، وأبو داود، في الصلاة، باب التأمين وراء الإمام 1/246 (932) ، والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في التأمين 1/157 (248) وقال: حديث حسن.
_________
الدارمي 1/284، والدارقطني 1/334، 335 وقال:(هذا إسناد صحيح) . وابن حبان، كما في الإحسان 3/146 (1802) ، وابن أبي شيبة 2/187 (7960) ، 6/141 (30155) ، 7/312 (36394) ، والبيهقي 2/57، والبغوي في شرح السنة 3/58. وقال: هذا حديث حسن. وابن حزم في المحلى 3/263. كلهم من طريق سفيان عن سلمة عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر رضي الله عنه به. قال النووي في المجموع 3/369: (وإسناده حسن. كل رجاله ثقات إلا محمد بن كثير العبدي جرّحه ابن معين، ووثقه غيره. وقد روى له البخاري، وناهيك به شرفاً وتوثيقاً له) .
قلت: من طريق محمد بن كثير عند أبي داود، وقد تابعه آخرون: فتابعه عند الترمذي: يحي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي. وتابعه وكيع عند أحمد، وابن أبي شيبة، والفريابي عند الدارقطني. ولذا قال ابن حجر في التلخيص 1/236:(سنده صحيح) . قال الشوكاني في نيل الأوطار 2/247: (وصححه الدارقطني، وأعلّه ابن القطان بحجر بن عنبس. وقال: إنه لا يُعرف. وخطّأه. وقال: إنه ثقة معروف. قيل: وله صحبة. ووثقه يحي بن معين وغيره) . فالحديث حسَّنه: الترمذي، والبغوي، والنووي. وصححه: ابن حبان، والدارقطني، وابن حجر.
وأخرجه النسائي في افتتاح الصلاة، باب رفع اليدين حيال الأذنين (4) 2/122 (879) ، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب الجهر بآمين 1/278 (855) ، والدارقطني 1/334، وعبد الرزاق 2/95 (2633) ، وابن أبي شيبة 2/187 (7959)، والبيهقي 2/58 من طريق أبي إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه. لفظ النسائي: “ صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم..” الحديث. وفيه “ ثم يقرأ بفاتحة الكتاب، فلما فرغ منها، قال: آمين. يرفع بها صوته “. ولفظ ابن ماجه: “ صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين. سمعناها “. ولفظ الدارقطني، والبيهقي: “ مدّ بها صوته “ وللبيهقي: “ رفع بها صوته “. وقال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. قال النووي في المجموع 3/104: (أئمة الحديث متفقون على أن عبد الجبار، لم يسمع من أبيه شيئاً. وقال جماعة منهم: إنما ولد بعد وفاة أبيه بستة أشهر) .
تنبيه مهم: أخرج هذا الحديث: أحمد 4/316، والترمذي (249) ، والطيالسي 138
_________
(1024)
، والحاكم 2/232، والدارقطني 1/334، والبيهقي 2/57. وغيرهم من طريق شعبة عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل، عن أبيع. وفيه “ قال: آمين. يخفض بها صوته “ أو “ وخفض بها صوته “ أو “ أخفى بها صوته “ وقال الحاكم: على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: (سمعت محمداً ـ يعني البخاري ـ يقول: حديث سفيان أصح من حديث شعبة هذا.، وأخطأ شعبة في مواضع من هذا الحديث
…
وزادا فيه عن علقمة بن وائل، وليس فيه عن علقمة، وإنما هو حُجْر ابن عنبس، عن وائل بن حجر. وقال: وخفض بها صوته. وإنما هو مدّ بها صوته. وقال الترمذي: سألت أبا زرعة عن هذا الحديث، فقال: حديث سفيان في هذا أصح) . وقال الأثرم: (اضطرب فيه شعبة، في إسناده ومتنه. ورواه سفيان فضبطه، ولم يضطرب في إسناده ولا متنه) . وقال الدارقطني: (ويُقال إنه ـ أي شعبة ـ وهِم فيه، لأن سفيان الثوري، ومحمد بن سلمة بن كهيل وغيرهما. رووه عن سلمة، فقالوا: “ ورفع صوته بآمين “ وهو الصواب) . وأورد ابن القيم في إعلام الموقعين مرجحات أخر فقال: (وترجيح ثان: وهو متابعة العلاء بن صالح، ومحمد بن سلمة بن كهيل له. وترجيح ثالث: وهو أن أبا الوليد الطيالسي ـ وحسبك به ـ رواه عن شعبة بوفاق الثوري في متنه. فقد اختُلف على شعبة كما ترى. قال البيهقي: فيحتمل أن يكون تنبه لذلك، فعاد إلى الصواب في متنه وترك ذكر علقمة في إسناده. وترجيح رابع: وهو أن الروايتين لو تقاومتا، لكانت رواية الرفع متضمنة لزيادة وكانت أولى بالقبول. وترجيح خامس: وهو موافقتها وتفسيرها لحديث أبي هريرة: “ وإذا أمن الإمام، فأمنوا. فإن الإمام يقول: آمين. والملائكة تقول: آمين. فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له “. وترجيح سادس: وهو ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته بآمين “ ولأبي داود بمعناه، وزاد بيانا فقال: ” قال: آمين. حتى يُسمع من يليه من الصف الأول “ وفي رواية عنه: ” كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين يرفع بها صوته ويأمر بذلك “. وترجيح سابع: نبّه عليه الزيلعي، فقال: (واعلم أن في الحديث علة أخرى ذكرها الترمذي في (علله الكبير) فقال: سألت محمد بن إسماعيل، هل سمع علقمة من أبيه؟ فقال: إنه ولد بعد موت أبيه لستة أشهر) .
(تنبيه آخر) في تنبيه الزيلعي بأن علقمة لم يسمع من أبيه، نظر، فإن ذلك في عبد الجبار. كما تقدم ذلك عن النووي، وهو الصحيح. قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 6/30:(عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي. روى عن أبيه، مرسل، ولم يسمع منه) . وقال 6/405: (علقمة بن وائل الحضرمي، الكندي الكوفي، روى عن أبيه..) وقال البخاري في التاريخ الكبير 6/106: (عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي، عن أخيه عن أبيه. قال محمد بن حجر: ولد بعد أبيه بستة أشهر) . وقال الذهبي في الكاشف 1/612: (عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي الكوفي، عن أبيه، وأخيه علقمة، وعنه ابن جحادة، ومسعر. قال ابن معين: ثقة، لم يسمع من أبيه. وقال غيره: سمع) .
وانظر: التاريخ الكبير 3/73، السنن الكبرى للبيهقي 2/57، 58، المجموع 3/369، تنقيح التحقيق (139) 2/832، نصب الراية 1/369، التلخيص 1/236، 237، التعليق المغني على الدارقطني 1/334، 335، تهذيب الكمال 16/ 394،393، تهذيب التهذيب 12/398.
(تنبيه آخر) قال ابن حجر في فتح الباري 2/264: (فيه ردّ على من أومأ إلى النسخ. فقال: إنما كان يجهر بالتأمين في ابتداء الإسلام، ليُعلمهم. فإن وائل بن حجر إنما أسلم في أواخر الأمر) .
وفي رواية “ يجهر بها “ 1. وفي رواية “ رفع صوته بآمين، وطوّل بها”2.
3-
وعن أبي ميسرة قال: لما أقرأ جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، فبلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال:"قل آمين". فقال: "آمين “ 3.
1 أخرج هذه الرواية البيهقي 2/58 من طريق أبي إسحاق عن علقمة بن وائل عن أبيه رضي الله عنه قال: “ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بآمين “.
2 بهذا اللفظ أخرجه البيهقي 2/57 من طريق الفريابي عن سفيان. ونبّه عليه ابن القيم في إعلام الموقعين 2/377.
3 أخرجه ابن أبي شيبة 2/187 (7961) .
4-
وعن علي رضي الله عنه قال: “ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين “ 1.
5-
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين. فإن الملائكة تقول: آمين. وإن الإمام يقول: آمين. فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفر له ما تقدّم من ذنبه “ 2.
6-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ترك الناس آمين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين. حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتج بها المسجد “ 3.
1 أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب الجهر بآمين 1/278 (854) قال في الزوائد: في سنده ابن أبي ليلى، وهو محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى. ضعّفه الجمهور. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وباقي رجاله ثقات. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث. فقال: هذا عندي خطأ، وإنما هو حجر بن عنبس عن وائل، وهذا من ابن أبي ليلى، فإنه كان سيء الحفظ. وانظر: التلخيص الحبير 1/237.
2 أخرجه أحمد 3/203، والنسائي في افتتاح الصلاة، باب جهر الإمام بآمين (33) 2/927 وعبد الرزاق 2/97 (2644)، والبغوي في شرح السنة 3/61. وقال: هذا حديث صحيح. ووافقه الأرنؤوط في تعليقه عليه.
3 أخرجه ابن ماجه في الصلاة، باب الجهر بالتأمين، 1/278 (853) واللفظ له، وأبو داود في الصلاة، باب التأمين وراء الإمام 1/246 (934) ، وأبو يعلى 11/89 (6220)، وابن حزم في المحلى 3/263. قال في الزوائد: في إسناده أبو عبد الله. لا يُعرف. وبشر ضعّفه أحمد. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه بسند آخر، ولفظه: “ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته. وقال: آمين “ الإحسان 3/147 (1803) . ورواه الدارقطني 1/335. وقال: هذا إسناد حسن. وانظر: تفسير ابن كثير 1/32، التلخيص الحبير 1/238، نيل الأوطار 2/246.
7-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ إذا أمّن القارئ فأمّنوا. فإن الملائكة تُؤمِّن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفِر له ما تقدم من ذنبه” 1.
8-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من أم القرآن رفع صوته، فقال: آمين” 2.
9-
وعن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين. فقال: آمين. وقال الناس: آمين. ويقول كلما سجد: الله أكبر. وإذا قام من الجلوس: قال الله أكبر. ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم “ 3.
1 أخرجه البخاري في الدعوات، باب التأمين (63) 7/167.
2 أخرجه ابن خزيمة 1/287 (571) ، وابن حبان كما في الموارد ص127 (462) ، والحاكم 1/223، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ. والدارقطني 1/335. وقال: هذا إسناد حسن. والبيهقي 2/58. وقال: هذا إسناد حسن. وحكى ابن حجر في التلخيص الحبير 1/236 ذلك عنهم، وسكت عليه. وأشار ابن القيم إلى صحة إسناده في إعلام الموقعين 2/378. وانظر: سبل السلام 1/173.
تنبيه: خالف الألباني هؤلاء العلماء في تصحيح الحديث. وذلك في تعليقه على ابن خزيمة فقال: (إسناده ضعيف. إسحاق بن إبراهيم الزبيدي. صدوق. يهم كثيراً. وأطلق محمد بن عوف أنه يكذب) . وهي عبارة ابن حجر في التقريب ص125. وانظر: تنقيح التحقيق 2/835. لكن الحديث صحيح بشواهده كما لا يخفى. والله أعلم.
3 أخرجه النسائي في افتتاح الصلاة، باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (21) 2/134 (905) ، وابن خزيمة 1/251 (499) ، 1/342 (688) ، وابن حبان كما في الإحسان 3/145 (1798)، والحاكم 1/357 (849) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي والدارقطني 1/305، 306، وقال: هذا صحيح. ورواته كلهم ثقات، والبيهقي2/46 وقال: إسناد صحيح، وله شواهد. وانظر: المجموع 3/344.
10-
وقال بلال للنبي صلى الله عليه وسلم: “ لا تسبقني بآمين “ 1.
11-
وقال عطاء: “ أمّن ابن الزبير ومن وراءه، حتى إن للمسجد لَلَجَّة “ 2.
12-
وقال عطاء: “ كنت أسمع الأئمة يقولون على إثر أم القرآن: آمين. هم أنفسهم، ومن وراءهم، حتى إن للمسجد للجة “ 3.
13-
وقال عطاء: “كان أبو هريرة ينادي الإمام: “لا تَفُتني بآمين “ 4.
14-
وقال عطاء:“ لقد كان لنا دوي في مسجدنا هذا بآمين. إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} “ 5.
وقال عكرمة: “ لقد أدركت الناس ولهم ضجة في مساجدهم
1 تقدم تخريجه في المبحث الثاني.
2 أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به، في الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين (111) 1/189. ووصله عبد الرزاق في مصنفه 2/96 (2640) ، ومن طريقه ابن حزم في المحلى 3/264. وأخرجه ابن شيبة 2/188 (7980) بنحوه. وقال النووي في المجموع 3/370 بعد أن ذكر هذا الأثر: (إن تعليق البخاري إذا كان بصيغة جزم، مثل هذا، كان صحيحاً عنده، وعند غيره) .
3 أخرجه عبد الرزاق 2/97 (2643) ، والشافعي في مسنده 1/82 نحوه، ومن طريقه البيهقي 2/59. وقال الأرنؤوط:(إسناده ضعيف. رواه الشافعي في سننه. وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو كثير الأوهام، وابن جريج، وهو مدلس، وقد عنعن) . شرح السنة 3/59
4 أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به، في الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين (111) 1/189. ووصله عبد الرزاق في مصنفه 2/96 (2640) من طريق ابن جريج. ومن طريقه ابن حزم في المحلى 3/264.
5 أخرجه ابن أبي شيبة 2/188 (7975) .
15-
بآمين. إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1.
وجه الاستدلال منها:
هذه الأحاديث والآثار ظاهرة الدلالة على مشروعية التأمين للإمام2، وأنه يقول بعد الفراغ من قراءة الفتحة:(آمين)3. بل إن بعضها لصريحة في ذلك، إذ جاء فيها التصريح بأن الإمام يقول: آمين. فهي لا تحتمل التأويل، أو الصرف عما دلت عليه. ولذلك قال ابن حزم بعد أن ذكر جملة من الآثار الدالة على ذلك: “فهذه آثار متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كان يقول: “آمين” وهو إمام في الصلاة، يسمعها من وراءه. وهو عمل السلف..”4.
1 أخرجه ابن أبي شيبة 2/187 (7963) من طريق وكيع عن فطر. وابن حزم في المحلى معلقاً 3/264.
2 قال ابن نجيم في البحر الرائق 1/331 حديث: “ إذا أمّن الإمام، فأمّنوا “:(هو يُفيد تأمينهما، لكن في حق الإمام بالإشارة، لأنه لم يُسق النص له. وفي حق المأموم بالعبارة، لأنه سيق لأجله. وبهذا يضعف رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام لا يؤمّن) .
3 قال الصنعاني في سبل السلام 1/173: (فيه – أي: حديث نعيم – دليل على شرعية التأمين للإمام) .
4 المحلى 3/263، 264.
تتمة: وقد تكلّف بعضهم في تأويل هذه الأحاديث وصرفها عن ظاهرها. فقالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: “ إذا أمّن الإمام “ معناه: إذا دعا. والمراد، دعاء الفاتحة. قالوا: لأن المؤمّن يُسمى داعياً، كما في قوله تعالى:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وكان موسى داعياً، وهارون مؤمّناً. ويأتي الجواب على ذلك في بيان الرأي المختار. وقيل: إذا بلغ إلى موضع التأمين. وهو مع بُعده يرده التصريح بأن الإمام يقول: آمين. وقال ابن حجر: (وقد ردّه ابن شهاب بقوله: “ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين “ كأنه استشعر التأويل المذكور، فبيّن أن المراد بقوله: “ إذا أمّن “ حقيقة التأمين) . وقال في بيان عدم أخذ مالك بقول ابن شهاب، وهو صريح في تأمين الإمام: إنه لم يره في حديث غيره. ثم أجاب عنها بقوله: وهي علة غير قادحة، فإن ابن شهاب إمام لا يضره التفرد، وإن ذلك جاء في حديث غيره.
انظر: إحكام الإحكام 1/207، فتح الباري 2/264.
واستدل أصحاب القول الثاني، القائلون بعدم مشروعية التأمين للإمام، بما يلي:
1-
بما رواه مالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين. فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه “ 1.
2-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال من خلفه: آمين. فوافق ذلك قول أهل السماء: آمين. غُفر له ما تقدم من ذنبه “ 2.
3-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا قال:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين “ 3.
وعن عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
1 أخرجه مالك في الموطأ في كتاب النداء، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام 1/87. والحديث متفق عليه. وقد تقدم تخريجه في المبحث الثاني. وقد أورد هذا الاستدلال له في: المحلى، والمبسوط، وبدائع الصنائع، والمجموع، والمغني وغيرها.
2 متفق عليه. أخرجه البخاري في الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين (780) 2/262 مع الفتح، ومسلم في الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين 4/129.
3 أخرجه ابن أبي شيبة 2/187 (7964) من طريق زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة به. وبالإسناد نفسه بنحوه 7/286 (36137) . وأخرجه (7965) عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
“ إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين “ 1.
5-
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبيّن لنا سنتنا، وعلّمنا صلاتنا، فقال: “ إذا صليتم، فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمك أحدكم، فإذا كبّر، فكبروا، وإذا قال:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين. يُجبكم الله “ 2.
6-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا يقول: “ لا تبادروا الإمام، إذا كبّر، فكبروا. وإذا قال:{وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين.. “ الحديث 3.
وجه الاستدلال منها:
هذه الأحاديث ظاهرة الدلالة في أن الإمام يقتصر في قراءته على قول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وأنه لا يقول: آمين. وإنما يقولها من خلفه من المأمومين 4.
وقالوا: الجمع بين الأحاديث يقتضي حمل قوله صلى الله عليه وسلم: “ إذا أمّن الإمام، فأمّنوا “ على المجاز. أي: بلغ موضع التأمين. كما يُقال: أنجد. أي: بلغ نجداً، وإن لم يدخلها 5.
1 تقدم تخريج حديث وائل. والتنبيه على أن رواية ابنه عبد الجبار عنه مرسلة. وقد أورد الاستدلال بها الماوردي في الحاوي 2/111.
2 أخرجه مسلم. وقد تقدم تخريجه في (فضل التأمين) .
3 أخرجه مسلم في الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام 4/134 من طريق الأعمش عن أبي صالح عنه.
4 انظر: الاستذكار 4/254، التمهيد 7/11.
5 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/7، شرح عمدة الأحكام 1/207، شرح الزرقاني 1/260. وقال في الشرح الكبير 1/448:(وحديثهم لا حجة لهم فيه، وإنما قصد به تعريفهم موضع تأمينهم، وهو موضع تأمين الإمام والمأمومين، موافقاً لتأمين الملائكة. وقد جاء هذا مصرّحاً به) .
1-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان ينادي الإمام: “ لا تفتني بآمين “ 1.
وجه الاستدلال منه:
قالوا: إن معنى “ لا تفتني بآمين “ أي: لا تُنازعني بالتأمين. الذي هو وظيفة المأموم.
2-
وقالوا: إن الإمام يدعو في قراءته {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الآيات. فناسب أن يختص المأموم بالتأمين، لأنه جواب للدعاء 2.
1 أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به عن عطاء. وقد تقدم تخريجه.
2 انظر: فتح الباري 2/263، الحاوي 2/111، المجموع 3/374.
تنبيه: أرجع ابن حجر قول المالكية باختصاص المأموم بالتأمين، دون الإمام، إلى مسألة إيجاب القراءة على المأموم. فقال في فتح الباري 2/263:(ورجّح بعض المالكية كون الإمام لا يؤمّن من حيث المعنى: بأنه داع فناسب أن يختص المأموم بالتأمين. وهذا يجيء على قولهم: إنه لا قراءة على المأموم. وأما من أوجبها عليه، فله أن يقول: كما اشتركا في القراءة، فينبغي أن يشتركا في التأمين) . وقد تابعه في ذلك الزرقاني في شرحه 1/259.
وفي إرجاعه وجوابه. نظر. ووجهه: إن القائلين بأن المأموم لا قراءة عليه، لم يتفقوا على القول باختصاص المأموم بالتأمين. بل غير المالكية قالوا بمشروعية التأمين لهما، إلا أنهم اختلفوا: فمنهم من قال: بالجهر بها حال الجهر بالقراءة. ومنهم مَن قال: يُسرّان بها. فمرجع الخلاف إلى اختلاف النصوص، وتأويله، كما نبّه على ذلك ابن رشد، وكما يتضح جلياً من هذه الدراسة.
وأما قوله: (ومن أوجبها عليه، فله أن يقول: كما اشتركا في القراءة، فينبغي أن يشتركا في التأمين) . ففيه بُعد، إذ أن تأمين المأموم بعد فراغ الإمام من قراءته إنما هو لقراءة الإمام للفاتحة، لا لقراءته لها. وقد ألمح لهذا المعنى ابن حجر في فتح الباري 2/264 فقال:(قال الشيخ أبو محمد الجويني: قوله: (لا تستحب مقارنة الإمام في شيء من الصلاة غيره) . قال إمام الحرمين: يمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام، لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه، وهو واضح) . ومما يؤكد ذلك أيضاً: أن الشافعية يرون تأمين المأموم بعد فراغه من قراءة الفاتحة، فالتأمين الأول ليس لقراءته، بل لقراءة الإمام. والله أعلم.
1-
وقالوا: قول الإمام في قراءته: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة، دعاء. والدعاء يُسمى تأميناً 1.
2-
وقالوا: إن القسمة تقتضي أن الإمام لا يقولها 2. وجه ذلك: ما روى أبو موسى الأشعري، وأبو هريرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد “ قسم التحميد والتسميع بين الإمام والقوم، فجعل التحميد لهم، والتسميع له. وفي الجمع بين الذكرين من أحد الجانبين، إبطال هذه القسمة، وهذا لا يجوز، وكان ينبغي أن لا يجوز للإمام التأمين أيضاً بقضية هذا الحديث. وإنما عرفنا ذلك لما روينا من الحديث 3.
1 انظر: الاستذكار 4/254، التمهيد 7/11، شرح الزرقاني 1/259.
2 انظر: المبسوط 1/32، بدائع الصنائع 1/209، الهداية 1/48.
تنبيه: أورد ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام 1/207 دليلا آخر، لكنه لم يجزم بالاستدلال به، ولم يذكره غيره غير عليش في شرح منح الجليل 1/156 ـ مما اطلعت عليه ـ ولذا لم أذكره ضمن الأدلة، وإنما نبهت عليه هنا، وهو: عمل المدينة. فقال: (ولعل مالكاً رحمه الله اعتمد على عمل أهل المدينة، إن كان لهم في ذلك عمل، ورجح به مذهبه) . وقال عليش: (وللعمل) .
3 انظر: بدائع الصنائع 1/209.
سبب اختلافهم:
يتضح مما سبق أن سبب اختلاف العلماء رحمهم الله فيما ذهبوا إليه، هو ما يُظن من تعارض الآثار في المسألة. وقد نبّه على ذلك ابن رشد. فقال: “سبب اختلافهم: أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر: أحدهما، حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا أمّن الإمام فأمّنوا”. والحديث الثاني، ما خرّجه مالك عن أبي هريرة أيضاً أنه قال: صلى الله عليه وسلم: “ إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين “ 1.
فأما الحديث الأول، فهو نص في تأمين الإمام. وأما الحديث الثاني، فيُستدل منه على أن الإمام لا يؤمّن. وذلك أنه لو كان يؤمّن، لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من أم الكتاب قبل أن يؤمّن الإمام، لأن الإمام كما قال عليه الصلاة والسلام: “ إنما جعل الإمام ليؤتم به “. إلا أن يُخص هذا من أقوال الإمام. أعني: أن يكون للمأموم أن يؤمن معه، أو قبله. فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في التأمين. ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط.
ولكن الذي يظهر: أن مالكا ذهب مذهب الترجيح للحديث الذي رواه، لكون السامع هو المؤمّن، لا الداعي.
وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول، لكونه نصاً، ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام. وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط. لا في هل يؤمِّن الإمام، أو لا يؤمِّن؟ فتأمل هذا.
ويمكن أيضا أن يُتأول الحديث الأول، بأن يقال: إن معنى قوله: ” فإذا أمن الإمام فأمنوا “ أي: فإذا بلغ موضع التأمين. وقد قيل: إن التأمين، هو الدعاء. وهذا عدول عن الظاهر، لشيء غير مفهوم من الحديث إلا بقياس.
1 الموطأ في النداء، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام 1/87. والحديث متفق عليه. وقد تقدم تخريجه، والإشارة إلى رواية مالك.
أعني: أن يُفهم من قوله: “ فإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فأمنوا “ أنه لا يؤمن الإمام”1.
* الرأي المختار:
ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، القائلون بمشروعية التأمين للإمام، هو الرأي المختار، وذلك لمما يلي:
1.
قوّة ما استدلوا به من أدلة دالة على مشروعية التأمين للإمام. إذ أن منها نصوصاً صريحة في تأمين الإمام. وأنه يقول: آمين. بعد فراغه من قراءة الفاتحة، وقوله:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .
2.
أكّد ابن شهاب الزهري ما صرّحت به النصوص والأدلة، موضحاً ما كان عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته. إذ قال: “ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين “. فلم يبق بعد ذلك أدنى احتمال في عدم تأمين النبي صلى الله عليه وسلم عقب الفاتحة.
3.
إن ما استدل به أصحاب القول الثاني، وإن كان ظاهره اقتصار الإمام على قول:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وأنه لا يقول آمين، إلا أن هذا التعارض بين النصوص الصحيحة يقتضي الجمع والتوفيق بينها إذا كان ذلك ممكناً قبل المصير إلى الترجيح، لأن في الجمع إعمالاً للأدلة كلها. وأما الترجيح، فهو إعمال لبعض الأدلة، وإهمال لبعضها الآخر.
وبالنظر في تلك الأدلة السابقة يتبين:
أن ما استدل به أصحاب القول الثاني يمكن حمله على أن المراد به: التعريف بوقت تأمين المأموم، وبيان الموضع الذي يُقال فيه: آمين. وهو إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} ليكون قولهما في آن واحد. فلا يتقدّم المأموم الإمام
1 بداية المجتهد 1/146، 147.
بقول: آمين. ولا يتأخر عنه. بل قد جاء التصريح بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين. فإن الملائكة تقول: آمين. والإمام يقول: آمين. فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفِر له ما تقدّم من ذنبه “ 1.
1.
إن قوله صلى الله عليه وسلم: “ فقولوا: آمين “ ليس خاصاً بالمأموم. بل يتناول عمومه جميع المصلين: من الإمام، والمأموم. وليس في الأحاديث ما يمنع ذلك. إذ ليس فيها التصريح بعدم تأمين الإمام، أو نهيه عن ذلك.
2.
إن تأويل قول أبي هريرة رضي الله عنه: “ لا تفتني بآمين “ بمعنى: لا تنازعني التأمين، الذي هو وظيفة المأموم. تأويل بعيد. إذ أن الأقرب لمعنى “ لا تفتني “ أي: لا تسبقني. إذ كان أبو هريرة رضي الله عنه حريصاً على إدراكها مع الإمام، لما في إدراكها من فضيلة. وقد جاء هذا المعنى صريحاً في رواية عبد الرزاق: “ لا تسبقني بآمين “. وهو نحو قول بلال رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم:“ لا تسبقني بآمين “ 2.
3.
وأما استدلالهم بالآية على اختصاص الإمام بالدعاء، والمأموم بالتأمين. فقد كفانا أبو محمد، ابن حزم الجواب عليه، فقال ـ كما هي عادته في التعنيف أثناء ردوده ومناقشاته ـ:
“واحتج أيضا في أن لا يقول الإمام: آمين. إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، بأن موسى عليه السلام إذا دعا، لم يؤمّن، وأمّن هارون عليهما السلام. فسماهما تعالى داعيين بقوله تعالى:{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قال أبو محمد: وفي هذا الاحتجاج من الغثاثة، والبرد،
1 تقدم تخريجه. وانظر: المغني 2/162.
2 انظر: فتح الباري 2/262، 263.
والسقوط، والمجاهرة بالقبيح، ما فيه. لأنه يقال له، قبل كل شيء: من أخبرك أن موسى عليه السلام دعا ولم يؤمِّن، وأن هارون أمَّن ولم يدع؟ وهذا شيء إنما قاله بعض المفسرين بغير إسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم 1، ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن كافة تنقل عن مثلها إلى ما هنالك. فمن فاته هذان الوجهان، فقد فاته الحق، ولم يبق بيده إلا المجاهرة بالكذب، وأن يقفو ما ليس له به علم، أو أن يروي ذلك عن إبليس الملعون فإنه قد أدرك لا محالة تلك المشاهد كلها، إلا أنه غير ثقة. ثم يقال له: هذا لو صح لك ما ادعيت من أن موسى دعا ولم يؤمن، وأن هارون أمن ولم يدع. فأي شيء في هذا مما يبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الإمام: “ وإذا أمّن فأمنوا “ وقول الراوي: إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإمام، كان يقول إذا فرغ من أم القرآن في الصلاة: آمين. هذا ولعل موسى قد أمّن إذ دعا، ولعل هارون دعا إذ دعا موسى، وأمّنَا، أو أمّن أحدهما، أو لم يؤمّن واحد منهما. ونص القرآن يوجب أنهما دعوا معا بقوله تعالى:{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وليس في القرآن دليل على تأمين وقع منهما، ولا من أحدهما
…
“ 2.
1.
أما قولهم: إن الدعاء تأمين. كما أن التأمين دعاء. فقد أجاب عنه ابن عبد البر، فقال:
“ما قالوه من هذا كله فليس فيه حجة. فليس في شيء من اللغات: أن الدعاء يسمى تأمينا3. ولو صح لهم ما ادعوه وسلم لهم ما تأولوه لم يكن فيه إلا أن التأمين يسمى دعاء وأما أن الدعاء يقال له: تأمين، فلا. وإنما قال الله عزوجل: {قَدْ
1 انظر: تفسير الطبري 11/161، فقد ذكر آثاراً عدة، وليس فيها شيء مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم.
2 الإحكام لابن حزم 5/150، 151. وانظر: المحلى 3/266.
3 قال ابن حزم في المحلى 3/265: (ما قال أحد من أهل اللغة إن قول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} يُسمى تأميناً) .
أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} ولم يقل: قد أجيب تأمينكما. فمن قال: الدعاء تأمين. فمغفل، لا رؤية له. على أن قوله عزوجل:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} إنما قيل لأن الدعوة كانت لهما، وكان نفعها عائدا عليهما بالانتقام من أعدائهما. فلذلك قيل:{أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} ولم يقل: دعوتاكما. ولو كان التأمين دعاء، لقال: قد أجيبت دعوتاكما. وجائز أن يسمى المؤمّن داعياً، لأن المعنى في آمين: اللهم استجب لنا. على ما قدمنا ذكره. وهذا دعاء وغير جائز أن يسمى الدعاء تأمينا. والله أعلم “ 1.
1.
أما قولهم: إن التأمين جواب للدعاء، فيختص به المأموم، أو قولهم: إن القسمة تقتضي أن الإمام لا يقولها. فالجواب عليه: إن سُلِّم هذا التعليل، فإنه لا تُعارض به النصوص الصحيحة الصريحة في تأمين النبي صلى الله عليه وسلم، وإخباره بأن الإمام يؤمِّن2. وهو خبر بمعنى الأمر، لما فيه من الحث والترغيب3. والله أعلم.
2.
أما قولهم: إن معنى “ إذا أمّن الإمام “ أي: إذا بلغ موضع التأمين، أو أراد التأمين. فالجواب عليه، كما قال ابن العربي: هذا بعيد لغة وشرعاً. وقال ابن دقيق العيد: “ هذا مجاز. فإن وُجِد دليل يُرجحه على ظاهر الحديث..، عُمِل به، وإلا فالأصل عدم المجاز “ 4.
1 التمهيد 7/12.
2 قال المرغيناني في الهداية 1/48: (ولا متمسك لمالك ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله عليه الصلاة والسلام: “ إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين “ من حيث القسمة، لأنه قال في آخره: “ فإن الإمام يقولها “.
3 وقد أجيب عنه: بأن التأمين قائم مقام التلخيص بعد البسط، فالداعي فصّل المقاصد بقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخره. والمؤمّن أتى بكلمة تشمل الجميع. فإن قالها الإمام، فكأنه دعا مرتين: مفصلا، ثم مجملا. انظر: فتح الباري 2/263.
4 إحكام الإحكام 1/207. وانظر: شرح الزرقاني 1/260.