الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحد هي سلطة لدولة بوليسية استبدادية متخلفة، ليس هناك دولة دينية، وإنما دولة مدنية أو دولة بوليسية، لأن الدولة المدنية كفيلة باحتضان كل الأديان والأفكار، أما الدولة البوليسية فإنها دولة لا تقبل الآخر وتستعدي التعدد والتنوع مرة تحت مظلة الحكم العسكري المعلن ومرة تحت مظلة الحكم الديني، وكلاهما حكم بوليسي لا علاقة له بمبادئ الدين، فكل حكم لا يقوم على الأسس الديمقراطية ـ عنده ـ هو حكم بوليسي استبدادي متخلف، سواء كان يستمد مرجعيته من الإسلام أو من غيره.
الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا:
يحلو لكثير من الكتاب في هذا الموضوع من أصحاب الاتجاه التغريبي المقابلة بين ما يسمونه دولة مدنية ودولة ثيوقراطية، أي الحكم بمقتضى التفويض الإلهي للحاكمين مما يضفي عليهم صفة العصمة والقداسة، ويذكرون ما في الدولة الثيوقراطية من المثالب والعيوب والآفات، ويسقطون ذلك على الدولة الإسلامية، وهذا ليس من المنهج العلمي الذي يتبجح به هؤلاء فإن هذا اللفظ (ثيوقراطية) ليس من الألفاظ العربية، وهو لم يأت في أي كتاب من كتب المسلمين فكيف يحاسبوننا عليه؟
وهل هذا إلا كمثل من يتهم غيره بتهمة من عند نفسه ثم يحاسبه عليها وهو لا يعلم بها؟ فإذا كانت الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا أو مفرداتنا، لم يَجُزْ لأحد أن يحاكمنا إليها، ومن أراد فليجأ إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا حتى يكون النقاش علميا.
إن الدولة الثيوقراطية التي يتحدثون عنها بالصفات التي يذكرونها لا نعلم عن وجودها إلا ما كان في بلاد الغرب النصراني الذين نشأ فيهم هذا المصطلح، حيث تسلط علماء اللاهوت على كل شيء حتى على قلوب الناس بزعم تمثيلهم للإرادة الإلهية، فهذه خبرة نصرانية لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد، فما الذي يدعو هؤلاء إلى محاكمتنا إلى لفظ ليس من عندنا ولا يحاكموننا إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا الثابتة في كتب أعلام هذه الأمة؟ وهل هذه إلا دليل على أن هؤلاء يحاكمون تاريخنا وهم في الوقت نفسه ينظرون إلى تاريخ الغرب النصراني؟ وهو يعني اختزال الخبرة السياسية في العالم كله في الخبرة الغربية؟ وهذا في منتهى التبعية واحتقار الذات.
إن ثقافتنا الإسلامية لم تعرف دولة مدنية وأخرى دينية،
فهذا التقسيم أفرزته حركة التنوير في الغرب المناهضة لسلطة الكنيسة المطلقة، والتي كانت تمثل نمط السلطة الدينية غير المرغوب فيها، وهو المعنى الذي يعنيه مصطلح (ثيوقراطية) الذي هو نظام حكم يستند على أفكار دينية في الأساس مستمدة من المسيحية واليهودية، وتعني حكمًا بموجب الحق الإلهي المزعوم، وهو نظام كان له وجود في العصور الوسطى في أوروبا، نتجت عنه دول دينية مستبدة.
ولكننا في الشرق الإسلامي لم نعرف هذا اللون من الحكم، فليس في الإسلام مؤسسة دينية كالكنيسة، التي فيها التراتيبية المعهودة بين رهبانها ويجب ألا يسمح بقيامها؛ لقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب، ما يحاول هؤلاء بافتراء واضح أن يلصقوه بأمة المسلمين، فقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} (التوبة: 31).
وقد بَيّنَ أهلُ التفسير أن تلك الربوبية كانت في استقلال الأحبار والرهبان بالتشريع حتى إنهم لَيُحِلّون ما حرم الله ـ
ويُحَرّمون ما أحل الله تعالى، وهذا لم يكن بحمد الله تعالى في أمة المسلمين.
وهناك اتجاه يحاول المواءمة بين الدولة المدنية في مفهومها الغربي وبين الإسلام، فيرى هذا الاتجاه أن المسألة هينة وأنها مجرد اصطلاح، والاصطلاح لا مشاحة فيه كما يذكر أهل العلم، وعلى ذلك فهم يقررون إن الدولة في الإسلام مدنية ليست دينية، بينما دستورها من القرآن والسنة؛ فالدولة مدنية لا دينية، أما مصدر الدستور والقانون فيها فحتمًا هو الكتاب والسنة وموروث الأمة فقهًا وفكرًا، والدولة المدنية في عصرنا هي دولة المؤسسات التي تحكم من خلالها.
وهذا لا شك فيه محاولة للتوفيق بين الأفكار المعاصرة وبين ما هو مستقر في الشريعة بلا خلاف بين أحد من الأمة، إذ لم يدَّع أحد أن للأمة أن تُشَرّع بمحض إرادتها وفق ما تراه مصلحة من دون التفات إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها.
لكن هذا الكلام في الحقيقة يحمل التناقض في ثناياه؛ إذ كيف نقول عنها إنها لا دينية ثم نقول في الوقت نفسه إن دستورها هو الكتاب والسنة، فمعنى كونها لا دينية أنها لا ترتبط بالدين،
وكون دستورها الكتاب والسنة أنها ترتبط بالدين، وهذا تناقض، وهذه المشكلة يقع فيها من يحاول التوفيق بين المختلفات في الظاهر، من غير إزالة أسباب الخلاف الحقيقية.
والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في التسمية أو الاصطلاح، فقد كان بالإمكان أن تُسمى الدولة في الإسلام دولة مدنية أو غير ذلك من الأسماء، لو لم تكن تلك المصطلحات ذات استعمال مستقر مناقض للشريعة، ومن ثَمَّ يصير استعمال هذا المصطلح لوَصْف الدولة في الإسلام سببًا في اللبس وخلط الأمور، لأن هذا الاصطلاح لم يعد اصطلاحًا مجردًا وإنما صار اصطلاحًا محملًا بالدلالات التي حملها من البيئة التي قَدِمَ منها.
فإذا كان بعض المتكلمين بهذا المصطلح والآخذين به يقولون بمرجعية الشريعة، فما الذي يحملهم على الإصرار على استعمال مصطلح أقل ما يقال فيه أنه مصطلح مشبوه، يدعو استعماله إلى تفرقة الأمة لا إلى جَمْعِها، كما يمثل نوعًا من التبعية الثقافية للغرب، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مسوغ مقبول للإصرار على هذا الاستعمال.
ومما هو مقبول في العقل السليم أن الكلمة ذات المعنى
الصحيح إذا كانت تحتمل معنى فاسدا فإنه يعدل عنها إلى كلمة لا تحتمل ذلك المعنى الفاسد، وهذا الأمر المعقول قد أرشد إليه القرآن حينما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} (البقرة: 104).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص ـ عليهم لعائن الله ـ فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. يُوَرّون بالرعونة.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «في هذه الآية دليلان: أحدهما على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض.
الدليل الثاني: التمسك بسد الذرائع وحمايتها، والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع».
والخلاصة أنه يجب رفض هذا المصطلح لما اشتمل عليه من