الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثلاثة أمثلة لدعوى بعض أصحاب الخطاب العلماني بتعارض النص مع المصلحة، وبيان زيفها:
المثال الأول:
ذهب الرئيس التونسي السابق بورقيبة إلى أن صيام رمضان يسبب تعطيل الأعمال وضعف الإنتاج ودعا العمال سنة 1961م إلى الإفطار حفاظًا على الإنتاج الذي يدخل ضمن الجهاد الأكبر.
ثم خرج فيما بعد من يُنظِّر لدعوة الرئيس ويبحث لها عن منافذ مشروعة لكي تتمكن من التسلل إلى ضعاف العقول وضعاف الإيمان فقال بعدم فرضية الصيام.
فهل الصيام حقًا يتعارض مع مصلحة الإنتاج، ومصلحة النهوض الاقتصادي؟
إن الصوم يلغي وجبتين غذائيتين تقعان في وقت العمل هما وجبة الإفطار والغَدَاء، والصوم يوفر على الموظفين وقت هاتين الوجبتين، وهو وقت يمكن الاستفادة منه لصالح العمل والإنتاج، ثم إن الصوم يمنع الموظفين عن التدخين ومعلوم أن التدخين يأخذ من صاحبه دقائق متكررة على مدى اليوم كله قد تستغرق ساعة من ساعات العمل.
هذا بالإضافة إلى ما يسببه التدخين عمومًا من هدر كبير في القدرات والأوقات في غير رمضان بسبب أضراره المادية والصحية والنفسية فلماذا لا يُنظر إلى هذه الآفات التي يخفف منها شهر الصيام.
ولماذا لا ينظر إلى الفوائد الروحية والتربوية والسلوكية والصحية التي تعود على المواطنين من الصيام وبالتالي على المصلحة العامة.
المثال الثاني:
يرى عدد من المعاصرين أن الحجاب لم يعد ملائمًا للعصر، ولا لمكانة المرأة وتحررها واقتحامها لكافة مجالات الحياة العامة من مدراس وجامعات ومعامل وإدارات وأسفار وتجارات، لأن هذا الحجاب يعوق حركة المرأة ويعرقل مصالحها.
فهل هذه الدعوى صحيحة من جهة تحقق المصلحة أو عدمها؟
ليست هناك أي مصلحة حقيقية راجحة يعوقها الحجاب ويفوتها، والواقع المعيش والمشاهد في العالم كله الإسلامي والغربي أصبح اليوم يشكل أبلغ رد على كل ما يقال عن السلبيات
المدّعاة للحجاب، فلم يعد الحجاب قرينًا للجهل والأمية والخنوع والتخلف، بل أصبح في حد ذاته رمزًا للتحرر والتمسك بالحقوق والمبادئ، ورمزًا للصمود والمعاناة في سبيلها، وهي رمزية لم تكن له فيما سلف يوم كان شيئًا عاديًا يقبله الجميع ويسلم به الجميع.
وهذا فضلًا عن كون ذوات الحجاب يوجدن اليوم بجدارة وكفاءة في كل موقع من مواقع العلم والعمل الراقية المتقدمة، ولا يختفين إلا من المواقع التي يُمنعن منها أو لا تليق بكرامتهن وخلقهن.
إن الحجاب تظهر قيمته ومصلحته اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبيان ذلك أن المرأة اليوم تنجرف مع تيار كاسح يكاد يختزل المرأة وقيمتها ودورها في الجسد المزوّق المنمق المعروض في كل مكان، والمرأة ـ على نطاق واسع وَعَتْ أو لم تَعِ قصدت أم لم تقصد ـ واقعة هي أيضًا في فتنة الجسد وفي فتنة اللباس، أو بعبارة القرآن الجامعة في فتنة التبرج، وجميع المتبرجات ـ من حيث يدرين أو لا يدرين ـ هن عارضات أزياء وعارضات أجسام، وكثيرات منهم يعشن يوميًا ـ وكلما خرجن إلى العموم ـ في منافسة
استعراضية لا تنتهي في الشوارع والإدارات، في الشواطئ والمنتزهات، وفي المدارس والجامعات في المناسبات والحفلات.
وكمن يصب الزيت على النار يقوم عدد لا يحصى من الرجال بالإغراء والتشجيع، وتقوم مؤسسات تجارية وإعلامية وسياحية بتغذية هذا التوجه وتأطيره والمتاجرة به بشكل مباشر أو غير مباشر، وهكذا تدخل المرأة ـ الضحية الأولى في هذا المنزلَق ـ في دوامة تنحط فيها كرامتها وقيمتها، وتنحط فيها اهتماماتها وانشغالاتها، حيث تستهلك قدرًا كبيرًا من وقتها ومالها لتدبير شؤون جسدها ولباسها ومظهرها.
والحقيقة أن الذي أصبح يعوق المرأة عن رقيها وتحررها وعن دراستها وعملها ليس هو الحجاب، بل الانغماس في التبرج والتزين، والهواجس الاستعراضية، هذا هو الواقع الرديء الذي تنجرف إليه المرأة انجرافًا يخرج بها ـ أو يهبط بها ـ من التكريم إلى التجسيم هو الذي يقف اليوم في وجهه اللباس الإسلامي الذي يمنع المرأة من الانزلاق في المنحدر المذكور، ويمنعها من أن تصبح مفتونة أو فاتنة بجسمها وأعضائها أو بلباسها وحليها، أو بأصباغها وعطورها، أو بمعاملاتها وعلاقاتها.
إن اللباس الجدي الساتر المتعفف المعتدل المتواضع أصبح اليوم ضرورة لوقف انحدار المرأة، ومساعدتها على الرفع من قيمتها وهمتها، وعلى استعادة كرامتها وتوازنها، وتلك هي المصلحة حقًا.
المثال الثالث:
يرى بعض العلمانيين المتطرفين أن قطع يد السارق من العقوبات المتخلفة البدائية الهمجية التي لا تليق بهذا العصر المتحضر، بينما يختار فريق آخر أن القطع عقوبة مرتبطة بظروفها التاريخية، وأنه كان يحقق المصلحة في الظروف العربية البدوية حين نزل النص بسبب عدم وجود السجون، وعدم إمكانية وجودها في بيئة يعيش أهلها على الحل والترحال، أما اليوم فلم يبق له ما يسوغه بسبب تغير الحال والظروف، وتوفر السجون فلم يعد الحد (القطع) يحقق المصلحة المرجوّة.
وهم مجمعون على أن العقوبة فيها قسوة وعنف من منظورنا المعاصر، وأن هذه القسوة وهذا العنف إذا كان ملائمًا لذلك المجتمع البدوي القاسي، فإنه لا يليق بالمجتمعات المتحضرة اليوم.
والجواب أن العقوبات المنصوصة في الإسلام تتسم بقوة الزجر، وسهولة التنفيذ، فهي زاجرة إلى أقصى الحدود للجناة ولغيرهم، ومن حيث التنفيذ لا تكلف ميزانية ضخمة ولا جهازًا بشريًا واسعًا ولا وقتًا طويلًا كما هو الشأن في عقوبة السجن.
فإذا جئنا إلى حد السرقة وهو القطع وجدناه محققًا مقصوده ومصلحته بدرجة عالية، والحق أن مجرد الإعلان عن إقرار عقوبة القطع يؤدي إلى زجر عدد واسع من السراق، وإراحة المجتمع من سرقاتهم ومحاكمتهم وحراستهم وإطعامهم في سجونهم، ويتحقق هذا بدرجة أوسع وأبلغ حين يُشرَع فعلًا في تنفيذ العقوبة ولو على أفراد معدودين، فإقرار عقوبة القطع والشروع في العمل بها قد يخفض جرائم السرقة إلى العشر أو أقل، وهذا هو عين المصلحة وأقصى درجاتها في موضوعنا الذي هو صيانة الأموال وأصحاب الأموال من العدوان والخوف.
ومعنى هذا أننا سنكون أمام مصالح عظمى سيجنيها الأفراد والمجتمع والدولة ومؤسساتها وميزانيتها، مقابل أفراد قلائل سيتضررون بما كسبوه ظلمًا وعدوانًا. وإذا كان قطع بعض الأيدي يسبب تعطيلًا جزئيًا لأصحابها في عملهم وإنتاجهم، فإن
في سجن الألوف من السراق لشهور وسنوات تعطيلًا لهم، يضاف إلى ذلك أن السجن يشكل ـ في كثير من الحالات ـ مدرسة ممتازة لتعليم الإجرام، وربط العلاقات بين المجرمين، فهاتان مفسدتان لا بد من وضعهما في الميزان.
فهل إذا نظرنا إلى المسألة من مختلف وجوهها المصلحية يبقى مجال للظن بأن حد السرقة لم يعد ملائمًا للمصلحة ولظروفنا الحالية؟
والرحمة تختلف من فهم إلى فهم، والعلمانيون الذين يرفضون الحد بدعوى الرحمة يقدمون مصلحة الفرد على مصلحة المجتمع، وينظرون إلى حال شخص ويغفلون عن حال أمة.
إن الطبيب قد يلجأ إلى قطع بعض الأعضاء المريضة في الجسم حتى يسلم الجسم كله من المرض، والقطع فيه قسوة، ولكنه يُفعل رحمة بالجسم، والأب يضرب ولده تأديبًا وفي ضربه نوع قسوة، ولكنه يضربه رحمة به لكي يُقوِّم اعوجاجه، وفي الحياة أمثلة كثيرة لذلك كلها يستفاد منها أن الضرر الأشد والأعم يزال بالضرر الأخف والأخص، ويُختار دائمًا أهون الشرين، ومثل ذلك حد السرقة يتضرر الفرد ـ بما جنت يداه ـ رحمة بالمجموع.
ولكن الإشكال ليس في انعدام الرحمة وإنما في أمر آخر وهو أن هذه العقوبة وما شابهها من العقوبات البدنية المعمول بها في الشريعة الإسلامية ليست مُعتمَدة لدى الدول الغربية المتقدمة، بل أصبحت في نظر أهلها عقوبات مستهجنة ومستنكرة، إلى درجة أصبح معها عسيرًا على كثيرٍ من المسلمين ـ ومن مثقفيهم خاصة ـ استساغة هذه العقوبات والنظر إليها بتجرد وعقلانية.
ترى لو كانت الدول الأوربية أو بعضها أخذت بعقوبة قطع يد السارق هل كان السياسيون والمفكرون والقانونيون في العالم الإسلامي سيجدون غضاضة أو حرجًا في تبني هذا الحكم وتفهم مصالحه وفوائده؟
إن الضغط الجاثم على النفوس والعقول له دور حاسم في تكييف النظرة وتوجيهها إلى كثير من القضايا التي استقرت عند العالم الغربي على نحو مخالف لما في شريعتنا.
بقي أن نشير إلى أن أستاذنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ذكر للمصلحة خمسة ضوابط:
الأول: اندراجها ضمن مقاصد الشرع.
الثاني: عدم معارضتها للكتاب.
الثالث: عدم معارضتها للسنة.
الرابع: عدم معارضتها للقياس.
الخامس: عدم تفويتها مصلحة أهم منها.
وكل واحد من هذه الضوابط يحتاج إلى شرح وتفصيل ليس هنا محله (1).
اقرأ (محمد) اقرأ (محمد) اقرأ (محمد)
اقرأ (محمد) اقرأ (محمد) اقرأ (محمد)
اقرأ (محمد) اقرأ (محمد) اقرأ (محمد)
اقرأ (محمد) اقرأ (محمد) اقرأ (محمد)
اقرأ (محمد) اقرأ (محمد) اقرأ (محمد)
اقرأ (محمد) اقرأ (محمد) اقرأ (محمد)
اقرأ (محمد) اقرأ (محمد) اقرأ (محمد)
(1) انظر: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، المصلحة في الشريعة الإسلامية للدكتور مصطفى زيد.