الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو بكلامه هذا يعترض على الله وكتابه، وقد رد عليه عبد الوهاب المالكي رحمه الله فقال:
قُل للمعري عارٌ أيُّما عارِ
جهْلُ الفتَى وهو عن ثوبِ التُقَى عاري
لا تَقْدَحَنَّ بنودَ الشرعِ عنْ شُبَهٍ
شعائرُ الدينِ لم تُقْدَح بأشعارِ
يَدٌ بخمسِ مِئِينٍ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ
ما بالُهَا قُطعَتْ في رُبْعِ دينارِ
عِزُّ الأمانةِ أغْلاها، وأرخَصَها
ذُلُّ الخيانةِ فافْهَمْ حكمةَ البارِي
الشبهة الثانية عشرة:
المقاصد والمصالح وكلمات حق يراد بها باطل:
يتداول العلمانيون في خطابهم مفاهيم متعددة مثل: المقاصد والمصالح والمغزى والجوهر والروح والضمير الحديث والضمير الإسلامي والوجدان الحديث والمنهج والرحمة.
وهي كلمات حق يراد بها باطل لأن بينها مفاهيم إسلامية يراد بها استئناس الضمير الإسلامي، مثلها مثل الكلمات
التبجيلية التي يتداولها العلمانيون أثناء الحديث عن القرآن الكريم تمهيدًا لإقصائه عن الحياة والتشريع وذلك كقولهم:
«القرآن كتاب هداية وإقحامه في كل أمورنا الحياتية ليست من تخصصه» . «والخطاب القرآني خطاب تثقيفي تربوي من أوله إلى آخره» . «القرآن كتاب هداية وبشرى ورحمة، وليس كتاب قانون تعليمي» . «القرآن ليس كتاب علم، وإنما خطاب ديني روحي أخلاقي كوني» . «القرآن كتاب دين وإيمان وليس كتاب تقنين وتشريع» .
وعلى هذا السبيل تُستخدم المقاصد والمصالح فيقولون بتقديم المصلحة على النص في حال تعارضهما، وأنه يتصور إمكانية التعارض بين النص والمصلحة فيقترحون تقديم المصلحة المقطوعة أو المتوهمة على النص القطعي إن تعذر التوفيق، لأنهم يعتبرون المصلحة أصلًا مستقرًا يحكم على الأصول الأخرى برمتها بما فيها الكتاب والسنة.
وخلاصة رأيهم أنهم يقولون بنسخ النصوص وتخصيصها بالمصلحة، لأن المصلحة عندهم أقوى وأخص أدلة الشرع؛ فالمصلحة ـ عندهم ـ أساس التشريع والنص تابع لها لأن النص
ثابت والمصلحة متغيرة، وهذا ـ عندهم ـ هو عين الصواب وأقرب الكلام من حقيقة الأحكام القرآنية ومن روح الإسلام.
ومن هنا نتبين ـ بنظر الخطاب العلماني ـ نسبية التشريع المنزل تبعًا للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية المختلفة، فيزعمون أن عقوبات مثل القطع والرجم كانت سارية المفعول في ذلك العصر التاريخي بسبب ملاءمتها للأحوال الاجتماعية آنذاك، حيث المجتمعات بدوية بدائية متنقلة فلا توجد سجون ولا جدران وإنما خيام، فكيف يسجن السارق؟ وكيف تحفظ الأموال؟ لا بد من عقوبة تميز السارق وتجعل الناس يحذرون منه أما اليوم فقد تغير الحال، مع أن كلامهم هذا فيه من التليس والكذب ما فيه؛ فمثلًا لم تكن كل المجتمعات بدوية متنقلة.
وزعم العَلمانيون أن المنهج هو الشريعة، والشريعة هي المنهج، فقالوا إن معنى الشريعة في القرآن هو المنهج والمدخل والسبيل، وليست الشريعة القواعد والأحكام التفصيلة، ذلك لأن المنهج قادر على الحركة الدائمة مع الواقع أما الأحكام التفصيلية فهي نسبية مرتبطة بظروفها.
ولذلك ادعى العلمانيون أن الكثيرين يخطؤون عندما يظنون أن تطبيق الشريعة يعني تطبيق أحكامها وتفاصيلها، وقالوا إن الحق أنه تطبيق روحها، وروحها هو المنهج الذي يتقدم باستمرار، أما تفاصيل المعاملات وغيرها فليست هي الشريعة، وإنما هي أحكام الشريعة.
وزعموا أن تطبيق الشريعة يعني إعمال الرحمة في كل شيء؛ لأن القرآن يقوم على منهج الرحمة أو التجديد والمعاصرة، ومن هنا ما دامت الرحمة هي المنهج، والمنهج هو الرحمة، فإن القانون المصري ـ بزعمهم ـ بكل فروعه المدنية والتجارية الآن موافق لشريعة الإيمان وروح القرآن.
ونظام الربا في الإسلام ـ بزعمهم ـ يؤكد ذلك فقد تغير الحال ولم يعد الأمر كما كان استغلالًا لحاجة المدين يؤدي إلى إعساره وإفلاسه، ولم يعد ثمة نظام للربا وإنما نظام لحساب الفوائد على الديون في مجتمع يقوم فيه المشرع بدور الرقابة على المعاملات، ويحدد الفائدة بحيث لا تغني الدائن ولا تستغل المدين.
الجواب:
التعميم، التلفيق، المغالطة، المجازفة والارتجال ممارسات تغلب على الخطاب العلماني، ولا يكف عن تعاطيها في أكثر الأحوال.
إن العقل تابع للنقل بعكس ما يريد العلمانيون، أو بعكس ما يتجاهلون، قال الإمام الشاطبي: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع، فالعقل غير مستقلٍ ألبتة، ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق
…
ولا أصل مسلم إلا من طريق الوحي؛ لأن العقل إذا لم يكن متبعًا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد فكأن ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى فهو إذًا اتباع للهوى بعينه في تشريع الاحكام» (1).
(1) انظر: الموافقات (1/ 36، 78)،، الاعتصام (1/ 45، 50، 52، 53).
ولكن هل المقاصد هي بهذا الشكل العبثي الذي يطرحه الخطاب العلماني؟ هل هي مرنة بغير حدود وبغير ضوابط؟ وما هي المعايير التي تحدد المقاصد؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟ وما المرجعية في ذلك؟
إن الفارق الأساسي بين العلماء المسلمين وأقطاب الخطاب العلماني في البحث عن المقاصد أن الأولين يبحثون عن مقاصد الشارع ـ ومراده من النص، أما الآخرون فيبحثون ـ فيما يبدو ـ عن مقاصد أنفسهم، ومرادات عقولهم، ومطالب أيديولوجياتهم، هذا فارق أساسي.
إن المقاصد ليست كلمة تقال أو شعارًا يرفع وإنما هي مبدأ أصولي له ضوابطه ومعاييره التي تحكمه حتى لا تصبح ذريعة يُتوسَّل بها إلى إلغائه وتمييعه، فإن تحديد مقاصد الشارع لا ينبني على ظنون وتخمينات غير مطردة، إن الإمام الشاطبي يحدد هذه الضوابط ومن أبرز ها:
1 -
الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل في أحكام العادات الالتفات إلى المعاني.
2 -
المقاصد العامة للتعبد هي: الانقياد لأوامر الله عز وجل وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه.
3 -
المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو: إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد الله اضطرارًا.
4 -
وُضعت الشريعة على أن تكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع فيها، وقد وسع الله على العباد في شهواتهم وتنعماتهم بما يكفيهم ولا يُفضي إلى مفسدة ولا إلى مشقة.
5 -
مشقة مخالفة الهوى ليست من المشاق المعتبرة ولا رخصة فيها ألبتة.
6 -
العزيمة أصل والرخصة استثناء، ولهذا فالعزيمة مقصودة للشارع قصدًا أصليًا، أما الرخصة فمقصودة قصدًا تبعيًا.
7 -
لم يقصد الشارع إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه ولا نزاع في أن الشارع كلف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكنه لا يقصد نفس المشقة، بل يقصد ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف.
8 -
إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد بحيث يحصل للمكلف فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة.
9 -
من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساعٍ في ضد تلك المصلحة (1).
تلك بعض القوانين والقواعد التي تضبط المقاصد ولكن كيف يتم الوصول إلى المقاصد أو معرفتها؟ هذه أيضًا بعض القوانين لذلك:
1 -
الاحتكام إلى لغة النص وقوانين خطابه، وأصول المواضعة التي تعاهد عليها الذين نزل هذا النص بلغتهم وهم العرب.
2 -
أن يوافقك القرآن كله على تفسير بعضه فإن القرآن كله كالآية الواحدة فلا يحكم ببعضه دون بعض.
3 -
الأمر بالفعل يستلزم قصد الشارع إلى وقوع ذلك الفعل، والنهي يستلزم القصد إلى منع وقوع المنهي عنه.
(1) انظر: الموافقات 1/ 266 - 268، 299، 300، 310، 2/ 427، 429، 455، 457، 469، 585، 586، الاعتصام 2/ 135.
4 -
الدلالة الصريحة الواضحة التي لا تحتمل وجهًا آخر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} (البقرة: 183). وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) (البقرة: 205) وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188).
5 -
السنة المتواترة ويظهر ذلك جليًا في حالتين:
- التواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحصل لهم بذلك علم بتشريع ذلك وإليه يرجع قسم المعلوم من الدين بالضرورة.
- تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرار مشاهدة أعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
6 -
عِلَل الأحكام تدل على قصد الشارع فيها فحيثما وجدت اتُّبعت.
7 -
كل أصلٍ ملائم لتصرفات الشارع، وكان معناه مأخوذًا من مجموعة أدلة حتى بلغ درجة القطع يبنى عليه ويُرجع إليه ولو لم يشهد له نص معين.
8 -
إذا سكت الشارع عن أمر مع وجود داعي الكلام فيه دل سكوته على قصده إلى الوقوف عند حَدّ ما شرع.
9 -
الاستقراء من خلال مجموع أدلة الشريعة كتابًا وسنة، وهو يفيد القطع؛ لأن كليات الشريعة لا تستند إلى دليل واحد بل إلى مجموعة أدلة تواردت على معنى واحد فأعطته صفة القطع، وتخلُّفُ بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليًا (1).
وهذا طريق مهم لمعرفة المقصد ولضبطه أيضًا، فإن الكتاب يجب أن يشهد لبعضه، ويجب أن يوافقك القرآن كله على بعضه، وبعضه على كله.
وفي ذلك أبلغ رد على الخطاب العلماني الذي يريد منا أن نتخلى عن جزئيات الشريعة وتفاصيلها ودقائقها حفاظًا على روحها أو مغزاها أو مقاصدها أو جوهرها كما يقولون فإن الأجزاء مرتبطة بالكل والكل يشهد للأجزاء.
(1) انظر: البرهان للزركشي (2/ 17)، الموافقات 1/ 29، 30، 37، 2/ 322، 362، 364،667، 668،3/ 111، 112، 114، 681، 683)، الاعتصام (1/ 361).
ومن هنا فإن الخطاب العلماني حين يتجاهل هذه القوانين والضوابط التي وضعها أهل المقاصد فإنه ليس من حقه أن يتكلم باسم المقاصد، لأن هذا لون من الهزلية أو المراوغة، إذ أن الذي ينضوي تحت شعار ليس من اختراعه عليه أن يلتزم بقوانين ذلك الشعار حتى يُعد من أهله، كما أن من انضم في معمعة من المعامع إلى أهل راية عليه أن يعرف إشاراتهم ومواضعاتهم وقوانينهم ونظامهم حتى لا يقتلونه.
لو راعى العلمانيون نظام المقاصد وقواعدها وقوانينها لما خرجوا بارتجالات عبثية ينسبونها إلى دين الله عز وجل وكمثال على ذلك: لو أن نصر حامد أبو زيد تعلم ضوابط المقاصد لما قال بتساوي المرأة مع الرجل في الميراث في هذا العصر انطلاقًا من المغزى فالمرأة على حد قوله كانت لا تعطى شيئًا في الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأعطاها نصف الذكر وهو ما يفهم من ظاهر الآيات وهذا هو المعنى، أما المغزى فهو تعليم لنا وإشارة أن نعطيها في المستقبل مثل حظ الذكر (1).
(1) انظر: نقد الخطاب الديني للهالك نصر حامد أبو زيد، ص 223، 225.
لو قرأ ما قاله الشاطبي من «أن سكوت الشارع عن أمر مع وجود داعي الكلام يدل على قصده إلى الوقوف عند حد ما شرع» (1) لما قال ما قال، ولَوَقَف عند حدود الله ـ؛ لأن الشارع لم يترك أي قرينة أو إشارة أو دلالة تفيد المغزى الذي يزعمه.
ولو علم المدعو محمد شحرور أن من مقاصد الشارع الأصلية حفظ الأعراض، وصيانة الأبضاع، ومن مقاصده التبعية التي تخدم تلك تَصوُّن المرأة وتسترها لما قال بأنه يجوز للمرأة أن تخرج عارية إلا من شريط يستر سوأتها (2).
وكثير مثل هذا لدى إخوانهم.
ولذلك فإن توظيف المقاصد دون ضوابط أو معايير ما هو إلا وسيلة لهدم الشريعة، وإقصاء القرآن الكريم عن القيادة والمرجعية، وتبرير للحلول التي تمليها المناهج الحديثة، وتمرير للقيم التي تتطلبها المعقولية الحديثة.
(1) انظر: الموافقات للشاطبي (2/ 681 – 682).
(2)
انظر: الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، للمدعو محمد شحرور، ص 606، 607.
المصالح:
الكل متفق على أن المصلحة هي مناط التشريع، ولكن المشكلة أي مصلحة نعني؟ ومتى نعد الشيء مصلحة، ومتى نعده مفسدة؟ ومتى نعده نفعًا، ومتى نعده ضررًا؟ ومتى نعده مصلحة راجحة، ومتى نعده مصلحة مرجوحة، ومتى نعده مصلحة حقيقية معتبرة، ومتى نعده مصلحة وهمية متروكة.
وما هو المعيار الذي يحكم المصالح؟ لأن ما يكون مصلحة لشخص قد يكون ضررًا لشخص آخر، وما يكون مصلحة لشخص في زمن قد يكون ضررًا له في زمن آخر؟
ثم المصالح منها ما هو ضروري ومنها ما هو تحسيني ومنها ما هو حاجي، وقد تتعارض أو تتداخل وقد يدق الفرق فتختلف التقديرات، فلا بد من وضع هذه الاعتبارات جميعًا في مراعاة المصلحة، حتى يمكن أن نحقق هذه المصلحة.
ثم هل النص معيار المصلحة والحاكم عليها؟ أم المصلحة هي معيار النص والحاكمة عليه؟ وهل تتعارض المصلحة مع النص؟ وإذا تعارضت فما الحل؟