الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما أن الإسلام لا يُكْرِهُ أحدًا على الدخول فيه فهذا حق، لكن هذا لا يعني أبدًا حيادية الدولة الإسلامية تجاه الإسلام، فإن من أهم واجبات ولي الأمر المسلم التي نص عليها أهل العلم باتفاق هي إقامة دين الله تعالى وتحكيم الشريعة، وسياسة الدنيا بالدين.
الشبهة التاسعة:
العقوبات الشرعية قديمة وجامدة قد عفّى عليها الزمان
، وتجاوزتها الحضارة، ولم تعد ملائمة لهذا العصر، عصر التقدم والمدنية، والتحضر التقني والصناعي. فالأخذ بها تقهقر الإنسانية الراقية، ورجعة بها إلى عهود الظلام الدامس، والقرون الوسطى. ولئن كانت هذه العقوبات صالحة للبيئة البدوية التي نزل فيها القرآن، ومناسبة لأولئك الحفاة الجفاة
من الأعراب قبل ألف وأربعمائة عام؛ فإنها لا تصلح للعالم المتحضر الحديث، ولا تناسب المتحضرين المتمدينين في القرن العشرين، وكيف يليق بهم أن يخضعوا لقانون نشأ بين جبال مكة والمدينة، وجلاميد الصحراء، وأحراش الجزيرة.
الجواب:
هذا قول متهافت ساقط من وجوه:
1 -
أن العاقل المنصف لا يزن الأحكام والتشريعات بالزمان الذي صدرت فيه أو نُقلت منه، ولا بالبقعة التي جاءت منها أو كانت فيها، ولكن الميزان الذي تُقَوّم به هو مدى صلاحيتها، وتحقيقها للغاية المبتغاة منها.
فالعاقل نصير الحق، وناشد الحكمة أنَّى وجدها، ومن أي شخص جاء بها، وفي أي زمان أو مكان وقعت فيه. وهو عدو الباطل، بصرف النظر عن مصدره وعن زمانه ومكانه، ومن دعا إليه وعمل به.
وعليه؛ فليس كل قديم مردودًا، ولا كل جديد مقبولًا، ولا كل ما نشأ في البادية فاسدًا، ولا كل ما نشأ في الحضر صالحًا.
2 -
أن مصدر هذا التشريع ليس بقعة من بقاع الأرض، ولا اجتهادًا بشريًا قاصرًا، وإنما هو شريعة الله التي أنزلها هدى ورحمة للعالمين.
فهو لم ينبع من أرض عربية أو أعجمية، ولا اخترعته أدمغة بشرية، وإنما هو حكم الله الذي أوحى به إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبلغه للناس، وليحملهم تبعة تطبيقه والعمل به.
3 -
أن تعلق هؤلاء بالجديد ونبذهم للقديم؛ ليس مبنيًا على منطق عقلي سليم، وإنما هو استجابة لوهم من الأوهام النفسية التي تتعلق بالجديد أيًا كان نوعه، ظنًا منها بأنه لا يزال يحتفظ بذخره ومكنون خيراته، وتعاف القديم مهما كان نوعه
أيضًا لتبرمها به وتوهمها بأن الزمن قد استحلب خيراته، وقضى على فوائده، وأن العقل البشري لا بد أن يكون قد تجاوزه إلى ما هو أجدى وأنفع.
ولا يجوز لعاقل يحترم عقله أن يستجيب لهذه الإيحاءات النفسية الخاطئة، ويلغي ما يقتضيه العقل السليم، والمنطق الصحيح.
ولئن كانت النفس البشرية تخيل لصاحبها أن القديم قد زال نفعه، وجنيت ثماره، فإن العقل السديد يقرر أن قيمة كل قديم وجديد بجدواه وآثاره، وتحقيقه للثمرة المرجوة منه. ورُبّ جديد كان مبعث شقاء ودمار على الإنسان، ورب قديم
شهد له العقلاء، والتاريخ الغابر، والواقع المعاصر، على أنه كان ولا يزال مصدر خير وسعادة لكل من ظفر به.
ولقد علم كل إنسان أن مقومات الحياة في هذه الدنيا، من شمس وهواء، وأرض وماء، وزرع وضرع؛ لم يُخْلِقْها تعاقب الزمان، وكَرُّ الليالي والأيام!
فهل قاطع أصحاب النفوس التي تشمئز من القديم هذه المقومات الأساسية لقِدَمِها؟ وهل تحولوا ساعة عن التعامل معها؟
والعقوبات المقدرة في الشريعة؛ إنما هي عقوبات على جرائم ثابتة لا يتبدل وجه المفسدة فيها مهما اختلفت الأزمان والأماكن، وتطورت الحياة والنظم. ولهذا فإنها لا تزال صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان.
4 -
أن هذه الشبهة جاءت من قياس العقوبات الشرعية على العقوبات الوضعية التي تتطور مع الزمن، ويحصل فيها التغيير والتبديل بين الحين والحين، تلافيًا لما فيها من الأخطاء، وتحقيقًا لما هو أجدى وأكمل.
وما دامت القوانين تُلغى أو تُعدل؛ فلم لا نفعل مثل ذلك في العقوبات الشرعية؟
وهذه نظرة خاطئة إلى الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطأ فيها قياس شريعة الله ـ العادلة المحكمة، على الاجتهادات البشرية القاصرة التي تتأثر بما حولها من مؤثرات شخصية أو اجتماعية أو بيئية، أو غيرها.
ولو سلمنا جدلًا: أنه ينبغي مسايرة التشريع للعصر؛ فما مقياس ذلك؟
إنْ كان يرجع إلى انتشار الفساد، وكثرة الإجرام، وتفشي الظلم والعدوان؛ فإن العقوبات في هذا الزمن يجب أن تزيد قسوة وشدة.
وما كان يصلح لأولئك الأعراب البسطاء ذوي الإمكانات المحدودة؛ فإنه لا يصلح لمجرمي العصر، حيث
الإجرام المنظم، وتوظيف التقنية الحديثة لخدمة محترفي الإجرام، والساعين في الأرض بالفساد والظلم.
وإنْ كان المقياس هو التقدم العلمي والتقني، والتطور الصناعي والمدني؛ فإن الذي سنّ هذه العقوبات الشرعية هو الذي منح البشرية ما وصلت إليه من العلم والتقدم، فلا يمكن