الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الأولى: أنتم أعلم بأمر دنياكم:
عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» . قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: «مَا لِنَخْلِكُمْ» . قَالُوا: «قُلْتَ كَذَا وَكَذَا» ، قَالَ:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» . (رواه مسلم).
قصة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ في المدينة على قوم يؤبرون النخل ـ أي يلقحونه ـ فقال: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» ، فامتنع القوم عن تلقيح النخل في ذلك العام ظنًا منهم أن ذلك من أمر الوحي، فلم ينتج النخل إلا شيصًا (أي بلحًا غير ملقح، وهو مُرٌّ لا يُؤْكل) فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الصورة سأل عما حدث له فقَالُوا:» قُلْتَ كَذَا وَكَذَا»، فقَالَ:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» .
وفي صحيح مسلم أيضًا عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ» . فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا» .
قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عز وجل» .
الجواب:
قصة الحديث واضحة الدلالة فيما تركه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للناس من أمور يتصرفون فيها بمعرفتهم، لأنهم أعلم بها وأخبر بدقائقها، إنها المسائل العلمية الفنية التطبيقية التي تتناولها خبرة الناس في الأرض، منقطعة عن كل عقيدة أو تنظيم سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، وهي في الوقت ذاته تصلح للتطبيق مع كل عقيدة وكل تنظيم، لأنها ليست جزءًا من أي عقيدة أو أي تنظيم.
بل إنها حقائق علمية مجردة عن وجود الإنسان ذاته بكل عقائده وكل تنظيماته. كحقيقة اتحاد الأكسجين والهيدروجين لتكوين الماء، وحقيقة انصهار الحديد في درجة كذا مئوية. هي حقائق ليسن ناشئة عن وجود الإنسان. وإنما هي سابقة له، موجودة منذ وجدت هذه العناصر في الكون. وقصارى تدخل
الإنسان فيها أن يكتشفها ويعرفها، ثم يستغلها لصالحه، ويطبقها في حياته العملية.
وقصة النخل لا تخرج عن كونها حقيقة علمية اكتشفها الإنسان فطبقها في حياته العملية: حقيقة التلقيح والإخصاب في عالم النبات. وهي عملية لا يتم بدونها تكون الثمرة ونضجها على النحو المعروف.
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقطع فيها برأي ـ كما هو ظاهر من الحديث ـ وإنما قال: «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا» ولعل الشك الذي ساوره صلى الله عليه وآله وسلم قد جاء من اعتقاده بأن الله لا بد أن يكون قد أودع فطرة الحياة ما تتم به عملياتها البيولوجية دون حاجة إلى تدخل الإنسان.
هي إذن المسائل التكنيكية البحتة بتعبيرنا العلمي الحديث. المسائل التي يتحصل عليها المؤمنون والكفار سواء. ولا تؤثر بذاتها في عقيدة القلب أو اتجاه الشعور.
ومع ذلك فإن فريقًا من الناس يريدون أن يفهموا منها غير ما قصده الرسول وحدده. يريدون أن يبسطوها حتى تشمل الحياة الدنيا كلها، بتشريعاتها وتطبيقاتها، باقتصادياتها واجتماعياتها،
بسياساتها وتنظيماتها. فلا يدَعُون لدين الله ولرسول الله مهمة غير «تنظيف القلب البشري وهدايته» بالمعنى الروحي الخالص، الذي لا شأن له بواقع الحياة اليومي، ولا شأن له بتنظيم المجتمع وسياسة الأمور فيه. ثم يسندون هذا اللون من التفكير للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويجعلونه ـ هو صلى الله عليه وآله وسلم ـ شاهدًا عليه!!
ولكن قليلًا من النظر كان جديرًا أن يردهم إلى التفكير الصائب والتقدير الصحيح، ويرفع عنهم هذه الذلة الفكرية التي يعانونها إزاء الغرب، فتلوي أفكارهم ـ بوعي أو بغير وعي ـ وتفسد مشاعرهم فينحرفون عن السبيل.
لو كان الإسلام رسالة روحية بالمعنى المفهوم لهذا اللفظ ـ المعنى الوجداني الخالص الذي لا شأن له بواقع الحياة اليومي ـ ففيم إذن كان هذا الحشد الهائل من التشريعات والتوجيهات في القرآن والحديث؟
وفيم إذن يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، ثم يعقب في نفس الآية بالتهديد للمخالفين:{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
فيم هذا كله إذا كانت المسألة هي «تنظيف القلب» ليس غير؟!
إن تنظيف القلب البشري لمهمة ضخمة دون شك .. مهمة تحتاج إلى رسول!
وإنها ـ حين تنجح ـ لهي الضمان الأول لسلامة الحياة كلها واستقامتها ونظافتها. فإن أخفقت .. فلا ضمان!
والإسلام يوجه لهذا القلب أكبر عناية يمكن أن يوجهها إليه نظام أو دين. فهو يربطه دائما بالله، ويوجهه دائمًا لخشيته وتقواه والعمل على رضاه. ثم هو يتتبع هذا القلب في كل نزعة من نزعاته، وكل ميل من ميوله، في الأعمال الظاهرة والمشاعر المستترة، في السر الذي يخفى على الناس ولا يخفى على الله، بل فيما هو أخفى من السر، من المشاعر الساربة في حنايا الضمير.
يتتبعه في كل ذلك، عملًا عملًا وخاطرًا خاطرًا وفكرة فكرة، فينظفها بخشية الله، والحياء من رقابته الدائمة التي لايغيب عنها شيء في الأرض ولا في السماء، ويوجهه إلى صفحة الكون الواسعة، وما فيها من آيات الله ـ، ليمسح عنه الغلظة التي تحجر المشاعر، والغبش الذي يحجب عنه النور، ويطلقه من
إسار الشهوات والضرورات التي تثقله وتشده إلى الأرض، لينطلق خفيفا صافيا شفيفا يسبح الله ويفرح بهداه.
نعم، يبذل الإسلام ذلك الجهد الضخم كله «لتنظيف القلب» ، ومن صميم مهمة الدين إذن في تنظيف القلب كانت هذه التشريعات وهذه التوجيهات التي تتناول الأسرة والمجتمع، وسياسة الحكم، وسياسة المال.
يستوي في ذلك التشريع الاقتصادي، والتشريع السياسي، والتشريع الجنائي، والتشريع المدني، والتشريع الدولي، والتوجيهات العديدة المتعلقة بكل هذه الشئون.
ولم يكن الإسلام ـ وهو جاد في تناول الإنسان والحياة البشرية بالتنظيم والتنظيف ـ ليغفل هذه الشئون الواقعية كلها، وينصرف إلى تهذيب الضمير في عالم المثل والأحلام.
ولم يكن رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم ليتخلى عن مهمته الهائلة في ذلك الشأن، وينفض يديه منها، ويقول للناس:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» ، أي تصرفوا أنتم في تشريعاتكم وتنظيماتكم، في سياسة المال وفي سياسة الحكم، في علاقات المجتمع، وفي القوانين التي تنظم الحياة.