الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإبائهم أَيْضا من قبُول أَيْمَان الْيَهُود، فكاد الحكم أَن يكون مطولا، وَلَكِن أَرَادَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يوادع الْيَهُود بالغرم عَنْهُم لِأَن الدَّلِيل كَانَ مُتَوَجها إِلَى الْيَهُود فِي الْقَتْل لعبد الله، وَأَرَادَ أَن يذهب مَا بنفوس أوليائه من الْعَدَاوَة للْيَهُود بِأَن غرم لَهُم الدِّيَة، إِذْ كَانَ الْعرف جَارِيا أَن من أَخذ دِيَة قتيله فقد انتصف. وَقَالَ الْوَلِيد بن مُسلم: سَأَلت الْأَوْزَاعِيّ عَن موادعة إِمَام الْمُسلمين أهل الْحَرْب على فديَة أَو هَدِيَّة يُؤَدِّيهَا الْمُسلمُونَ إِلَيْهِم، فَقَالَ: لَا يَصح ذَلِك إلَاّ بضرورة وشغل من الْمُسلمين عَن حربهم من قتال عدوهم أَو فتْنَة شملت الْمُسلمين، فَإِذا كَانَ ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ. قَالَ الْوَلِيد: وَذكرت ذَلِك لسَعِيد بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ: قد صَالحهمْ مُعَاوِيَة أَيَّام صفّين، وصالحهم عبد الْملك بن مرواه لشغله بِقِتَال ابْن الزبير، يُؤَدِّي عبد الْملك إِلَى طاغية ملك الرّوم فِي كل يَوْم ألف دِينَار، وَإِلَى تراجمة الرّوم وأنباط الشَّام فِي كل جُمُعَة ألف دِينَار. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يعطيهم الْمُسلمُونَ شَيْئا بِحَال إلَاّ أَن يخَافُوا أَن يصطلحوا لِكَثْرَة الْعدَد، لِأَنَّهُ من مَعَاني الضرورات، أَو يُرْسل مُسلم فَلَا يخلى إلَاّ بفدية فَلَا بَأْس بِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فدى رجلا برجلَيْن، وَقَالَ ابْن بطال: وَلم أجد لمَالِك وَأَصْحَابه وَلَا الْكُوفِيّين نصا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. قلت: مَذْهَب أَصْحَابنَا أَن للْإِمَام أَن يصالحهم بِمَال يَأْخُذهُ مِنْهُم أَو يَدْفَعهُ إِلَيْهِم إِذا كَانَ الصُّلْح خيرا فِي حق الْمُسلمين، لقَوْله تَعَالَى:{وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا} (الْأَنْفَال: 16) . وَالْمَال الَّذِي يُؤْخَذ مِنْهُم بِالصُّلْحِ يصرف مصارف الْجِزْيَة.
31 -
(بابُ فَضْلِ الوَفاءِ بالْعَهْدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْوَفَاء بالعهد أَي: الْمِيثَاق.
4713 -
حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنُ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنُ عُبَيْدِ الله بنَ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ أخْبَرَهُ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنَّ أبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ أخبَرَهُ أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ فِي ركْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كانُوا تِجاراً بالشَّامِ فِي المُدَّةِ الَّتِي مادَّ فِيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْغدر عِنْد كل أمة قَبِيح مَذْمُوم، وَلَيْسَ هُوَ من صِفَات الرُّسُل، وَأَن هِرقل أَرَادَ أَن يمْتَحن بذلك، أَعنِي بإرساله إِلَى أبي سُفْيَان صدق رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم لِأَن من غدر وَلم يفِ بعهده لَا يجوز أَن يكون نَبيا، وَالرسل أخْبرت عَن الله تَعَالَى فضل من وفى بعهده.
والْحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث أبي سُفْيَان قد مر فِي أَوَائِل الْكتاب. قَوْله: (ماد) أَي: الْمدَّة الَّتِي هادن رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، وعينها للصلح بَينهمَا، وَيُقَال: ماد الغريمان: إِذا اتفقَا على أجل الدّين.
41 -
(بابٌ هَلْ يُعْفَى عنِ الذِّمِّيِّ إذَا سَحَرَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يُعْفَى
…
إِلَى آخِره، وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام يُوضحهُ حَدِيث الْبَاب.
وَقَالَ ابنُ وَهْبٍ أخْبَرَنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهابٍ سُئِلَ أعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أهْلِ العَهْدِ قَتْلٌ قَالَ بلَغَنا أنَّ رسوُلَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ وكانَ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بِلَفْظ الذِّمِّيّ، وَالسُّؤَال بِأَهْل الْعَهْد، وَالْجَوَاب بِأَهْل الْكتاب؟ قلت: المُرَاد بِأَهْل الْكتاب: الَّذِي لَهُم عهد، وإلَاّ فَهُوَ حَرْبِيّ وَاجِب الْقَتْل، والعهد والذمة بِمَعْنى. انْتهى. قلت: هَذَا تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة، وَكَانَ قَوْله: والعهد والذمة بِمَعْنى، فِيهِ كِفَايَة، وَفِيه إِيضَاح لجواب التَّرْجَمَة. وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي. وَهَذَا التَّعْلِيق مَوْصُول فِي جَامع ابْن وهب.
قَوْله: (سُئِلَ)، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله:(أَعلَى؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (ذَلِك)، أَي: السحر، وَحكم هَذَا الْبَاب أَنه لَا يقتل سَاحر أهل الْكتاب عِنْد مَالك كَقَوْل ابْن شهَاب، وَلَكِن يُعَاقب إِلَى أَن يقر بسحره فَيقْتل أَو يحدث حَدثا فَيُؤْخَذ مِنْهُ بِقدر ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ
وروى ابْن وهب وَابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَيْضا: أَنه لَا يقتل بسحره ضَرَرا على مُسلم إِن لم يعاهدوا عَلَيْهِ، فَإِذا فعلوا ذَلِك فقد نقضوا الْعَهْد فَحل بذلك قَتلهمْ، وعَلى هَذَا القَوْل، لَا حجَّة لِابْنِ شهَاب فِي أَنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل الْيَهُودِيّ الَّذِي سحره لوجوه الأول: أَنه قد ثَبت عَنهُ أَنه لَا ينْتَقم لنَفسِهِ وَلَو عاقبه لَكَانَ حَاكما لنَفسِهِ. الثَّانِي: أَن ذَلِك السحر لم يضرّهُ لِأَنَّهُ لم يتَغَيَّر عَلَيْهِ شَيْء من الْوَحْي وَلَا دخلت عَلَيْهِ دَاخِلَة فِي الشَّرِيعَة، وَإِنَّمَا اعتراه شَيْء من التخيل وَالوهم، ثمَّ لم يتْركهُ الله على ذَلِك، بل تَدَارُكه بعصمته وأعلمه مَوضِع السحر وأعلمه استخراجه وحله عَنهُ، كَمَا دفع الله عَنهُ السم بِكَلَام الذِّرَاع. الثَّالِث: أَن هَذَا السحر إِنَّمَا تسلط على ظَاهره لَا على قلبه وعقله واعتقاده، وَالسحر مرض من الْأَمْرَاض وعارض من الْعِلَل يجوز عَلَيْهِ كأنواع الْأَمْرَاض، فَلَا يقْدَح فِي نبوته وَيجوز طروه عَلَيْهِ فِي أَمر دُنْيَاهُ، وَهُوَ فِيهَا عرضة للآفات كَسَائِر الْبشر.
5713 -
حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا هِشامٌ قَالَ حدَّثني أبي عَن عائِشَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حَتَّى كانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ صنَعَ شَيْئاً ولَمْ يَصْنَعْهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عليه وسلم سحره يَهُودِيّ وَعَفا عَنهُ، كَمَا ذكرنَا عَن قريب. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي التَّرْجَمَة مَا ذكرته؟ قلت: تَتِمَّة الْقِصَّة تدل عَلَيْهِ. وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير يروي عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: (سحر) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَاسم الْيَهُودِيّ الَّذِي سحره لبيد بن أعصم، ذكر فِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) عَن ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، كَانَ غُلَام من الْيَهُود يخْدم رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم فدنت إِلَيْهِ الْيَهُود فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخذ مشاطة رَأس النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعدة أَسْنَان من مشطه فَأَعْطَاهَا الْيَهُود فسحروه فِيهَا، وَكَانَ الَّذِي تولى ذَلِك رجل مِنْهُم، يُقَال لَهُ: لبيد بن أعصم، ثمَّ دسها فِي بِئْر لبني زُرَيْق يُقَال لَهَا: ذروان، وَيُقَال: أروان، فَمَرض رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم وانتشر شعر رَأسه ولبث سِتَّة أشهر يرى أَنه يَأْتِي النِّسَاء وَلَا يأتيهن، وَجعل يذوب وَلَا يدْرِي مَا عراه ويخيل إِلَيْهِ أَنه يفعل الشَّيْء وَلَا يَفْعَله، فَبينا هُوَ نَائِم إِذْ أَتَاهُ ملكان فَقعدَ أَحدهمَا عِنْد رَأسه وَالْآخر عِنْد رجلَيْهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْد رجلَيْهِ للَّذي عِنْد رَأسه: مَا بَال الرجل؟ قَالَ: طب، قَالَ: وَمَا طب؟ قَالَ: سحر. قَالَ: وَمن سحره؟ قَالَ: لبيد بن الأعصم الْيَهُودِيّ، قَالَ: وَبِمَ طبه؟ قَالَ: بِمشْط وبمشاطة، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي جف طلعة تَحت راعوفة فِي بِئْر ذروان. والجف: قشر الطّلع، والراعوفة: صَخْرَة تتْرك فِي أَسْفَل الْبِئْر إِذا حفرت، فَإِذا أَرَادوا تنقية الْبِئْر جلس المنقي عَلَيْهَا، فانتبه رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم مذعوراً، فَقَالَ: يَا عَائِشَة {أما شعرتِ أَن الله تَعَالَى أَخْبرنِي بدائي؟ ثمَّ بعث رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم عليا وَالزُّبَيْر وعمار بن يَاسر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فنزحوا مَاء تِلْكَ الْبِئْر، وَكَأَنَّهُ نقاعة الْحِنَّاء، ثمَّ رفعوا الصَّخْرَة وأخرجوا الجف، فَإِذا فِيهِ مشاطة رَأسه وأسنان من مشطه، وَإِذا وتر معقد فِيهِ إِحْدَى عشرَة عقدَة مغرزة بالإبر، فَأنْزل الله تَعَالَى المعوذتين، فَجعل كلما قَرَأَ آيَة انْحَلَّت عقدَة، وَوجد رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم خفَّة حِين انْحَلَّت الْعقْدَة الْأَخِيرَة، فَقَامَ رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا نشط من عقال، وَجعل جِبْرِيل، عليه الصلاة والسلام، يَقُول: بِسم الله أرقيك، من كل شَيْء يُؤْذِيك من عين وحاسد وَالله يشفيك. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله} أَفلا نَأْخُذ الْخَبيث فنقتله؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أما أَنا فقد شفاني الله وأكره أَن أثير على النَّاس شرا، قَالَت عَائِشَة: مَا غضب رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم غَضبا ينْتَقم من أحد لنَفسِهِ قطّ إلَاّ أَن يكون شَيْئا هُوَ لله، فيغضب لله وينتقم، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي كتاب الطِّبّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله:(يخيل إِلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول.
وَقد اعْترض بعض الْمُلْحِدِينَ على حَدِيث عَائِشَة، وَقَالُوا: كَيفَ يجوز السحر على رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، وَالسحر كفر وَعمل من أَعمال الشَّيَاطِين، فَكيف يصل ضَرَره إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَعَ حياطة الله لَهُ وتسديده إِيَّاه بملائكته، وصون الْوَحْي عَن الشَّيَاطِين؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا اعْتِرَاض فَاسد وعناد لِلْقُرْآنِ، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ لرَسُوله:{قل أعوذ بِرَبّ الفلق} (الفلق: 1) . إِلَى قَوْله: فِي العقد، والنفاثات: السواحر فِي العقد، كَمَا ينفث الراقي فِي الرّقية حِين سحر، وَلَيْسَ فِي جَوَاز ذَلِك عَلَيْهِ مَا يدل على أَن ذَلِك يلْزمه أبدا أَو يدْخل عَلَيْهِ دَاخِلَة فِي شَيْء من ذَاته أَو شَرِيعَته، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ من ضَرَر السحر مَا ينَال الْمَرِيض من ضَرَر الْحمى والبرسام من ضعف الْكَلَام وَسُوء التخيل، ثمَّ زَالَ ذَلِك عَنهُ وأبطل الله كيد السحر، وَقد قَامَ الْإِجْمَاع على عصمته فِي الرسَالَة، وَالله الْمُوفق.