المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5- سورة المائدة - التحرير والتنوير - جـ ٦

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 148 إِلَى 149]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 150 إِلَى 152]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 153 إِلَى 154]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 155]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 156 الى 158]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 159]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 160 إِلَى 162]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 163 إِلَى 165]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 166]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 167]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 170]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 171]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 172 إِلَى 173]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 174 إِلَى 175]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 176]

- ‌5- سُورَةُ الْمَائِدَةِ

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 9 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 20 إِلَى 22]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 23 إِلَى 26]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 27 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 33 إِلَى 34]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 35]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 36 إِلَى 37]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 41 الى 42]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 45]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 46 إِلَى 47]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 51 إِلَى 53]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 55 إِلَى 56]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 57 إِلَى 58]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 59 إِلَى 60]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 61 إِلَى 63]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 64]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 65]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 66]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 67]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 68]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 70]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 71]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 72]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 73 إِلَى 74]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 75]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 76]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 77]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 78 إِلَى 79]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 80 إِلَى 81]

الفصل: ‌5- سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

‌5- سُورَةُ الْمَائِدَةِ

هَذِهِ السُّورَةُ سُمِّيَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَكُتُبِ السُّنَّةِ، بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ: لِأَنَّ فِيهَا قِصَّةُ الْمَائِدَة الَّتِي سَأَلَهَا الْحَوَارِيُّونَ مِنْ عِيسَى- عليه السلام، وَقَدِ اخْتُصَّتْ بِذِكْرِهَا. وَفِي «مُسْنَدِ» أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ. فَهَذَا أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا.

وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ الْعُقُودِ: إِذْ وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَوَّلِهَا. وَتُسَمَّى أَيْضًا الْمُنْقِذَةَ.

فَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ» : رُوِيَ عَن النبيء صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سُورَةُ الْمَائِدَةِ تُدْعَى فِي ملكوت السَّمَوَات الْمُنْقِذَةَ»

. قَالَ: أَيْ أَنَّهَا تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ.

وَفِي كِتَابِ كِنَايَاتِ الْأُدَبَاءِ لِأَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ (1) «يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْأَخْيَارِ، أَيْ لَا يَفِي بِالْعَهْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم كَانُوا يُسَمُّونَ سُورَةَ الْمَائِدَة سُورَة الْأَخْبَار. قَالَ جَرِيرٌ:

إِنَّ الْبَعِيثَ وَعَبْدَ آلِ مُتَاعِسٍ

لَا يَقْرَآنِ بِسُورَةِ الْأَخْيَارِ

وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنْصَرَفُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، بَعْدَ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُهَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمُدَّةٍ لِأَنَّ سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ رُجُوعِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ جَاءَتْهُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٌ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ إِرْجَاعَهُنَّ إِلَيْهِمْ عَمَلًا بِشُرُوطِ الصُّلْحِ، فَأَذِنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ إِرْجَاعِهِنَّ بَعْدَ امْتِحَانِهِنَّ.

رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ آيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ

- إِلَى- عَذابٌ أَلِيمٌ [الْمَائِدَة: 94] نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَِِ

(1) صفحة (121) من «الْمُنْتَخب من كنايات الأدباء» طبع السَّعَادَة بِمصْر سنة 1326.

ص: 69

الْبَاعِثُ لِلَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ سُورَةَ الْعُقُودِ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَلَيْسَ وُجُودُ تِلْكَ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِمُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ نُزُولِ السُّورَةِ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ إِذْ قَدْ تَلْحَقُ الْآيَةُ بِسُورَةٍ نَزَلَتْ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهَا.

وَفِي «الْإِتْقَانِ» : إِنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَلَكِنْ صَحَّ أَنَّ آيَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، وَلَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَائِشَةَ أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ النِّسَاءِ، وَمَا نَزَلَ بَعْدَهَا إِلَّا سُورَةُ بَرَاءَةٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَرَاءَةٌ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَفِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ كُلَّهَا. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِي مَسِيرِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

وَفِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمِنًى. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَزَلَتْ مَرْجِعَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْحَدِيثُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْمَائِدَة:

2] أُنْزِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ اثْنَيْنِ. وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ- إِلَى-

ص: 70

غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: 3] نَزَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَمِثْلُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، فَيَقْتَضِي قَوْلُهُمَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَا بَعْدَهُ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ- إِلَى قَوْلِهِ- صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْمَائِدَة: 15، 16] ثُمَّ نَزَلَتْ بَقِيَّةُ السُّورَةِ فِي عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

وَيَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ أَمْرُ الْعَرَبِ وَأَمْرُ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَبْقَ فِي عِنَادِ الْإِسْلَامِ

إِلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ مُخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّ فُتُوحَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَلَغَتْ تُخُومَ مُلْكِهِمْ فِي حُدُودِ الشَّامِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُ غَسَّانَ بِالشَّامِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا.

وَقَدِ امْتَازَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِاتِّسَاعِ نِطَاقِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ النَّصَارَى، وَاخْتِصَارِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ الْيَهُودِ، عَمَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْيَهُودِ أَخَذَ فِي تَرَاجُعٍ وَوَهْنٍ، وَأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مَعَ النَّصَارَى أَصْبَحَ أَشَدَّ مِنْهُ مِنْ ذِي قَبْلُ.

وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَحْرِيمُ السُّكْرِ عِنْدَ الصَّلَوَاتِ خَاصَّةً، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ تَحْرِيمُهُ بَتَاتًا، فَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ لَا مَحَالَةَ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَنْزِلَ سُورَةٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ نُزُولُ أُخْرَى بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَنْزِلَ سُورَتَانِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ، أَيْضًا، مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ: لِأَنَّ بَرَاءَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ لَا تَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا مَرَّةً، وَذَلِكَ

ص: 71

يُؤْذِنُ بِأَنَّ النِّفَاقَ حِينَ نُزُولِهَا قَدِ انْقَطَعَ، أَوْ خُضِّدَتْ شَوْكَةُ أَصْحَابِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.

فَلَا جَرَمَ أَنَّ بَعْضَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَحَسْبُكَ دَلِيلًا اشْتِمَالُهَا عَلَى آيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: 3] الَّتِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا فِي خَبَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [3] قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ.

وَفِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»

. وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الْحَادِيَةَ وَالتِسْعِينَ فِي عَدَدِ السُّوَرِ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ. عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ. وَعَدَدُ آيِهَا: مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ فِي عَدَدِ الْجُمْهُورِ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فِي عَدِّ الْبَصْرِيِّينَ، وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ.

وَجُعِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمُصْحَفِ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ مَعَ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدَ آيَاتٍ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ اشْتِمَالِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَغْرَاضٍ تُشْبِهُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ النِّسَاءِ عَوْنًا عَلَى تَبْيِينِ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى فِي تِلْكَ الْأَغْرَاضِ.

وَقَدِ احْتَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى تشريعات كَثِيرَة تنبيء بِأَنَّهَا أُنْزِلَتْ لِاسْتِكْمَالِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْوِصَايَةِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، أَيْ بِمَا عَاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ حِينَ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْتِزَامِ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، فَقَدْ كَانَ النبيء صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ. وَأَخَذَ

ص: 72

الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ بِمَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، كَمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ. وَوَقَعَ فِي أَوَّلِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [الْمَائِدَة: 1] . فَكَانَتْ طَالِعَتُهَا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ.

وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ سَبْعٌ فِي قَوْلِهِ:

وَالْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ. وَما أَكَلَ السَّبُعُ

وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [الْمَائِدَة: 3] ، وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ [الْمَائِدَة: 4] ، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَة: 5]، وَتَمَامُ الطُّهُورِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: 6] ، (أَيْ إِتْمَامُ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ

[الْمَائِدَة: 38] . وَلَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ- إِلَى قَوْلِهِ- عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ [الْمَائِدَة: 95]، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [الْمَائِدَة:

103] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الْمَائِدَة: 106] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ:

وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: 58] لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْأَذَانِ لِلصَّلَوَاتِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. اه.

وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى تَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ فِي الْمَأْكُولَاتِ، وَعَلَى حِفْظِ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالنَّهْيِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ مِثْلِ الْأَزْلَامِ، وَفِيهَا شَرَائِعُ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ، وَالْأَمْرُ بِالصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، وَأَحْكَامُ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَعْضَاءِ، وَأَحْكَامُ الْحِرَابَةِ، وتسلية الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عَنْ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالْأَيْمَانُ وَكَفَّارَتُهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأُصُولُ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْخَشْيَةُ مِنْ وِلَايَتِهِمْ أَنْ تُفْضِيَ إِلَى ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، وَإِبْطَالُ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَذِكْرُ مَسَاوٍ مِنْ أَعْمَالِ الْيَهُودِ، وَإِنْصَافُ النَّصَارَى فِيمَا لَهُمْ مَنْ حُسْنِ الْأَدَبِ وَأَنَّهُمْ أَرْجَى لِلْإِسْلَامِ وَذِكْرُ قَضِيَّةِ التِّيهِ، وَأَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَمْرُ بِتَخَلُّقِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُنَاقِضُ أَخْلَاقَ الضَّالِّينَ فِي تَحْرِيمِ مَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَالتَّنْوِيهُ بِالْكَعْبَةِ وَفَضَائِلِهَا وَبَرَكَاتِهَا عَلَى النَّاسِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ أَوْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِبَرِ، وَالتَّذْكِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْرِيضُ

بِمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ نَبْذِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَالتَّهَاوُنِ فِيهِ. وَاسْتِدْعَاؤُهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ.

ص: 73