المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المائدة (5) : آية 48] - التحرير والتنوير - جـ ٦

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 148 إِلَى 149]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 150 إِلَى 152]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 153 إِلَى 154]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 155]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 156 الى 158]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 159]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 160 إِلَى 162]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 163 إِلَى 165]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 166]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 167]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 170]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 171]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 172 إِلَى 173]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 174 إِلَى 175]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 176]

- ‌5- سُورَةُ الْمَائِدَةِ

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 9 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 20 إِلَى 22]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 23 إِلَى 26]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 27 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 33 إِلَى 34]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 35]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 36 إِلَى 37]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 41 الى 42]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 45]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 46 إِلَى 47]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 51 إِلَى 53]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 55 إِلَى 56]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 57 إِلَى 58]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 59 إِلَى 60]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 61 إِلَى 63]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 64]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 65]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 66]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 67]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 68]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 70]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 71]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 72]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 73 إِلَى 74]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 75]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 76]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 77]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 78 إِلَى 79]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 80 إِلَى 81]

الفصل: ‌[سورة المائدة (5) : آية 48]

بِلَامِ التَّعْلِيلِ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ اسْتِقَامَةِ تَشْرِيكِ الْحُكْمِ بِالْعَطْفِ فَيَكُونُ عَطْفُهُ كَعَطْفِ الْجُمَلِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَعْنَى.

وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَدَّرَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِعْلًا مَحْذُوفًا بَعْدَ الْوَاوِ، أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى وَلَيْسَ تَقْدِيرَ نَظْمِ الْكَلَامِ.

وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ الْكَافِرُونَ، إِذِ الْفِسْقُ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ، فَتَكُونُ عَلَى نَحْوِ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُرُوجُ عَنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا كَافِرِينَ بِهِ أَمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ وَلَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُ فَيَكُونُ ذَمًّا لِلنَّصَارَى فِي التَّهَاوُنِ بِأَحْكَامِ كِتَابِهِمْ أَضْعَفَ مِنْ ذمّ الْيَهُود.

[48]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 48]

وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

جَالَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَوْلَةً فِي ذِكْرِ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَآبَتْ مِنْهَا إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ فَكَانَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: 41] لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْآن جَاءَ نسخا لِمَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ مُؤَاخَذَةَ الْيَهُودِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُؤَاخَذَةٌ لَهُمْ بِعَمَلِهِمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، وَلِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْمَعُونَ من محمّد صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَوَقَعَ قَوْلُهُ:

وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ إتماما لِتَرْتِيبِ نُزُولِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ:

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.

ص: 220

وَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مَوْقِعَ التَّخَلُّصِ الْمَقْصُودِ، فَجَاءَتِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُنْتَظِمَةً مُتَنَاسِقَةً عَلَى أَبْدَعِ وَجْهٍ.

وَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ الْقُرْآنُ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ. وَالْكِتَابُ الثَّانِي جِنْسٌ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ. وَالْمُصَدِّقُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

وَالْمُهَيْمِنُ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَاءَهُ أَصْلِيَّةٌ وَأَنَّ فِعْلَهُ بِوَزْنِ فَيْعَلَ كَسَيْطَرَ، وَلَكِنْ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فَلَمْ يُسْمَعْ هَمَنَ.

قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا نَظِيرَ لِهَذَا الْفِعْلِ إِلَّا هَيْنَمَ إِذَا دَعَا أَوْ قَرَأَ، وَبَيْقَرَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ، وَسَيْطَرَ إِذَا قَهَرَ. وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي وَزْنِ مُفَيْعِلٍ إِلَّا اسْمُ فَاعِلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَزَادُوا مُبَيْطِرٌ اسْمُ طَبِيبِ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُسْمَعْ بَيْطَرَ وَلَكِنْ بَطَرَ، وَمُجَيْمِرٌ اسْمُ جَبَلٍ، ذَكَرَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ:

كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ الْمُجَيْمِرِ غَدْوَةً

مِنَ السَّيْلِ وَالْغُثَاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ

وَفُسِّرَ الْمُهَيْمِنُ بِالْعَالِي وَالرَّقِيبِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُهَيْمِنُ.

وَقِيلَ: الْمُهَيْمِنُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَمِنَ، وَأَصْلُهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى اسْتَحْفَظَهُ بِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ الرَّقَابَةُ، فَأَصْلُهُ مُؤَأْمِنٌ، فَكَأَنَّهُمْ رَامُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ آمَنَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ وَبِمَعْنَى آمَنُهُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ صَارَ حَقِيقَةً مُسْتَقِلَّةً فَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ يَاءً وَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الْأُولَى هَاءً، كَمَا قَالُوا فِي أَرَاقَ هَرَاقَ، فَقَالُوا: هَيْمَنَ.

وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى حَالَتَيِ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِبَعْضِ مَا

فِي الشَّرَائِعِ مُقَرِّرٌ لَهُ مِنْ كُلِّ حُكْمٍ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ كُلِّيَّةً لَمْ تَخْتَلِفْ مَصْلَحَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْأَزْمَانِ، وَهُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ مُصَدِّقٌ، أَيْ مُحَقِّقٌ وَمُقَرِّرٌ، وَهُوَ أَيْضًا مُبْطِلٌ لِبَعْضِ مَا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَنَاسِخٌ لِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كُلِّ مَا كَانَتْ مَصَالِحُهُ جُزْئِيَّةً مُؤَقَّتَةً مُرَاعًى فِيهَا أَحْوَالُ أَقْوَامٍ خَاصَّةٍ.

ص: 221

وَقَوْلُهُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيْكَ، أَوِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ اللَّهُ بِحُكْمٍ جَدِيدٍ، لِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا أَثْبَتَ اللَّهُ شَرْعَهُ لِمَنْ قَبْلَنَا. فَحُكْمُ النَّبِيءِ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ بِالرَّجْمِ حُكْمٌ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُؤَيَّدًا بِالْقُرْآنِ إِذَا كَانَ حِينَئِذٍ قَدْ جَاءَ قَوْلُهُ:«الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا» . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يُؤَيِّدْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ فِي مِثْلِهِمَا الرَّجْمُ، فَحَكَمَ بِهِ، وَأَطْلَعَ الْيَهُودَ عَلَى كِتْمَانِهِمْ هَذَا الْحُكْمَ. وَقَدِ اتَّصَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [الْمَائِدَة: 42] فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْحُكْمِ الْمُفَادِ مِنْ قَوْله: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْمَائِدَة: 42] ، وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ سَمَّاهُ بَعْضُ السَّلَفِ بِاسْمِ النَّسْخِ قَبْلَ أَنْ تَنْضَبِطَ حُدُودُ الْأَسْمَاءِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ.

وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، أَيْ أَهْوَاءِ الْيَهُودِ حِينَ حَكَّمُوهُ طَامِعِينَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ، مَقْصُودٌ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، إِذْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِغَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ شَرِيعَةً سَابِقَةً، لِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُهَيْمِنًا أَبْطَلَ مَا خَالَفَهُ، وَنُزُولَهُ مُصَدِّقًا أَيَّدَ مَا وَافَقَهُ وَزَكَّى مَا لَمْ يُخَالِفْهُ.

وَالرَّسُولُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ شَرْعِ اللَّهِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ: إِمَّا إِعْلَانُ ذَلِكَ لِيَعْلَمَهُ النَّاسُ وَيَيْأَسَ الطَّامِعُونَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ بِمَا يَشْتَهُونَ، فخطاب النّبيء صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الْمَائِدَة: 49] مُرَادٌ بِهِ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّاسِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . وَإِمَّا تَبْيِينُ اللَّهِ لِرَسُولِهِ وَجْهَ تَرْجِيحِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ بِأَنْ لَا تَكُونَ أَهْوَاءُ الْخُصُومِ طُرُقًا لِلتَّرْجِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي هُدَى النَّاسِ قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي فَصْلِ هَذَا التَّحْكِيمِ، لِأَنَّهُمْ وَعَدُوا أَنَّهُ إِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ. فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ لِمَ لَا يُحْمَلُونَ عَلَيْهِ مَعَ ظُهُورِ فَائِدَةِ ذَلِكَ وَهُوَ دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ أَنَّ أُمُورَ الشَّرِيعَةِ لَا تَهَاوُنَ بِهَا، وَأَنَّ مَصْلَحَةَ احْتِرَامِ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ

مَصْلَحَةِ

ص: 222

دُخُولِ فَرِيقٍ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا لِمُرِيدِيهِ، قَالَ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات: 17] .

وَقَوْلُهُ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً كَالتَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، أَيْ إِذَا كَانَتْ أَهْوَاؤُهُمْ فِي مُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِمْ أَوْ عَوَائِدِهِمْ فَدَعْهُمْ وَمَا اعْتَادُوهُ وَتَمَسَّكُوا بِشَرْعِكُمْ.

وَالشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ مِنْ نَهْرٍ أَوْ وَادٍ. يُقَالُ: شَرِيعَةُ الْفُرَاتِ. وَسُمِّيَتِ الدِّيَانَةُ شَرِيعَةً عَلَى التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ فِيهَا شِفَاءَ النُّفُوسِ وَطَهَارَتَهَا. وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ بِالْمَاءِ وَأَحْوَالِهِ كَثِيرًا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [83] .

وَالْمِنْهَاجُ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، وَهُوَ هُنَا تَخْيِيلٌ أُرِيدَ بِهِ طَرِيقُ الْقَوْمِ إِلَى الْمَاءِ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ:

وَأَتْبَعْتُ دَلْوِي فِي السَّمَاحِ رِشَاءَهَا فَذِكْرُ الرِّشَاءِ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ. وَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ رَدِيفٌ فِي الْمُشَبَّهِ بِأَنْ تُشَبَّهَ الْعَوَائِدُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، أَوْ دَلَائِلُ التَّفْرِيعِ عَنِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ طُرُقُ فَهْمِهَا بِالْمِنْهَاجِ الموصّل إِلَى السَّمَاء. فَمِنْهَاجُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُخَالِفُ الِاتِّصَالَ بِالْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَمِنْهَاجِ الْمُهْتَدِينَ إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهَاجُ غَيْرِهِمْ مُنْحَرِفٌ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا كَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ جَعَلَتْ عَوَائِدَ مُخَالِفَةً لِشَرِيعَتِهِمْ، فَذَلِكَ كَالْمِنْهَاجِ الْمُوَصِّلِ إِلَى غَيْرِ الْمَوْرُودِ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِبْهَامٌ أُرِيدَ بِهِ تَنْبِيهُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا وَبِالتَّأَمُّلِ يَظْهَرُ لَهُمْ.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. الْجَعْلُ: التَّقْدِيرُ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ رَتَّبَ نَوَامِيسَ وَجِبِلَّاتٍ،

ص: 223

وَسَبَّبَ اهْتِدَاءَ فَرِيقٍ وَضَلَالَ فَرِيقٍ، وَعَلِمَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّوْفِيقِ أَوِ الْخِذْلَانِ، وَالْمَيْلِ أَوِ الِانْصِرَافِ، وَالْعَزْمِ أَوِ الْمُكَابَرَةِ. وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَنْكَشِفُ لَنَا بِمَا يَظْهَرُ فِي الْحَادِثَاتِ.

وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّذِينَ دِينُهُمْ وَمُعْتَقَدُهُمْ وَاحِدٌ، هَذَا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ. وَأَصْلُ الْأُمَّةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقَوْمُ الْكَثِيرُونَ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَى نَسَبٍ وَاحِدٍ وَيَتَكَلَّمُونَ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، أَيْ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَكُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، كَمَا خَلَقَ أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلزِّيَادَةِ وَلَا لِلتَّطَوُّرِ مِنْ أَنْفُسِهَا.

وَمَعْنَى لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ هُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِ الِاسْتِعْدَادِ وَنَحْوِهِ. وَالْبَلَاءُ:

الْخِبْرَةُ. وَالْمُرَادُ هُنَا لِيَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، وَالْمُرَادُ لَازِمُ الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ، كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:

وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا

لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا

لَمْ يُرِدْ لِأَعْلَمَ فَقَطْ وَلَكِنْ أَرَادَ لِيَظْهَرَ لِي وَلِلنَّاسِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ وَكَلَ اخْتِيَارَ طُرُقِ الْخَيْرِ وَأَضْدَادِهَا إِلَى عُقُولِ النَّاسِ وَكَسْبِهِمْ حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى لِيَتَسَابَقَ النَّاسُ إِلَى إِعْمَالِ مَوَاهِبِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ فَتَظْهَرُ آثَارُ الْعِلْمِ وَيَزْدَادُ أَهْلُ الْعِلْمِ عِلْمًا وَتُقَامُ الْأَدِلَّةُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ. وَكُلُّ ذَلِكَ يُظْهِرُ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِلْخَيْرِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ، وَذَلِكَ مِنَ الِاخْتِبَارِ. وَلِذَلِكَ قَالَ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا آتَاكُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ. فَيَظْهَرُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ أَفْرَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَبْلُغَ بَعْضُهَا دَرَجَاتٍ عَالِيَةً، وَمِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي آتَاكُمُوهَا فَيَظْهَرُ مِقْدَارُ عَمَلِكُمْ بِهَا فَيَحْصُلُ الْجَزَاءُ بِمِقْدَارِ الْعَمَلِ.

وَفَرَّعَ عَلَى لِيَبْلُوَكُمْ قَوْلَهُ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ لِأَنَّ بِذَلِكَ الِاسْتِبَاقِ يَكُونُ ظُهُورُ أَثَرِ التَّوْفِيقِ أَوْضَحَ وَأَجْلَى.

وَالِاسْتِبَاقُ: التَّسَابُقُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمُنَافَسَةِ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ لِلْخَيْرِ لَا يَمْنَعُ

ص: 224