الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَقِبَ ذَلِكَ لأنّها أظهر للشكر، فَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِالْوَاوِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا، وَأَنَّهَا شُكْرٌ لِلَّهِ بِدَلَالَةِ وُقُوعِ الْأَمْرِ عَقِبَ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةٍ عُظْمَى.
وَقَوْلُهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْرٌ لَهُمْ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَذَلِكَ التَّوَكُّلُ يَعْتَمِدُ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ فَنَاسَبَ التَّقْوَى. وَكَانَ مِنْ مَظَاهِرِهِ تِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي ذكّروا بهَا.
[12]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 12]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
نَاسَبَ ذِكْرُ مِيثَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَقِبَ ذِكْرِ مِيثَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ [الْمَائِدَة: 7] تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِيثَاقُنَا كَمِيثَاقِهِمْ. وَمَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ هُوَ قَوْلُهُ:
فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ وَمَجِيءِ الْإِرْشَادِ فِي قَالَبِ الْقِصَصِ، وَالتَّنَقُّلِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِقَدْ وَبِاللَّامِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، كَمَا يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِإِنَّ لِلِاهْتِمَامِ وَلَيْسَ ثَمَّ مُتَرَدَّدٌ وَلَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَتَهُ. وَذِكْرُ مَوَاثِيقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْبَعْثُ أَصْلُهُ التَّوْجِيهُ وَالْإِرْسَالُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْإِقَامَةِ وَالْإِنْهَاضِ
كَقَوْلِهِ: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52]، وَقَوْلِهِ: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الرّوم: 56] . ثُمَّ شَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى بُنِيَ عَلَيْهِ مَجَازٌ آخَرُ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِقَامَةِ الْمَجَازِيَّةِ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: 164]، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِثَارَةِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْشَاءِ الْخَوَاطِرِ فِي النَّفْسِ. قَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى أَيْ أَنَّ الْحُزْنَ يُثِيرُ حُزْنًا آخَرَ. وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَالْمَعْنَى الثَّالِثَ.
وَالْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ:
وَبَعَثْنا الْتِفَاتٌ.
وَالنَّقِيبُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ: إِمَّا مِنْ نَقَبَ إِذَا حَفَرَ مَجَازًا، أَوْ مِنْ نَقَّبَ إِذَا بَعَثَ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: 36] ، وَعَلَى الْأَخِيرِ يَكُونُ صَوْغُ فَعِيلٍ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ وَارِدٌ كَمَا صِيغَ سَمِيعٌ مِنْ أَسْمَعَ فِي قَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ أَيِ الْمُسْمِعُ.
وَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ لِلْأُمُورِ. فَالنَّقِيبُ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ الْقَوْمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ بَاحِثًا عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَيُطْلَقُ عَلَى الرَّئِيسِ وَعَلَى قَائِدِ الْجَيْشِ وَعَلَى الرَّائِدِ، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ أَنَّ نُقَبَاءَ الْأَنْصَارِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا.
وَالْمُرَادُ بِنُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا رُؤَسَاءَ جُيُوشٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا رُوَّادًا وَجَوَاسِيسَ، وَكِلَاهُمَا وَاقِعٌ فِي حَوَادِثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ مَعَهُ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَقَدْ أَقَامَ مُوسَى- عليه السلام مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا عَلَى جَيْشِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ الْمُجَنَّدِينَ، فَجَعَلَ لِكُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا، وَجَعَلَ لِسِبْطِ يُوسُفَ نَقِيبَيْنِ،
وَلَمْ يَجْعَلْ لِسِبْطِ لَاوِي نَقِيبًا، لِأَنَّ اللَّاوِيِّينَ كَانُوا غَيْرَ مَعْدُودِينَ فِي الْجَيْشِ إِذْ هُمْ حَفَظَةُ الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ سِفْرِ الْعَدَدِ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى: أَحْصُوا كُلَّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ بِعَشَائِرِهِمْ بِعَدَدِ الْأَسْمَاءِ مِنَ ابْنِ عِشْرِينَ فَصَاعِدًا كُلٌّ خَارِجٌ لِلْحَرْبِ فِي إِسْرَائِيلَ حَسَبَ أَجْنَادِهِمْ، تَحْسِبُهُمْ أَنْتَ وَهَارُونُ، وَيَكُونُ مَعَكُمَا رَجُلٌ لِكُلِّ سِبْطٍ رُؤُوسِ أُلُوفِ إِسْرَائِيلَ «وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: أَمَّا سِبْطُ لَاوِي فَلَا تَعُدَّهُ بَلْ وَكُلُّ اللَّاوِيِّينَ عَلَى مَسْكَنِ الشَّهَادَةِ وَعَلَى جَمِيعِ أَمْتِعَتِهِ» . وَكَانَ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ فِيهِ بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، فَقَدْ بَعَثَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ لِاخْتِبَارِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي حَوْلَهُمْ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَهُمْ غَيْرُ الِاثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا الَّذِينَ جَعَلَهُمْ رُؤَسَاءَ عَلَى قَبَائِلِهِمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنْ سِبْطِ أَفْرَايِمَ، وَكَالِبُ بْنُ يَفَنَةَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، وَهُمَا الْوَارِدُ ذِكْرهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ [الْمَائِدَة: 23] ، كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا النُّقَبَاءُ الَّذِينَ أُقِيمُوا لِجُنْدِ إِسْرَائِيلَ.
وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي مَعَكُمْ مَعِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، تَمْثِيلٌ لِلْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ وَالنَّصْرِ، قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: 12]، وَقَالَ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] وَقَالَ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الْحَدِيد: 4] .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ وَعْدًا بِالْجَزَاءِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْمِيثَاقِ.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ الْآيَةَ. واستئناف مَحْضٌ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أَلْفَاظِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنَّمَا جَمَعَهُمَا الْعَامِلُ، وَهُوَ فِعْلُ الْقَوْلِ، فَكِلْتَاهُمَا مَقُولٌ، وَلِذَلِكَ
يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي مَعَكُمْ، ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ قَوْلُهُ: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ إِلَى آخِرِهِ. وَلَامُ لَئِنْ أَقَمْتُمُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَلَامُ لَأُكَفِّرَنَّ لَامُ