الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22]، وَقَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا [هود: 87] ، بِخِلَافِ الْيَهُودِ آمَنُوا بِرُسُلِهِمُ ابْتِدَاءً ثُمَّ انْتَقَضُوا عَلَيْهِمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّقْتِيلِ إِذَا حَمَلُوهُمْ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ مِمَّا لَا يَهْوُونَهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: فَرِيقاً كَذَّبُوا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّفْصِيلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّفْصِيلِ لِأَحْوَالِ رُسُلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاعْتِبَار مَا لَا قوه مِنْ قَوْمِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ مَفْعُولِ يَقْتُلُونَ رِعَايَةً عَلَى فَاصِلَةِ الْآيِ، فَقَدَّمَ مَفْعُولَ كَذَّبُوا لِيَكُونَ الْمَفْعُولَانِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: يَقْتُلُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ إِبْلَاغًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَنَاعَةِ فَاعِلِيهَا.
وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ يَخْلُفُ بَعْضُ أَجْيَالِهَا بَعْضًا، وَأَنَّهَا رَسَخَتْ فِيهَا أَخْلَاقٌ مُتَمَاثِلَةٌ وَعَوَائِدُ مُتَّبَعَةٌ بِحَيْثُ يَكُونُ الْخَلَفُ مِنْهُمْ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَتِ الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ فِي عُصُورٍ مُتَفَاوِتَةٍ إِلَى ضَمَائِرِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِ الْفَاعِلِينَ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ فَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِينَ اقْتَصَرُوا على التَّكْذِيب.
[71]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 71]
وَحَسِبُوا أَلَاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
عُطِفَ عَلَى قَوْله: كَذَّبُوا [الْمَائِدَة: 70] ويَقْتُلُونَ [الْمَائِدَة: 70] لِبَيَانِ فَسَادِ اعْتِقَادِهِمُ النَّاشِئِ عَنْهُ فَاسِدُ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنَ الْفَظَائِعِ عَنْ تَعَمُّدٍ بِغُرُورٍ، لَا عَنْ فَلْتَةٍ أَوْ ثَائِرَةِ نَفْسٍ حَتَّى يُنِيبُوا وَيَتُوبُوا. وَالضَّمَائِرُ الْبَارِزَةُ عَائِدَةٌ مِثْلُ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ كَذَّبُوا ويَقْتُلُونَ. وَظَنُّوا أَنَّ فِعْلَهُمْ لَا تَلْحَقُهُمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ.
وَالْفِتْنَةُ مَرْجُ أَحْوَالِ النَّاسِ وَاضْطِرَابُ نِظَامِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ أَضْرَارٍ وَمَصَائِبَ مُتَوَالِيَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَهِيَ قَدْ تَكُونُ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ جَزَاءً عَنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ أَوْ تَمْحِيصًا لِصَادِقِ إِيمَانِهِمْ لِتَعْلُوَ بِذَلِكَ دَرَجَاتُهُمْ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: 10] الْآيَةَ. وَسَمَّى الْقُرْآنُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فِتْنَةً، وسمّى النبيء صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ فِتْنَةً، وَسَمَّى الْقُرْآنُ مَزَالَّ الشَّيْطَانِ فِتْنَةً لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ
[الْأَعْرَاف: 27] . فَكَانَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ مُلَازِمًا لَهَا.
وَالْمَعْنَى: وَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُصِيبُهُمْ بِفِتْنَةٍ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَا عَامَلُوا بِهِ أَنْبِيَاءَهُمْ، فَهُنَالِكَ مَجْرُورٌ مُقَدَّرٌ دَالٌّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ ظَنُّوا أَنْ لَا تَنْزِلَ بِهِمْ مَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا فَأَمِنُوا عِقَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنِ اسْتَخَفُّوا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً.
فَمِنْ بَدِيعِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ أَوْمَأَ إِلَى سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ وَأَنَّهُمْ نَبَذُوا الْفِكْرَةَ فِيهِ ظِهْرِيًّا وَأَنَّهُمْ لَا يُرَاقِبُونَ اللَّهَ فِي ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ، وَإِلَى سُوءِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَحْسَبُوا ذَلِكَ لَارْتَدَعُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَصَ عَلَى سَلَامَةِ الدُّنْيَا مِنْهُمْ عَلَى السَّلَامَةِ فِي الْآخِرَةِ لِانْحِطَاطِ إِيمَانِهِمْ وَضَعْفِ يَقِينِهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ إِذَا تَطَرَّقَ إِلَيْهَا الْخُذْلَانُ أَنْ يَفْسُدَ اعْتِقَادُهُمْ وَيَخْتَلِطَ إِيمَانُهُمْ وَيَصِيرَ هَمُّهُمْ مَقْصُورًا عَلَى تَدْبِيرِ عَاجِلَتِهِمْ، فَإِذَا ظَنُّوا اسْتِقَامَةَ الْعَاجِلَةِ أَغْمَضُوا أَعْيُنَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ، فَتَطَلَّبُوا السَّلَامَةَ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا، فَأَضَاعُوا الْفَوْزَ الْأَبَدِيَّ وَتَعَلَّقُوا بالفوز العاجل فأساؤوا الْعَمَلَ فَأَصَابَهُمُ الْعَذَابَانِ الْعَاجِلُ بِالْفِتْنَةِ وَالْآجِلُ.
وَاسْتُعِيرَ عَمُوا وَصَمُّوا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ دَلَائِلِ الرَّشَادِ مِنْ رُسُلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ
لِأَنَّ الْعَمَى وَالصَّمَمَ يُوقِعَانِ فِي الضَّلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ وَانْعِدَامِ اسْتِفَادَةِ مَا يَنْفَعُ. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ جَمْعٌ فِي الِاسْتِعَارَةِ بَيْنَ أَصْنَافِ حِرْمَانِ الِانْتِفَاعِ بِأَفْضَلِ نَافِعٍ، فَإِذَا حَصَلَ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ غَلَبَ الْهَوَى عَلَى النُّفُوسِ، لِأَنَّ الِانْسِيَاقَ إِلَيْهِ فِي الْجِبِلَّةِ، فَتَجَنُّبُهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْوَازِعِ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْوَازِعُ جَاءَ سُوءُ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: فَعَمُوا وَصَمُّوا مُرَادًا مِنْهُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَسَاءُوا الْأَعْمَالَ وَأَفْسَدُوا، فَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ قَوْلَهَ ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَأَكَّدَ هَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي تَذْيِيلِ الْآيَةِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
وَقَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرُّشْدِ وَمَا أَعْقَبَهُ مِنْ سُوءِ الْعَمَلِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَقَوْلِهِ:
ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ أَصَابَتْهُمُ الْفِتْنَةُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَمَا نَشَأَ عَنْهَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا تَابَ عَلَيْهِمْ رَفَعَ عَنْهُمُ الْفِتْنَةَ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا، أَيْ عَادُوا إِلَى ضَلَالِهِمُ الْقَدِيمِ وَعَمَلِهِمُ الذَّمِيمِ، لِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى حُسْبَانِ أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَأَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ
أُخْرَى.
وَقَدْ وَقَفَ الْكَلَامُ عِنْدَ هَذَا الْعَمَى وَالصَّمَمِ الثَّانِي وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ إِعْرَاضًا شَدِيدًا مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَهَا.
وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى حَادِثَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ حَوَادِثِ عُصُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى- عليه السلام، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا حَادِثُ الْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ إِذْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (بُخْتُنَصَّرَ) مَلِكَ (أَشُورَ) فَدَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّاتٍ سَنَةَ 606 وَسَنَةَ 598 وَسَنَةَ 588 قَبْلَ الْمَسِيحِ.
وَأَتَى فِي ثَالِثَتِهَا عَلَى مَدِينَةِ أُورْشَلِيمَ فَأَحْرَقَهَا وَأَحْرَقَ الْمَسْجِدَ وَحَمَلَ جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَابِلَ أُسَارَى، وَأَنَّ تَوْبَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانَ مَظْهَرُهَا حِينَ غَلَبَ (كُورَشُ) مَلِكُ (فَارِسَ) عَلَى الْآشُورِيِّينَ وَاسْتَوْلَى عَلَى بَابِلَ سَنَةَ 530 قَبْلَ الْمَسِيحِ فَأُذِنَ لِلْيَهُودِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَيُعَمِّرُوهَا فَرَجَعُوا وَبَنَوْا مَسْجِدَهُمْ.
وَحَادِثُ الْخَرَابِ الْوَاقِعُ فِي زَمَنِ (تِيطَسَ) الْقَائِدِ الرُّومَانِيِّ (وَهُوَ ابْن الإنبراطور الرُّومَانِيِّ (وَسَبَسْيَانُوسَ) فَإِنَّهُ حَاصَرَ (أُورْشَلِيمَ) حَتَّى اضْطَرَّ الْيَهُودُ إِلَى أَكْلِ الْجُلُودِ وَأَنْ يَأْكُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْجُوعِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفِ رَجُلٍ، وَسَبَى سَبْعَةً وَتِسْعِينَ أَلْفًا، عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُبَالَغَةٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ 69 لِلْمَسِيحِ. ثمّ قفّاه الإنبراطور (أَدْرِيَانُ) الرُّومَانِيُّ مِنْ سَنَةِ 117 إِلَى سَنَةِ 138 لِلْمَسِيحِ فَهَدَمَ الْمَدِينَةَ وَجَعَلَهَا أَرْضًا وَخَلَطَ تُرَابَهَا بِالْمِلْحِ.
فَكَانَ ذَلِكَ انْقِرَاضَ دَوْلَةِ الْيَهُودِ وَمَدِينَتِهِمْ وَتَفَرُّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ.
وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى هذَيْن الْحَدِيثين بِقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ (1) وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (2) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الْإِسْرَاء: 4- 8] وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ. وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ اسْتَقْصَاهَا الْفَخْرُ.
وَقد دلّت م عَلَى تَرَاخِي الْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفَيْنِ بِهَا عَنِ الْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمَا وَأَنَّ هُنَالِكَ عَمَيَيْنِ وَصَمَمَيْنِ فِي زمنين سَابق وَلَا حق، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتِ الضَّمَائِرُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفَيْنِ عَيْنَ الضَّمَائِرِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْفِعْلَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمَا، وَالَّذِي سَوَّغَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ تَكَرُّرِ الْأَفْعَالِ فِي الْعُصُورِ وَادِّعَاءُ أَنَّ الْفَاعِلَ وَاحِدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ الْمُثْبَتَةِ لِلْأُمَمِ وَالْمُسَجَّلِ بِهَا عَلَيْهِمْ تَوَارُثُ السَّجَايَا فِيهِمْ مِنْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ عَمُوا
(1) أَي على البابليين بانتصار الْفرس عَلَيْهِم وكنتم موالين للْفرس.
(2)
الضّمائر رَاجِعَة إِلَى عباد من قَوْله عِباداً لَنا، وَأَصْحَاب الضَّمِير هم غير الْعباد الأوّلين.
وَصَمُّوا ثَانِيَةً غَيْرُ الَّذِينَ عَمُوا وَصَمُّوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَكَانُوا قَدْ أَوْرَثُوا أَخْلَاقَهُمْ أَبْنَاءَهُمُ اعْتُبِرُوا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِمْ: بَنُو فلَان لَهُم ترات مَعَ بَنِي فُلَانٍ.
وَقَوْلُهُ: كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا، قُصِدَ مِنْهُ تَخْصِيصُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ دَهْمَاؤُهُمْ صَدْعًا بِالْحَقِّ وَثَنَاءً عَلَى الْفَضْلِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَرْجِعُ الضَّمِيرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا هُوَ عَيْنَ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَعَمُوا وَصَمُّوا كَانَ الْإِبْدَالُ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ الْمُفِيدُ تَخْصِيصًا مِنْ عُمُومِهِمَا، مُفِيدًا تَخْصِيصًا مِنْ عُمُوم الضميرين الّذين قَبْلَهُمَا بِحُكْمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الضَّمَائِرِ، إِذْ قَدِ اعْتُبِرَتْ ضَمَائِرُ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ مَرْجِعَ تِلْكَ الضَّمَائِرِ هُوَ قَوْلُهُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الْمَائِدَة: 70] . وَمن الضّروري أنّه لَا تخلوا أُمَّةٌ ضَالَّةٌ فِي كُلِّ جِيلٍ مِنْ وُجُودِ صَالِحِينَ فِيهَا، فَقَدْ كَانَ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَمْثَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَكَانَ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ يُوشَعُ وَكَالِبُ اللَّذَيْنِ قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهَا قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ [الْمَائِدَة: 23] .
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ. وَالْبَصِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي الْمُبْصِرِ، كَالْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِكُلِّ مَا يَقَعُ فِي أَفْعَالِهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُبْصِرَهَا النَّاسُ سَوَاءً مَا أَبْصَرَهُ النَّاسُ مِنْهَا أَمْ مَا لَمْ يُبْصِرُوهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَازِمُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْإِنْذَارُ وَالتَّذْكِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ بَعْدَ أَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَر أَلَّا تَكُونَ- بِفَتْحِ نُونِ تَكُونَ عَلَى اعْتِبَارِ (أَنْ) حرف مصدر ناصب لِلْفِعْلِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ النُّونِ- عَلَى اعْتِبَارِ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنْ (أَنَّ) أُخْتِ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، وَأَنَّ
إِذَا خُفِّفَتْ يَبْطُلُ عَمَلُهَا الْمُعْتَادُ وَتَصِيرُ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَةٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ عَامِلَةٌ، وَأَنَّ اسْمَهَا مُلْتَزِمُ الْحَذْفِ، وَأَنَّ خَبَرَهَا مُلْتَزِمٌ كَوْنُهُ جُمْلَةً.