المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المائدة (5) : آية 69] - التحرير والتنوير - جـ ٦

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 148 إِلَى 149]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 150 إِلَى 152]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 153 إِلَى 154]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 155]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 156 الى 158]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 159]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 160 إِلَى 162]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 163 إِلَى 165]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 166]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 167]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 170]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 171]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 172 إِلَى 173]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 174 إِلَى 175]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 176]

- ‌5- سُورَةُ الْمَائِدَةِ

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 9 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 20 إِلَى 22]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 23 إِلَى 26]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 27 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 33 إِلَى 34]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 35]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 36 إِلَى 37]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 41 الى 42]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 45]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 46 إِلَى 47]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 51 إِلَى 53]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 55 إِلَى 56]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 57 إِلَى 58]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 59 إِلَى 60]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 61 إِلَى 63]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 64]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 65]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 66]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 67]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 68]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 70]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 71]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 72]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 73 إِلَى 74]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 75]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 76]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 77]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 78 إِلَى 79]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 80 إِلَى 81]

الفصل: ‌[سورة المائدة (5) : آية 69]

وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ مَا يَعْتَرِضُهُمْ مِنَ الشَّجَا فِي حُلُوقِهِمْ بِهَذَا الدِّينِ طُغْياناً لِأَنَّ الطُّغْيَانَ هُوَ الْغُلُوُّ فِي الظُّلْمِ وَاقْتِحَامُ الْمُكَابَرَةِ مَعَ عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِلَوْمِ اللَّائِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ.

وَسَلَّى الله رَسُوله صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَالْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ لِتَتِمَّ التَّسْلِيَةُ، لِأَنَّ رَحْمَةَ الرَّسُولِ بِالْخَلْقِ تُحْزِنُهُ مِمَّا بَلَغَ مِنْهُمْ مِنْ زِيَادَةِ الطُّغْيَانِ وَالْكُفْرِ، فَنَبَّهَتْ

فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا بَلَغُوا إِلَّا مِنْ جَرَّاءِ الْحَسَدِ لِلرَّسُولِ فَحَقِيقٌ أَنْ لَا يَحْزَنَ لَهُمْ. وَالْأَسَى الْحُزْنُ وَالْأَسَفُ، وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ.

وَذُكِرَ لَفْظُ الْقَوْمِ وَأُتْبِعَ بِوَصْفِ الْكافِرِينَ لِيَدُلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَافِرِينَ هُمُ الَّذِينَ صَارَ الْكُفْرُ لَهُمْ سَجِيَّةً وَصِفَةً تَتَقَوَّمُ بِهَا قَوْمِيَّتُهُمْ. وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَوْمَ وَقَالَ: (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْكَافِرِينَ) لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ لَهُمْ فَلَا يُشْعِرُ بِالتَّوْصِيفِ، فَكَانَ صَادِقًا بِمَنْ كَانَ الْكُفْرُ غَيْرَ رَاسِخٍ فِيهِ بَلْ هُوَ فِي حَيْرَةٍ وَتَرَدُّدٍ، فَذَلِكَ مرجّو إيمَانه.

[69]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 69]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ دَقِيقٌ، وَمَعْنَاهَا أَدَقُّ، وَإِعْرَابُهَا تَابِعٌ لِدِقَّةِ الْأَمْرَيْنِ. فَمَوْقِعُهَا أَدَقُّ مِنْ مَوْقِعِ نَظِيرَتِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [62] ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ فِي نَظِيرَتِهَا بِمُغْنٍ عَنْ بَيَانِ مَا يَخْتَصُّ بِمَوْقِعِ هَذِهِ. وَمَعْنَاهَا يَزِيدُ دِقَّةً عَلَى مَعْنَى نَظِيرَتِهَا تَبَعًا لِدِقَّةِ مَوْقِعِ هَذِهِ.

وَإِعْرَابُهَا يَتَعَقَّدُ إِشْكَالُهُ بِوُقُوع قَوْله: وَالصَّابِئُونَ بِحَالَةِ رَفْعٍ بِالْوَاوِ فِي حِينِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ.

ص: 267

فَحَقٌّ عَلَيْنَا أَنْ نَخُصَّهَا مِنَ الْبَيَانِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ لَنَا مِثْلُهُ فِي نَظِيرَتِهَا وَلِنَبْدَأَ بِمَوْقِعِهَا فَإِنَّهُ مَعْقَدُ مَعْنَاهَا:

فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الْمَائِدَة: 68] فَيَسْأَلُ سَائِلٌ عَنْ حَالِ مَنِ انْقَرَضُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ: هَلْ هُمْ عَلَى شَيْءٍ أَوْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهَلْ نَفَعَهُمُ اتِّبَاعُ دِينِهِمْ أَيَّامَئِذٍ فَوَقَعَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الْآيَةَ جَوَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ المقدّر. وَالْمرَاد بالّذين آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّه وبمحمّد صلى الله عليه وسلم أَيِ الْمُسْلِمُونَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنِ الْإِخْبَارِ الَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابُونَ وَالنَّصَارَى، وَأَمَّا التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا فَلِاهْتِمَامٍ بِهِمْ سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [الْمَائِدَة: 65] إِلَخْ، فَبَعْدَ أَنْ أُتْبِعَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بِمَا أُتْبِعَتْ بِهِ مِنَ الْجُمَلِ عَادَ الْكَلَامُ بِمَا يُفِيدُ مَعْنَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدًا لِلْوَعْدِ، وَوَصْلًا لِرَبْطِ الْكَلَامِ، وَلِيُلْحَقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الصَّابِئُونَ، وَلِيَظْهَرَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

فَالتَّصْدِيرُ بِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي طَالِعَةِ الْمَعْدُودِينَ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْمِثَالُ الصَّالِحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالتَّحَرُّزِ عَنِ الْغُرُورِ وَعَنْ تَسَرُّبِ مَسَارِبِ الشِّرْكِ إِلَى عَقَائِدِهِمْ (كَمَا بَشَّرَ بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم

فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ»

) فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمُ الْأَوْحَدُونَ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَوَّلِينَ فِي هَذَا الْفَضْلِ.

وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ إِنْ هُنَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِعِرِوِّ الْمَقَامِ عَنْ إِرَادَةِ رَدِّ إِنْكَارٍ أَوْ تَرَدُّدٍ فِي الْحُكْمِ أَوْ تَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ.

ص: 268

وَقَدْ تَحَيَّرَ النَّاظِرُونَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِينَ الْمُؤْمِنُونَ، وَهَلِ الْإِيمَانُ إِلَّا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَذَهَبَ النَّاظِرُونَ فِي تَأْوِيلِهِ مَذَاهِبَ: فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا مَنْ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِمَنْ آمَنَ مَنْ دَامَ عَلَى إِيمَانِهِ وَلَمْ يَرْتَدَّ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.

وَالْوَجْهُ عِنْدِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ آمَنُوا أَصْحَابُ الْوَصْفِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِيمَانِ وَاشْتَهَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَعْدٌ بِجَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنَ الْحَقَّ وَالْمُتَظَاهِرَ بِالْإِيمَانِ نِفَاقًا.

فَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرُ (إِنَّ) مَحْذُوفًا. وَحَذْفُ خَبَرِ (إِنَّ) وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ غَيْرُ قَلِيلٍ، كَمَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» . وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ من قَوْله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «1» إِلَخْ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هادُوا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَيُجْعَلُ الَّذِينَ هادُوا مُبْتَدَأً، وَلِذَلِكَ حَقَّ رَفْعُ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَالصَّابِئُونَ. وَهَذَا أَوْلَى من جعل وَالصَّابِئُونَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ وَتَقْدِيرِ خَبَرٍ لَهُ، أَيْ وَالصَّابُونَ كَذَلِكَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَافِ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي الْحُكْمِ وَتَشْتِيتِهَا مَعَ إِمْكَان التفصّي عَنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَتَكُونُ (مَنْ) مَوْصُولَةً، وَالرَّابِطُ لِلْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا مَحْذُوفًا، أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُم، وَجُمْلَة فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «2» خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَاقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ. وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10] الْآيَةَ، وَوُجُودُ الْفَاءِ فِيهِ يُعَيِّنُ كَوْنَهُ خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ وَلَيْسَ خَبَرُ- إِنَّ-

عَلَى عَكْسِ قَوْلِ ضَابِي بْنِ الْحَارِثِ:

وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ

فَإِنِّيَ وَقَبَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ

فَإِنَّ وُجُودَ لَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ: «لَغَرِيبُ» عَيَّنَ أَنَّهُ خَبَرُ (إِنَّ) وَتَقْدِيرُ خَبَرٍ عَنْ قَبَّارٍ، فَلَا يُنَظَّرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى: وَالصَّابِئُونَ.

(1، 2) فِي المطبوعة [التونسية] فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْمُوَافقَة لـ[الْبَقَرَة: 62] والمثبت هُوَ الْمَقْصُود وَالله أعلم.

ص: 269

وَمَعْنَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْ آمَنَ وَدَامَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا أَدْيَانَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ خَلَطُوا أُمُورَ الشِّرْكِ بِأَدْيَانِهِمْ وَعَبَدُوا الْآلِهَةَ كَمَا تَقُولُ التَّوْرَاةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ عُزَيْرًا ابْنًا لِلَّهِ، وَإِنَّ النَّصَارَى أَلَّهُوا عِيسَى وَعَبَدُوهُ، وَالصَّابِئَةُ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى دِينٍ لَهُ كِتَابٌ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ دِينِهِمْ فِي تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [62] .

ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ أَحْدَثُوا فِي عَقِيدَتِهِمْ مِنَ الْغُرُورِ فِي نَجَاتِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: 18] وَقَوْلِهِمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: 80]، وَقَوْلِ النَّصَارَى: إِنَّ عِيسَى قَدْ كَفَّرَ خَطَايَا الْبَشَرِ بِمَا تَحَمَّلَهُ مِنْ عَذَابِ الطَّعْنِ وَالْإِهَانَةِ وَالصَّلْبِ وَالْقَتْلِ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا الْجَزَاءَ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي قُدِّرَ الْبَعْثُ لِتَحْقِيقِهَا.

وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جعلُوا قَوْله وَالصَّابِئُونَ مُبْتَدَأً وَجَعَلُوهُ مُقَدَّمًا مِنْ وَتَأْخِير وَقَدَّرُوا لَهُ خَبَرًا مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ خَبَرِ (إِنَّ) عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَصْلَ النَّظْمِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى لَهُمْ أَجْرُهُمْ إِلَخْ، وَالصَّابُونَ كَذَلِكَ، جَعَلُوهُ كَقَوْلِ ضَابِي بْنِ الْحَارِث:

فإنّي وقبّار بِهَا لَغَرِيبُ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَدَّرُوا تَقَادِيرَ أُخْرَى أَنْهَاهَا الْأَلُوسِيُّ إِلَى خَمْسَةٍ. وَالَّذِي سَلَكْنَاهُ أَوْضَحُ وَأَجْرَى عَلَى أُسْلُوبِ النَّظْمِ وَأَلْيَقُ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ.

وَبَعْدُ فَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُوقَنَ بِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَذَلِكَ نَزَلَ، وَكَذَلِكَ نَطَقَ بِهِ النّبيء صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ تَلَقَّاهُ الْمُسلمُونَ مِنْهُ وقرؤوه، وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفَ، وَهُمْ عَرَبٌ خُلَّصٌ، فَكَانَ لَنَا أَصْلًا نَتَعَرَّفُ مِنْهُ أُسْلُوبًا مِنْ أَسَالِيبِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي الْعَطْفِ وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالًا غَيْرَ شَائِعٍ لَكِنَّهُ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْإِيجَازِ بِمَكَانٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ إِذَا أُتِي بِكَلَام موكّد بِحَرْفِ (إِنَّ) وَأُتِيَ بِاسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا وَأُرِيدَ أَنْ يَعْطِفُوا عَلَى اسْمِهَا مَعْطُوفًا هُوَ

ص: 270

غَرِيبٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ جِيءَ بِالْمَعْطُوفِ الْغَرِيبِ مَرْفُوعًا لِيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا

عَطْفَ الْجُمَلِ لَا عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، فَيُقَدِّرَ السَّامِعُ خَبَرًا يُقَدِّرُهُ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَة: 3] ، أَيْ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ بَرَاءَتَهُ مِنْهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مِنْ ذِي نَسَبِهِمْ وَصِهْرِهِمْ أَمْرٌ كَالْغَرِيبِ لِيَظْهَرَ مِنْهُ أَنَّ آصِرَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَوَاصِرِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْمَعْطُوفُ هُنَا لَمَّا كَانَ الصَّابُونُ أَبْعَدَ عَنِ الْهُدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ تَحِقُّ لَهُمُ النَّجَاةُ إِنْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلُوا صَالِحًا، كَانَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهِمْ مَرْفُوعًا تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ. لَكِنْ كَانَ الْجَرْيُ عَلَى الْغَالِبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُؤْتَى بِهَذَا الْمَعْطُوفِ مَرْفُوعًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ (إِنَّ) خَبَرَهَا، إِنَّمَا كَانَ الْغَالِبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُؤْتَى بِالِاسْمِ الْمَقْصُودِ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ مُؤَخَّرًا، فَأَمَّا تَقْدِيمُهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فقد يتَرَاءَى للنّاصر أَنَّهُ يُنَافِي الْمَقْصِدَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خُولِفَ حُكْمُ إِعْرَابِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَيْضًا اسْتِعْمَالٌ عَزِيزٌ، وَهُوَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مُقْتَضَيَيْ حَالين، وهما للدّلالة عَلَى غَرَابَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَالتَّنْبِيهُ عَلَى تَعْجِيلِ الْإِعْلَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ فَإِنَّ الصَّابِئِينَ يَكَادُونَ يَيْأَسُونَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ يَيْأَسُ مِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ الْحُكْمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ. فَنَبَّهَ الْكُلَّ عَلَى أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ عَظِيمٌ لَا يَضِيقُ عَنْ شُمُولِهِمْ، فَهَذَا مُوجِبُ التَّقْدِيمِ مَعَ الرَّفْعِ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّمْ مَا حَصَلَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرْفَعْ لَصَارَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ (إِنَّ) فَلَمْ يَكُنْ عَطْفُهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ.

وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصَّابِينَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ مُقَدَّمًا عَلَى النَّصَارَى وَمَنْصُوبًا، فَحَصَلَ هُنَاكَ مُقْتَضَى حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ بِتَعْجِيلِ الْإِعْلَامِ بِشُمُولِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَمَامَ عَدْلِ اللَّهِ يُسَاوُونَ غَيْرَهُمْ.

ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: وَعَمِلَ صالِحاً، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ رَبْطِ السَّلَامَةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، بِهِ، فَهُوَ قَيْدٌ فِي الْمَذْكُورِينَ كُلِّهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَوَّلُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ يَأْتِي

ص: 271