الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِثْلَ (قِيَافَا) حَبْرِ الْيَهُودِ الَّذِي كَفَّرَ عِيسَى- عَلَيْهِ
السَّلَامُ- وَحَكَمَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ، وَمِثْلَ الْمَجْمَعِ الْمَلْكَانِيِّ الَّذِي سَجَّلَ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ.
وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ وَبَعْدُ وَغَيْرُ وَحَسْبُ وَدُونَ، وَأَسْمَاءُ الْجِهَاتِ، وَكَثُرَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَبْنِيَّةً عَلَى الضَّمِّ حِينَئِذٍ، وَيَنْدُرَ أَنْ تَكُونَ مُعَرَّبَةً إِلَّا إِذَا نُكِّرَتْ. وَقَدْ وَجَّهَ النَّحْوِيُّونَ حَالَةَ إِعْرَابِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إِذَا لَمْ تُنَكَّرُ بِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ لَفْظِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ حَالَةِ بِنَائِهَا الْغَالِبَةِ وَحَالَةِ إِعْرَابِهَا النَّادِرَةِ، وَهُوَ كَشْفٌ لِسِرٍّ لَطِيفٍ مِنْ أَسْرَارِ اللُّغَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ فَهَذَا ضَلَالٌ آخَرُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ الَّذِي ضَلُّوا عَنْهُ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَالسَّوَاءُ الْمُسْتَقِيمُ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِلْحَقِّ الْوَاضِحِ، أَيْ قَدْ ضَلُّوا فِي دِينِهِمْ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ وَضَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِلنَّصَارَى خَاصَّةً، لِأَنَّهُ وَرَدَ عَقِبَ مُجَادَلَةِ النَّصَارَى وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغُلُوِّ التَّثْلِيثُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ هُمُ الْيَهُودُ.
وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَهْوَائِهِمُ النَّهْيُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ بِحَيْثُ إِذَا تَأَمَّلَ الْمُخَاطَبُونَ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ قَدِ اتَّبَعُوهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَاصِدِينَ مُتَابَعَتِهِمْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَنْفِيرًا لِلنَّصَارَى مِنْ سُلُوكِهِمْ فِي دِينِهِمُ الْمُمَاثِلِ لِسُلُوكِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ النَّصَارَى يَبْغَضُونَ الْيَهُودَ وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ على ضلال.
[78، 79]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 78 إِلَى 79]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ
(79)
جُمْلَةُ لُعِنَ مُسْتَأْنِفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا فِيهَا تَخَلُّصٌ بَدِيعٌ لِتَخْصِيصِ الْيَهُودِ بِالْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ دُونَ النَّصَارَى. وَهِيَ خَبَرِيَّةٌ مُنَاسِبَةٌ لِجُمْلَةِ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ [الْمَائِدَة: 77] ، تَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ فِيهَا اسْتِدْلَالًا عَلَى الْيَهُودِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَبِمَا فِي كُتُبِ النَّصَارَى.
وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ أَنَّ الضَّلَالَ مُسْتَمِرٌّ فِيهِمْ فَإِنَّ مَا بَين دَاوُود وَعِيسَى أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ.
وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى لِسانِ داوُدَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَمَكُّنِ الْمُلَابَسَةِ، فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنَى بَاءِ الْمُلَابَسَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] ، قُصِدَ مِنْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْمُلَابَسَةِ، أَيْ لعنُوا بِلِسَان دَاوُود، أَيْ بِكَلَامِهِ
الْمُلَابِسِ لِلِسَانِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ وَفِي سِفْرِ المزامير أنّ دَاوُود لَعَنَ الَّذِينَ يُبَدِّلُونَ الدِّينَ، وَجَاءَ فِي الْمَزْمُورِ الثَّالِثِ وَالْخَمْسِينَ «اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ لِيَنْظُرَ هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبٍ اللَّهَ كُلُّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا مَعًا فَسَدُوا- ثُمَّ قَالَ- أَخْزَيْتُهُمْ لِأَنَّ الله قد وفضهم لَيْتَ مِنْ صُهْيُونَ خَلَاصَ إِسْرَائِيلَ» وَفِي الْمَزْمُورِ 109 «قَدِ انْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ الشِّرِّيرِ وَتَكَلَّمُوا مَعِيَ بِلِسَانٍ كَذِبٍ أَحَاطُوا بِي وَقَاتَلُونِي بِلَا سَبَبٍ- ثُمَّ قَالَ- يَنْظُرُونَ إليّ وينغضون رؤوسهم- ثُمَّ قَالَ- أَمَّا هُمْ فَيُلْعَنُونَ وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارَكُ، قَامُوا وَخُزُوا أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ» ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَدْ ثَارُوا على دَاوُود مَعَ ابْنِهِ ابْشُلُومَ. وَكَذَلِكَ لَعْنُهُمْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى مُتَكَرَّرٌ فِي الأناجيل. و «ذَلِك» إِشَارَةٌ إِلَى اللَّعْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْ لُعِنَ أَوْ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْ مُوجِبِ هَذَا اللَّعْنِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، أَيْ لَمْ يَكُنْ بِلَا سَبَبٍ. وَقَدْ أَفَادَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مَعَ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَمَعَ وُقُوعِهِ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَفَادَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ مُفَادَ الْقَصْرِ، أَيْ لَيْسَ لَعْنُهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ صِيغَةُ قَصْرٍ، فَالْحَصْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ مِنْ غَرَرِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» .
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَصْرِ أَنْ لَا يَضِلَّ النَّاسُ فِي تَعْلِيلِ سَبَبِ اللَّعْنِ فَرُبَّمَا أَسْنَدُوهُ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الضُّلَّالِ فِي الْعِنَايَةِ بِالسَّفَاسِفِ
وَالتَّفْرِيطِ فِي الْمُهِمَّاتِ، لِأَنَّ التَّفَطُّنَ لِأَسْبَابِ الْعُقُوبَةِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ التَّوْفِيقِ. وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْبُلْهِ مِنَ النَّاسِ تُصِيبُهُمُ الْأَمْرَاضُ الْمُعْضِلَةُ فَيَحْسَبُونَهَا مِنْ مَسِّ الْجِنِّ أَوْ مِنْ عَيْنٍ أَصَابَتْهُمْ وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ فَلَا يُعَالِجُونَهَا بِدَوَائِهَا.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ بِما عَصَوْا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مُعْتَدِينَ، فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالْمَصْدَرَيْنِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْفِعْلَيْنِ مَعَ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ لِيُفِيدَ الْفِعْلَانِ مَعْنَى تَجَدُّدِ الْعِصْيَانِ وَاسْتِمْرَارِ الِاعْتِدَاءِ مِنْهُمْ، وَلِتُفِيدَ صِيغَةُ الْمُضِيِّ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ قَدِيمٌ فِيهِمْ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ أَنَّهُ مُتَكَرِّرُ الْحُدُوثِ. فَالْعِصْيَانُ هُوَ مُخَالَفَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالِاعْتِدَاءُ هُوَ إِضْرَارُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي جَانِبِ الْعِصْيَانِ بِالْمَاضِي لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ فَلَمْ يَقْبَلِ الزِّيَادَةَ، وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الِاعْتِدَاءِ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ، فَإِنَّهُمُ اعْتَدَوْا على محمّد صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُنَافَقَةِ وَمُحَاوَلَةِ الْفَتْكِ وَالْكَيْدِ.
وَجُمْلَةُ كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ بِما عَصَوْا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ تَكُونُ أُمَّةٌ كُلُّهَا مُتَمَالِئَةً عَلَى الْعِصْيَانِ
وَالِاعْتِدَاءِ، فَقَالَ: كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْمَنَاكِرِ أَنْ يبتدئها الْوَاحِد أنّ النَّفَرُ الْقَلِيلُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا مَنْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ تَزَايَدُوا فِيهَا فَفَشَتْ وَاتَّبَعَ فِيهَا الدَّهْمَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى تَعُمَّ وَيُنْسَى كَوْنُهَا مَنَاكِرَ فَلَا يَهْتَدِي النَّاسُ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنْهَا وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَتُصِيبَهُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَقَدْ
رَوَى التّرمذي وَأَبُو دَاوُود مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلْقَى الرَّجُلَ إِذَا رَآهُ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَخَلِيطَهُ وَشَرِيكَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ على لِسَان دَاوُود وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ثُمَّ قَرَأَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْله: فاسِقُونَ [الْمَائِدَة: 78- 81] ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ لَيَلْعَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» .