المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المائدة (5) : آية 75] - التحرير والتنوير - جـ ٦

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 148 إِلَى 149]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 150 إِلَى 152]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 153 إِلَى 154]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 155]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 156 الى 158]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 159]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 160 إِلَى 162]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 163 إِلَى 165]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 166]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 167]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 170]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 171]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 172 إِلَى 173]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 174 إِلَى 175]

- ‌[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 176]

- ‌5- سُورَةُ الْمَائِدَةِ

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 9 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 20 إِلَى 22]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 23 إِلَى 26]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 27 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 33 إِلَى 34]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 35]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 36 إِلَى 37]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 41 الى 42]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 45]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 46 إِلَى 47]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 51 إِلَى 53]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 55 إِلَى 56]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 57 إِلَى 58]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 59 إِلَى 60]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 61 إِلَى 63]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 64]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 65]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 66]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 67]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 68]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 70]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 71]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 72]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 73 إِلَى 74]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 75]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 76]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 77]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 78 إِلَى 79]

- ‌[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 80 إِلَى 81]

الفصل: ‌[سورة المائدة (5) : آية 75]

وَالْمَسُّ مَجَازٌ فِي الْإِصَابَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَسِّ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْجِسْمِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي الْإِصَابَةِ بِجَامِعِ الِاتِّصَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الْأَنْعَام: 49] ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشِدَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الشِّدَّةِ أَوِ الضَّعْفِ إِلَى الْقَرِينَةِ، مِثْلَ أَلِيمٌ هُنَا، وَمِثْلَ قَوْلِهِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الْأَنْعَام: 49] فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ الْكِلَابِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:

مَسِسْنَا مِنَ الْآبَاءِ شَيْئًا وَكُلُّنَا

إِلَى حَسَبٍ فِي قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعٍ

أَيْ تَتَبَّعْنَا أُصُولَ آبَائِنَا.

وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَيْنُ الْمُرَادِ بِ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِهِمْ إِلَى الصِّلَةِ الْمُقَرَّرَةِ لِمَعْنَى كُفْرِهِمُ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِقَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِلَخْ، لِقَصْدِ تَكْرِيرِ تَسْجِيلِ كُفْرِهِمْ وَلِيَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُومِئًا إِلَى سَبَبِ الْحُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله مِنْهُمْ بَيَانا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قُصِدَ مِنْهُ الِاحْتِرَاسُ عَنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِكُفَّارٍ آخَرِينَ.

وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ أَعْقَبَ الْوَعِيدَ بِالتَّرْغِيبِ فِي الْهِدَايَةِ فَقَالَ: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ. فَالتَّوْبَةُ هِيَ الْإِقْلَاعُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ.

وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ مَغْفِرَةِ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ فِي الْمَاضِي وَالنَّدَمُ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ.

وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ بِثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ مَا سَلَفَ مِنْهُ، لِأَنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ يَدُلَّانِ عَلَى شِدَّةِ الْغُفْرَانِ وَشِدَّةِ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوهُ رَفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِرَحْمَتِهِ وَصَفَحَ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُم بغفرانه.

[75]

[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 75]

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

ص: 284

(75)

اسْتِئْنَافٌ لِتِبْيَانِ وَصْفِ الْمَسِيحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَوَصْفِ أُمِّهِ زِيَادَةً فِي إِبْطَالِ مُعْتَقَدِ النَّصَارَى إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَإِلَهِيَّةِ أُمِّهِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَة: 73] أَرَادُوا بِهِ إِلَهِيَّةَ الْمَسِيحِ. وَذَلِكَ مُعْتَقَدُ جَمِيعِ النَّصَارَى. وَفَرَّعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النّصارى يلقّبون (بالرّكوسيّة)(وَهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ نَصْرَانِيَّةٍ صَابِئَةٍ) عَلَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى إِلَهِيَّةَ أُمِّهِ وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مُعْتَقَدُهُمْ لَمَا وَقَعَ التَّعَرُّضُ لِوَصْفِ مَرْيَمَ وَلَا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى بَشَرِيَّتِهَا بِأَنَّهُمَا كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ.

فَقَوْلُهُ: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيِ الْمَسِيحُ مَقْصُورٌ عَلَى صِفَةِ الرِّسَالَةِ لَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَهِيَ الْإِلَهِيَّةُ.

فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ لِرَدِّ اعْتِقَادِ النَّصَارَى أَنَّهُ اللَّهُ.

وَقَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ أُرِيدَ بِهَا أَنَّهُ مُسَاوٍ لِلرُّسُلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا فِي هَذَا الْوَصْفِ وَلَا هُوَ مُخْتَصٌّ فِيهِ بِخُصُوصِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ فِي وَصْفِ الرِّسَالَةِ، فَلَا شُبْهَةَ لِلَّذِينَ ادَّعَوْا لَهُ الْإِلَهِيَّةَ، إِذْ لم يجىء بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَمَا جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ إِلَّا مُعْجِزَاتٌ كَمَا جَرَتْ عَلَى أَيْدِي رُسُلٍ قَبْلَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا فَقَدْ تَسَاوَتْ فِي أَنَّهَا خَوَارِقُ عَادَاتٍ وَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَعْجَبَ مِنْ بَعْضٍ، فَمَا كَانَ إِحْيَاؤُهُ الْمَوْتَى بِحَقِيقٍ أَنْ يُوهِمَ إِلَهِيَّتَهُ. وَفِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَى غَبَاوَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى إِلَهِيَّتِهِ بِأَنَّهُ أَحْيَا الْمَوْتَى مِنَ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ مُوسَى أَحْيَا الْعَصَا وَهِيَ جَمَادٌ فَصَارَتْ حَيَّةً.

وَجُمْلَةُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ.

وَالْقَصْدُ مِنْ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا صِدِّيقَةٌ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَصْفٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ

ص: 285

وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِبْطَالِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، إِذْ جَعَلُوا مَرْيَمَ الْأُقْنُومَ الثَّالِثَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» إِذْ قَالَ «أَيْ وَمَا أُمُّهُ إِلَّا صِدِّيقَةٌ»

مَعَ أَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى صِيغَةِ حَصْرٍ. وَقَدْ وجّهه الْعَلامَة التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «الْحَصْرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَقَامِ وَالْعَطْفِ» (أَيْ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ) . وَفِي قَول التفتازانيّ: وَالْعَطْفِ، نَظَرٌ.

وَالصِّدِّيقَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْلَ شِرِّيبٍ وَمِسِّيكٍ، مُبَالَغَةٌ فِي الشُّرْبِ وَالْمَسْكِ، وَلَقَبِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِالْمَلِكِ الضِّلِّيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى مَا يَسْتَرْجِعُ بِهِ مُلْكَ أَبِيهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنْ تَكُونَ مُشْتَقَّةً مِنَ الْمُجَرَّدِ الثُّلَاثِيِّ. فَالْمَعْنَى الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهَا بِالصِّدْقِ، أَيْ صِدْقِ وَعَدِ رَبِّهَا، وَهُوَ مِيثَاقُ الْإِيمَانِ وَصِدْقُ وَعْدِ النَّاسِ. كَمَا وُصِفَ إِسْمَاعِيلُ- عليه السلام بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَم:

54] . وَقَدْ لُقِّبَ يُوسُفُ بِالصِّدِّيقِ، لِأَنَّهُ صَدَّقَ وَعْدَ رَبِّهِ فِي الْكَفِّ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِهَا. وَقِيلَ: أُرِيدَ هُنَا وَصْفَهَا بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّصْدِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها [التَّحْرِيم: 12]، كَمَا لُقِّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالصِّدِّيقِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر: 33] ، فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَزِيدِ.

وَقَوْلُهُ: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَفْهُومِ الْقَصْرِ الَّذِي هُوَ نَفْيُ إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبِلَهَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى بَشَرِيَّتِهِمَا بِإِثْبَاتِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَهِيَ أَكْلُ الطَّعَامِ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ بَيْنِ صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَلِأَنَّهَا أَثْبَتَتْهَا الْأَنَاجِيلُ فَقَدْ أَثْبَتَتْ أَنَّ مَرْيَمَ أَكَلَتْ ثَمَرَ النَّخْلَةِ حِينَ مَخَاضِهَا، وَأَنَّ عِيسَى أَكَلَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ يَوْمَ الْفِصْحِ خُبْزًا وَشَرِبَ خَمْرًا، وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا إِصْحَاحُ 22 «وَقَالَ لَهُمُ اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ لِأَنِّي لَا آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ، وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا فِي الْمَدِينَةِ جَاعَ» .

ص: 286

وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ اسْتِئْنَافٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ ادَّعَوْا الْإِلَهِيَّةَ لِعِيسَى. وَالْخِطَابُ مُرَادٌ بِهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْحُجَجَ السَّابِقَةَ. وَاسْتَعْمَلَ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ فِي الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لِتَشْبِيهِ الْعَالِمِ بِالرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْوُضُوحِ وَالْجَلَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ. وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ مَعْنَى التَّعْجِيبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ- عليه السلام. وَالْمُرَادُ هُوَ وَأَهْلُ الْقُرْآنِ. وكَيْفَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُعَلِّقٌ لِفِعْلِ انْظُرْ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ، وَهِيَ مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ لِ انْظُرْ، وَالْمَعْنَى انْظُرْ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ. وَأُرِيدَ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبُ كِنَايَةً، أَيِ انْظُرْ ذَلِكَ تَجِدْ جَوَابَكَ أَنَّهُ بَيَانٌ عَظِيمُ الْجَلَاءِ يَتَعَجَّبُ النَّاظِرُ مِنْ وُضُوحِهِ. وَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ عَلَى وُجُودِ

الْمَطْلُوبِ، اسْتُعِيرَتْ لِلْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ لِشُبْهَةٍ بِالْمَكَانِ الْمَطْلُوب على طَرِيق الْمُكَنِّيَةِ، وَإِثْبَاتُ الْآيَاتِ لَهُ تَخْيِيلٌ، شُبِّهَتْ بِآيَاتِ الطَّرِيقِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ.

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (ثُمَّ) فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّأَمُّلَ فِي بَيَانِ الْآيَاتِ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ مِنَ الْعَجَبِ مِنْ وُضُوحِ الْبَيَانِ إِلَى أَعْجَبَ مِنْهُ وَهُوَ انْصِرَافُهُمْ عَنِ الْحَقِّ مَعَ وُضُوحِهِ. ويُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ، يُقَالُ: أَفَكَهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، صَرَفَهُ عَنِ الشَّيْءِ.

وأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى كَيْفَ. وَهُوَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَيْفَ (كَمَا) فِي «الْكَشَّافِ» ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ إِعَادَةِ كَيْفَ تَفَنُّنًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ، وَالْمَعْنَى التَّعْجِيبُ مِنْ أَيْنَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمُ الصَّرْفُ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ بَعْدَ ذَلِك الْبَيَان المبالغ غَايَةَ الْوُضُوحِ حَتَّى كَانَ بِمَحَلِّ التَّعْجِيبِ مِنْ وُضُوحِهِ. وَقَدْ عَلَّقَ بِ أَنَّى فِعْلَ انْظُرْ الثَّانِي عَنِ الْعَمَلِ وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ يُؤْفَكُونَ اخْتِصَارًا، لِظُهُورِ أَنَّهُمْ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَتْهُ لَهُم الْآيَات.

ص: 287