الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ فِي حَالِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَهِيَ مُوَافَقَةُ حُكُومَتِكَ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ.
وَجُمْلَةُ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يُحَكِّمُونَكَ. وَنَفِيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ مَعَ حَذْفِ مُتَعَلِّقِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَلَا بِالْإِسْلَامِ فَكَيْفَ يَكُونُ تَحْكِيمُهُمْ صَادِقًا.
وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى التَّوْرَاةِ، فَتَأْنِيثُهُ مُرَاعَاةٌ لِاسْمِ التَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانَ مُسَمَّاهَا كِتَابًا وَلَكِنْ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعْلَاةٍ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُؤَنَّثَةِ مِثْلَ مَوْمَاةٍ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ كِتَابِهِمْ تَوْرَاةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فِي سُورَةِ آل عمرَان [3] .
[44]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
لَمَّا وَصَفَ التَّوْرَاةَ بِأَنَّ فِيهَا حُكْمَ اللَّهِ اسْتَأْنَفَ ثَنَاءً عَلَيْهَا وَعَلَى الْحَاكِمِينَ بِهَا.
وَوَصَفَهَا بِالنُّزُولِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتُعِيرَ النُّزُولُ لِبُلُوغِ الْوَحْيِ لِأَنَّهُ بُلُوغُ شَيْءٍ مِنْ لَدُنْ عَظِيمٍ، وَالْعَظِيمُ يُتَخَيَّلُ عَالِيًا، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالنُّورُ اسْتِعَارَةٌ لِلْبَيَانِ وَالْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى الْهُدَى، فَأَحْكَامُهَا هَادِيَةٌ وَوَاضِحَةٌ، وَالظَّرْفِيَّةُ. حَقِيقِيَّةٌ، وَالْهُدَى وَالنُّورُ دَلَائِلُهُمَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ النُّورَ هُنَا مُسْتَعَارًا لِلْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، كَقَوْلِهِ: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: 132] ،
فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهُدَى عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالنُّورُ أَعَمُّ، وَالْعَطْفُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْمُغَايَرَةِ بِالْعُمُومِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ فَيَجُوزُ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَسْلَمُوا الَّذِينَ كَانَ شَرْعُهُمُ الْخَاصُّ بِهِمْ كَشَرْعِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِأَحْكَامٍ غَيْرِ أَحْكَامِ عُمُومِ أُمَّتِهِمْ بَلْ هِيَ مُمَاثِلَةٌ لِلْإِسْلَامِ، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الْحَقُّ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي شَرِيعَةٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَمَعَ ذَلِكَ مَا شَرِبَهَا الْأَنْبِيَاءُ قَطُّ، بَلْ حَرَّمَتْهَا التَّوْرَاةُ عَلَى كَاهِنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَا ظَنُّكَ بِالنَّبِيءِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ وَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ- عليه السلام فِي دُعَائِهِ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يُوسُف: 101] . وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَفَضْلِهِ إِذْ كَانَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بالنبيئين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَعُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ هادُوا لِلْأَجَلِ وَلَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يَحْكُمُ إِذِ الْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. وَالَّذِينَ هَادُوا هُمُ الْيَهُودُ، وَهُوَ اسْمٌ يُرَادِفُ مَعْنَى الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، إِلَّا أَنَّ أَصْلَهُ يَخْتَصُّ بِبَنِي يَهُوذَا مِنْهُمْ، فَغَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [62] .
وَالرَّبَّانِيُّونَ جَمْعُ رَبَّانِيٍّ، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الرَّبِّ، أَيْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّبَّانِيُّ نَسَبًا لِلرَّبِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَمَا قَالُوا: شَعْرَانِيٌّ لِكَثِيرِ الشَّعْرِ، وَلِحْيَانِيٌّ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ. وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ الْمُرَبِّي، وَهُوَ الّذي يبتدىء
النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. وَوَقَعَ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] .
وَالْأَحْبَارُ جَمْعُ حَبْرٍ، وَهُوَ الْعَالِمُ فِي الْمِلَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَهُوَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا-،
لَكِنِ اقْتَصَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى الْفَتْحِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ. وَعُطِفَ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ على النَّبِيُّونَ لِأَنَّهُمْ وَرَثَةُ عِلْمِهِمْ وَعَلَيْهِمْ تَلَقَّوُا الدِّينَ.
وَالِاسْتِحْفَاظُ: الِاسْتِئْمَانُ، وَاسْتِحْفَاظُ الْكِتَابِ أَمَانَةُ فَهْمِهِ حَقَّ الْفَهْمِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ. اسْتُعِيرَ الِاسْتِحْفَاظُ الَّذِي هُوَ طَلَبُ الْحِفْظِ لِمَعْنَى الْأَمْرِ بِإِجَادَةِ الْفَهْمِ وَالتَّبْلِيغِ لِلْأُمَّةِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.
فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ حُكْمًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ مُتَّصِلًا بِهِ غَيْرَ مُبَدَّلٍ وَلَا مُغَيَّرٍ وَلَا مُؤَوَّلٍ تَأْوِيلًا لِأَجْلِ الْهَوَى. وَيَدْخُلُ فِي الِاسْتِحْفَاظِ بِالْكِتَابِ الْأَمْرُ بِحِفْظِ أَلْفَاظِهِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالْكِتْمَانِ. وَمِنْ لَطَائِفِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادَ مَا حَكَاهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ يَوْمًا فَسُئِلَ: لِمَ جَازَ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ فَوَكَلَ الْحِفْظَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: 9] . فَتَعَهَّدَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ فَلَمْ يَجُزِ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْمُحَامِلِيِّ، فَقَالَ: لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ.
ومِنْ مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا. وكِتابِ اللَّهِ هُوَ التَّوْرَاةُ، فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، لِيَتَأَتَّى التَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ الْمُفِيدَةِ لِتَشْرِيفِ التَّوْرَاةِ وَتَمْجِيدِهَا بِإِضَافَتِهَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَضَمِيرُ وَكانُوا لِلنَّبِيئِينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ، أَيْ وَكَانَ الْمَذْكُورُونَ شُهَدَاءَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ شُهَدَاءَ عَلَى حِفْظِهِ مِنَ التَّبْدِيلِ، فَحَرْفُ (عَلَى) هُنَا دَالٌّ عَلَى مَعْنَى التَّمَكُّنِ وَلَيْسَ هُوَ (عَلَى) الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ شَهِدَ، إِلَى الْمَحْقُوقِ كَمَا يَتَعَدَّى
ذَلِكَ الْفِعْلُ بِاللَّامِ إِلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، أَيِ الْمُحِقِّ، بَلْ هُوَ هُنَا مِثْلُ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ (حَفِظَ وَرَقَبَ) وَنَحْوُهُمَا، أَيْ وَكَانُوا حَفَظَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُرَّاسًا لَهُ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ وَيَحْمِلُونَ أَتْبَاعَهُ عَلَى حَقِّ فَهْمِهِ وَحَقِّ الْعَمَلِ بِهِ.
وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِجُمْلَةِ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ الْمُتَفَرِّعَةِ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ، إِذِ الْحَفِيظُ عَلَى الشَّيْءِ الْأَمِينُ حَقُّ الْأَمَانَةِ لَا يَخْشَى أَحَدًا فِي الْقِيَامِ بِوَجْهِ أَمَانَتِهِ وَلَكِنَّهُ يَخْشَى الَّذِي اسْتَأْمَنَهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ
لِيَهُودِ زَمَانَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَمَّا حُكِيَ عَنْ فِعْلِ سَلَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِخَلَفِهِمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَرِضَةٌ وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيئِينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ فَهِيَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ قُلْنَا لَهُمْ: فَلَا تَخْشَوُا النّاس. والتّفريع ناشىء عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ، لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِحْفَاظِ يَظْهَرُ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالنَّاسِ رَضُوا أَمْ سَخِطُوا، وَفِي قَصْرِ الِاعْتِدَادِ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [41] .
وَقَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى خَشْيَةِ النَّاسِ هُنَا أَنْ تُخَالَفَ أَحْكَامُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مَنْ كُتُبِ اللَّهِ لِإِرْضَاءِ أَهْوِيَةِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا عُقِّبَتْ بِهِ تِلْكَ الْعِظَاتُ الْجَلِيلَةُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْمَقْصُودُ الْيَهُودُ وَتَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِ صُنْعِهِمْ.
وَ (مَنْ) الْمَوْصُولَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْفَرِيقَ الْخَاصَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا، وَهُمُ الَّذِينَ أَخْفَوْا بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِثْلَ حُكْمِ الرَّجْمِ فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِمَا جَحَدُوا مِنْ شَرِيعَتِهِمُ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِالْكُفْرِ مِنْ قَبْلُ فَإِذَا لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَذَلِكَ مِنْ آثَارِ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسَ وَتَكُونَ الصِّلَةُ إِيمَاءً إِلَى تَعْلِيلِ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ فَتَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَكْفُرُ. وَقَدِ اقْتَضَى هَذَا قَضِيَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: كَوْنُ الَّذِي يَتْرُكُ الْحُكْمَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ التَّوْرَاةُ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى مُوسَى كَافِرًا، أَوْ تَارِكُ الْحُكْمِ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى الرُّسُلِ كَافِرًا وَالثَّانِيَةُ: قَصْرُ وَصْفِ الْكُفْرِ عَلَى تَارِكِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
فَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الْأُولَى: فَالَّذِينَ يُكَفِّرُونَ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يَأْخُذُونَ بِظَاهِرِ هَذَا. لِأَنَّ الْجَوْرَ فِي الْحُكْمِ كَبِيرَةٌ وَالْكَبِيرَةُ كُفْرٌ عِنْدَهُمْ. وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِكُفْرِ نِعْمَةٍ يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فَهِيَ عِنْدَهُمْ قَضِيَّةٌ مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَقَعُ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَبَيَانُ إِجْمَالِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ الْقَاضِيَةِ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ بِالذُّنُوبِ، وَمَسَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ إِجْمَالَهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِمَنْ لَمْ يَحْكُمْ هُنَا خُصُوصُ الْيَهُودِ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَرَوَاهُ عَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» . فَعَلَى هَذَا تَكُونُ (مَنْ) مَوْصُولَةً، وَهِيَ بِمَعْنَى لَامِ الْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَمَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَرْكًا
مِثْلَ هَذَا التَّرْكِ، هُوَ تَرْكُ الْحُكْمِ الْمَشُوبُ بِالطَّعْنِ فِي صَلَاحِيَّتِهِ. وَقَدْ عُرِفَ الْيَهُودُ بِكَثْرَةِ مُخَالَفَةِ حُكَّامِهِمْ لِأَحْكَامِ كِتَابِهِمْ بِنَاءً عَلَى تَغْيِيرِهِمْ إِيَّاهَا بِاعْتِقَادِ عَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا لِأَحْوَالِهِمْ كَمَا فَعَلُوا فِي حَدِّ الزِّنَى فَيَكُونُ الْقَصْرُ ادِّعَائِيًّا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي كَانَتْ هَذِهِ ذَيْلًا لَهَا فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ لِتَعْرِيفِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ وَلَيْسَ مُعَلِّلًا لِلْخَبَرِ. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ لِمُشَابَهَتِهِ بِالشَّرْطِ فِي لُزُومِ خَبَرِهِ لَهُ، أَيْ أَنَّ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُمُ الَّذِينَ إِنْ سَأَلْتَ عَنِ الْكَافِرِينَ فَهُمْ هُمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَأَسَاءُوا الصُّنْعَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ مِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِهِ جَحْدًا لَهُ، أَوِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، أَوْ طَعْنًا فِي حَقِّيَّتِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ كَوْنِهِ حُكْمَ اللَّهِ بِتَوَاتُرٍ أَوْ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، سَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَمُجاهد، وَالْحسن، فَمن شَرْطِيَّةٌ وَتَرْكُ الْحُكْمِ مُجْمَلٌ بَيَانُهُ فِي أَدِلَّةٍ أُخَرَ. وَتَحْتَ هَذَا حَالَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْتِزَامُ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ كَفِعْلِ الْمُسْلِمِ الَّذِي تُقَامُ فِي أَرْضِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ مَحَاكِمَ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الِالْتِزَامَ أَشَدُّ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ. وَأَعْظَمُ مِنْهُ إِلْزَامُ النَّاسِ بِالْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَهُوَ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَبَعْضُهَا قَدْ يَلْزَمُهُ لَازِمُ الرِّدَّةِ إِنْ دَلَّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ أَوْ تَخْطِئَةٍ لِحُكْمِ اللَّهِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ فَقِيلَ عُبِّرَ بِالْكُفْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا قَالَتْ زَوْجَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ «أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ» أَيِ الزِّنَى، أَيْ قَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ وَلَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عبّاس. وَقَالَ طَاوُوس «هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَلَيْسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْإِيمَانِ» . وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي لَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْهَوَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكُفْرٍ وَلَكِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَاطِعًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا تَرَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ وَحَكَمُوا بِمُقْتَضَى تَأْوِيلِهَا وَهَذَا كَثِيرٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا فِي شَأْنِ الْحَاكِمين. وأمّا رضى الْمُتَحَاكِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ فَقَدْ مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاء: 65] الْآيَةَ وَبَيَّنَّا وُجُوهَهُ، وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فِي سُورَةِ النُّورِ [48- 50] .
وَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ: فَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْرِ هُنَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِهَذَا الْإِثْمِ الْعَظِيمِ
الْمُعَبَّرِ عَنْهُ مَجَازًا بِالْكُفْرِ، أَوْ فِي بُلُوغِهِمْ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْكُفْرُ الَّذِي انْضَمَّ إِلَيْهِ الْجَوْرُ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّلَةِ هُنَا أَوْ بِفِعْلِ الشَّرْطِ إِذْ وَقَعَا مَنْفِيَّيْنِ هُوَ الِاتِّصَافُ بِنَقِيضِهِمَا، أَيْ وَمَنْ حَكَمَ