الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَعْلِيقِ هَذَا الشَّرْطِ إِشْعَارٌ بِالِاسْتِقْبَالِ. والمضارع المقترن بِأَن وَهُوَ أَنْ يُهْلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُجَرَّدِ الْمَصْدَرِيَّةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَنْ فِي الْأَرْضِ حِينَئِذٍ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَقَدْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ بِالضَّرُورَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَمْلِكُ أَنْ يَصُدَّ اللَّهَ إِذْ أَرَادَ إِهْلَاكَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ.
وَلَكَ أَنْ تَلْتَزِمَ كَوْنَ الشَّرْطِ لِلِاسْتِقْبَالِ بِاعْتِبَارِ جَعْلِ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بِمَعْنَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ مَفَاعِيلِ يُهْلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ فَإِنَّ بَعْضَهَا وَقَعَ هَلَكُهُ وَهُوَ أُمُّ الْمَسِيحِ، وَبَعْضَهَا لَمْ يَقَعْ وَسَيَقَعُ وَهُوَ إِهْلَاكُ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، أَيْ إِهْلَاكُ جَمِيعِ النَّوْعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ غَيْرُ وَاقِعٍ وَلَكِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُقُوعِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ غَرَائِبِ اسْتِعْمَالِ الشُّرُوطِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الشَّرْطِ فِي مَعْنًى حَقِيقِيٍّ وَمَعْنًى مَجَازِيٍّ تَغْلِيبًا لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَعُمُّ الْجَمِيعَ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَلَمْ يُعْطِهِ الْمُفَسِّرُونَ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ. وَقَدْ هَلَكَتْ مَرْيَمُ أُمُّ الْمَسِيحِ- عليهما السلام فِي زَمَنٍ غَيْرِ مَضْبُوطٍ بَعْدَ رَفْعِ الْمَسِيحِ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فِيهِ تَعْظِيمُ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَدٌّ آخَرُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَلَكَ مَا فِيهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَظْهَرَ الْمَسِيحُ، فَاللَّهُ هُوَ الْإِلَهُ حَقًّا، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَسِيحَ خَلْقًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، فَكَانَ مُوجِبَ ضَلَالِ مَنْ نَسَبَ لَهُ الْأُلُوهِيَّةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[18]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
مَقَالٌ آخَرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ يَدُلُّ عَلَى غَبَاوَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ إِذْ
يَقُولُونَ مَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ هُوَ مُنَاقِضٌ لِمَقَالَاتِهِمُ الْأُخْرَى. عُطِفَ عَلَى الْمَقَالِ الْمُخْتَصِّ بِالنَّصَارَى، وَهُوَ جُمْلَةُ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ [الْمَائِدَة: 17] . وَقَدْ وَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ التَّعْبِيرُ بِأَبْنَاءِ اللَّهِ فَفِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ أَوَّلُ الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ قَوْلُ مُوسَى «أَنْتُمْ أَوْلَادٌ لِلرَّبِّ أَبِيكُمْ» . وَأَمَّا الْأَنَاجِيلُ فَهِيَ مَمْلُوءَةٌ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَبِي الْمَسِيحِ، وَبِأَبِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَتَسْمِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَبْنَاءَ اللَّهِ فِي مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ «وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» وَفِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ يُدْعَوْنَ» . وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ «وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا» . وَفِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ «لِأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ» . وَكُلُّهَا جَائِيَةٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّشْبِيهِ فَتَوَهَّمَهَا دَهْمَاؤُهُمْ حَقِيقَةً فَاعْتَقَدُوا ظَاهِرَهَا.
وَعُطِفَ وَأَحِبَّاؤُهُ عَلَى أَبْناءُ اللَّهِ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنَّهُمْ أَبْنَاءٌ مَحْبُوبُونَ إِذْ قَدْ يَكُونُ الِابْنُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ.
وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلَهُمْ بِنَقْضَيْنِ: أَوَّلُهُمَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ يَنَالُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَوْ كَانُوا أَبْنَاءَ اللَّهِ وَأَحِبَّاءَهُ لَمَا عَذَّبَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَشَأْنُ الْمُحِبِّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ حَبِيبَهُ وَشَأْنُ الْأَبِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَبْنَاءَهُ. رُوِيَ أَنَّ الشِّبْلِيَّ سَأَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُجَاهِدٍ: أَيْنَ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْمُحِبَّ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ فَلَمْ يَهْتَدِ ابْنُ مُجَاهِدٍ، فَقَالَ لَهُ الشِّبْلِيُّ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِوُقُوعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مِنْ تَقْدِيرِ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ فَلَا يَصْلُحُ لِلرَّدِّ بِهِ، إِذْ يَصِيرُ الرَّدُّ مُصَادَرَةً، بَلِ الْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِحُصُولِ عَذَابٍ يَعْتَقِدُونَ حُصُولَهُ فِي عَقَائِدِ دِينِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَمْ عَذَابَ الدُّنْيَا. فَأَمَّا الْيَهُودُ فَكُتُبُهُمْ طَافِحَةٌ بِذِكْرِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة:
80] . وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَمْ أَرَ فِي الْأَنَاجِيلِ ذِكْرًا لِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ بِأَنَّ بَنِي