الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ النَّقَّاشَ حَكَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْكِنْدِيِّ قَالُوا لَهُ: «أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ، قَالَ: نَعَمْ أَعْمَلُ لَكُمْ مِثْلَ بَعْضِهِ، فَاحْتَجَبَ عَنْهُمْ أَيَّامًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ، إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًّا ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَادٍ» - جَمْعُ جِلْدٍ أَيْ أَسْفَارٍ-.
[2]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : آيَة 2]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ
الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا. وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الْخِطَابُ بِالنِّدَاءِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ إِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الشَّعَائِرِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يَأْتِيهَا الْمُشْرِكُونَ كَمَا يَأْتِيهَا الْمُسْلِمُونَ.
وَمَعْنَى لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لَا تُحِلُّوا الْمُحَرَّمِ مِنْهَا بَيْنَ النَّاسِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا، فَالتَّقْدِيرُ: لَا تُحِلُّوا مُحَرَّمَ شَعَائِرِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِي إِحْلَالِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِعَمَلِ النَّسِيءِ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التَّوْبَة: 37] وَإِلَّا فَمِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ مَا هُوَ حَلَالٌ كَالْحَلْقِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ. وَالْمُحَرَّمَاتُ مَعْلُومَةٌ.
وَالشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 158] . وَقَدْ كَانَتِ الشَّعَائِرُ كُلُّهَا مَعْرُوفَةً لَدَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ عَدِّهَا هُنَا. وَهِيَ أَمْكِنَةٌ، وَأَزْمِنَةٌ، وَذَوَاتٌ فَالصَّفَا، وَالْمَرْوَةُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، مِنَ الْأَمْكِنَةِ.
وَقَدْ مَضَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنَ الشَّعَائِرِ الزَّمَانِيَّةِ، وَالْهَدْيُ وَالْقَلَائِدُ مِنَ الشَّعَائِرِ الذَّوَاتِ. فَعَطْفُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيِ وَمَا بَعْدَهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ عَطْفُ الْجُزْئِيِّ عَلَى كُلِّيِّهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
…
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَة: 36] . فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ كَالنَّكِرَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أُرِيدَ رَجَبٌ خَاصَّةً لِيَشْتَدَّ أَمْرُ تَحْرِيمِهِ إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ غَيْرُ مُجْمِعَةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا خُصَّ بِالنَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْعَرَبِ يُحَرِّمُونَهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ يُعْرَفُ بِرَجَبِ مُضَرَ فَلَمْ تَكُنْ رَبِيعَةُ وَلَا إِيَادٌ وَلَا أَنْمَارٌ يُحَرِّمُونَهُ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: شَهْرُ بَنِي أُمَيَّةَ أَيْضًا، لِأَنَّ قُرَيْشًا حَرَّمُوهُ قَبْلَ جَمِيعِ الْعَرَبِ فَتَبِعَتْهُمْ مُضَرُ كُلُّهَا لِقَوْلِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ:
وَشَهْرِ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْهَدَايَا
…
إِذَا حبست مضرّجها الدقاء
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ فَلَا يَعُمُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْجِنْسِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالْهَدْيُ: هُوَ مَا يُهْدَى إِلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ لِيُنْحَرَ فِي الْمَنْحَرِ مِنْ مِنًى، أَوْ بِالْمَرْوَةِ، مِنَ الْأَنْعَامِ.
وَالْقَلَائِدُ: جَمْعُ قِلَادَةٍ وَهِيَ ظَفَائِرُ مِنْ صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ، يُرْبَطُ فِيهَا نَعْلَانِ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ لِحَاءِ الشَّجَرِ، أَيْ قِشْرِهِ، وَتُوضَعُ فِي أَعْنَاقِ الْهَدَايَا مُشَبَّهَةً بِقَلَائِدِ النِّسَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يُعْرَفَ الْهَدْيُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِغَارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ إِذَا تَأَخَّرَ فِي مَكَّةَ حَتَّى خَرَجَتِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى وَطَنِهِ، وَضَعَ فِي عُنُقِهِ قِلَادَةً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِسُوءٍ.
وَوَجْهُ عَطْفِ الْقَلَائِدِ عَلَى الْهَدْيِ الْمُبَالَغَةُ فِي احْتِرَامِهِ بِحَيْثُ يَحْرُمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى قِلَادَتِهِ بَلَهِ ذَاتِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًاِِ
كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْقَلَائِدَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، إِذْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْقَلَائِدِ نِعَالًا لِفُقَرَائِهِمْ، كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِجِلَالِ الْبَدَنِ، وَهِيَ شُقَقٌ مِنْ ثِيَابٍ تُوضَعُ عَلَى كِفْلِ الْبَدَنَةِ فَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا قُمُصًا لَهُمْ وَأُزُرًا، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ عَنْ إِحْلَالِهَا كَالنَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِ الْهَدْيِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْطِيلَ مَصَالِحِ سُكَّانِ الْحَرَمِ الَّذِينَ اسْتَجَابَ اللَّهُ فِيهِمْ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ:
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إِبْرَاهِيم: 37] قَالَ تَعَالَى:
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الْمَائِدَة: 97] .
وَقَوْلُهُ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ عَطْفٌ عَلَى شَعائِرَ اللَّهِ: أَيْ وَلَا تَحِلُّوا قَاصِدِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَهُمُ الْحُجَّاجُ، فَالْمُرَادُ قَاصِدُوهُ لِحَجَّةٍ، لِأَنَّ الْبَيْتَ لَا يُقْصَدُ إِلَّا لِلْحَجِّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا آمِّينَ مَكَّةَ، لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ قَدْ يَقْصِدُهَا لِتُجْرٍ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ حُرْمَةِ الْبَيْتِ حُرْمَةَ قَاصِدِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ آمِّينَ الْبَيْتَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ آمِّينَ الْبَيْتَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُحَرَّمٌ أَذَاهُمْ فِي حَالَةِ قَصْدِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَدْ
رُوِيَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: وَهُوَ أَنَّ خَيْلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَقَائِدُهُمْ شُرَيْحُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْمُلَقَّبُ بِالْحُطَمِ (بِوَزْنِ زُفَرَ) ، وَالْمُكَنَّى أَيْضًا بِابْنِ هِنْدٍ. نِسْبَةً إِلَى أُمِّهِ هِنْدِ بِنْتِ حَسَّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ، وَكَانَ الْحُطَمُ هَذَا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، مِنْ نُزَلَاءِ الْيَمَامَةِ، فَتَرَكَ خَيْلَهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَدَخَلَ إِلَى النبيء صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«إِلَامَ تَدْعُو» فَقَالَ رَسُولُ الله: «إِلَى شهاد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» . فَقَالَ: «حَسَنٌ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَسَأَنْظُرُ وَلَعَلِّي أَنْ أُسْلِمَ وَأَرَى فِي أَمْرِكَ غِلْظَةً وَلِي مِنْ وَرَائِي مَنْ لَا أَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُمْ»
وَخَرَجَ فَمَرَّ بِسَرْحِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَ إِبِلًا كَثِيرَةً وَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا أُعْلِمُوا بِهِ فَلَمْ يَلْحَقُوهُ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ رَجَزًا، وَقِيلَ: الرَّجَزُ لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ رُشَيْدُ بْنُ رُمَيْضٍ الْعَنَزِيُّ وَهُوَ:
هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ
لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ بَاتُوا نِيَامًا وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ خَفَّاقُ الْقَدَمْ ثُمَّ أَقْبَلَ الْحُطَمُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ عَامُ الْقَضِيَّةِ فَسَمِعُوا تَلْبِيَةَ حُجَّاجِ الْيَمَامَةِ فَقَالُوا:
هَذَا الْحُطَمُ وَأَصْحَابُهُ وَمَعَهُمْ هَدْيٌ هُوَ مِمَّا نَهَبَهُ مِنْ إِبِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي نهيهم، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. فَهِيَ حُكْمٌ عَامٌّ نَزَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، وَكَانَ النَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِبُدْنِ الْحُطَمِ مَشْمُولًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَصْفِهِ بِهَذَا الْوَصْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: 97] فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَجُمْلَةُ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ صِفَةٌ لِ آمِّينَ مِنْ قَصْدِهِمُ ابْتِغَاءَ فَضْلِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا لِأَجْلِ الْحَجِّ إِيمَاءً إِلَى سَبَبِ حُرْمَةِ آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ.
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْحَجِيجِ بِسُوءٍ لِأَنَّ الْحَجَّ ابْتِغَاءَ فَضْلِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْصِدُونَ مِنْهُ ذَلِكَ، قَالَ النَّابِغَةُ:
حَيَّاكَ رَبِّي فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا
…
لَهْوُ النِّسَاءِ وَإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
مُشَمِّرِينَ عَلَى خُوصٍ مُزَمَّمَةٍ
…
نَرْجُو الْإِلَهَ وَنَرْجُو الْبِرَّ وَالطُّعَمَا
وَيَتَنَزَّهُونَ عَنْ فُحْشِ الْكَلَامِ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
وَرَبِّ أَسْرَابٍ حَجِيجٍ كُظَّمٍ
…
عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
وَيُظْهِرُونَ الزُّهْدَ وَالْخُشُوعَ، قَالَ النَّابِغَةُ:
بِمُصْطَحِبَاتٍ مِنْ لصاف وثبرة
…
بزرن إِلَالًا سَيْرُهُنَّ التَّدَافُعُ
عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عَامِدُونَ لِرَبِّهِمْ
…
فَهُنَّ كَأَطْرَافِ الْحَنِيِّ خَوَاشِعُ
وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْحَجِيجِ بِسُوءٍ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ: أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي قَصَدُوا فِيهَا الْحَجَّ وَتَلَبَّسُوا عِنْدَهَا بِالْإِحْرَامِ، حَالَةُ خَيْرٍ وَقُرْبٍ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَتَذَكُّرِ نِعَمِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعَانُوا عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا لِأَنَّ الْخَيْرَ يَتَسَرَّبُ إِلَى النَّفْسِ رُوَيْدًا، كَمَا أَنَّ الشَّرَّ يَتَسَرَّبُ إِلَيْهَا كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ سَيَجِيءُ عَقِبَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى.
وَالْفَضْلُ: خَيْرُ الدُّنْيَا، وَهُوَ صَلَاحُ الْعَمَلِ. وَالرِّضْوَانُ: رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْفَضْلِ الرِّبْحَ فِي التِّجَارَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَبَبُ النَّهْيِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ إِبْلَاغِ السِّلَعِ إِلَى مَكَّةَ.
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 1] لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْإِبَاحَةِ. فَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ النَّهْيِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ شَيْءٍ نَهْيًا مُسْتَمِرًّا، ثُمَّ الْأَمْرُ بِهِ كَذَلِكَ، وَمَا هُنَا: إِنَّمَا هُوَ نهي موقّت وَأَمْرٌ فِي بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَجْرِي هُنَا مَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنَ الْخِلَافِ فِي مَدْلُولِ صِيغَةِ الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ حَظْرٍ: أَهْوَ الْإِبَاحَةُ أَوِ النَّدْبُ أَوِ الْوُجُوبُ. فَالصَّيْدُ مُبَاحٌ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ حُرِّمَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا انْتَهَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ رَجَعَ إِلَى إِبَاحَته.
وفَاصْطادُوا صِيغَةُ افْتِعَالٍ، اسْتُعْمِلَتْ فِي الْكَلَامِ لِغَيْرِ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ صِيغَةِ الِافْتِعَالِ فِي الْأَصْلِ، فَاصْطَادَ فِي كَلَامِهِمْ مُبَالِغَةً فِي صَادَ. وَنَظِيرُهُ: اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا. وَقد نزّل فَاصْطادُوا مَنْزِلَةَ فِعْلٍ لَازِمٍ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ.
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَضْمُونِهِ، أَيْ لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَوْ مَعَ عَدُوِّكُمْ إِذا لم يبدأوكم بِحَرْبٍ.
وَمَعْنَى يَجْرِمَنَّكُمْ يُكْسِبَنَّكُمْ، يُقَالُ: جَرَمَهُ يَجْرِمُهُ، مِثْلُ ضَرَبَ. وَأَصْلُهُ كَسَبَ، مِنْ جَرَمَ النَّخْلَةَ إِذَا جَذَّ عَرَاجِينَهَا، فَلَمَّا كَانَ الْجَرْمُ لِأَجْلِ الْكَسْبِ شَاعَ إِطْلَاقُ جَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ، قَالُوا: جَرَمَ فُلَانٌ لِنَفْسِهِ كَذَا، أَيْ كَسَبَ.
وَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ وَهُوَ أَنْ تَعْتَدُوا، وَالتَّقْدِيرُ: يُكْسِبُكُمُ الشَّنَآنُ الِاعْتِدَاءَ. وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى فِي قَوْلِهِ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا [الْمَائِدَة: 8] فَلِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَحْمِلَنَّكُمْ.
وَالشَّنَآنُ- بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ النُّونِ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ النُّونُ إِمَّا أَصَالَةً وَإِمَّا تَخْفِيفًا- هُوَ الْبُغْضُ. وَقِيلَ: شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ، لِعَطْفِهِ عَلَى الْبَغْضَاءِ فِي قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
أَنْمِي عَلَى الْبَغْضَاءِ وَالشَّنَآنِ وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَالتَّقَلُّبِ، لِأَنَّ الشَّنَآنَ فِيهِ اضْطِرَابُ النَّفْسِ، فَهُوَ مِثْلُ الْغَلَيَانِ وَالنَّزَوَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شَنَآنُ- بِفَتْحِ النُّونِ-. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِسُكُونِ النُّونِ-. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَاكِنَ النُّونِ وَصْفٌ مِثْلُ غَضْبَانَ، أَيْ عَدُوٌّ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ عَدُوُّ قَوْمٍ، فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَإِضَافَةُ شَنَآنَ إِذَا كَانَ مَصْدَرًا مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ بُغْضُكُمْ قَوْمًا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ صَدُّوكُمْ، لِأَنَّ الْمُبْغَضَ فِي الْغَالِبِ هُوَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ صَدُّوكُمْ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنْ) -. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ:- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنَّهَا (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ، فَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ الشَّرْطِ.
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ اسْمٌ جُعِلَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُحِيطِ بِالْكَعْبَةِ الْمَحْصُورِ ذِي الْأَبْوَابِ، وَهُوَ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لَمْ يَكُنْ يُدْعَى بِذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَكَانَ السُّجُودِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ سُجُودٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [144]، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْإِسْرَاء: 1] .
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً، وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ: تَرْجِيحًا لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّشْرِيعِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ مِنَ التَّعْلِيلِ، يَعْنِي: أَنَّ وَاجِبَكُمْ أَنْ تَتَعَاوَنُوا بَيْنَكُمْ عَلَى فِعْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا وَاجِبُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُعِينُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، لِأَنَّ التَّعَاوُنَ عَلَيْهَا يُكْسِبُ مَحَبَّةَ تَحْصِيلِهَا، فَيَصِيرُ تَحْصِيلُهَا رَغْبَةً لَهُمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُعِينُوا عَلَيْهَا كُلَّ سَاعٍ إِلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ عَدُوًّا، وَالْحَجُّ بِرٌّ فَأَعِينُوا عَلَيْهِ وَعَلَى التَّقْوَى، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا يُعَاوَنُونَ عَلَى مَا هُوَ بِرٌّ: لِأَنَّ الْبِرَّ يَهْدِي لِلتَّقْوَى، فَلَعَلَّ تَكَرُّرَ فِعْلِهِ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْعَدُوِّ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَعَاوُنِهِمْ عَلَيْهِ نُبِّهُوا عَلَى أَنَّ التَّعَاوُنَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَدًّا عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا فَالضَّمِيرُ وَالْمُفَاعَلَةُ فِي تَعاوَنُوا لِلْمُسْلِمِينَ،