الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَسِيحُ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ.
أَرَادُوا الِاتِّحَادَ بِاللَّهِ وَأَنَّهُ هُوَ هُوَ. وَهَذَا قَوْلُ الْيَعَاقِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَذَلِكَ شِرْكٌ لَا مَحَالَةَ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ، لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَمَزَجُوهُ بِهِ فَوَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَإِنْ رَامُوا تَجَنُّبَ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، فَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ بِشَهَادَةِ كَلَامِ مَنْ نَسَبُوا إِلَيْهِ الْإِلَهِيَّةِ إِبْطَالًا تَامًّا.
وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِإِثْبَاتِ كُفْرِهِمْ وَزِيَادَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى
بُطْلَانِ مُعْتَقَدِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا التَّوْحِيدَ. وَالضَّمِيرُ الْمُقْتَرِنُ بِإِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَدُلُّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ. وَمَعْنَى حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ مَنَعَهَا مِنْهُ، أَيْ مِنَ الْكَوْنِ فِيهَا.
وَالْمَأْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الشَّيْءُ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ- عليه السلام عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَذْيِيلًا لِكَلَامِ الْمَسِيحِ عَلَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ تَذْيِيلًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] ، أَيْ مَا لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْصَارٍ يَنْصُرُونَهُمْ لِيُنْقِذُوهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
فَالتَّقْدِيرُ: وَمَأْوَاهُ النَّارُ لَا مَحَالَةَ وَلَا طَمَعَ لَهُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَصِيرٍ، فَبِالْأَحْرَى أَنْ لَا يَتَخَلَّصَ بِدُونِ نصير.
[73، 74]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 73 إِلَى 74]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَاّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ الِانْتِقَالُ إِلَى إِبْطَالِ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِ طَوَائِفِ
النَّصَارَى، وَهِيَ مَقَالَةُ (الملكانيّة المسمّين بالجعاثليقيّة)، وَعَلَيْهَا مُعْظَمُ طَوَائِفِ النَّصَارَى فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [171] ، وَأَنَّ قَوْلَهُ فِيهَا وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يَجْمَعُ الرَّدَّ عَلَى طَوَائِفِ النَّصَارَى كُلِّهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِ قالُوا اعْتَقَدُوا فَقَالُوا، لِأَنَّ شَأْنَ الْقَوْلِ أَنْ يكون صادرا على اعْتِقَادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أَنَّ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ أَنَّهُ اللَّهُ هُوَ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلِاسْمِ هُوَ أَحَدُ تِلْكَ الثّلاثة الْأَشْيَاءِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ قَدْ عَبَّرُوا عَنْهَا بِالْأَقَانِيمِ وَهِيَ: أُقْنُومُ الْوُجُودِ، وَهُوَ الذَّاتُ الْمُسَمَّى اللَّهُ، وَسَمَّوْهُ أَيْضًا الْأَبَ وَأُقْنُومُ الْعِلْمِ، وَسَمَّوْهُ أَيْضًا الِابْنَ، وَهُوَ الَّذِي اتَّحَدَ بِعِيسَى وَصَارَ بِذَلِكَ عِيسَى إِلَهًا وَأُقْنُومُ الْحَيَاةِ وَسَمَّوْهُ الرُّوحَ الْقُدُسَ. وَصَارَ جُمْهُورُهُمْ، وَمِنْهُمُ الرَّكُوسِيَّةُ طَائِفَةٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا اتَّحَدَ بِمَرْيَمَ حِينَ حَمْلِهَا بِالْكَلِمَةِ تَأَلَّهَتْ مَرْيَمُ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ
هِيَ أُمُّ الْكَلِمَةِ أَمْ هِيَ أُمُّ اللَّهِ.
فَقَوْلُهُ: ثالِثُ ثَلاثَةٍ مَعْنَاهُ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَصُوغُ مِنِ اسْمِ الْعَدَدِ مِنَ اثْنَيْنِ إِلَى عَشَرَةِ، صِيغَةَ فَاعِلٍ مُضَافًا إِلَى اسْمِ الْعَدَدِ الْمُشْتَقِّ هُوَ مِنْهُ لِإِرَادَةِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ نَحْوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ [التَّوْبَة: 40] ، فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْمُشْتَقَّ لَهُ وَزْنُ فَاعِلٍ هُوَ الَّذِي أَكْمَلَ الْعَدَدَ أَضَافُوا وَزْنَ فَاعِلٍ إِلَى اسْمِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ أَرْقَى مِنْهُ فَقَالُوا: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ، أَيْ جَاعِلُ الثَّلَاثَةِ أَرْبَعَةً.
وَقَوْلُهُ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ كَفَرَ لِبَيَانِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ بَعْدَ ذِكْرِ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ.
وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ قالُوا، أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ، فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ لِكُفْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ نَفْيٌ عَنِ الْإِلَهِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاحِدٍ فَإِنَّ (مِنْ) لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ فَصَارَ النَّفْيُ بِ مَا الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا مُسَاوِيًا لِلنَّفْيِ بِ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ نَصًّا.
وَعَدَلَ هُنَا عَنِ النَّفْيِ بِلَا التَّبْرِئَةِ فَلَمْ يَقُلْ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) إِلَى قَوْلِهِ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ اهْتِمَامًا بِإِبْرَازِ حَرْفِ (مِنْ) الدَّالِّ بَعْدَ النَّفْيِ عَلَى تَحْقِيقِ النَّفْيِ، فَإِنَّ النَّفْيَ بِحَرْفِ (لَا) مَا أَفَادَ نَفْيَ الْجِنْسِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ (مِنْ) ، فَلَمَّا قُصِدَتْ زِيَادَةُ الِاهْتِمَامِ بِالنَّفْيِ هُنَا جِيءَ بِحَرْفِ (مَا) النَّافِيَةِ وَأَظْهَرَ بَعْدَهُ حَرْفَ (مِنْ) . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يُفِيدُ حَصْرَ وَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ فِي وَاحِدٍ فَانْتَفَى التَّثْلِيثُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ. وَأَمَّا تَعْيِينُ هَذَا الْوَاحِدِ مَنْ هُوَ، فَلَيْسَ مَقْصُودًا تَعْيِينُهُ هُنَا لِأَنَّ الْقَصْدَ إِبْطَالُ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ فَإِذَا بَطَلَ التَّثْلِيثُ، وَثَبَتَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ، فَلَمَّا بَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ غَيْرِهِ مَعَهُ تَمَحَّضَتِ الْإِلَهِيَّةُ لَهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [62] وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَقَدَّمَ هُنَا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُبْطِلِينَ (إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) فَاسْتُغْنِيَ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ عَنْ تَعْيِينِهِ. وَلِهَذَا صَرَّحَ بِتَعْيِينِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [62] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ إِذِ الْمَقَامُ اقْتَضَى تَعْيِينَ انْحِصَارِ الْإِلَهِيَّةِ فِي اللَّهِ تَعَالَى دُونَ عِيسَى وَلَمْ يَجْرِ فِيهِ ذِكْرٌ لِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، أَيْ لَقَدْ كَفَرُوا كُفْرًا إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْهُ أَصَابَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَمَعْنَى عَمَّا يَقُولُونَ أَيْ عَنْ قَوْلِهِمُ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَهُوَ إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَقَدْ جَاءَ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلِانْتِهَاءِ إِذِ الِانْتِهَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ شَيْءٍ مُسْتَمِرٍّ كَمَا نَاسَبَ قَوْلُهُ قالُوا قَوْلَهُ لَقَدْ كَفَرَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ حَصَلَ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنَ الزَّمَنِ الْمَاضِي. وَمَعْنَى عَمَّا يَقُولُونَ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوِ انْتَهَوْا عَنِ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَأَضْمَرُوا اعْتِقَادَهُ لَمَا نَفَعَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْقَوْلِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الِاعْتِقَادِ مَعَ مَعْنَاهُ الصَّرِيحِ. وَأَكَّدَ الْوَعِيدَ بِلَامِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ لَيَمَسَّنَّ رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ، لِأَنَّ صَلْبَ عِيسَى كَانَ كَفَّارَةً عَنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ.