الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَيْسَ مِنْ مَقْدُورِ النَّاسِ، أَيْ وَمَنِ اهْتَمَّ بِاسْتِنْقَاذِهَا وَالذَّبِّ عَنْهَا فكأنّما أحيى النَّاسَ جَمِيعًا بِذَلِكَ التَّوْجِيهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا، أَوْ مَنْ غَلَّبَ وَازِعَ الشَّرْعِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى دَاعِي الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ فَانْكَفَّ عَنِ الْقَتْلِ عِنْدَ الْغَضَبِ.
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.
تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ شَرْعِ الْقِصَاصِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ مَعَ مَا شُدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ وَلم يَزَالُوا يَقْتُلُونَ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذلِكَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ «مُسْرِفُونَ» لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ.
وَالْمُرَادُ مُسْرِفُونَ فِي الْمَفَاسِدِ الَّتِي مِنْهَا قَتْلُ الْأَنْفُسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ كَثُرَ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ ذِكْرُ فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَة: 60] مَعَ ذِكْرِ الْإِفْسَادِ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، لِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ شَأْنٌ عَجِيبٌ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ أَعْجَبُ. وَذُكِرَ فِي الْأَرْضِ لِتَصْوِيرِ هَذَا الْإِسْرَافِ عِنْدَ السَّامِعِ وَتَفْظِيعِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَاف: 56] . وَتَقْدِيمُ فِي الْأَرْضِ لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ يُفِيدُ زِيَادَةَ تَفْظِيعِ الْإِسْرَافِ فِيهَا مَعَ أَهَمِّيَّةِ شَأْنِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُسُلُنا- بِضَمِّ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ- بِإِسْكَان السّين-.
[33، 34]
[سُورَة الْمَائِدَة (5) : الْآيَات 33 إِلَى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
تَخَلُّصٌ إِلَى تَشْرِيعِ عِقَابِ الْمُحَارِبِينَ، وَهُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنَاةِ بِجِنَايَةِ الْقَتْلِ. وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَا الَّتِي بَعْدَهَا بِأَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ حكم النبيء صلى الله عليه وسلم فِي الْعُرَنِيِّينَ، وَبِهِ يُشْعِرُ صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ إِذْ تَرْجَمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ،
وَأَخْرَجَ عَقِبَهُ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْعُرَنِيِّينَ. وَنَصُّ الْحَدِيثِ مِنْ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ: «قَدِمَ على النّبيء صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ (1) فَأَسْلَمُوا ثُمَّ أَتَوْا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا قَدِ اسْتَوْخَمْنَا هَذِهِ الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذِهِ نَعَمٌ لَنَا فَاخْرُجُوا فِيهَا فَاشْرَبُوا أَلْبَانَهَا وَأَبْوَالَهَا. فَخَرَجُوا فِيهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا وَاسْتَصَحُّوا، فَمَالُوا عَلَى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ وَاطَّرَدُوا الذَّوْدَ وَارْتَدُّوا
. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ فِي آثَارِهِمْ، بَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي خَيْلٍ فَأَدْرَكُوهُمْ وَقَدْ أَشْرَفُوا عَلَى بِلَادِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ بِمَسَامِيرَ أُحْمِيَتْ، ثُمَّ حَبَسَهُمْ حَتَّى مَاتُوا. وَقِيلَ: أَمَرَ بِهِمْ فَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا. قَالَ جَمَاعَةٌ: وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْمَائِدَةِ. نَقَلَ ذَلِكَ مَوْلَى ابْنِ الطَّلَّاعِ فِي كِتَابِ «الْأَقْضِيَةِ الْمَأْثُورَةِ» بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نُزُولُهَا نَسْخًا لِلْحَدِّ الَّذِي أَقَامَهُ النّبيء صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ كَانَ عَنْ وَحْيٍ أَمْ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَهَدَ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْعَمَلِ
(1) هم سَبْعَة: ثَلَاثَة من عكل. وَأَرْبَعَة من عريّنه. وعكل- بِضَم الْعين وَسُكُون الْكَاف- قَبيلَة من تيم الرّباب بن عبد منَاف بن طابخة بن إلْيَاس بن مُضر. وعرينة- بِضَم الْعين وَفتح الرَّاء- قَبيلَة من قضاعة.
بِهِ فَقَدْ تَقَرَّرَ بِهِ شَرْعٌ. وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِذَلِكَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لِلْمُشْرِكِينَ فِي التَّحَيُّلِ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ جَمَعُوا فِي فِعْلِهِمْ جِنَايَاتٍ كَثِيرَةً. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَمَاذَا يُسْتَبْقَى مِنْ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا النَّفْسَ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَوَّفُوا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَّاكِ. والصّحيح الأوّل. وأيّاما كَانَ فَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
فَالْحَصْرُ بِ إِنَّما فِي قَوْلِهِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ إِلَخْ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ حَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرٌ قُلِبَ لِإِبْطَالٍ- أَيْ لِنَسْخِ- الْعِقَابِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعُرَنِيِّينَ، وَعَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْحَصْرُ أَنْ لَا جَزَاءَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْأُمُورِ
الْأَرْبَعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْحَصْرُ لِرَدِّ اعْتِقَادٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَنْ يَسْتَعْظِمُ هَذَا الْجَزَاءَ وَيَمِيلُ إِلَى التَّخْفِيفِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ نَازِلَةٍ عَلَى سَبَبٍ أَصْلًا.
وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ فَإِنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ عِقَابِ الْمُحَارِبِينَ بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا، لِأَنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ النِّسْبَةِ. وَالتَّأْكِيدُ يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ فِي أَمَارَات وجوب الفل الْمَعْدُودِ بَعْضُهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْحُكْمَ جَازِمًا.
وَمَعْنَى يُحارِبُونَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُقَاتِلِينَ بِالسِّلَاحِ عُدْوَانًا لِقَصْدِ الْمَغْنَمِ كشأن الْمُحَارب المبادي، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرْبِ الْقِتَالُ. وَمَعْنَى مُحَارَبَةِ اللَّهِ مُحَارَبَةُ شَرْعِهِ وَقَصْدُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى أَحْكَامِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَارِبُهُ أَحَدٌ فَذِكْرُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ لِتَشْنِيعِ أَمْرِهَا بِأَنَّهَا مُحَارَبَةٌ لِمَنْ يَغْضَبُ اللَّهُ لِمُحَارَبَتِهِ، وَهُوَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم. وَالْمُرَادُ بِمُحَارَبَةِ الرَّسُولِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُكْمِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَإِنَّ الْعُرَنِيِّينَ اعْتَدَوْا عَلَى نَعَمِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْمُتَّخَذَةِ لِتَجْهِيزِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَمْ يُرَاعُوا ذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ فَمَا عَاقَبَ بِهِ
الرَّسُولُ الْعُرَنِيِّينَ كَانَ عِقَابًا عَلَى مُحَارَبَةٍ خَاصَّةٍ هِيَ مِنْ صَرِيحِ الْبُغْضِ لِلْإِسْلَامِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ شَرَعَ حُكْمًا لِلْمُحَارَبَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ وَبَعْدَهُ، وَسَوَّى عُقُوبَتَهَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَصِيرَ تَأْوِيلُ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمُحَارَبَةَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُعِلَ لَهَا جَزَاءٌ عَيْنُ جَزَاءِ الرِّدَّةِ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَهَا جَزَاءٌ آخَرُ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْجَزَاءَ لِأَجْلِ الْمُحَارَبَةِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اعْتَبَرَهُ الْعُلَمَاءُ جَزَاءً لِمَنْ يَأْتِي هَذِهِ الْجَرِيمَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ جَزَاءً لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ حَارَبُوا الرَّسُولَ لِأَجْلِ عِنَادِ الدِّينِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى عُدِّيَ يُحارِبُونَ إِلَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ لِيَظْهَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا حَرْبَ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا حَرْبَ صَفٍّ.
وَعُطِفَ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً لِبَيَانِ الْقَصْدِ مِنْ حَرْبِهِمُ اللَّهَ وَرَسُوله، فَصَارَ الْجُزْء عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، فَمَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ سَبَبٌ مُرَكَّبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جُزْءُ سَبَبٍ لَا يَقْتَضِي هَذِهِ الْعُقُوبَةَ بِخُصُوصِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْحِرَابَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ حَمْلُ السِّلَاحِ عَلَى النَّاسِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ دُونَ نَائِرَةٍ وَلَا دَخَلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ أَيْ بَيْنَ الْمُحَارِبِ- بِالْكَسْرِ- وَبَيْنَ الْمُحَارَبِ- بِالْفَتْحِ-، سَوَاءٌ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي الْمِصْرِ، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقِيلَ: لَا يَكُونُ الْمُحَارِبُ فِي الْمِصْرِ مُحَارِبًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ. وَالَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ مَالِكٌ هُوَ عُمُومُ مَعْنَى لَفْظِ الْحِرَابَةِ، وَالَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ مُخَالِفُوهُ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعُرْفِ لِنُدْرَةِ الْحِرَابَةِ فِي الْمِصْرِ. وَقَدْ كَانَتْ نَزَلَتْ بِتُونُسَ قَضِيَّةُ لِصٍّ اسْمُهُ «وَنَّاسٌ» أَخَافَ أَهْلَ
تُونُسَ بِحِيَلِهِ فِي السَّرِقَةِ، وَكَانَ يَحْمِلُ السِّلَاحَ فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ فِي مُدَّةِ الْأَمِيرِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ بَايْ وَقُتِلَ شَنْقًا بِبَابِ سُوَيْقَةَ.
وَمَعْنَى يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنَّهُمْ يَكْتَسِبُونَ الْفَسَادَ وَيَجْتَنُونَهُ وَيَجْتَرِحُونَهُ، لِأَنَّ السَّعْيَ قَدِ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الِاكْتِسَابِ وَاللَّمِّ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها [الْإِسْرَاء: 19] . وَيَقُولُونَ: سَعَى فُلَانٌ لِأَهْلِهِ، أَيِ اكْتَسَبَ لَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى:
لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] .
وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَعَلَهُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَشْيِ، فَجَعَلَ فَساداً حَالًا أَوْ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ، وَلَقَدْ نَظَرَ إِلَى أَنَّ غَالِبَ عَمَلِ الْمُحَارِبِ هُوَ السَّعْيُ وَالتَّنَقُّلُ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ سَعَى بِمَعْنَى أَفْسَدَ، فَجَعَلَ فَساداً مَفْعُولًا مُطْلَقًا. وَلَا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُ سَعَى بِمَعْنَى أَفْسَدَ.
وَالْفَسَادُ: إِتْلَافُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، فَالْمُحَارِبُ يقتل الرجل لأحد مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ويُقَتَّلُوا مُبَالَغَةٌ فِي يُقْتَلُوا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلٍ قُصِدَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ هُنَا إِيقَاعُهُ بِدُونِ لِينٍ وَلَا رِفْقٍ تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ يُصَلَّبُوا.
وَالصَّلْبُ: وَضْعُ الْجَانِي الَّذِي يُرَادُ قَتْلُهُ مَشْدُودًا عَلَى خَشَبَةٍ ثُمَّ قَتْلُهُ عَلَيْهَا طَعْنًا بِالرُّمْحِ فِي مَوْضِعِ الْقَتْلِ. وَقِيلَ: الصَّلْبُ بَعْدَ الْقَتْلِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ أَشْهَبَ وَالشَّافِعِيِّ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ خِلافٍ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، فَهِيَ قَيْدٌ لِلْقَطْعِ، أَيْ أنّ الْقطع يبتدىء فِي حَالِ التَّخَالُفِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْطُوعَ هُوَ الْعُضْوُ الْمُخَالِفُ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَقْطُوعٍ آخَرَ وَإِلَّا لَمْ تُتَصَوَّرِ الْمُخَالَفَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عُضْوٌ مَقْطُوعٌ سَابِقٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ التَّخَالُفُ فَيَكُونُ الْقَطْعُ لِلْعُضْوِ الْأَوَّلِ آنِفًا ثُمَّ تَجْرِي الْمُخَالَفَةُ فِيمَا بَعْدُ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ خِلافٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مِنَ الْمُحَارِبِ إِلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ أَوْ رِجْلٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يُقْطَعُ يَدَاهُ أَوْ رِجْلَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَعْنًى لِكَوْنِ الْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ. فَهَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ تَيْسِيرٌ وَرَحْمَةٌ،
لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لحركة بَقِيَّة الْجهد بَعْدَ الْبُرْءِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَكَّأَ بِالْيَدِ الْبَاقِيَةِ عَلَى عُودٍ بِجِهَةِ الرِّجْلِ الْمَقْطُوعَةِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تُقْطَعُ يَدُهُ لِأَجْلِ أَخْذِ الْمَالِ، وَرِجْلُهُ لِلْإِخَافَةِ لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْعُضْوُ الَّذِي بِهِ الْأَخْذُ، وَالرِّجْلَ هِيَ الْعُضْوُ الَّذِي بِهِ الْإِخَافَةُ، أَيِ الْمَشْيُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ.
وَالنَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ: الْإِبْعَادُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ وَطَنُهُ لِأَنَّ النَّفْيَ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْوُجُودِ. وَالْمُرَادُ الْإِبْعَادُ، لِأَنَّهُ إِبْعَادٌ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ حَارَبُوهُمْ. يُقَالُ: نَفَوْا فُلَانًا، أَيْ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُوَ الْخَلِيعُ، وَقَالَ النّابغة:
ليهنىء لَكُمْ أَنْ قَدْ نَفَيْتُمْ بُيُوتَنَا أَيْ أَقْصَيْتُمُونَا عَنْ دِيَارِكُمْ. وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنًى لِلنَّفْيِ غَيْرَ هَذَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّفْيُ هُوَ السَّجْنُ. وَحَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ التَّفَادِي مِنْ دَفْعِ أَضْرَارِ الْمُحَارِبِ عَنْ قَوْمٍ كَانَ فِيهِمْ بِتَسْلِيطِ ضُرِّهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ. وَهُوَ نَظَرٌ يَحْمِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّفْيَ يَحْصُلُ بِهِ دَفْعُ الضُّرِّ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا أُخْرِجَ أحد من وظنه ذُلَّ وَخُضِّدَتْ شَوْكَتُهُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعَيَّلِ وَذَلِكَ حَالٌ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْعَرَبِ فَإِنَّ لِلْمَرْءِ فِي بَلَدِهِ وَقَوْمِهِ مِنَ الْإِقْدَامِ مَا لَيْسَ لَهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ. عَلَى أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يُنْفَوْنَ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ مُنْحَازٍ إِلَى جِهَةٍ بِحَيْثُ يَكُونُ فِيهِ كَالْمَحْصُورِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ النَّفْيُ قَدِيمًا إِلَى (دَهْلَكَ) وَإِلَى (بَاضِعَ)(1) وَهُمَا جَزِيرَتَانِ فِي بَحْرِ الْيَمَنِ.
(1) دهلك- بِفَتْح الدّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح اللَّام- جَزِيرَة بَين الْيمن والحبشة. وباضع- بموحّدة فِي أوّله وبكسر الضّاد الْمُعْجَمَة- جَزِيرَة فِي بَحر الْيمن.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِأَنَّ أَصْلَ (أَوْ) الدَّلَالَةُ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ فِي الْوُقُوعِ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَنَحْوِهِ التَّخْيِيرَ، نَحْوَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [الْبَقَرَة: 196] . وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ لِأَجَلِ الْحِرَابَةِ، فَإِنِ اجْتَرَحَ فِي مُدَّةِ حَرَابَتِهِ جَرِيمَةً ثَابِتَةً تُوجِبُ الْأَخْذَ بِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ قُتِلَ دُونَ تَخْيِيرٍ، وَهُوَ مُدْرَكٌ وَاضِحٌ. ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعُقُوبَةِ بِمَا يُقَارِبُ جُرْمَ الْمُحَارِبِ وَكَثْرَةَ مَقَامِهِ فِي فَسَادِهِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ (أَوْ) فِي الْآيَةِ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مَرَاتِبُ لِلْعُقُوبَاتِ بِحَسْبِ مَا اجْتَرَحَهُ الْمُحَارِبُ: فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا عُزِّرَ، وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ نُفِيَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ فَقَطْ قُطِعَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَيَقْرُبُ خِلَافُهُمْ مِنَ التَّقَارُبِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ هِيَ لِأَجَلِ الْحِرَابَةِ وَلَيْسَتْ لِأَجْلِ حُقُوقِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ وَهُوَ بَيِّنٌ. وَلِذَلِكَ فَلَوْ أَسْقَطَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْمُحَارِبِ عُقُوبَةُ الْحِرَابَةِ.
وَقَوْلُهُ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا، أَيِ الْجَزَاءُ خِزْيٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمرَان: 194] . وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ عِقَابَيْنِ: عِقَابًا فِي الدُّنْيَا وَعِقَابًا فِي الْآخِرَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُحَارِبِينَ فِي الْآيَةِ خُصُوصَ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ كَالْعُرَنِيِّينَ، كَمَا قِيلَ بِهِ، فَاسْتِحْقَاقُهُمُ الْعَذَابَيْنِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْمُحَارِبَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْآيَةُ مُعَارِضَةً لِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ قَوْلِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ أَخَذَ الْبَيْعَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ [الممتحنة: 12] إِلَخْ فَقَالَ:
«فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ
فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»
. فَقَوْلُهُ: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ يُسْقِطُ عِقَابَ الْآخِرَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْآيَةِ تَغْلِيظًا عَلَى الْمُحَارِبِينَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ بَقِيَّةِ الذُّنُوبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، أَيْ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا إِنْ أُخِذُوا بِهِ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنْ لَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمَيْنِ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّوْبَةِ فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ دَلَّتْ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى سُقُوطِ الْعُقُوبَةِ عَنِ الْمُحَارِبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَتَمَّ الْكَلَام بهَا، خَ ز لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى
زِيَادَةِ تَصْرِيحٍ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَنِ الْمُسْتَثْنَى فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. فَلَيْسَ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَنْهُ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَلَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَمَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى سُقُوطِ عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِ الْمَذْكُورَةِ. فَلَوْ قِيلَ: فَإِنْ تَابُوا، لَمْ تَدُلَّ إِلَّا عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ فِي إِسْقَاطِ عِقَابِ الْآخِرَةِ.
وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ أَوْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ الْحِصَارُ أَوْ يُطَارَدَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَتَى قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ طَائِعًا نَادِمًا سَقَطَ عَنْهُ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى انْتِقَالِ حَالِهِ مِنْ فَسَادٍ إِلَى صَلَاحٍ فَلَمْ تَبْقَ حِكْمَةٌ فِي عِقَابِهِ. وَلَمَّا لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ إِلَى غُرْمِ مَا أَتْلَفَهُ بِحِرَابَتِهِ عُلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ مَا كَانَ قَدِ اعْتَلَقَ بِهِ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى.
وَقَوْلُهُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْكِيرٌ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ وَدَفْعٌ لِعَجَبِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ سُقُوطِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ. فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ سُقُوطِ الْعُقُوبَةِ مَعَ عِظَمِ الْجُرْمِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ عَظُمَ عِنْدَكُمْ سُقُوطُ الْعُقُوبَةِ عَمَّنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقَدَرَ عَلَيْهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ فَاعْلَمُوا عَلَى تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ