الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف نفى عنه اللوم، وأثبت له الحجة فليس للذكاء غاية، ولا لجودة القريحة نهاية.
((قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
وَاعْلَمْ أَنَّ بِالْعَقْلِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الأمُورِ وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَقَدْ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: غَرِيزِيٍّ وَمُكْتَسَبٍ. فَالْغَرِيزِيُّ هُوَ الْعَقْلُ الْحَقِيقِيُّ. وَلَهُ حَدٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ لَا يُجَاوِزُهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ إلَى نُقْصَانٍ. وَبِهِ يَمْتَازُ الإنْسَانُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا تَمَّ فِي الإنْسَانِ سُمِّيَ عَاقِلاً وَخَرَجَ بِهِ إلَى حَدِّ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:«إذَا تَمَّ عَقْلُ الْمَرْءِ تَمَّتْ أُمُورُهُ وَتَمَّتْ أَمَانِيهِ وَتَمَّ بِنَاؤُهُ» وَرَوَى الضَّحَّاكُ فِي قوله تعالى: {لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] أَيْ مَنْ كَانَ عَاقِلاً.
(العلاقة بين العقل الغريزي والمكتسب:
((قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْمُكْتَسَبَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةٌ مِنْهُ. وَقَدْ يَنْفَكُّ الْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ عَنْ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ فَيَكُونَ صَاحِبُهُ مَسْلُوبَ الْفَضَائِلِ، مَوْفُورَ الرَّذَائِلِ، كَالأنْوَكِ الَّذِي لَا يَجِدُ لَهُ فَضِيلَةً، وَالأحْمَقُ الَّذِي قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْ رَذِيلَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْحَاجَةُ إلَى الْعَقْلِ أَقْبَحُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْمَالِ،
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: دَوْلَةُ الْجَاهِلِ عِبْرَةُ الْعَاقِلِ،
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ لِبَزَرْجَمْهَرَ: أَيُّ الاشْيَاءِ خَيْرٌ لِلْمَرْءِ؟ قَالَ: عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَإِخْوَانٌ يَسْتُرُونَ عَيْبَهُ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَمَالٌ يَتَحَبَّبُ بِهِ إلَى النَّاسِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَعِيٌّ صَامِتٌ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَمَوْتٌ جَارِفٌ.
وَقَالَ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ: الْعَقْلُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَطْبُوعٌ، وَالآخَرُ مَسْمُوعٌ. وَلَا يَصْلُحُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلا بِصَاحِبِهِ، فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: رَأَيْتُ الْعَقْلَ نَوْعَيْنِ فَمَسْمُوعٌ وَمَطْبُوعُ وَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ إذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ كَمَا لَا تَنْفَعُ الشَّمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعُ.
وَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الأدَبَاءِ الْعَاقِلَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ، وَالأحْمَقَ بِمَا فِيهِ مِنْ الرَّذَائِلِ، فَقَالَ: الْعَاقِلُ إذَا وَالَى بَذَلَ فِي الْمَوَدَّةِ نَصْرَهُ، وَإِذَا عَادَى رَفَعَ عَنْ الظُّلْمِ قَدْرَهُ، فَيُسْعِدُ مَوَالِيَهُ بِعَقْلِهِ، وَيَعْتَصِمُ مُعَادِيهِ بِعَدْلِهِ. إنْ أَحْسَنَ إلَى أَحَدٍ تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ بِالشُّكْرِ، وَإِنْ أَسَاءَ إلَيْهِ مُسِيءٌ سَبَّبَ لَهُ أَسْبَابَ الْعُذْرِ، أَوْ مَنَحَهُ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ. وَالأحْمَقُ ضَالٌّ مُضِلٌّ إنْ أُونِسَ تَكَبَّرَ، وَإِنْ أُوحِشَ تَكْدَرَ، وَإِنْ اُسْتُنْطِقَ تَخَلَّفَ، وَإِنْ تُرِكَ تَكَلَّفَ. مُجَالَسَتُهُ مِهْنَةٌ، وَمُعَاتَبَتُهُ مِحْنَةٌ، وَمُحَاوَرَتُهُ تَعَرٍّ، وَمُوَالاتُهُ تَضُرُّ، وَمُقَارَبَتُهُ عَمَى، وَمُقَارَنَتُهُ شَقَا. وَكَانَتْ مُلُوكُ الْفُرْسِ إذَا غَضِبَتْ عَلَى عَاقِلٍ حَبَسَتْهُ مَعَ جَاهِلٍ.
وَالأحْمَقُ يُسِيءُ إلَى غَيْرِهِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ فَيُطَالِبُهُ بِالشُّكْرِ، وَيُحْسِنُ إلَيْهِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فَيُطَالِبُهُ بِالْوَتَرِ. فَمَسَاوِئُ الأحْمَقِ لَا تَنْقَضِي وَعُيُوبُهُ لَا تَتَنَاهَى وَلَا يَقِفُ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى غَايَةٍ إلا لَوَّحَتْ مَا وَرَاءَهَا مِمَّا هُوَ أَدْنَى مِنْهَا، وَأَرْدَى، وَأَمَرُّ، وَأَدْهَى. فَمَا أَكْثَرَ الْعِبْرَ لِمَنْ نَظَرَ، وَأَنْفَعَهَا لِمَنْ اعْتَبَرَ. وَقَالَ الأحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُحْفَظُ الأحْمَقُ إلا مِنْ نَفْسِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إنَّ الدُّنْيَا رُبَّمَا أَقْبَلَتْ عَلَى الْجَاهِلِ بِالاتِّفَاقِ، وَأَدْبَرَتْ عَنْ الْعَاقِلِ بِالاسْتِحْقَاقِ. فَإِنْ أَتَتْك مِنْهَا سُهْمَةٌ مَعَ جَهْلٍ، أَوْ فَاتَتْك مِنْهَا بُغْيَةٌ مَعَ عَقْلٍ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ ذَلِكَ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْجَهْلِ، وَالزُّهْدِ فِي الْعَقْلِ. فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَلَيْسَ مَنْ أَمْكَنَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، كَمَنْ اسْتَوْجَبَهُ بِآلَتِهِ، وَأَدَوَاتِهِ. وَبَعْدُ فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى النُّقْلَةِ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ كَالنَّسِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى الْوَصْلَةِ. فَلَا يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ جَلِيلَةٍ نَالَهَا بِغَيْرِ عَقْلٍ، وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حَلَّهَا بِغَيْرِ فَضْلٍ. فَإِنَّ الْجَهْلَ يُنْزِلُهُ مِنْهَا، وَيُزِيلُهُ عَنْهَا، وَيَحُطُّهُ إلَى رُتْبَتِهِ، وَيَرُدُّهُ إلَى قِيمَتِهِ، بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ عُيُوبُهُ، وَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ، وَيَصِيرَ مَادِحُهُ هَاجِيًا، وَوَلِيُّهُ مُعَادِيًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُنْشَرُ مِنْ فَضَائِلِ الْعَاقِلِ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ رَذَائِلِ الْجَاهِلِ، حَتَّى يَصِيرَ مَثَلاً فِي الْغَابِرِينَ، وَحَدِيثًا فِي الآخِرِينَ، مَعَ هَتْكِهِ فِي عَصْرِهِ،