الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسألته عن غسل الجنابة فقال: تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء.
[*] فقالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
فهذه طريقتهم في طلب العلم وحرصهم عليه وحسن سؤالهم عن شئونهم الحقيقية، وتوصيفهم الصحيح لواقعهم بعد فهمهم الدين، فلم يكونوا يفترضون الأمثلة، ولا يطرحون الأمثلة للترف العلمي والفكري، فتعلموا ونقلوا الدين بأمانة، فوصلنا الدين من خلال هؤلاء الصحابة العلماء الأجلاء كاملاً مكملاً، فلا تجد ثغرة في ديننا ولا مسألة إلا وعندك منها علمًا، فجزى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عنَّا وعن أمة الإسلام خير الجزاء، وجزى صحابته خير الجزاء، وإنما أعرضوا عمَّا لا ينفع، وهذا ما علمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما جاءه رجل يقول: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها. اليوم أنت ـ أخي طالب العلم ـ من هؤلاء، وكيف تطلب؟ وعمَّ تسأل؟ وفيم تبحث؟!!!
(آداب طالب العلم:
مسألة: ما هي الآداب التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها؟
[*] لقد قدَّم الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد جملةً من الآداب التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها وهي في حقيقتها جملة من نصائحٍ ذهبية صادرةٌ عن إخلاصٍ وحسنِ طوية – نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحد _ أرجو أن تعرها سمعك وفكرك وأن تجد لك في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً وأن تتقبلها بقبولٍ حسن عسى الله تعالى أن ينفعك بها ويوفقك إلى تطبيقها. وهي على الترتيب الآتي:
أولا: آداب طالب العلم في نفسه
ثانياً: آداب طالب العلم مع شيخه
ثالثاً: آداب الزمالة
رابعاً: آداب طالب العلم في حياته العلمية
خامساً: التحلي بالعمل
سادساً: تأدية زكاة العلم
سابعاً: التحلي بعزة العلماء
ثامناً: صيانة العلم
تاسعاً: التحلي بالمدارة وليس المداهنة
عاشراً: التحلي بالغرام بالكتب
الحادي عشر: التخلي عن المحاذير التي لا تجعل العلم نافعاً فتقلبه من نورٍ على نار.
[*] (وإليك أخي تفصيل هذه الآداب:
(أولا: آداب طالب العلم في نفسه:
(1)
العلم عبادة:
أصل الأصول في هذه "الحلية" بل ولكل أمر مطلوب علمك بأن العلم عبادة، قال بعض العلماء: العلم صلاة السر، وعبادة القلب.
وعليه، فإن شرط العبادة إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، لقوله:
قال تعالى: (وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلَاةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ)[البينة / 5]
وتدبر في (حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
فإن فقد العلم إخلاص النية، انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات، وانقلب من نورٍ إلى نار ولا شيء يحطم العلم مثل: الرياء؛ رياء شرك، أو رياء إخلاص، ومثل التسميع؛ بأن يقول مسمعاً: علمت وحفظت، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به.
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ
(2)
وعليه؛ فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب؛ كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية، أفسدتها، وذهبت بركة العلم، يجب عليك أن تخلص النية في طلب العلم وأن تبتغي بذلك وجه الله تعالى وأن يكون قصدك من تعلم العلم أن تنفي الجهل عن نفسك فتستفيد ثم تفيد على قاعدة (اللهم اهدنا واهدي بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى) وليحذر أن يكون قصده أن يصيب عرضاً من الدنيا أو ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء فإن ذلك يحبط العمل ويجعله متعرضاً لسخط الله تعالى
والله تعالى يقول (مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ،
…
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) {هود/15،16}
)
حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
ولهذا يتعين عليك أن تحمى نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمى الحمى.
وللعلماء في هذا أقوال ومواقف بينت طرفاً منها في المبحث الأول من كتاب "التعالم"، ويزاد عليه نهى العلماء عن "الطبوليات"، وهى المسائل التي يراد بها الشهرة.
وقد قيل:"زلة العالم مضروب لها الطبل".
[*] وعن سفيان رحمه الله تعالى أنه قال:
"كنت أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة، سلبته".
فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون - مع بذل الجهد في الإخلاص - شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه.
[*] ويؤثر عن سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى قوله: "ما عالجت شيئاً أشد على من نيتي".
[*] وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده "يا أبي! مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بنى! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
وفقك الله لرشدك آمين.
الخصلة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ومحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحقيقها بتمحض المتابعة وقفوا الأسر للمعصوم.
قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ)[آل عمران / 31]
وبالجملة؛ فهذا أصل هذه "الحلية"، ويقعان منها موقع التاج من الحلة.
فيا أيها الطلاب! هاأنتم هؤلاء تربعتم للدرس، وتعلقتم بأنفس علق (طلب العلم)، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، فهي العدة، وهى مهبط الفضائل، ومتنزل المحامد، وهى مبعث القوة، ومعراج السمو، والرابط الوثيق على القلوب عن الفتن، فلا تفرطوا.
(كن على جادة السلف الصالح:
كن سلفياً على الجادة، طريق السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم ممن قفا أثرهم في جميع أبواب الدين، من التوحيد، والعبادات، ونحوها، متميزاً بالتزام آثار رسول الله وتوظيف السنن على نفسك، وترك الجدال، والمراء، والخوض في علم الكلام، وما يجلب الآثام، ويصد عن الشرع.
[*] قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"وصح عن الدارقطني أنه قال: ما شيء أبغض إلي من علم الكلام. قلت: لم يدخل الرجل أبداُ في علم الكلام ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً" ا هـ.
وهؤلاء هم (أهل السنة والجماعة) المتبعون آثار رسول الله،
[*] وهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وأهل السنة: نقاوة المسلمين، وهم خير الناس للناس" اهـ.
فالزم السبيل (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
2) ملازمة خشية الله تعالى:
التحلي بعمارة الظاهر والباطن بخشية الله تعالى؛ محافظاً على شعائر الإسلام، وإظهار السنة ونشرها بالعمل بها والدعوة إليها؛ دالاً على الله بعلمك وسمتك وعلمك، متحلياً بالرجولة، والمساهلة، والسمت الصالح.
(وملاك ذلك خشية الله تعالى.
[*] ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
"أصل العلم خشية الله تعالى". فالزم خشية الله في السر والعلن، فإن خير البرية من يخشى الله تعالى، وما يخشاه إلا عالم، إذن فخير البرية هو العالم، ولا يغب عن بالك أن العالم لا يعد عالماً إلا إذا كان عاملاً، ولا يعمل العالم بعلمه إلا إذا لزمته خشية الله.
وأسند الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بسند فيه لطيفة إسنادية برواية آباء تسعة، فقال: أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن زيد بن أكينة ابن عبد الله التميمي من حفظه؛ قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبى يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل" ا هـ.
وهذا اللفظ بنحوه مروي عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى.
3) التحلي بدوام المراقبة لله تعالى في السر والعلن، سائراً إلى ربك بين الخوف والرجاء، فإنهما للمسلم كالجناحين للطائر.
فأقبل على الله بكليتك، وليمتلئ قلبك بمحبته، ولسانك بذكره، والاستبشار والفرح والسرور بأحكامه وحكمه سبحانه.
4) خفض الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء:
تحل بآداب النفس، من العفاف، والحلم، والصبر، والتواضع للحق، وسكون الطائر، من الوقار والرزانة، وخفض الجناح، متحملاً ذل التعلم لعزة العلم، ذليلا للحق.
وعليه، فاحذر نواقض هذه الآداب، فإنها مع الإثم تقيم على نفسك شاهداً على أن في العقل علة، وعلى حرمان من العلم والعمل به، فإياك والخيلاء، فإنه نفاق وكبرياء، وقد بلغ من شدة التوقي منه عند السلف مبلغاً.
ومن دقيقه ما أسنده الذهبي في ترجمة عمرو بن الأسود العنسي المُتوفى في خلافة عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى: أنه كان إذا خرج من المسجد قبض بيمينه على شماله، فسئل عن ذلك؟ فقال: مخافة أن تنافق يدي.
قلت: يمسكها خوفاً من أن يخطر بيده في مشيته، فإن ذلك من الخيلاء اهـ.
وهذا العارض عرض للعنسي رحمه الله تعالى.
5) واحذر داء الجبابرة:
(الكبر)، فإن الكبر والحرص والحسد أول ذنب عصى لله به، فتطاولك على معلمك كبرياء، واستنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء، وتقصيرك عن العمل بالعلم حمأة كبر، وعنوان حرمان.
العلم حرب للفتى المعالي كالسيل حرب للمكان العالي
فالزم - رحمك الله - اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك، وهضمها، ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب .. ونحو ذلك من آفات العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علماً أو رفعة في ولاية، فالزم ذلك، تحرز سعادة عظمى، ومقاماً يغبطك عليه الناس.
وعن عبد الله ابن الإمام الحجة الراوية في الكتب السنة بكر بن عبد الله المزني رحمهما الله تعالى، قال:
"سمعت إنساناً يحدث عن أبي، أنه كان واقفاً بعرفة، فرق، فقال: لولا أني فيهم، لقلت: قد غفر لهم".
خرجه الذهبي، ثم قال:
"قلت: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها"ا هـ.
{تنبيه} : (واحذر أخو الكبر في السوء وهو العُجْب والعياذ بالله تعالى فإنه من المهلكات:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شح مطاع و إعجاب المرء بنفسه.
6) التحلي بالقناعة والزهادة، وحقيقة الزهد:"الزهد بالحرام، والابتعاد عن حماه، بالكف عن المشتهات وعن التطلع إلى ما في أيدي الناس".
[*] ويؤثر عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
"لو أوصى إنسان لأعقل الناس، صرف إلى الزهاد".
[*] وعن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى لما قيل له: ألا تصنف كتابا في الزهد؟ قال:
"قد صنفت كتاباً في البيوع".
يعنى:"الزاهد من يتحرز عن الشبهات، والمكروهات، في التجارات، وكذلك في سائر المعاملات والحرف" ا هـ.
وعليه، فليكن معتدلاً في معاشه بما لا يشينه، بحيث يصون نفسه ومن يعول، ولا يرد مواطن الذلة والهون.
وقد كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطى المتوفى في 17/ 12/1393هـ رحمه الله تعالى متقللاً من الدنيا، وقد شاهدته لا يعرف فئات العملة الورقية، وقد شافهني بقوله:
"لقد جئت من البلاد - شنقيط - ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد، وهو (القناعة)، ولو أردت المناصب، لعرفت الطريق إليها، ولكني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية".
فرحمه الله تعالى رحمه واسعة آمين.
7) التحلي برونق العلم:
و (رونق العلم) حسن السمت، والهدى الصالح، من دوام السكينة، والوقار، والخشوع، والتواضع، ولزوم المحجة، بعمارة الظاهر والباطن، والتخلي عن نواقضها.
[*] وعن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال:
"كانوا يتعلمون الهدى كما يتعلمون العلم".
[*] وعن رجاء بن حيوة رحمه الله تعالى أنه قال لرجل:
"حدثنا، ولا تحدثنا عن متماوت ولا طعان".
رواهما الخطيب في "الجامع"، وقال:
8) "يجب على طالب الحديث أن يتجنب: اللعب، والعبث، والتبذل في المجالس، بالسخف، والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح بيسيره ونادره وطريفة، والذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصلة وفاحشة وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر، فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة" اهـ.
وقد قيل:"من أكثر من شيء، عرف به".
فتجنب هاتيك السقطات في مجالستك ومحادثتك.
وبعض من يجهل يظن أن التبسط في هذا أريحية.
[*] وعن الأحنف بن قيس قال:
"جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافاً لفرجه وبطنه".
وفي كتاب المحدث الملهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء:
"ومن تزين بما ليس فيه، شانه الله".
وانظر شرحه لابن القيم رحمه الله تعالى.
9) التحلي بـ (المروءة)، وما يحمل إليها، من مكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وتحمل الناس، والأنفة من غير كبرياء، والعزة في غير جبروت، والشهامة في غير عصبية، والحمية في غير جاهلية. وعليه فتنكب (خوارم المروءة)، في طبع، أو قول، أو عمل، من حرفة مهينة، أو خلة رديئة، كالعجب، والرياء، والبطر، والخيلاء، واحتقار الآخرين، وغشيان مواطن الريب.
10) التمتع بخصال الرجولة:
تمتع بخصال الرجولة، من الشجاعة، وشدة البأس في الحق، ومكارم الأخلاق، والبذل في سبيل المعروف، حتى تنقطع دونك آمال الرجال.
وعليه، فاحذر نواقضها، من ضعف الجأش، وقلة الصبر، وضعف المكارم، فإنها تهضم العلم، وتقطع اللسان عن قوله الحق، وتأخذ بناصيته إلى خصومة في حالة تلفح بسمومها في وجوه الصالحين من عباده.
11) عدم الاسترسال في التنعم والرفاهية:
لا تسترسل في (التنعم والرفاهية)، فإن "البذاذة من الإيمان"، وإياك والتنعم
وتدبر في (حديث أبي أمامة في صحيح بن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البذاذة من الإيمان. وتدبر في (حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياك و التنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين.
وخذ بوصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه في كتابه المشهور، وفيه:
"وإياكم والتنعم وزي العجم، وتمعددوا، واخشوشنوا 000".
وعليه، فازور عن زيف الحضارة، فإنه يؤنث الطباع، ويرخى الأعصاب، ويقيدك بخيط الأوهام، ويصل المجدون لغاياتهم وأنت لم تبرح مكانك، مشغول بالتأنق في ملبسك، وإن كان منها شيات ليست محرمة ولا مكروهة، لكن ليست سمتاً صالحاً، والحلية في الظاهر كاللباس عنوان على انتماء الشخص، بل تحديد له، وهل اللباس إلا وسيلة التعبير عن الذات؟!
فكن حذراً في لباسك، لأنه يعبر لغيرك عن تقويمك، في الانتماء، والتكوين، والذوق، ولهذا قيل: الحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن، والناس يصنفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف اللابس من:
الرصانة والتعقل.
أو التمشيخ والرهبنة.
أو التصابي وحب الظهور.
فخذ مم اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالا لقائل، ولا لمزا للامز، وإذا تلاقى ملبسك وكيفية لبسك بما يلتقي مع شرف ما تحمله من العلم الشرعي، كان أدعى لتعظيمك والانتفاع بعلمك، بل بحسن نيتك يكون قربة، إنه وسيلة إلى هداية الخلق للحق.
[*] وفي المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب".
أي: ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.
والناس - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.
(فإياك ثم إياك من لباس التصابي، أما اللباس الإفرنجي، فغير خاف عليك حكمه، وليس معنى هذا أن تأتى بلباس مشوه، لكنه الاقتصاد في اللباس برسم الشرع، تحفه بالسمت الصالح والهدي الحسن.
وتطلب دلائل ذلك في كتب السنة الرقاق، لا سيما في "الجامع" للخطيب.
ولا تستنكر هذه الإشارة، فما زال أهل العلم ينبهون على هذا في كتب الرقاق والآداب واللباس، والله أعلم.
12) الإعراض عن مجالس اللغو:
لا تطأ بساط من يغشون في ناديهم المنكر، ويهتكون أستار الأدب، متغابياً عن ذلك، فإن فعلت ذلك، فإن جنايتك على العلم وأهله عظيمة.
الإعراض عن الهيشات:
التصون من اللغط والهيشات، فإن الغلط تحت اللغط، وهذا ينافي أدب الطلب.
ومن لطيف ما يستحضر هنا ما ذكره صاحب "الوسيط في أدباء شنقيط" وعنه في "معجم المعاجم":
"أنه وقع نزاع بين قبيلتين، فسعت بينهما قبيلة أخرى في الصلح، فتراضوا بحكم الشرع، وحكموا عالماً، فاستظهر قتل أربعة من قبيلة بأربعة قتلوا من القبيلة الأخرى، فقال الشيخ باب بن أحمد: مثل هذا لا قصاص فيه. فقال القاضي: إن هذا لا يوجد في كتاب. فقال: بل لم يخل منه كتاب. فقال القاضي: هذا "القاموس" يعنى أنه يدخل في عموم كتاب - فتناول صاحب الترجمة "القاموس" وأول ما وقع نظره عليه: "والهيشة: الفتنة، وأم حبين، وليس في الهيشات قود"، أي: في القتيل في الفتنة لا يدرى قاتله، فتعجب الناس من مثل هذا الاستحضار في ذلك الموقف الحرج"أ هـ ملخصاً.
13) التحلي بالرفق:
التزم الرفق في القول، مجتنباً الكلمة الجافية، فإن الخطاب اللين يتألف النفوس الناشزة.
وأدلة الكتاب والسنة في هذا متكاثرة منها ما يلي:
(حديث جرير ابن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يُحرم الرفق يُحرم الخير.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانه.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة إن الله رفيقٌ يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه.
14) التحلي بالتأمل، فإن من تأمل أدرك، وقيل:"تأمل تدرك".
وعليه، فتأمل عند التكلم: بماذا تتكلم؟ وما هي عائد ته؟ وتحرز في العبارة والأداء دون تعنت أو تحذلق، وتأمل عند المذاكرة كيف تختار القالب المناسب للمعنى المراد، وتأمل عند سؤال السائل كيف تتفهم السؤال على وجهه حتى لا يحتمل وجهين؟ وهكذا.
15) الثبات والتثبت:
تحل بالثبات والتثبت، لا سيما في الملمات والمهمات، ومنه: الصبر والثبات في التلقي، وطي الساعات في الطلب على الأشياخ، فإن "من ثبت نبت".
16) أن يحرص على العلم وأن يُقبل عليه إقبال الظامئ على المورد العذب. وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شيء حتى الزواج ولذا فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لم يتزوج إلا بعد الأربعين، وأُهديت إلى أبي بكرٍ الأنباري جاريةٌ فلما دخلت عليه تفكَّر في استخراج مسألةٍ فعزبت عنه فقال: أخرجوها إلى النخاس فقالت هل لي من ذنب؟ قال: لا إلا أن قلبي اشتغل بك، وما قدْرُ مِثْلِكِ أن يمنعني علمي.
17) ينبغي له أن يحرص على حِلَقِ العلم ولو بالتناوب مع زميلٍ له عند ضيقِ الوقت فيحضر أحده. ما ويخبر صاحبه بالعلم الذي سمعه ويحضر الآخر ويخبر صاحبه بالعلم الذي سمعه فإنه كان من فعل الصحابة رضي الله عنهم
(حديث عمر في صحيح البخاري) قال: وكان رجلاً من الأنصار إذا غاب عن رسول الله وشهدته أتيته بما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18) أن يلقي زمامه إلى المعلم إلقاء المريض إلى الطبيب فيتواضع له ويبالغ في خدمته، فقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بركاب زيدٍ ابن ثابت رضي الله عنه ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.
قال علىُّ رضي الله عنه: إن من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامةً وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه ولا تشير عنده بيدك ولا تغمز بعينك ولا تكثر عليه السؤال ولا تعينه في الجواب ولا تلح عليه إذا كسل ولا تراجفُهُ إذا امتنع، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ولا تفش له سراً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً ولا تطلبنَّ عثرته وإن زلَّ قبلت معذرته، ولا تقولنَّ له: سمعت فلاناً يقول كذا ولا إن فلاناً يقول خلافك، ولا تصفنَّ عنده عالماً، ولا تعرضنَّ من طول صحبته، ولا ترفع نفسك عن خدمته وإذا عرضت له حاجةً سبقت القوم إليها فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط لك منها شيء.
{تنبيه} : (وكلما زاد تواضع طالب العلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته وَمُنِعَ العلم.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دع حكمته.
[*] قال مجاهد رحمه الله تعالى: لا يتعلم العلم مستحيٍ ولا مستكبر
(19)
يجب عليه أن يكون علمه مرتكزاً على الكتاب والسنة الصحيحة، فيتمسك بهما ويعض عليهما بالنواجذ فيكونا له كالجناحين للطائر لأنهما سبب النجاة من الضلال بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله و سنتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض.
{تنبيه} : (ويجب على طالب العلم أن يمسك بالوحيين كليهما (الكتاب والسنة) ولا ينزلق في هاوية من يتمسك بالقرآن ويدع السنة فإن ذلك ضلال وإضلال لأن ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله تعالى إذ هو مبَّلغ الشرع عن الله تعالى.
(حديث المقدام بن معد يكرب في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه.
ومن المؤسف في زماننا هذا تجرئ بعض الجهلة ممن لا يُقَامُ لهم وزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون إنه بشرٌ مثلنا هات الدليل من القرآن فقط وهذا يدل – ولا شك – على أن قائل هذه العبارة أضلُ من حمار أهله وأنه جاهلٌ جهل مركب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك سيقع في أمته
(حديث المقدام ابن معد يكرب في صحيحي أبي داوود وزالترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوشِكُ الرجلُ متكئاً على أريكته يُحدثُ بحديثٍ من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرَّم الله.
قال أبو قلابة رحمه الله تعالى: إذا رأيت الرجل يقول دعنا من السنة وهات الكتاب فاعلم أنه ضال
[*] وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
دين النبي محمدٍ أخبارُ
…
نعم المطيةُ للفتى الآ ثارُ
لا ترغبَّنَّ عن الحديثِ وأهله
…
فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهارُ
(20)
أن يتبع سنة الخلفاء الراشدين المهدين فإنها وصية النبي صلى الله عليه وسلم:
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
(21)
يجب عليه ألا يستغرق عمره كله في فنٍ واحدٍ من العلوم بل يأخذ من كلِ شيء أحسنه فإن العلم كثير والعمر قصير، وليجعل جُل اهتمامه بعلم التوحيد لأن التوحيد مقدَّمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفعُ مع الشرك عمل ثم يهتم بفقه الأحكام حتى يصحح عمله، ثم يأخذ من باقي العلوم ما يفيده منها فيأخذ مثلاً من اللغة ما يصحح به ألفاظه ويأخذ منها ما يجعل الموضوع في جلباب الفصاحةِ الأغر الذي يجذب النفوس النافرة ويرد الأهواء الشاردة دون توسع، ويأخذُ من الرقائق المقدار الذي يُذيب به قسوة قلبه، ويأخذ من الأصول ما يستطيع به تأصيل المسألة، وهكذا
[*] قال ابن عباس رضيَ الله تعالى عنهما:
ما أصعب العلم ما أوسعه
…
من ذا الذي يقدرُ أن يجمعه
إن كنت له لا بد طالباً
…
فالتمس أنفعه
(22)
ينبغي لطالب العلم أن يتعهد الناس بالموعظة ويراعي في ذلك شيئين أساسيين هما:
الأول: أن تكون الموعظة خلال الأيام وليست كل يوم حتى لا يمل الناس.
(حديث أبن مسعودٍ في الصحيحين) قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظةِ خلال الأيام كراهة السآمة علينا.
السآمة: أي الملل
الثاني: أن يعظَ الناس بما يستطيع ولو آية يعلم معناها الصحيح ولا ينتظر حتى يكتمل علمه فإن هذا لا يحصلُ غالباً فسبحان من له الكمال
(حديث عبد الله ابن عمرو في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلغوا عني و لو آية و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
23) ينبغي لطالب العلم أن يتعلم قسطاً من البلاغة لاستمالة القلوب بتحسين الأسلوب ويحسن به أن يقتبس من أسلوب الكتاب والسنة فليس هناك أبلغ من أسلوبهما وأن يستفيد كذلك من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم ويتأسى به في ذلك فيعظ الناس بكلام مفيدٍ جامع.
(حديث أبي موسى في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أُعطيت الكلام وجوامعه وخواتمه.
{تنبيه} : (وليحذر طالب العلم من الإفراط في البلاغة والتقعر في الكلام فإن ذلك مذموم:
(حديث عبد الله ابن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يُبْغِضُ البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخللَ الباقرةِ بلسانها.
معنى يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها: أن يتشدق بلسانه ويتقعر في الكلام ويتكلف الفصاحة فيلف الكلام لفاً كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً.
(24)
ويجب على طالب العلم أن يتجنب الجدل العقيم الذي لا طائل من ورائه الذي لا يكن قصدُه بيان الحق وهداية الخلق وإنما يكن قصده مجرد المغالبة والعلو والعياذ بالله فإنه يكون سبباً في الضلال ثم هو أيضاً صفةٌ مذمومة يُبغضها الله تعالى
(حديث أبي أمامة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا قوله تعالى (بل هم قومٌ خَصِمون)
(حديث أبي أمامة في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
معنى زعيم: أي ضمين
ربض الجنة: حولها خارجٌ عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أبغض الرجال عند الله الألدُ الخَصِم.
معنى الألد: شديدُ اللدودة أي شديدُ الجدال
معنى الخَصِم: أي شديدُ الخصومة
(25)
وعلى طالب العلم أن يكتب ما يتعلمه ليرجع إلى الكتابة كلما أُشكل عليه شيء، لأن الكتابةَ أثبت للذهن
(حديث عبد الله ابن عمرو في صحيح أبي داود) قال كنت أكتب كلَ شيء أسمعُهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريشٌ وقالت: أتكتبُ كلَ شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا فأمسكتُ عن الكتاب وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال اكتب فوالدي نفسي بيده ما يخرجُ منه إلا حق.
(26)
يجب على طالب العلم أن لا يتجرأ على الفتيا فإنه من أُفتِيَ بغيرِ علمٍ كان إثمه على من أفتاه، ولا يكن همُّه خلاص السائل وليكن همُّه خلاص نفسه فإن السلامةَ لا يعدلها شيء.
(حديث أبي هريرة صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أُُفْتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه.
(27)
ويجب على طالب العلم أن ينصح الناس ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر في الأمور التي يعلمها ولا يمنعه هيبة الناس أن يقول بحقٍ إذا علمه:
(حديث أبي سعيد في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحقٍ إذا علمه أو شهده أو سمعه.
(ثانيا: آداب طالب العلم مع شيخه:
1) رعاية حرمة الشيخ:
بما أن العلم لا يؤخذ ابتداء من الكتب بل لا بد من شيخ تتقن عليه مفاتيح الطلب، لتأمن من العثار والزلل، فعليك إذاً بالتحلي برعاية حرمته، فإن ذلك عنوان النجاح والفلاح والتحصيل والتوفيق، فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف، فخذ بمجامع الآداب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه ومع الكتاب، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنباً الإكثار من السؤال، ولا سيما مع شهود الملأ، فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل.
ولا تناديه باسمه مجرداً، أو مع لقبه كقولك: يا شيخ فلان! بل قل: يا شيخى! أو يا شيخنا! فلا تسمه، فإنه أرفع في الأدب، ولا تخاطبه بتاء الخطاب، أو تناديه من بعد من غير اضطرار.
وانظر ما ذكره الله تعالى من الدلالة على الأدب مع معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[سورة: النور - الآية: 63] وكما لا يليق أن تقول لوالدك ذي الأبوة الطينية: ”يا فلان” أو: ”يا والدي فلان” فلا يجمل بك مع شيخك.
والتزم توقير المجلس، وإظهار السرور من الدرس والإفادة به.
وإذا بدا لك خطأ من الشيخ، أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك، فإنه سبب لحرمانك من علمه، ومن ذا الذي ينجو من الخطأ سالماً؟ واحذر أن تمارس معه ما يضجره، ومنه ما يسميه المولدون: ”حرب الأعصاب”، بمعنى: امتحان الشيخ على القدرة العلمية والتحمل.
وإذا بدا لك الانتقال إلى شيخ آخر، فاستأذنه بذلك؛ فإنه أدعى لحرمته، وأملك لقلبه في محبتك والعطف عليك 000
إلى آخر جملة من الأدب يعرفها بالطبع كل موفق مبارك وفاء لحق شيخك في ”أبوته الدينية”، أو ما تسميه بعض القوانين باسم ”الرضاع الأدبى:، وتسمية بعض العلماء له ”الأبوة الدينية” أليق، وتركه أنسب.
واعلم أنه بقدر رعاية حرمته يكون النجاح والفلاح، وبقدر الفوت يكون من علامات الإخفاق.
{تنبيه} : (أعيذك بالله من صنيع الأعاجم، والطرقية، والمبتدعة الخلفية، من الخضوع الخارج عن آداب الشرع، من لحس الأيدي، وتقبيل الأكتاف، والقبض على اليمين باليمين والشمال عند السلام، كحال تودد الكبار للأطفال، والانحناء عند السلام، واستعمال الألفاظ الرخوة المتخاذلة: سيدي، مولاي، ونحوها من ألفاظ الخدم والعبيد.
[*] وانظر ما يقوله العلامة السلفي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الجزائري (م سنة 1380 هـ) رحمه الله تعالى في ”البصائر"؛ فإنه فائق السياق.
رأس مالك – أيها الطالب – من شيخك:
القدوة بصالح أخلاقه وكريم شمائله، أما التلقي والتلقين فهو ربح زائد، لكن لا يأخذك الاندفاع في محبة شيخك فتقع في الشناعة من حيث لا تدرى وكل من ينظر إليك يدري، فلا تقلده بصوت ونغمة، ولا مشية وحركة وهيئة، فإنه إنما صار شيخاً جليلاً بتلك، فلا تسقط أنت بالتبعية له في هذه.
{التحذير من التلقي عن المبتدع} :
(احذر ”أبا الجهل” المبتدع، الذي مسه زيغ العقيدة، وغشيته سحب الخرافة، يحكم الهوى ويسميه العقل، ويعدل عن النص، وهل العقل إلا في النص؟! ويستمسك بالضعيف ويبعد عن الصحيح، ويقال لهم أيضاً: ”أهل الشبهات” (1)، و ”أهل الأهواء”، ولذا كان ابن المبارك (2) رحمه الله تعالى يسمى المبتدعة: ”الأصاغر”.
[*] وقال الذهبي رحمه الله تعالى:
“إذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث، وهات (العقل)، فاعلم أنه أبو جهل، وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر، أو قد حل فيه، إن جبنت منه فاهرب، وإلا، فاصرعه، وابرك على صدره، واقرأ عليه آية الكرسي، واخنقه” اهـ.
[*] وقال أيضاً الذهبي رحمه الله تعالى:
“وقرأت بخط الشيخ الموفق قال: سمعنا درسه –أي ابن أبى عصرون – مع أخي أبى عمر وانقطعنا، فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعد، فقال: لم انقطعتم عنى؟ قلت: إن أناساً يقولون: إنك أشعري، فقال: والله ما أنا أشعري. هذا معنى الحكاية” اهـ.
[*] وعن مالك رحمه الله تعالى قال:
“لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به”.
فيا أيها الطلب! إذا كنت في السعة والاختيار؛ فلا تأخذ عن مبتدع: رافضي، أو خارجي، أو مرجئ، أو قدري، أو قبوري، 000 وهكذا، فإنك لن تبلغ مبلغ الرجال – صحيح العقد في الدين، متين الاتصال بالله، صحيح النظر، تقفو الأثر – إلا بهجر المبتدعة وبدعهم.
وكتب السير والاعتصام بالسنة حافلة بإجهاز أهل السنة على البدعة، ومنابذة المبتدعة، والابتعاد عنهم، كما يبتعد السليم عن الأجرب المريض، ولهم قصص وواقعيات يطول شرحها (1)، لكن يطيب لي الإشارة إلى رؤوس المقيدات فيها:
فقد كان السلف رحمهم الله تعالى يحتسبون الاستخفاف بهم، وتحقيرهم ورفض المبتدع وبدعته، ويحذرون من مخالطتهم، ومشاورتهم، ومؤاكلتهم، فلا تتوارى نار سني ومبتدع.
وكان من السلف من لا يصلى على جنازة مبتدع، فينصرف وقد شوهد من العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم (م سنة 1389 هـ) رحمه الله تعالى، انصرافه عن الصلاة على مبتدع.
وكان من السلف من ينهى عن الصلاة خلفهم، وينهى عن حكاية بدعهم، لأن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة.
وكان سهل بن عبد الله التستري لا يرى إباحة الأكل من الميتة .. للمبتدع عند الاضطرار، لأنه باغ، لقول الله تعالى:(فمن اضطر غير باغ 00) الآية، فهو باغ ببدعته.
(وكانوا يطردونهم من مجالسهم، كما في قصة الإمام مالك رحمه الله تعالى مع من سأله عن كيفية الاستواء، وفيه بعد جوابه المشهور:”أظنك صاحب بدعة”، وأمر به، فأخرج.
وأخبار السلف متكاثرة في النفرة من المبتدعة وهجرهم، حذراً من شرهم، وتحجيما لانتشار بدعهم، وكسرا لنفوسهم حتى تضعف عن نشر البدع، ولأن في معاشرة السني للمبتدع تزكية له لدى المبتدئ والعامي – والعامي: مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً.
ونرى في كتب المصطلح، وآداب الطلب، وأحكام الجرح والتعديل: الأخبار في هذا.
(فيا أيها الطالب! كن سلفيا على الجادة، واحذر المبتدعة أن يفتنوك، فإنهم يوظفون للاقتناص والمخاتلة سبلا، يفتعلون تعبيدها بالكلام المعسول – وهو: (عسل) مقلوب – وهطول الدمعة، وحسن البزة، والإغراء الخيالات، والإدهاش بالكرامات، ولحس الأيدي، وتقبيل الأكتاف 00 وما وراء ذلك إلا وحم البدعة، ورهج الفتنة، يغرسها في فؤادك، ويعتملك في شراكه، فوالله لا يصلح الأعمى لقيادة العميان وإرشادهم.
[*] (أما الأخذ عن علماء السنة، فالعق العسل ولا تسل.
وفقك الله لرشدك، لتنهل من ميراث النبوة صافياً، وإلا، فليبك على الدين من كان باكياً.
وما ذكرته لك هو في حالة السعة والاختيار، أما إن كنت في دراسة نظامية لا خيار لك، فاحذر منه، مع الاستعاذة من شره، باليقظة من دسائسه على حد قولهم:”اجن الثمار وألق الخشبة في النار”، ولا تتخاذل عن الطلب، فأخشى أن يكون هذا من التولي يوم الزحف، فما عليك إلا أن تتبين أمره وتتقى شره وتكشف ستره.
ومن النتف الطريفة أن أبا عبد الرحمن المقرئ حدث عن مرجئ، فقيل له: لم تحدث عن مرجئ؟ فقال:”أبيعكم اللحم بالعظام”
فالمقرئ رحمه الله تعالى حدث بلا غرر ولا جهالة إذ بين فقال:”وكان مرجئاً”.
وما سطرته لك هنا هو من قواعد معتقدك، عقيدة أهل السنة والجماعة، ومنه ما في ”العقيدة السلفية” لشيخ الإسلام أبى عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (م سنة 449 هـ)، قال رحمه الله تعالى:
ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالأذان وقرت في القلوب، ضرت وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت وفيه أنزل الله عز وجل قوله:”وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره” أ هـ.
[*] وعن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له: صبيغ، قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن؟ فأرسل إليه عمر رضي الله عنه وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عرجوناً من تلك العراجين، فضربه حتى دمى رأسه، ثم تركه حتى برأ ثم عاد ثم تركه حتى برأ، فدعي به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلى فاقتلني قتلاً جميلاً فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبى موسى الأشعري باليمن: لا يجالسه أحد من المسلمين. [رواه الدارمي].
وقيل: كان متهماً برأي الخوارج.
[*] والنووي رحمه الله تعالى قال في كتاب ”الأذكار”:
“باب: التبري من أهل البدع والمعاصي”.
وذكر حديث أبى موسى رضي الله عنه:”أن رسول الله صلي الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة”. متفق عليه.
وعن ابن عمر براءته من القدرية. رواه مسلم.
والأمر في هجر المبتدع ينبني على مراعاة المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها، وعلى هذا تتنزل المشروعية من عدمها، كما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع.
والمبتدعة إنما يكثرون ويظهرون، إذا قل العلم، وفشا الجهل.
[*] وفيهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
“فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال” أ هـ.
فإذا اشتد ساعدك في العلم، فاقمع المبتدع وبدعته بلسان الحجة والبيان، والسلام.
(ثالثاً آداب الزمالة:
1) احذر قرين السوء:
كما أن العرق دساس فإن ”أدب السوء دساس”، إذ الطبيعة نقال، والطباع سراقة، والناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض، فاحذر معاشرة من كان كذلك، فإنه العطب والدفع أسهل من الرفع”.
(وعليه، فتخير للزمالة والصداقة من يعينك على مطلبك، ويقربك إلى ربك ويوافقك على شريف غرضك ومقصدك وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.
وفي (حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
[*] ومن نفيس كلام هشام بن عبد الملك ”م سنة 125هـ”قوله:
“ما بقى من لذات الدنيا شئ إلا أخ أرفع مؤونة التحفظ بيني وبينه” أ هـ.
[*] ومن لطيف ما يفيد بعضهم:
“العزلة من غير عين العلم: زلة ومن غير زاي الزهد: علة”
(آداب طالب العلم في حياته العلمية:
1) علو الهمة في العلم:
من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة، مركز السالب والموجب في شخصك، الرقيب على جوارحك، كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيراً غير مجذوذ، لترقى إلى درجات الكمال، فيجرى في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يراك الناس واقفاً إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطاً يديك إلا لمهمات الأمور.
والتحلي بها يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال، ويجتنب منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة، فكبير الهمة ثابت الجأش، لا ترهبه المواقف، وفاقدها جبان رعديد، تغلق فمه الفهاهة.
ولا تغلط فتخلط بين علو الهمة والكبر، فإن بينهما من الفرق كما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع.
(كبر الهمة حلية ورثة الأنبياء، والكبر داء المرضى بعلة الجبابرة البؤساء.
فيا طالب العلم ارسم لنفسك كبر الهمة، ولا تنفلت منه وقد أومأ الشرع إليها في فقهيات تلابس حياتك، لتكون دائماً على يقظة من اغتنامها، ومنها: إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء، وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء، لما في ذلك من المنة التي تنال من الهمة منالاً، وعلى هذا فقس.
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّه وَتَرْجَمَةِ مَا سَبَقَ وَمَا يَأْتِي وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ وَجَدَ هِمَّتَهُ فِي الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ مِنْ أَعْلَى الْهِمَمِ ، وَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ دَغْفَلًا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ أَيُّ بَيْتٍ أَفْخَرُ ، قَالَ: قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَهُ هِمَمٌ لَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا وَهِمَّتُهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنْ الدَّهْرِ لَهُ رَاحَةٌ لَوْ أَنَّ مِعْشَارَ جُودِهَا عَلَى الْبَرِّ كَانَ الْبَرُّ أَنْدَى مِنْ الْبَحْرِ.
2) النهمة في الطلب:
إذا علمت الكلمة المنسوبة إلى الخليفة الراشد علي بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه: ”قيمة كل امرئ ما يحسنه” وقد قيل: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها، فاحذر غلط القائل: ما ترك الأول للآخر وصوابه: كم ترك الأول للآخر!
فعليك بالاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وابذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم، فتذكر:”كم ترك الأول للآخر”!
[*] وفي ترجمة أحمد بن عبد الجليل من ”تاريخ بغداد” للخطيب ذكر من قصيدة له:
لا يكون السري مثل الدني
…
لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي
قيمة المرء كلما أحسن المر
…
ء قضاء من الإمام علي
3) الرحلة للطلب:
فمن لم يرحل في طلب العلم، للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعد تأهله ليرحل إليه، لأن هؤلاء العلماء الذين مضى وقت في تعلمهم، وتعليمهم، والتلقي عنهم: لديهم من التحريرات، والضبط، والنكات العلمية، والتجارب، ما يعز الوقوف عليه أو على نظائره في بطون الأفار.
واحذر القعود عن هذا على مسلك المتصوفة البطالين، الذين يفضلون ”علم الخرق” على ”علم الورق”.
وقد قيل لبعضهم: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق؟ فقال ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الخلاق؟!
وقال آخر:
إذا خاطبوني بعلم الورق
…
برزت عليهم بعلم الخرق
فاحذر هؤلاء، فإنهم لا للإسلام نصروا، ولا للكفر كسروا، بل فيهم من كان بأساً وبلاء على الإسلام.
4) حفظ العلم كتابة:
ابذل الجهد في حفظ العلم (حفظ كتاب)، لأن تقييد العلم بالكتابة أمان من الضياع، وقصر لمسافة البحث عند الاحتياج، لا سيما في مسائل العلم التي تكون في غير مظانها، ومن أجل فوائده أنه عند كبر السن وضعف القوى يكون لديك مادة تستجر منها مادة تكتب فيها بلا عناء في البحث والتقصي. وكتابة العلم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظة فنهتني قريش وقالوا أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.
ولذا فاجعل لك (مذكرة) لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانها، وإن استعملت غلاف الكتاب لتقييد ما فيه من ذلك، فحسن، ثم تنقل ما يجتمع لك بعد في مذكرة، مرتباً له على الموضوعات، مقيداً رأس المسألة، واسم الكتاب، ورقم الصفحة والمجلد، ثم اكتب على ما قيدته:”نقل”، حتى لا يختلط بما لم ينقل، كما تكتب:”بلغ صفحة كذا ”فيما وصلت إليه من قراءة الكتاب حتى لا يفوتك ما لم تبلغه قراءة.
وللعلماء مؤلفات عدة في هذا، منها: ”بدائع الفوائد” لابن القيم، و ”خبايا الزاويا” للزركشى، ومنها: كتاب ”الإغفال” و ”بقايا الخبايا” وغيرها.
وعليه فقيد العلم بالكتاب، لا سيما بدائع الفوائد في غير مظانها، وخبايا الزوايا في غير مساقها، ودراً منثورة تراها وتسمعها تحشى فواتها
…
. وهكذا فإن الحفظ يضعف، والنسيان يعرض.
[*] قال الشعبي: ”إذا سمعت شيئاً، فاكتبه، ولو في الحائط”.
رواه خيثمة.
وإذا اجتمع لديك ما شاء الله أن يجتمع فرتبه في (تذكرة) أو (كناش) على الموضوعات، فإن يسعفك في أضيق الأوقات التي قد يعجز عن الإدراك فيها كبار الأثبات.
5) حفظ الرعاية:
ابذل الوسع في حفظ العلم (حفظ رعاية) بالعمل والاتباع،
[*] قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
“ويجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده وجه الله سبحانه.
وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض، وطريقاً إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه.
وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه.
وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب، وعالم كالجاهل، وحامل للحديث ليس معه منه شيء إذ كان في إطراحه لحكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه.
وينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى يقول:”لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة”. أ. هـ.
6) تعاهد المحفوظات:
تعاهد علمك من وقت إلى آخر، فان عدم التعاهد عنوان الذهاب للعلم مهما كان.
وتدبر في (حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها، أمسكها، وإن أطلقها، ذهبت.
[*] قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:
“وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه، ذهب عنه أي من كان، لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد، فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة؟!
وخير العلوم ما ضبط أصله، واستذكر فرعه، وقاد إلى الله تعالى، ودل على ما يرضاه” أ هـ.
[*] وقال بعضهم: كل عز لم يؤكد بعلم، فإلى ذلك مصيره أ هـ.
7) التفقه بتخريج الفروع على الأصول:
من وراء الفقه: التفقه، ومعتمله هو الذي يعلق الأحكام بمداركها الشرعية.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. (في (حديث زيدٍ بن ثابت الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نضَّر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه.
[*] قال ابن خير رحمه الله تعالى في فقه الحديث:
“وفيه بيان أن الفقه هو الاستنباط والاستدراك في معاني الكلام من طريق التفهم وفي ضمنه بيان وجوب التفقه، والبحث على معاني الحديث واستخراج المكنون من سره” أ هـ.
وللشيخين، شيخ الإسلام ابن تيمية وتليمذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، في ذلك القدح المعلى، ومن نظر في كتب هذين الإمامين، سلك به النظر فيها إلى التفقه طريقاً مستقيماً.
[*] ومن مليح كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قوله في مجلس للتفقه:
“أما بعد، فقد كنا في مجلس التفقه في الدين والنظر في مدارك الأحكام المشروعة، تصويراً، وتقريراً وتأصيلا، وتفصيلاً، فوقع الكلام في
…
. فأقول لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا مبنى على أصل وفصلين
…
”
واعلم أرشدك الله أن بين يدي التفقه: (التفكر)، فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في غير آية من كتابه إلى التحرك بإحالة النظر العميق في (التفكر) في ملكوت السماوات والأرض وإلى أن يمعن المرء النظر في نفسه، وما حوله، فتحاً للقوى العقلية على مصراعيها، وحتى يصل إلى تقوية الإيمان وتعميق الأحكام، والانتصار العلمي: ”كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون”،”قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون".
وعليه فإن ”التفقه” أبعد مدى من (التفكر) إذ هو حصيلته وإنتاجه، وإلا ”فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً”.
لكن هذا التفقه محجوز بالرهان محجور عن التشهي والهوى:
"ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير”.
فيا أيها الطالب! تحل بالنظر والتفكر، والفقه والتفقه، لعلك أن تتجاوز من مرحلة الفقيه إلى فقيه النفس كما يقول الفقهاء، وهو الذي يعلق الأحكام بمداركها الشرعية، أو فقيه البدن كما في اصطلاح المحدثين.
فأجل النظر عند الواردات بتخريج الفروع على الأصول، وتمام العناية بالقواعد والضوابط.
وأجمع للنظر في فرع ما بين تتبعه وإفراغه في قالب الشريعة العام من قواعدها وأصولها المطردة، كقواعد المصالح، ودفع الضرر والمشقة، وجلب التيسير، وسد باب الحيل، وسد الذرائع.
وهكذا هديت لرشدك أبداً فإن هذا يسعفك في مواطن المضايق وعليك بالتفقه كما أسلفت – في نصوص الشرع، والتبصر فيما يحف أحول التشريع، والتأمل في مقاصد الشريعة، فإن خلا فهمك من هذا أو نبا سمعك فإن وقتك ضائع وإن اسم الجهل عليك لواقع.
وهذه الخلة بالذات هي التي تعطيك التميز الدقيق والمعيار الصحيح لمدى التحصيل والقدرة على التخريج: فالفقيه هو من تعرض له النازلة لا نص فيها فيقتبس لها حكماً.
والبلاغي ليس من يذكر لك أقسامها وتفريعاتها، لكنه من تسرى بصيرته البلاغية من كتاب الله، مثلا فيخرج من مكنون علومه وجوهها وإن كتب أو خطب؛ نظم لك عقدها.
وهكذا في العلوم كافة.
8) اللجوء إلى الله تعالى في الطلب والتحصيل:
لا تفزع إذا لم يفتح لك في علم من العلوم، فقد تعاصت بعض العلوم على بعض الأعلام المشاهير، ومنهم من صرح بذلك كما يعلم من تراجمهم ومنهم الأصمعي في علم العروض والرهاوي المحدث في الخط، وابن الصلاح في المنطق وأبو مسلم النحوي في علم التصريف، والسيوطي في الحساب، وأبو عبيدة، ومحمد بن عبد الباقي الأنصاري، وأبو الحسن القطيعي وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، وأبو حامد الغزالي، خمستهم لم يفتح لهم بالنحو.
فيا أيها الطالب! ضاعف الرغبة، وأفزع إلى الله في الدعاء واللجوء إليه والانكسار بين يديه.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كثيراً ما يقول في دعائه إذا استعصى عليه تفسير آية من كتاب الله تعالى:
اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني فيجد الفتح في ذلك.
9) الأمانة العلمية:
يجب على طالب العلم فائق التحلي بالأمانة العلمية، في الطلب، والتحمل والعمل والبلاغ، والأداء:
“فإن فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها في أن يكون رجالها أمناء فيما يروون أو يصفون، فمن تحدث في العلم بغير أمانة، فقد مس العلم بقرحة ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة.
لا تخلو الطوائف المنتمية إلى العلوم من أشخاص لا يطلبون العلم ليتحلوا بأسنى فضيلة، أو لينفعوا الناس بما عرفوا من حكمة وأمثال هؤلاء لا تجد الأمانة في نفوسهم مستقراً، فلا يتحرجون أن يرووا ما لم يسمعوا، أو يصفوا ما لم يعلموا، وهذا ما كان يدعو جهابذة أهل العلم إلى نقد الرجال، وتمييز من يسرف في القول ممن يصوغه على قدر ما يعلم، حتى أصبح طلاب العلم على بصيرة من قيمة ما يقرؤونه، فلا تخفي عليهم منزلته، من القطع بصدقة أو كذبة أو رجحان أحدهما على الآخر، أو منزلته من القطع بصدقة أو كذبة أو رجحان أحدهما على الأخر أو احتمالها على سواء”أ. هـ.
10) الصدق:
صدق اللهجة: عنوان الوقار، وشرف النفس ونقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، ورسول المودة مع الخلق وسعادة الجماعة، وصيانة الديانة، ولهذا كان فرض عين فيا خيبة من فرط فيه، ومن فعل فقد مس نفسه وعلمه بأذى.
[*] قال الأوزاعي رحمه الله تعالى:
“تعلم الصدق قبل أن تتعلم العلم”.
[*] وقال وكيع رحمه الله تعالى:
“هذه الصنعة لا يرتفع فيها إلا صادق”.
فتعلم – رحمك الله – الصدق قبل أن تتعلم العلم، والصدق: إلقاء الكلام على وجه مطابق للواقع والاعتقاد، فالصدق من طريق واحد، أما نقيضه الكذب فضروب وألوان ومسالك وأودية، يجمعها ثلاثة:
(1)
كذب المتملق: وهو ما يخالف الواقع والاعتقاد، كمن يتملق لمن يعرفه فاسقا أو مبتدعاً فيصفه بالاستقامة.
(2)
وكذب المنافق: وهو ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع كالمنافق ينطق بما يقوله أهل السنة والهداية.
(3)
وكذب الغبي: بما يخالف الواقع ويطابق الاعتقاد كمن يعتقد صلاح صوفي مبتدع فيصفه بالولاية. فالزم الجادة (الصدق) فلا تضغط على عكد اللسان ولا تضم شفتيك، ولا تفتح فاك ناطقا إلا على حروف تعبر عن إحساسك الصادق في الباطن، كالحب والبغض، أو إحساسك في الظاهر، كالذي تدركه الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
فالصادق لا يقول:”أحببتك” وهو مبغض ولا يقول: سمعت وهو لم يسمع، وهكذا
واحذر أن تحوم حولك الظنون فتخونك العزيمة في صدق اللهجة فتسجل في قائمة الكذابين.
وطريق الضمانة لهذا – إذا نازعتك نفسك بكلام غير صادق فيه:- أن تقهرها بذكر منزلة الصدق وشرفه، ورذيلة الكذب ودركه وأن الكاذب عن قريب ينكشف.
واستعن بالله ولا تعجزن.
ولا تفتح لنفس سابلة المعاريض في غيرها ما حصره الشرع.
فيا طالب العلم! احذر أن تمرق من الصدق إلى المعاريض فالكذب، وأسوأ مرامي هذا المروق (الكذب في العلم) لداء منافسة الأقران، وكيران السمعة في الآفاق.
ومن تطلع إلى سمعة فوق منزلته فليعلم أن في المرصاد رجالا يحملون بصائر نافذة وأقلاما ناقدة فيزنون السمعة بالأثر، فتتم تعريك عن ثلاثة معان:
(1)
فقد الثقة من القلوب.
(2)
ذهاب علمك وانحسار القبول.
(3)
أن لا تصدق ولو صدقت.
وبالجملة فمن يحترف زخرف القول، فهو أخو الساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى. والله أعلم
11) جنة طالب العلم:
جنة العالم (لا أدرى)، ويهتك حجابه الاستنكاف منها وقوله: يقال، وعليه، فإن نصف العلم (لا أدرى)، فنصف الجهل (يقال) و (أظن)
12) المحافظة على رأس مالك (ساعات عمرك):
الوقت الوقت للتحصيل، فكن حلف عمل لا حلف بطالة ويطر وحلس معمل لا حلس تله وسمر فالحفظ على الوقت بالجد والاجتهاد وملازمة الطلب ومثافنة الأشياخ، والاشتغال بالعلم قراءة وإقراء ومطالعة وتدبراً وحفظا وبحثا، لا سيما في أوقات شرخ الشباب ومقتبل العمر، ومعدن العاقبة، فاغتنم هذه الفرصة الغالية، لتنال رتب العلم العالية، فإنها ”وقت جمع القلب، واجتماع الفكر”، لقلة الشواغل والصوارف عن التزامات الحياة والترؤس، ولخفة الظهر والعيال.
ما للمعيل وللعوالي إنما
…
يسعى إليهم الفريد الفارد
وإياك وتأمير التسويف على نفسك، فلا تسوف لنفسك بعد الفراغ من كذا، وبعد (التقاعد) من العمل هذا
…
وهكذا بل البذار قبل أن يصدق عليك قول أبى الطحان القيني:
حنتني حانيات الدهر حتى
…
كأني خاتل أدنوا لصيد
قصير الخطر يحسب من رآني
…
ولست مقيداً أنى بقيد
[*] وقال أسامة بن منقذ:
مع الثمانين عاث الضعف في جسدي
…
وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي
إذا كتبت فخطى خط مضطرب
…
كخط مرتعش الكفين مرتعد
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما
…
من بعد حمل القنا في لبة الأسد
فقل لمن يتمنى طول مدته
…
هذى عواقب طول العمر والمدد.
فإن أعملت البدار، فهذا شاهد منك على أنك تحمل ”كبر الهمة في العلم”.
13 (إجمام النفس:
خذ من وقتك سويعات تجم بها نفسك في رياض العلم من كتب المحاضرات (الثقافة العامة)، فإن القلوب يروح عنها ساعة فساعة.
وفي المأثور عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: ”أجموا هذه القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في حكمة النهى عن التطوع في مطلق الأوقات:
“بل في النهى عنه بعض الأوقات مصالح أخر من إجمام النفوس بعض الأوقات، من ثقل العبادة، كما يجم بالنوم وغيره، ولهذا قال معاذ إني لأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي
…
”
وقال:”بل قد قيل: إن من جملة حكمة النهى عن التطوع المطلق في بعض الأوقات: إجمام النفوس في وقت النهى لتنشط للصلاة، فإنها تنبسط إلى ما كانت ممنوعة منه، وتنشط للصلاة بعد الراحة. والله أعلم” أ هـ.
ولهذا كانت العطل الأسبوعية للطلاب منتشرة منذ أمد بعيد، وكان الأغلب فيها، يوم الجمعة، وعصر الخميس، وعند بعضهم يوم الثلاثاء، ويوم الاثنين، وفي عيدي الفطر والأضحى من يوم إلى ثلاثة أيام وهكذا
…
.
ونجد ذلك في كتب آداب التعليم، وفي السير، ومنه على سبيل المثال:”آداب المعلمين” لسحنون (ص104)، و”الرسالة المفصلة” للقابسى (ص135 - 137)، و”الشقائق النعمانية”ص20)، وعنه في ”أبجد العلوم” (1/ 195 - 196) وكتاب ”أليس الصبح بقريب” للطاهر ابن عاشور، وفتاوى رشيد رضا”
…
(1212)، و معجم البلدان” (3/ 102) و”فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية” (25/ 318 - 320،329).
14) قراءة التصحيح والضبط:
احرص على قراءة التصحيح والضبط على شيخ متقن، لتأمن من التحريف والتصحيف والغلط والوهم.
وإذا استقرأت تراجم العلماء – وبخاصة الحفاظ منهم – تجد عدداً غير قليل ممن جرد المطولات في مجالس أو أيام قراءة ضبط على شيخ متقن.
فهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قرأ ”صحيح البخاري” في عشرة مجالس، كل مجلس عشر ساعات و”صحيح مسلم” في أربعة مجالس في نحو يومين وشيء من بكرة النهار إلى الظهر، وانتهى ذلك في يوم عرفة، وكان يوم الجمعة سنة 813هـ وقرأ ”سنن ابن ماجة” في أربعة مجالس، ومعجم الطبراني الصغير” في مجلس واحد، بين صلاتي الظهر والعصر.
وشيخه الفيروز آبادي قرأ في دمشق ”صحيح مسلم” على شيخه ابن جهبل قراءة ضبط في ثلاثة أيام.
وللخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي، وابن الأبار وغيرهم في ذلك عجائب وغرائب يطول ذكرها، وانظرها في: ”السير” للذهبي (18/ 277و 279، 19/ 310، 21/ 253)، و”طبقات الشافعية” للسبكي (4/ 30)، و الجواهر والدرر ”للسخاوي (1/ 103 - 105) و فتح المغيث” (2/ 46)، و”شذرات الذهب” (8/ 121، 206)، و”خلاصة الأثر” (1/ 72 - 73) و”فهرس الفهارس” للكتاني، و”تاتج العروس” (1/ 45 - 46).
فلا تنس حظك من هذا.
15) جرد المطولات:
الجرد للمطولات من أهم المهمات، لتعدد المعارف وتوسيع المدارك واستخراج مكنونها من الفوائد والفرائد والخبرة من مظان الأبحاث والمسائل ومعرفة طرائق المصنفين في تأليفهم واصطلاحهم فيها.
وقد كان السالفون يكتبون عند وقوفهم:”بلغ”، حتى لا يفوته شيء عند المعاودة، لا سيما مع طول الزمن.
16) حسن السؤال:
التزم أدب المباحثة من حسن السؤال، فالاستماع فصحة الفهم للجواب، وإياك إذا حصل الجواب أن تقول: لكن الشيخ فلان قال لي كذا، أو قال كذا، فإن هذا وهن في الأدب، وضرب لأهل العلم بعضهم ببعض، فاحذر هذا.
وإن كنت لا بد فاعلاً، فكن واضحا في السؤال، وقل: ما رأيك في الفتوى بكذا، ولا تسم أحداً.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
“وقيل: إذا جلست إلى عالم، فسل تفقها لا تعنتاً” أ هـ.
وقال أيضاً:
“وللعلم ست مراتب:
أولها: حسن السؤال.
الثانية: حسن الإنصات والاستماع.
الثالثة: حسن الفهم.
الرابعة: الحفظ.
الخامسة: التعليم.
السادسة: وهى ثمرته، العمل به ومراعاة حدوده. أ هـ.
ثم أخذ في بيانها ببحث مهم.
17) المناظرة بلا مماراة:
إياك والمماراة، فإنها نقمة، أما المناظرة في الحق، فإنها نعمة، إذ المناظرة الحقة فيها إظهار الحق على الباطل، والراجح على المرجوح فهي مبنية على المناصحة، والحلم، ونشر العلم، أما المماراة في المحاورات والمناظرات، فإنها تحجج ورياء ولغط وكبرياء ومغالبة ومراء، واختيال وشحناء، ومجاراة للسفهاء فاحذرها واحذر فاعلها، تسلم من المآثم وهتك المحارم، وأعرض تسلم وتكبت المأثم والغرم.
18) مذاكرة العلم:
تمتع مع البصراء بالمذاكرة والمطارحة، فإنها في مواطن تفوق المطالعة وتشحذ الذهن وتقوى الذاكرة، ملتزماً الإنصاف والملاطفة، مبتعداً عن الحيف والشغب والمجازفة.
وكن على حذر، فإنها تكشف عوار من لا يصدق.
فإن كانت مع قاصر في العلم، بارد الذهن، فهي داء ومنافرة وأما مذاكرتك مع نفسك في تقليبك لمسائل العلم؛ فهذا ما لا يُسَوِّغُ أن تنفك عنه.
وقد قيل: إحياء العلم مذاكرته.
طالب العلم يعيش بين الكتاب والسنة وعلومها:
فهما له كالجناحين للطائر، فاحذر أن تكون مهيض الجناح.
19) استكمال أدوات كل فن:
لن تكون طالب علم متقناً متفنناً – حتى يلج الجمل في سم الخياط – ما لم تستكمل أدوات ذلك الفن، ففي الفقه بين الفقه وأصوله، وفي الحديث بين علمي الرواية والدراية
…
وهكذا، وإلا فلا تتعن.
قال الله تعالى:”الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته”.
فيستفاد منها أن الطالب لا يترك علما حتى يتقنه.
(خامساً: التحلي بالعمل:
من علامات العلم النافع: التحلي بالعمل
[*] (تساءل مع نفسك عن حظك من علامات العلم النافع، وهى:
1 -
العمل به.
2 -
كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق.
3 -
تكاثر تواضعك كلما ازددت علماً.
4 -
الهرب من حب الترؤس والشهرة والدنيا.
5 -
هجر دعوى العلم.
6 -
إساءة الظن بالنفس، وإحسانه بالناس تنزها عن الوقوع بهم
وقد كان عبد الله بن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم
…
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
(سادساً: تأدية زكاة العلم:
(زكاة العلم:
أد (زكاة العلم): صادعاً بالحق، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر موازنا بين المصالح والمضار، ناشراً للعلم، وحب النفع وبذل الجاه، والشفاعة الحسنة للمسلمين في نوائب الحق والمعروف.
وتدبر في (حديث أبى هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
قال بعض أهل العلم: هذه الثلاث لا تجتمع إلا للعالم الباذل لعلمه فبذله صدقه ينتفع بها والمتلقي لها ابن للعالم في تعلمه عليه.
فاحرص على هذه الحلية فهي رأس ثمرة علمك.
ولشرف العلم، فإنه يزيد بكثرة الإنفاق، وينقص مع الإشفاق وآفته الكتمان.
ولا تحملك دعوى فساد الزمان، وغلبة الفساق، وضعف إفادة النصيحة عن واجب الأداء والبلاغ، فإن فعلت، فهي فعلة يسوق عليها الفساق الذهب الأحمر، ليتم لهم الخروج على الفضيلة ورفع لواء الرذيلة.
(سابعاً: التحلي بعزةِ العلماء:
التحلي بعزةِ العلماء: صيانة العلم وتعظيمه، حماية جناب عزة وشرفه، وبقدر ما تبذله في هذا يكون الكسب منه ومن العمل به، وبقدر ما تهدره يكون الفوت ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وعليه فاحذر أن يتمندل بك الكبراء، أو يمتطيك السفهاء، فتلاين في فتوى، أو قضاء، أو بحث، أو خطاب
…
.
ولا تسع به إلى أهل الدنيا ولا تقف به على أعتابهم ولا تبذله إلى غير أهله وإن عظم قدره.
ومتع بصرك وبصيرتك بقراءة التراجم والسير لأئمة مضوا، تر فيها بذل النفس في سبيل هذه الحماية، لا سيما من جمع مثلا في هذا، مثل كتاب ”من أخلاق العلماء” لمحمد سليمان رحمه الله تعالى، وكتاب ”الإسلام بين العلماء والحكام” لعبد العزيز البدري رحمه الله تعالى، وكتاب ”مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر” لفاروق السامرائى
وأرجو أن ترى أضعاف ما ذكروه في كتاب ”عزة العلماء” يسر الله إتمامه وطبعه.
وقد كان العلماء يلقنون طلابهم حفظ قصيدة الجرجاني على بن عبد العزيز م سنة 392هـ) رحمه الله تعالى كما نجدها عند عدد من مترجميه ومطلعها:
يقولون لي فيك انقباض وإنما
…
رأوا رجلا عن موضع الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم
…
ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولا أن أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظموه في النفوس لعظما
(لعظما) بفتح الظاء المعجمة المشالة.
(ثامناً: صيانة العلم:
إن بلغت منصباً، فتذكر أن حبل الوصل إليه طلبك للعلم، فبفضل الله ثم بسبب علمك بلغت ما بلغت من ولاية في التعليم، أو الفتيا، أو القضاء
…
. وهكذا فأعط العلم قدره وحظه من العمل به وإنزاله منزلته.
واحذر مسلك من لا يرجون لله وقارا، الذين جعلوا الأساس (حفظ المنصب) فيطوون ألسنتهم عن قول الحق، ويحملهم حب الولاية على المجاراة.
فالزم – رحمك الله – المحافظة على قيمتك بحفظ دينك وعلمك، وشرف نفسك، بحكمة ودراية وحسن سياسة:”احفظ الله يحفظك ”“احفظ الله في الرخاء يحفظك في الشدة”.
وإن أصبحت عاطلاً من قلادة الولاية وهذا سبيلك ولو بعد حين فلا بأس، فإنه عزل محمدة لا عزل مذمة ومنقصة.
ومن العجيب أن بعض من حرم قصدا كبيرا من التوفيق لا يكون عنده الالتزام والإنابة والرجوع إلى الله إلا بعد (التقاعد) فهذا وإن كانت توبته شرعية، لكن دينه ودين العجائز سواء إذ لا يتعدى نفعه، أما وقت ولايته، حال الحاجة إلى تعدى نفعه، فتجده من أعظم الناس فجوراً وضرراً، أو بارد القلب أخرس اللسان عن الحق.
فنعوذ بالله من الخذلان.
(تاسعاً: التحلي بالمدارة وليس المداهنة:
التحلي بالمدارة وليس المداهنة: المداهنة خلق منحط، أما المداراة فلا، لكن لا تخلط بينهما، فتحملك المداهنة إلى حضار النفاق مجاهرة، والمداهنة هي التي تمس دينك ن فكلاهما ملاينة إلا أن فصل الخطاب بينهما أن [المدارة ملاينة للتوصل إلى حق، والمداهنة ملاينة للتوصل إلى باطل].
(عاشراً: التحلي بالغرام بالكتب:
شرف العلم معلوم، لعموم نفعه، وشدة الحاجة إليه كحاجة البدن إلى الأنفاس، وظهور النقص بقدر نقصه، وحصول اللذة والسرور بقدر تحصيله ولهذا اشتد غرام الطلاب بالطلب والغرام بجمع الكتب مع الانتقاء ولهم أخبار في هذا تطول وفيه مقيدات في خبر الكتاب يسر الله إتمامه وطبعه.
وعليه فاحذر الأصول من الكتب واعلم أنه لا يغنى منها كتاب عن كتاب، ولا تحشر مكتبتك وتشوش على فكرك بالكتب الغثائية، لا سيما كتب المبتدعة، فإنها سم ناقع.
[*] (قوام مكتبتك:
عليك بالكتب المنسوجة على طريقة الاستدلال والتفقه على علل الأحكام، والغوص على أسرار المسائل، ومن أجلها كتب الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى.
وعلى الجادة في ذلك من قبل ومن بعد كتب:
1 -
الحافظ ابن عبد البر (م سنة 463هـ) رحمه الله تعالى وأجل كتبه”التمهيد”.
2 -
الحافظ ابن قدامه (م سنة 620هـ) رحمه الله تعالى، وأرأس كتبه المغنى”.
3 -
الحافظ ابن الذهبي (م سنة 748هـ) رحمه الله تعالى.
4 -
الحافظ ابن كثير (م سنة 774هـ) رحمه الله تعالى.
5 -
الحافظ ابن رجب (م سنة 795هـ) رحمه الله تعالى.
6 -
الحافظ ابن حجر (م سنة 852هـ) رحمه الله تعالى.
7 -
الحافظ الشوكاني (م سنة 1250هـ) رحمه الله تعالى.
8 -
الإمام محمد بن عبد الوهاب (م سنة 1206هـ) رحمه الله تعالى.
9 -
كتب علماء الدعوة ومن أجمعها ”الدرر السنية”.
10 -
العلامة الصنعاني (م سنة 1182هـ) رحمه الله تعالى، لا سيما كتابة النافع ”سبل السلام”.
11 -
العلامة صديق حسن خان القنوجي (م سنة 1307هـ) رحمه الله تعالى.
12 -
العلامة محمد الأمين الشنقيطي (م سنة 1393هـ) رحمه الله تعالى لا سيما كتابة:”أضواء البيان”.
التعامل مع الكتاب:
لا تستفد من كتاب حتى تعرف اصطلاح مؤلفة فيه، وكثيراً ما تكون المقدمة كاشفة عن ذلك، فابدأ من الكتاب بقراءة مقدمته.
ومنه:
إذا حزت كتاباً؛ فلا تدخله في مكتبتك إلا بعد أن تمر عليه جرداً، أو قراءة لمقدمته، وفهرسه، ومواضع منه، أما إن جعلته مع فنه في المكتبة، فربما مر زمان وفات العمر دون النظر فيه، وهذا مجرب والله الموفق.
إعجام الكتابة:
إذا كتبت فأعجم الكتابة بإزالة عجمتها، وذلك بأمور:
1 -
وضوح الخط.
2 -
رسمه على ضوء قواعد الرسم (الإملاء). وفي هذا مؤلفات كثيرة من أهمها:
كتاب الإملاء ”لحسين وإلى.
“قواعد الإملاء” لعبد السلام محمد هارون
“المفرد العلم ”للهاشمي، رحمهم الله تعالى.
3 -
النقط للمعجم والإهمال للمهمل.
4 -
الشكل لما يشكل.
5 -
تثبيت علامات الترقيم في غير آية أو حديث.
(الحادي عشر: التخلي عن المحاذير التي لا تجعل العلم نافعاً:
وهذه المحاذير هي ما يلي:
[1]
حلم اليقظة:
إياك و (حلم اليقظة)، ومنه بأن تدعي العلم لما لم تعلم، أو إتقان ما لم تتقن، فإن فعلت، فهو حجاب كثيف عن العلم.
احذر أن تكون ”أبا شبر”.
فقد قيل: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول، تكبر ومن دخل في الشبر الثاني، تواضع ومن دخل في الشبر الثالث، علم أنه ما يعلم.
[2]
التصدر قبل التأهل:
احذر التصدر قبل التأهل، هو آفة في العلم والعمل.
وقد قيل: من تصدر قبل أوانه، فقد تصدى لهوانه.
[3]
التنمر بالعلم:
احذر ما يتسلى به المفلسون من العلم، يراجع مسألة أو مسألتين، فإذا كان في مجلس فيه من يشار إليه، أثار البحث فيهما، ليظهر علمه! وكم في هذا من سوءة، أقلها أن يعلم أن الناس يعلمون حقيقته.
وقد بينت هذه مع أخوات لها في كتاب ”التعالم”، والحمد لله رب العالمين.
[4]
تحبير الكاغد:
كما يكون الحذر من التأليف الخالي من الإبداع في مقاصد التأليف الثمانية، والذي نهايته ”تحبير الكاغد" فالحذر من الاشتغال بالتصنيف قبل استكمال أدواته، واكتمال أهليتك، والنضوج على يد أشياخك، فإنك تسجل به عاراً وتبدى به شناراً.
أما الاشتغال بالتأليف النافع لمن قامت أهليته، واستكمل أدواته، وتعددت معارفه، وتمرس به بحثا ومراجعة ومطالعة وجرداً لمطولاته، وحفظاً لمختصراته، واستذكاراً لمسائله، فهو من أفضل ما يقوم به النبلاء من الفضلاء.
ولا تنس قول الخطيب:
“من صنف، فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس”.
[5]
موقفك من وهم من سبقك:
إذا ظفرت بوهم لعالم، فلا تفرح به للحط منه، ولكن افرح به لتصحيح المسألة فقط، فإن المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام لا سيما المكثرين منهم.
وما يشغب بهذا ويفرح به للتنقص، إلا متعالم ”يريد أن يطب زكاما فيحدث به جذاما".
نعم، يبنه على خطأ أو وهم وقع لإمام غمر في بحر علمه وفضله، لكن لا يثير الرهج عليه بالتنقص منه والحط عليه فيغتر به من هو مثله.
[6]
دفع الشبهات:
لا تجعل قلبك كالسفنجه تتلقى ما يرد عليها، فاجتنب إثارة الشبه وإيرادها على نفسك أو غيرك، فالشبه خطافة، والقلوب ضعيفة، وأكثر م يلقيها حمالة الحطب – المبتدعة – فتوقهم.
[7]
احذر اللحن:
ابتعد عن اللحن في اللفظ والكتب، فإن عدم اللحن جلالة، وصفاء ذوق ووقوف على ملاح المعاني لسلامة المباني:
فعن عمر رضي الله عنه أنه قال:
"تعلموا العربية؛ فإنها تزيد في المروءة".
وقد ورد عن جماعة من السلف أنهم كانوا يضربون أولادهم على اللحن.
وأسند الخطيب عن الرحبي قال:
"سمعت بعض أصحابنا يقول: إذا كتب لحان، فكتب عن اللحان لحان آخر؛ صار الحديث بالفارسية “!
وأنشد المبرد:
النحو يبسط من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
فإذا أردت من العلوم أجلها
فأجلها منها مقيم الألسن
وعليه؛ فلا تحفل بقول القاسم بن مخيمرة رحمه الله تعالى:
“تعلم النحو: أوله شغل، وآخره بغي".
ولا بقول بشر الحافي رحمه الله تعالى:
"لما قيل له: تعلم النحو قال: أضل، قال: قل ضرب زيد عمراً.
قال بشر: يا أخي! لم ضربه؟ قال: يا أبا نصر! ما ضربه وإنما هذا أصل وضع. فقال بشر: هذا أوله كذب، لا حاجة لي فيه".
رواهما الخطيب في”اقتضاء العلم العمل".
[8]
احذر (الإجهاض الفكري)؛ بإخراج الفكرة قبل نضوجها.
الإسرائيليات الجديدة:
[9]
احذر الإسرائيليات الجديدة في نفثات المستشرقين؛ من يهود ونصارى؛ فهي أشد نكاية وأعظم خطراً من الإسرائيليات القديمة؛ فإن هذه قد وضح أمرها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الموقف منها، ونشر العلماء القول فيها، أما الجديدة المتسربة إلى الفكر الإسلامي في أعقاب الثورة الحضارية واتصال العالم بعضه ببعض، وكبح المد الإسلامي؛ فهي شر محض، وبلاء متدفق، وقد أخذت بعض المسلمين عنها سنة، وخفض الجناح لها آخرون، فاحذر أن تقع فيها. وفي الله المسلمين شرها.
[10]
احذر الجدل البيزنطي:
أي الجدل العقيم، أو الضئيل، فقد كان البيزنطيون يتحاورون في جنس الملائكة والعدو على أبواب بلدتهم حتى داهمهم.
وهكذا الجدل الضئيل يصد عن السبيل.
وهدي السلف: الكف عن كثرة الخصام والجدال، وأن التوسع فيه من قلة الورع؛
[*] كما قال الحسن إذ سمع قوماً يتجادلون:
"هؤلاء ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم، فتكلموا".
[*] رواه أحمد ”الزهد"، وأبو نعيم في ”الحلية".
لا طائفية ولا حزبية يعقد الولاء والبراء عليها:
أهل الإسلام ليس لهم سمة سوى الإسلام والسلام:
فيا طالب العلم! بارك الله فيك وفي علمك؛ اطلب العلم، واطلب العمل، وادع إلى الله تعالى على طريقة السلف.
ولا تكن خراجاً ولاجاً في الجماعات، فتخرج من السعة إلى القوالب الضيقة، فالإسلام كله لك جادة ومنهجاً، والمسلمون جميعهم هم الجماعة، وإن يد الله مع الجماعة، فلا طائفية ولا حزبية في الإسلام.
وأعيذك بالله أن تتصدع، فتكون نهاباً بين الفرق والطوائف والمذاهب الباطلة والأحزاب الغلية، تعقد سلطان الولاء والبراء عليها.
فكن طالب علم على الجادة؛ تقفو الأثر، وتتبع السنن، تدعو إلى الله على بصيرة، عارفاً لأهل الفضل فضلهم وسابقتهم.
وإن الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف من أعظم العوائق عن العلم، والتفريق عن الجماعة، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي، وغشيت المسلمين بسببها الغواشي.
فاحذر رحمك الله أحزاباً وطوائف طاف طائفها، ونجم بالشر ناجمها، فما هي إلا كالميازيب؛ تجمع الماء كدراً، وتفرقه هدراً؛ إلا من رحمه ربك، فصار على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى عند علامة أهل العبودية في:
"العلامة الثانية: قوله:”ولم ينسبوا إلى اسم"؛ أي: لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلاماً لأهل الطريق.
وأيضاً؛ فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيعرفون به دون غيره من الأعمال؛ فإن هذا آفة في العبودية، وهي عبودية مقيدة.
وأما العبودية المطلقة؛ فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها؛ فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم؛ فلا يتقيد برسم ولا إشارة، ولا اسم ولا بزي، ولا طريق وضعي اصطلاحي، بل إن سئل عن شيخه؟ قال:
الرسول. وعن طريقه؟ قال: الاتباع. وعن خرقته؟ قال: لباس التقوى. وعن مذهبه؟ قال: تحكيم السنة. وعن مقصده ومطلبه؟ قال: (يريدون وجهه). وعن رباطه وعن خانكاه؟ قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). وعن نسبه؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس أو تميم
وعن مأكله ومشربه؟ قال:”مالك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر، حتى تلقى ربها".
واحسرتاه تقضي العمر وانصرمت
ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد
ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل
ثم قال:”قوله”"أولئك ذخائر الله حيث كانوا”؛ ذخائر الملك: ما يخبأ عنده، ويذخره لمهماته، ولا يبذله لكل أحد؛ وكذلك ذخيرة الرجل: ما يذخره لحوائجه ومهماته. وهؤلاء؛ لما كانوا مستورين عن الناس بأسبابهم، غير مشار إليهم، ولا متميزين برسم دون الناس، ولا منتسبين إلى اسم طريق أو مذهب أو شيخ أو زي؛ كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة.
وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات؛ فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها، ولزوم الطرق الاصطلاحية، والأوضاع المتداولة الحادثة.
هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله، وهم لا يشعرون.
والعجب أن أهلها هم المعروفون بالطلب والإرادة، والسير إلى الله، وهم – إلا الواحد بعد الواحد – المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود.