المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أقول: سبحان الله! هاهنا يبين أثر الإيمان فعلاً عند الوقوف - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - جـ ٩

[محمد نصر الدين محمد عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الآداب

- ‌(عملي في هذا الكتاب:

- ‌مقدمة في فضل علم الآداب:

- ‌الآداب أكثر من أن تحصى

- ‌تعريف الأدب

- ‌الباب الأول‌‌ فضل العقلوذم الهوى

- ‌ فضل العقل

- ‌(تعريف العقل:

- ‌(محل العقل:

- ‌(أقسام العقل:

- ‌(العلاقة بين العقل الغريزي والمكتسب:

- ‌(ما يزداد به العاقل من نماء عقله:

- ‌(أول شعب العقل هو لزوم تقوى الله وإصلاح السريرة:

- ‌(ذم الهوى:

- ‌(تعريف الهوى:

- ‌(الفَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ:

- ‌(ذم الهوى وأتباعه:

- ‌(مدح مخالفة الهوى:

- ‌(استحباب مخالفة الهوى وإن كان مباحاً:

- ‌(صرف ما يقع بالقلب من غلبة الشهوة:

- ‌(أحوال الإنسان مع الهوى:

- ‌(أهمية علاج الهوى:

- ‌(كيفية علاج الهوى:

- ‌(وهاك طرق علاج الهوى:

- ‌الباب الثاني أدب العلم

- ‌(المقصود بالعلم:

- ‌(فضل العلم:

- ‌(حكم تعلم العلم:

- ‌(آداب طالب العلم:

- ‌(آداب العالم:

- ‌(فضل بعض العلوم التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها:

- ‌(أولاً فضل علم التوحيد

- ‌(ثانياً فضل علم القرآن

- ‌ آداب قراءة القرآن:

- ‌ آداب حملة القرآن:

- ‌(فضل سورة الفاتحة:

- ‌(فضل سورة البقرة:

- ‌(فضلُ آية الكرسي:

- ‌(فضلُ خواتيم سورة البقرة:

- ‌(فضلُ سورتي البقرة وآل عمران:

- ‌(فضلُ سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون:

- ‌(فضلُ سورة الكهف:

- ‌(فضل سورة الفتح:

- ‌(فضلُ سورتي السجدة والملك:

- ‌(فضل المسبِّحات:

- ‌(فضل سورة التكوير والإنفطار والانشقاق:

- ‌(فضل سورة الكوثر:

- ‌(فضلُ سورة الكافرون:

- ‌(فضل المعوذتين:

- ‌(فضلُ المُعَوِّذات:

- ‌(فضلُ سورة الإخلاص:

- ‌(ثالثاً فضل علم السنة:

- ‌ رابعاً: فضلُ علم الفقه:

- ‌ خامساً: فضلُ علم الهدي والآداب:

- ‌الباب الثالث أدب الدين

- ‌(تكليفُ الخلقِ عبادة الله تعالى تفضلاً منه سبحانه عليهم:

- ‌(بيان مِنَّةُ الله العظيمة في إرسال النبي محمد

- ‌(بيان فضل العلماء:

- ‌(منة الله تعالى على عباده في رفع الحرج فيما تعبدهم به:

- ‌(أقسام التكليف:

- ‌(أقسام التكليف الذي أمرهم الله باعتقاده:

- ‌(أقسام التكليف الذي أمرهم الله بفعله:

- ‌(أقسام التكليف الذي أمرهم بالكفِ عنه:

- ‌(حالتي العبادة «حالة كمال وحالة جواز»:

- ‌(أول ما فرضه الله تعالى بعد تصديق نبيه:

- ‌(أقسام المحرمات التي يمنع منها الشرع:

- ‌(أحوال الناس فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ:

- ‌(آفات عمل الطاعة ومجانبة المعاصي:

- ‌(أحوال الإنسان في عبادته:

- ‌الباب الرابع أدب الدنيا

- ‌(التحذير من الافتتان بالدنيا والركون إليها:

- ‌(ذم الدنيا:

- ‌(أمرُ الدّنيا في جنب الآخرة قليل:

- ‌(الدنيا عمرها قد قارب على الانتهاء:

- ‌(الآخرة هي الباقية، وهى دار القرار:

- ‌(ومما ورد في ذم التنافس على الدنيا ما يلي:

- ‌(أقسام الناس في حبهم للدنيا:

- ‌(أضرار حب الدنيا:

- ‌(صلاحُ الدنيا:

- ‌الباب الخامس أدب النفس

- ‌(معنى الأدب مع النفس:

- ‌(أهمية أدب النفس:

- ‌(وجوه لزوم التأديب:

- ‌(طريق اكتساب أدب النفس:

- ‌ آداب تلاوة القرآن:

الفصل: أقول: سبحان الله! هاهنا يبين أثر الإيمان فعلاً عند الوقوف

أقول: سبحان الله! هاهنا يبين أثر الإيمان فعلاً عند الوقوف أمام المحك، أمام المنعطف، هنا يبين أثر الإيمان، لا يبين في صلاة ركعتين مثلما يبين في هذا الموقف، والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، تأملوا حاله لو كان وافق هواه، فعلاً، تأمل حال يوسف وفكر لما دعته امرأة العزيز وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] يوسف الآن أمام هذا الموقف، امرأة جميلة وصاحبة منصب وهي سيدة، وهو عبدٌ، وهو غريبٌ عن بلده وشابٌ، وهو أعزبٌ، وقد غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، وسيدها ليس له غيرة، لأنه قال بعد ذلك: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف:29] ليس للسيد غيرة، وليس هناك أحدٌ يشاهد، واجتمعت دواعي وقوع الفاحشة أمام يوسف عليه السلام مما لا يجتمع مثله بين رجل وامرأة قط، لما حدث هذا الأمر تأمل لو أن يوسف عليه السلام وافق هواه ووقع على تلك المرأة، هل سيصبح نبياً صديقاً؟! ولكن وقوف يوسف عليه السلام في تلك المحنة أمام شهوته هو الذي أوصله إلى ذلك المقام: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] .. قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]. ولذلك كان سؤال الله الصراط المستقيم في الصلاة أكثر من مرة دائماً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فيه تذكير للإنسان بألا يتبع الهوى، ويسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم: الطريق المستقيم لا طريق الهوى.

‌الباب الثاني أدب العلم

[*] (عناصر الباب:

‌(المقصود بالعلم:

‌(فضل العلم:

(حكم تعلم العلم:

(ماذا نعني بالعلم، وكيف يطلب؟

(آداب طالب العلم:

(فضل بعض العلوم التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها:

ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:

(المقصود بالعلم:

مسألة: ما المقصود بالعلم؟

العلم هو ما قام عليه الدليل ويقصد به علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم، فالعلم مسائل ودلائل بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم:

العلم قال الله قال رسوله

قال الصحابة ليس بالتمويه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة

بين الرسول وبين قول فقيه

(فضل العلم:

ص: 53

للعلم فضلٌ عظيم، وأجرٌ جسيم، العلم أثمن درة في تاج الشرع المطهر ولا يخفى على كل مسلم أن العلم مهم، حتى إن كل إنسان يدعيه لنفسه حتى الجاهل لا يرضى أن يقال عنه جاهل، ويفرح أن يقال عنه عالم!

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمّاً أن يتبرأ منه من هو فيه، العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة العلم

وهذه المنزلة إن لم تصحب السالك من أول قدم يضعة في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه: فسلوكه على غير طريق وهو مقطوع عليه طريق الوصول مسدود عليه سبل الهدى والفلاح مغلقة عنه أبوابها وهذا إجماع من الشيوخ العارفين ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم ونواب إبليس وشرطه.

(قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد رحمه الله: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول وقال: «من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر» لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة.

(وقال أبو حفص رحمه الله: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال.

(وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.

(وقال سهل به عبد الله رحمه الله: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء: فهو عذاب على النفس.

(وقال السري: التصوف اسم لثلاثة معان: لا يطفيء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله

ص: 54

(وقال أبو يزيد: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد علي من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لبقيت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد وقال مرة لخادمه: قم بنا إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالصلاح لنزوره فلما دخلا عليه المسجد تنخع ثم رمى بها نحو القبلة فرجع ولم يسلم عليه وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه وقال: لقد هممت أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة النساء ثم قلت: كيف يجوز لي أن أسأل الله هذا ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسأله ثم إن الله كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أو حائط وقالوا: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة.

(وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: «من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله»

(وقال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم ومع أولياء الله: بالاحترام والخدمة، ومع الأهل: بحسن الخلق ومع الإخوان: بدوام البشر ما لم يكن إثما ومع الجهال: بالدعاء لهم والرحمة زاد غيره: ومع الحافظين: بإكرامهما واحترامهما وإملائهما ما يحمدانك عليه ومع النفس: بالمخالفة ومع الشيطان: بالعداوة وقال أبو عثمان أيضا: «من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة» «ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة»

قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]

(وقال أبو الحسين النووي: من رأيتموه يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربوا منه.

(وقال محمد بن الفضل البامجي من مشايخ القوم الكبار: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ما يعملون ويمنعون الناس من التعلم والتعليم.

(وقال عمرو بن عثمان المكي: العلم قائد والخوف سائق والنفس حرون بين ذلك جموح خداعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد.

(وقال أبو سعيد الخراز: كل باطن يخالفه الظاهر فهو باطل.

ص: 55

(وقال ابن عطاء: «من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة» ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه وقال: كل ما سألت عنه فاطلبه في مفازة العلم فإن لم تجده ففي ميدان الحكمة فإن لم تجده فزنه بالتوحيد فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجه الشيطان وألقى بنان الحمال بين يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره فلما أخرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع قال: كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع

(وقال أبو حمزة البغدادي من أكابر الشيوخ وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل: ما تقول يا صوفي من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله.

(ومر الشيخ أبو بكر محمد بن موسى الواسطي يوم الجمعة إلى الجامع فانقطع شسع نعله فأصلحه له رجل صيدلاني فقال: تدري لم انقطع شسع نعلي فقلت: لا فقال: لأني ما اغتسلت للجمعة فقال: ههنا حمام تدخله فقال: نعم فدخل واغتسل.

(وقال أبو إسحاق الرقي من أقران الجنيد: علامة محبة الله: إيثار طاعته ومتابعة رسوله.

(وقال أبو يعقوب النهرجوري: أفضل الأحوال ما قارن العلم.

(وقال أبو بكر الطمستاني من كبار شيوخ الطائفة: الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله: فهو الصادق المصيب.

(وقال أبو عمرو بن نجيد: كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه. أهـ.

[*] وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل: " احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة، فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال ينقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ".

فللعلم مقام عظيم في شريعتنا الغراء، فأهل العلم هم ورثة الأنبياء، وفضل العالم على العابد كما بين السماء والأرض.

ص: 56

فعن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: أما جئت لحاجة؟! قال: لا.

قال: أما قدمت لتجارة؟! قال: لا.

قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث.

قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر

(والعلماء هم أمناء الله على خلقه، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين

خطير؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، والرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم، فقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم عند الجهل.

قال تعالى: " فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ "[النحل/ 43]

(وهم أطباء الناس على الحقيقة، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان، فالجهل داء، ودواؤه العلم (لحديث جابر في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فإنما شفاء العي السؤال.

ومرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن من ظهر على وجهه برص ولا مرآة له لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره، والدنيا دار مرض؛ فكما أنَّه ليس في بطن الأرض إلا ميت، فكذلك ليس على ظهرها إلا سقيم، والأسقام تتفاوت وتتنوع، والعلم هو ترياقهم فتدبر في (حديث أسامة بن شريك في صحيح السنن الأربعة) أن النبي صلى الله عليه وسلم: " تداووا فإِنَّ اللّه تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داءٍ واحدٍ: الهرم.

(والكتاب والسنة طافحان بما يدل على فضل العلم

ومن ذلك ما يلي:

1) قال الله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم "[آل عمران / 18]

فأهل العلم هم الثقات العدول الذين استشهد الله بهم على أعظم مشهود، وهو توحيده جل وعلا، وهذا هو العلم الحقيقي، العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وموجب ذلك ومقتضاه من الإيمان برسله وكتبه والإيمان بالغيب حتى كأنه مشاهد محسوس.

ص: 57

فهذه المزية الكبرى للعلم وأهله، أنَّه يدل على صراط الله المستقيم، أنَّه الوسيلة العظمى للقرب من الله تعالى، وموجب لإحاطة محبته بالقلب، فمتى عرفت الله اجتمع قلبك على محبته وحده جل وعلا؛ لأنَّ له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلا.

فهذا هو العلم وهذه هي ثمرته. رزقنا الله وإياك الشجرة والثمرة إنه جواد كريم

2) وقد بوَّب الإمام البخاري بابًا فقال: " باب العلم قبل القول والعمل" لقوله تعالى: " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك "[محمد/19]

سئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك "[محمد/19] فأمر بالعمل بعد العلم.

فالعلم مقدم على القول والعمل، فلا عمل دون علم، وأول ما ينبغي تعلمه " التوحيد " و "علم التربية " أو ما يُسمَّى بعلم " السلوك " فيعرف الله تعالى ويصحح عقيدته، ويعرف نفسه وكيف يهذبها، وأنت تلحظ هذا الارتباط بين العلم بالتوحيد " فاعلم أنَّه لا إله إلا الله " وبين التربية والتزكية التي من ثمارها المراقبة ودوام التوبة " واستغفر لذنبك "

3) والعلم نور يبصر به المرء حقائق الأمور، وليس البصر بصر العين، ولكن بصر القلوب، " فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " [الحج/46]؛ ولذلك جعل الله الناس على قسمين: إمَّا عالم أو أعمى فقال الله

تعالى: " أ فمن يعلم أنَّما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى "[الرعد/19].

ولذلك عبَّر الله تعالى بفعل " رأى " دلالة على العلم في قوله تعالى: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق " [سبأ /6] فلم يقل: " ويعلم " وهذا ـ والله أعلم ـ إشارة إلى العلم وأثره في القلوب، التي صارت به تبصر وترى الحق، ولا يلتبس عليها بالباطل.

وهذا واضح في (حديث حذيفة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلَا تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرا، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.

4) والعلم يورث الخشية:

ص: 58

قال الله تعالى: " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء "[فاطر/28]

وقال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا "[الإسراء /107 - 109]

5) وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم، فجعل كتابه آيات بينات في صدورهم، به تنشرح وتفرح وتسعد.

قال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون "[العنكبوت/49]

6) وقد أمرنا الله تعالى بالاستزادة من العلم وكفى بها من منقبة عظيمة للعلم.

قال الله تعالى: " وقل رب زدني علمًا "[طه/ 114]

[*] قال القرطبي: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم

أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم.

7) والعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أهل الذكر، الذين أمر الناس بسؤالهم عن عدم العلم قال الله تعالى:" فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "[النحل/43]

8) وأخبر الله عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان خاصة.

وقال تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)

(المجادلة/11)

وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر من الآية: 9).

[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:

للعلماء درجاتٍ فوق المؤمنين بسبعمائة درجة بين كل درجتين مسيرة خمسمائة عام

9) والعلم أفضل الجهاد، إذ من الجهاد جهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الأئمة من ورثة الأنبياء، وهو أعظم منفعة من الجهاد باليد واللسان، لشدة مؤنته، وكثرة العدو فيه.

قال تعالى: " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا "[الفرقان / 51 - 52]

[*] يقول ابن القيم رحمه الله: " فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضًا، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " ومعلوم أنَّ جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.

ص: 59

والمقصود أنَّ سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله " وتدبر في (حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره "

10) ولم يجعل الله الغبطة إلا في أمرين: بذل المال، وبذل العلم، وهذا لشرف الصنيعين، وحث النَّاس على التنافس في وجوه الخير.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل)

{تنبيه} : (المقصود بالحسد هنا [الغبطة] لأن الحسد لا يحل في اثنتين ولا ثلاث.

11) ولا ينقطع عمل العالم بموته، بخلاف غيره ممن يعيش ويموت، وكأنَّه من سقط المتاع، أمَّا أهل العلم الربانيون الذين ينتفع بعلمهم من بعدهم فهؤلاء يضاعف لهم في الجزاء والأجر شريطة الإخلاص.

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له "

12) وكل ما في الدنيا هالك وإلى زوال، تتنزل عليه اللعنات، والمرحوم من ذلك صنفان من النَّاس: أهل العلم وطلبته، والعابدون الذاكرون الله كثيرًا.

فتدبر في (حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما.

13) وبالعلم يعظم أجر المؤمن، ويصحح نيته، فيحسن عمله، وإذا كان النَّاس لا يشغفون بالمال عن العلم، فإنَّ فضل العلم على المال أعظم، وقد فصل لنا الشرع في هذه القضية، فقد قسَّم رسول الله النَّاس على أصناف أربعة، جعل الناجين منهم صنفين، وهما من تلبث بالعلم.

ص: 60

(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لَا يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.

والشاهد هنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلم الحقيقي هو العلم الذي يبصر المرء بحقائق الأمور، فصاحب المال إذا لم يتحلَ بالعلم فإنَّه سيسيء التصرف فيه، فتجده ينفقه على شهوات نفسه، ولا يعرف شكر هذه النعمة، ولذلك استحق أن يكون بِأَسوءِ المنازل، والعياذ بالله.

وجعل العالم يعرف قدر المال الحقيقي، فيم ينفق؟ فبعلمه نوى نية صالحة فصار بأحسن المنازل، وإن لم ينفق.

{تنبيه} : (هذا الحديث فيه فوائد جمة حيث بين فصل الخطاب في السعادة والشقاوة و أن السعادة بجملتها على العلم وموجبه والشقاوة بجملتها على الجهل وثمرته.

[*] قال الإمام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه فى اليوم مرة أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.

[*] وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء.

14) ومن رزق فقهًا في الدين فذاك الموفق على الحقيقة، فالفقه في الدين من أعظم المنن.

(حديث معاوية في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين و إنما أنا قاسم و الله يعطي و لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز و جل.

15) والعلم مقدم على العبادة، فإنَّ فضلا في علم خير من فضل في عبادة، ومن سار في درب العلم سهل عليه طريق الجنة.

ص: 61

(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة.

(حديث أبي الدرداء في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا من إلى الجنة و إن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم و إن العالم ليستغفر له من في السموات و من في الأرض حتى الحيتان في البحر و إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب و إن العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا و لا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.

وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوك الطريق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم مثلُ حفظهِ ومدارسته.

وقوله صلى الله عليه وسلم: " سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " قد يراد بذلك أن الله يسهل له العلم الذي طلبه وسلك طريقه، وييسره عليه، فإن العلم طريقٌ يوصل إلى الجنة، كما قال بعض السلف:" هل من طالب علمٍ فيعان عليه"، وقد يراد به طريق الجنة يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده.

والعلم أيضاً يدل على الله تعالى من أقرب طريق، فمن سلك طريقه وصل إلى الله تعالى وإلى الجنة من أقرب طريق، والعلم أيضا يُهْتَدَى به في ظلمات الجهل والشبه والشكوك، ولهذا سمى الله كتابه نوراً، ولذا كان قبض العلم بقبض العلماء الربانيين الذين يدلون الناس على الخير ويحذرونهم من الشر.

(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ".

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(إن اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه) أي محواً من الصدور

ص: 62

(ولكن يقبض العلم بقبض العلماء) أي بموتهم فيقبض العلم بتضييع [ص 274] التعلم فلا يوجد فيمن بقي من يخلف من مضى وفي رواية للبخاري بدل هذا لكن ينتزعه منهم بقبض العلماء بعلمهم وتقديره ينتزعه بقبض العلماء مع علمهم ففيه نوع قلب وفي رواية لكن ذهابه قبض العلماء ومعانيها متقاربة قال ابن المنير: محو العلم من الصدور جائز في القدرة لكن الحديث دل على عدم وقوعه

(حتى إذا لم يبق عالماً) وفي رواية يبق عالم بفتح الياء والقاف وفي رواية إذا لم يترك وعبر بإذا دون إن إيماء إلى أنه كائن لا محالة بالتدريج

(اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً) جهلاً بسيطاً أو مركباً

(فسئلوا فأفتوا بغير علم) في رواية برأيهم أي استكباراً وأنفة عن أن يقولوا لا نعلم

(فضلوا) في أنفسهم

ص: 63

(وأضلوا) من أفتوه وفي رواية وضلوا عن سواء السبيل. وهذا تحذير من ترئيس الجهلة وأن الفتوى هي الرئاسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بلا علم وأن قبض العلم موت حملته لا محوه منهم ولا يلزم من بقاء القرآن حينئذ بقاء العلم لأنه مستنبط منه ولا يلزم من المستنبط نفي المستنبط منه والعالم وإن كان قارئاً فهو أخص ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم وفيه جواز خلو الزمان عن مجتهد وعليه الجمهور خلافاً لأكثر الحنابلة وترئيس أهل الجهل ويلزمه الحكم بالجهل وهذا كما قال الكرماني: تعم القضاة الجاهلين إذ الحكم بشيء يستلزم الفتوى به ثم إن ذا لا يعارضه خبر لا تزال طائفة إلخ محل ذا على أصل الدين وذاك على فروعه أو أنه لا يقبض العلم إلى زمن مبادىء الأشراط قبل استحكام نهايتها فإذا أزفت الآزفة وأفرط قرب قيام الساعة وما أمر اللّه زال الكل فيحمل الخبر على زمنين مختلفين يزول التعارض من البين (تتمة) قال الراغب: لا شيء أوجب على السلطان من رعاية أحوال المتصدين للرياسة بالعلم فمنّ الاخلال بها ينتشر الشر ويكثر الأشرار ويقع بين الناس التباغض والتنافر وذلك أن السواس أربعة الأنبياء وحكمهم على الخاصة ظاهرهم وباطنهم والحكماء وحكمهم على بواطن الخاصة والوعاظ وحكمهم على بواطن العامة وصلاح العالم برعاية أمر هذه الساسات لتخدم العامة الخاصة وتسوس الخاصة العامة، وفساده في عكس ذلك، ولما ترشح قوم للزعامة في العلم بغير استحقاق وأحدثوا بجهلهم بدعاً استغنوا بها عامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة فوجدوا من العامة مساعدة بمشاركتهم لهم وقرب جوهرهم منهم وفتحوا بذلك طرقاً منسدة ورفعوا به ستوراً مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوها بالوقاحة وبما فيهم من الشره فبدعوا العلماء وجهلوهم اغتصاباً لسلطانهم ومنازعة لمكانهم فأعزوا بهم أتباعهم حتى وطئوهم بأظلافهم وأخفافهم فتولد بذلك البوار والجور العام والعار.

وسُئل عبادة بنُ الصامت عن هذا الحديث فقال: " لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع ".

(وإنما قال عبادة رضي الله عنه هذا لأن العلم قسمان:

أحدهما: ما كان ثمرته فى قلب الإنسان، هو العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله المقتضى لخشيته، ومهابته، وإجلاله، ومحبته، ورجائه، والتوكل عليه، فهذا هو العلم النافع

[*] ولذا قال ابن مسعود: " إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع فى القلب فرسَخ فيه نفع"،

ص: 64

[*] وقال الحسن: " العلم علمان: علم اللسان فذاك حجة على ابن آدم، كما في الحديث " القرآن حجة لك أو عليك"

(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو مُوبِقها.

وعلم في القلب فذاك العلم النافع، فأول ما يرفع من العلم العلمُ النافع، وهو العلم الباطن الذى يخالط القلوب ويصلحها، ويبقى علم اللسان فيتهاون الناس به ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته وتقوم الساعة على شرار الخلق ".

16) ويكفي صاحب العلم فضلاً أنَّ الله يسخر له كل شيء ليستغفر له ويدعو له:

(حديث أبي الدرداء في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا من إلى الجنة و إن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم و إن العالم ليستغفر له من في السموات و من في الأرض حتى الحيتان في البحر و إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب و إن العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا و لا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.

17) وطلبة العلم هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبا بوصية رسول الله و أقنوهم.

قلت للحكم: ما أقنوهم؟ قال: علموهم.

18) وأهل العلم الذين يبلغون الناس شرع الله تعالى هم أنضر الناس وجوهًا، وأشرفهم مقامًا، بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.

(حديث زيد بن ثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه.

معنى نضَّر الله: الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة

[*] قال سفيان ابن عيينة: ما من أحدٍ يطلب الحديث إلا في وجهه نضرة

19) ومن شرف العلم وفضله أنَّ الله امتن على أنبيائه ورسله بما آتاهم من العلم، دلالة على عظم المنَّة.

ص: 65

فذكر نعمته على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا "[النساء/113]

ووصف خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بأنَّه كان أمة، أي جامعًا لصفات الكمال من العلم والعمل.

قال تعالى: " إنَّ إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكرًا لأنعمه "[النحل/ 120 - 121]

وقال جل وعلا عن نبيه يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين "[يوسف / 22]

وقال في كليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين "[القصص/114]

وقال في حق المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل "[المائدة / 110]

20) قال علي بن أبي طالب: ومن شرف العلم وفضله أنَّ كل من نسب إليه فرح بذلك، وإنْ لم يكن من أهله، وكل من دفع عنه ونسب إلى الجهل عزَّ عليه ونال ذلك من نفسه، وإنْ كان جاهلاً.

[*] قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: لولا العلماء لصار الناس كالبهائم

[*] وقال معاذ ابن جبل رضيَ الله تعالى عنه: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة.

[*] وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: العلم لا يعدله شيء إذا صحت نيته.

21) وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل العلم على العبد كفضله صلى الله عليه وسلم على أدنانا:

(حديث أبي أمامة في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.

22) وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العلم يترتب عليه الأجر الوفير لدلالة الناس على الخير:

(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا.

23) أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من أقبل على العلم تعلماً وتعليماً:

ص: 66

(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير و كانت منها أخاذات أمسكت الماء فنفع الله بها الناس شربوا منها و سقوا وزرعوا و أصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.

[*] (شرح الحديث:

قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الناس من حيث قبول العلم والانتفاع به إلى قسمين:

(القسم الأول:

وهو قسمٌ محمود، وينقسم إلى نوعين:

1) نوعٌ كالأرض النقية التي تقبل الماء فتستفيد في نفسها ثم تفيد غيرها بإنبات الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الفقهاء أولي الفهم لأنهم فهموا فاستفادوا ثم أفادوا.

2) نوعٌ آخر محمود ولكنه دون النوع الأول، وهم كالأرض الصلبة (أخاذات) التي تجمع الماء وتحفظه لينتفع به الناس من السقي والزراعة والشرب، فهؤلاء كالمحدثين الذين لم يُرزقوا الفقه والفهم بل حفظوا العلم ونقلوه لغيرهم ليستفيدوا به.

{تنبيه} : (ليس المقصود بذلك أن كل محدثٍ ليس بفقيه فهناك كثيرٌ من العلماء جمعوا بين الحديث والفقه كالإمام أحمد والإمام البخاري رحمهما الله تعالى

(القسم الثاني: قسمٌ مذموم لم يهتم بالعلم ولم يرفع بذلك رأساً ولم يشغل باله بالعلم لا تعلماً ولا تعليماً ولا حفظاً ولا سماعاً، فلم ينتفع بالهدى والعلم وعاش هائماً في الضلال بل ربما كان أضل من حمار أهله.

وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم من المسالك المؤدية إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العلم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء

[*] قال الإمام أحمد رحمه الله كما في طبقات الحنابلة (1/ 390):

الناس يحتاجون إلى العلم مثل الخبز والماء، لأن العلم يحتاج إليه في كل ساعة، والخبز والماء في كل يوم مرة أو مرتين.

[*] روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 225) بإسناد صحيح عن الزهري قال: (ما عُبِدَ الله بِمِثْلِ العِلم).

(والغرض من تعلم العلم الشرعي العمل به، وطلب الأجر والثواب من الله، ورفع الجهل عن النفس.

ص: 67

ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.

ولم يكن السلف يطلقون اسم الفقيه إلا على من جمع بين العلم والعمل.

والعمل بالعلم سبب للثبات،

قال تعالى: (وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً)[النساء / 66]

[*] روى الخطيب البغدادي بسنده في اقتضاء العلم العمل: «عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل» (1).

[*] قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 704)

قال عبد الملك بن إدريس رحمه الله:

والعلم ليس بنافع أربابه

ما لم يفد عملاً وحسن تبصر

سيان عندي من لم يستفد

عملاً به وصلاة من لم يطهر

فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها

لا ترض بالتضييع وزن المخسر

[*] قال أبو الدرداء رضي الله عنه:

«إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت فماذا عملت فيما علمت؟» (2).

وقد كان السلف رحمهم الله يستعينون على حفظ الحديث والعلم بالعمل به.

[*] قال الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل:

«العلم شجرة، والعمل ثمرة

فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرا في العمل، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما».

[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

في زاد المعاد (3/ 10): السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم دعي عظيما في ملكوت السماوات.

(حديث أبي مدينة الدارمي وكانت له صحبة الثابت في السلسلة الصحيحة) قال كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر والعصر إن الإنسان لفي خسر ثم يسلم أحدهما على الآخر.

[*] قال الإمام ابن القيم:

(1) رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل (35) وفيه لطيفة إسنادية مسلسل برواية تسعة آباء .. تدريب الراوي (2/ 261).

(2)

رواه ابن المبارك في الزهد (52)،وأحمد في الزهد (2/ 58)، وأبونعيم في الحلية (1/ 231)،ورواه بنحوه الحارث بن أسامة في مسنده (1124)، والخطيب في اقتضاء العلم العمل (41).وهو حسن.

ص: 68