الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما يزرعه النّاس فيها اليومَ يحصدوه غدًا في الآخرة إن شاء الله تعالى، فمن زرع الطاعة رجا المغفرة، ومن زرع الشوك لا يجني عنباً، قال الله تعالى: الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وهي صائرةٌ إلى فناءٍ وزوال، قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
(ذم الدنيا:
إن الذي يُمْعِنُ النظر في كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة إذا تفكَّر جليا وتأمل مليا يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن الدنيا مذمومة في الوحيين الشريفيين.
قال تعالى: وَفَرِحُواْ بِالْحياةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلَاّ مَتَاعٌ [الرعد:26]
قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20]
ووصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثمّ لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هكذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانة غرّارة تغدر وتُغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس وتعلّقت بها الألباب ذوَت أيّامها واستحالت نضرتُها إلى هشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدق الله: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
(إنّ هذا التصويرَ البليغ يُجلِّي حقيقةَ الدنيا في ميزان الإسلام، كيلا يصبِح الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيمِ الآخرة، وليس مِن سداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ وجَمع الحُطام.
وتراكض الناس في طلب الدنيا خوفًا من فواتها وطمعًا في المزيد، ويبذلون الأوقات النفيسةَ ويقاسون شدّةَ الطلب، بينما قد يفرّطون في الصّلاة ويقعدون عن الجماعة ويتساهلون في الطّاعة وتلاوة القرآن ويتثاقلون في البذل والإنفاق.
إنّ الحياةَ الدّنيا مهما بلغ شأوُ نعيمِها لا يزن ذرّةَ رملٍ من معين الدّار الآخرة، وإنّ أعظمَ ما في الدّنيا من مصائبَ وشدائد يهون أمامَ نعيم دار الآخرة ولا يعادِل مقدارَ شرارةٍ صغيرةٍ من عذاب جهنّم.
وبيَّن الله تبارك وتعالى في القرآن حقارة الدنيا وسرعة زوالها واستصغار شأنها، وحثهم على عمل ما خلقوا لأجلها وهي العبادة فقال تعالى:(يَأَيَّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورْ)[فاطر:5].
وقال أيضاً: (وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَإِنَّ الدَارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون)[العنكبوت:64]
وقال تعالى: (المَالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً)[الكهف:64]
وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، وهي دار البقاء، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، فيا قوم أضروا بالفاني للباقي).
[*] وقال بعض السلف: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
(وتأمل أخي التقي النقي العفيف الحييّ الحر الأبيّ في الأحاديث الآتية بعين البصيرة لتطلع على حقيقة الدنيا وضآلةِ حجمها عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.
(حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء.
{تنبيه} : (إن العاقل هو من تنبه لحقيقة الدنيا وأنزلها منه بمنزلة الدنيا ولم يأخذ منها إلا ما يُقيمه، وما أحسن قول الإمام وكيع ابن الجراح في ذلك فتأمله بعين البصيرة، وتقبله بقبولٍ حسن وأعِرْهُ سمعك وبصرك واجعل له في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً عسى الله أن ينفعك به ويوفقك إلى تطبيقه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد البيهقي، قال: سمعت وكيعا يقول، وقد جاءه رجل يناظره في شيء من أمر المعاش أو الورع: فقال له وكيع: من أين تأكل؟ قال: ميراثا ورثته عن أبي، قال: من أين هو لأبيك؟ قال: ورثه عن أبيه. قال: من أين هو كان لجدك؟ قال لا أدري. فقال له وكيع: لو أن رجلا نذر لا يأكل إلا حلالاً ولا يلبس إلا حلالاً ولا يمشي إلا في حلال لقلنا له اخلع ثيابك وارم بنفسك في الفرات، ولكن لا تجد إلا السعة. ثم قال وكيع: لو أن رجلا بلغ في ترك الدنيا مثل سلمان وأبي ذر وأبي الدرداء ما قلنا له زاهدا، لأن الزهد لا يكون إلا على ترك الحلال المحض، والحلال المحض لا نعرفه اليوم، فالدنيا عندنا حلال وحرام وشبهات، فالحلال حساب، والحرام عذاب، والشبهات عتاب. فأنزل الدنيا بمنزل الميتة، خذ منها ما يقيمك، فإن كانت حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كانت حراما كنت قد أخذت منها ما يقيمك لأنه لا يحل لك من الميتة إلا قدر ما يقيمك، إن كانت شبهات كان فيها عتاب يسير.
(وما أحسن قول يحيي ابن معاذ في ذلك فتأمله بعين البصيرة:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: الدنيا أمير من طلبها، وخادم من تركها، الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلبها رفضته ومن رفضها طلبته، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور، الدنيا عروس وطالبها ماشطتها، وبالزهد ينتف شعرها ويسود وجهها ويمزق ثيابها. ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته. فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضي عدتها أبداً، فخل الدنيا ولا تذكرها، واذكر الآخرة ولا تنسها، وخذ من الدنيا ما يبلغك الآخرة، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة.