الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (الصبي أمانة عند والديه، فإن عُوِّد بالخير وعُلمه نشأ عليه وسَعِد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، فعلى الأب أن يصون ولده بأن يؤدبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء ولا يعوده على التنعم والزينة والرفاهية فيضيع عمره في طلبها، ثم ذكر طرقا في تأديب الصبيان ينبغي لكل والد ومرب الرجوع إليها) إحياء علوم الدين
(2)
ومن طرق اكتساب الأدب، النظر في قصص القرآن وكتب الحديث والسيرة لمعرفة هدي وآداب رسول الله صلى اله عليه وسلم، والالتزام بمجالس ودروس أهل الحديث لأنهم أعلم الناس بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك النظر في ميراث أسلافنا من الصحابة والتابعين والأئمة المشهورين بالأدب والورع والدين ومن أهم الكتب في سيرهم كتاب (سير أعلام النبلاء) للإمام الذهبي رحمه الله (25 مجلدا).
(3)
تعليم الناس وتذكيرهم دوما بأهمية الأدب في حياتهم وخطورة تركه وإهماله:-ويتحقق ذلك بإقامة الدروس والمحاضرات والخطب في ذكر الآداب الشرعية بالأدلة الصحيحة.
(4)
قراءة الكتب والمصفات التي أفردت لأبواب الأدب لمعرفة الآداب الإسلامية والعمل بها ونشرها بين الناس، وسيأتي ذكر بعض الكتب آخر البحث.
(5)
مصاحبة المربِّين والعلماء وطلبة العلم الملتزمين بالأدب.
(6)
ومن طرق اكتساب الأدب: توقي الأداب المرذولة في الأفراد والمجتمعات.
(7)
مجاهدة النفس وتربيتها على الآداب الشرعية:- ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "" إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطه، ومن يتق الشر يُوقّه "" صحيح الجامع الصغير (2328)
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (فمن أراد مثلا أن يُحصِّل لنفسه خُلُق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه به، ويواظب عليه تكلفا مجاهدا نفسه حتى يصير ذلك طبعا ويتيسر عليه فيصير به جوادا
…
وجميع الأخلاق المحمودة شرعا تحصل بهذا الطريق) موعظة المؤمنين صـ205.
فإذا سلك المؤمن طرق اكتساب الأدب مع الإخلاص وفقه الله تعالى.
(
…
آداب تلاوة القرآن:
(آداب تلاوة القرآن:
لتلاوة القرآن آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب الاستئذان جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب تلاوة القرآن جملةً:
(1)
معرفة فضل القرآن الكريم:
(2)
معرفة فضائل تلاوة القرآن الكريم:
(3)
الترغيب في تعلم القرآن وتعليمه:
(4)
استحباب قراءة القرآن الكريم جماعة:
(5)
الحث على حفظ القرآن الكريم:
(6)
تذكير الناس بفضل أهل القرآن:
(7)
تحري الإخلاص عند تعلم القرآن وتلاوته:
(8)
العمل بالقرآن:
(9)
الحث على استذكار القرآن وتعاهده:
(10)
لا تقل نسيت؛ ولكن قل: أُنسيت، أو أُسقطت، أو نُسيت:
(11)
فضل تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه:
(12)
جواز تلاوة القرآن قائماً أو ماشياً أو مضطجعاً أو راكباً:
(13)
لا يمس المصحف إلا طاهر:
(14)
جواز تلاوة القرآن للمحدث حدثاً أصغر عن ظهر قلب:
(15)
جواز قراءة القرآن للحائض والنفساء:
(16)
استحباب تنظيف الفم بالسواك قبل التلاوة:
(17)
من السنة الاستعاذة والبسملة عند التلاوة:
(18)
استحباب ترتيل القرآن وكراهية السرعة المفرطة في التلاوة:
(19)
استحباب مد القراءة:
(20)
استحباب تحسين الصوت بالقراءة، والنهي عن القراءة بالألحان:
(21)
البكاء عند تلاوة القرآن وسماعه:
(22)
استحباب الجهر بالقرآن إذا لم يترتب عليه مفسدة:
(23)
فضائل ختم القرآن، وفي كم يختم؟
(24)
السنة الإمساك عن القراءة عند غلبة النعاس:
(25)
استحباب اتصال القراءة وعدم قطعها:
(26)
من السنة أن يسبح القارئ عند أية التسبيح، ويتعوذ عند آية العذاب، ويسأل عند آية الرحمة:
(27)
كراهية تقبيل المصحف ووضعه بين العينين:
(28)
كراهية تعليق الآيات على الجدر ونحوها:
(29)
التحذير من هجر القرآن:
(30)
ينبغي له أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى:
(31)
يستحب أن تكون القراءة في موضعٍ نظيف:
(32)
يستحب للقارئ أن يقرأ وهو جالس مستحضراً عظمةَ من يناجيه:
(33)
احترام القرآن:
(34)
يستحب له أن يقرأ القرآن على ترتيب المصحف:
(35)
كراهية الاختلاف في كتاب الله تعالى:
(36)
يستحب طلب القراءة الطيبة من إنسان حسن الصوت:
(37)
تحريم الجدال في القرآن بغير حق:
(38)
استحباب دعاء ختم القرآن:
(ثانيا آداب تلاوة القرآن تفصيلا:
(1)
معرفة فضل القرآن الكريم:
إن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن القرآن الكريم أكبر منةٍ امتن الله تعالى بها على هذه الأمة، ففيه حياةُ القلوب ويحصل بالتمسك به سعادة الدارين، لم تظفر الدنيا كلها بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد الذي فتح الله به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، وهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأخرج به من الظلمات إلى النور، هذا الكتاب العظيم الذي ضمن للإنسانية الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم آمنوا به وتلوه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بأخلاقه، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم، والقرآن الكريم هو: كتاب الله الذي منه بدأ وإليه يعود، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، وصفه الله تعالى بقوله (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42]. كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود1/]
(حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر/9]
(فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]
(هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[إبراهيم:1]
(نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا)[الجن 1 - 3].
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
وقال تعالى: (اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 23]
و قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ)[ص: 29]
و قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)[طه: 113]
(ثم إن الله عز وجل وعد لمن استمع إلى كلامه، فأحسن الأدب عند استماعه: بالاعتبار الجميل، ولزوم الواجب لاتباعه، والعمل به ـ يبشره منه بكل خير ووعده على ذلك أفضل الثواب فقال تعالى: (فَبَشّرْ عِبَادِ* الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلََئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُوْلََئِكَ هُمْ أُوْلُو الألْبَابِ)[الزمر: 18،17]
و قال تعالى: (وَأَنِيبُوَاْ إِلَىَ رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتّبِعُوَاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الزمر 54، 55]
(وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الأحقاف 30 – 31]
(ومن عظيم شأنه وجلالة قدره أنَّه لو نزل على الجبال الصمّ لتصدَّعت، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ)[الحشر / 21]
(وتحدى الثقلين أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا لذلك حيث قال تعالى: (قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)[الإسراء / 88]
إنَّ القرآن الكريم معجز في أسلوبه وهديه، غنيٌّ في معانيه ودلالاته، ثمين في كنوزه وحقائقه، حي في نصوصه وتوجيهاته، قويٌّ في أهدافه وأغراضه، أقبل عليه المسلمون في مختلف مراحل التاريخ، قرؤوه وتدبروه، نظروا في نصوصه وتأملوه، فسروا آياته وبينوا شرائعه، تحدثوا عن توجيهاته واستخرجوا من كنوزه وجنوا من ثماره، والعلماء والمفسرون والمتدبرون أخذوا هذا في كل قرن، وسجلوه في كل عصر، وبقي القرآن بحول الله قادراً على العطاء، كنوزه ثمينة لا تنفد، ومعينه ثر كريم لا ينضب، وظلاله ممتدة وارفة لا تزول، وأنواره مشعة مضيئة ولو طال عليها الزمان وامتدت بها السنون.
(وقد فضّل الله عز وجل القرآن العظيم على غيره من الكتب السابقة، وجعله ناسخاً لها ومهيمناً عليها، فقال تعالى: (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)[المائدة / 48]
(من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)[الزخرف: 4].
(وحبل الله هو القرآن:
(وعلى هذا فلا يُتَصوَّر طلب العلم على جادةِ الاستقامة إلا بعد حفظ كتاب الله تعالى كاملاً ومن فرَّط فيه فرَّط في غيره ولا شك، وليس معنى ذلك أنه يشترط في طلب العلم حفظ كتاب الله تعالى كاملاً غير أنه لا يستقيم علمه ولا يكون له وزناً في العلم إلا إذا حفظ كتاب الله تعال كاملاً وذلك لأن كل كتب العلم تخدم كتاب الله تعالى، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أمته دائماً على حفظ كتاب الله تعالى وأن يُقبلوا عليه إقبالَ الظامئِ على المورد العذب.
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
أنزل الله عز وجل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعلمه فضل ما أنزله عليه، وأعلم خلقه في كتابه وعلى لسان رسوله {أن القرآن عصمة لمن اعتصم به، وهدى لمن اهتدى به، وغنى لمن استغنى به، وحرز من النار لمن اتبعه، ونور لمن استنار به، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين} ، ثم أمر الله خلقه أن يؤمنوا به، ويعملوا بمحكمه فيحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويؤمنوا بمتشابهه، ويعتبروا بأمثاله ويقولوا (آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا) [آل عمران: 7]
ثم وعدهم على تلاوته والعمل به النجاة من النار، والدخول إلى الجنة، ثم ندب خلقه عز وجل إذا هم تلوا كتابه أن يتدبروه، ويتفكروا فيه بقلوبهم، وإذا سمعوه من غيرهم أحسنوا استماعه، ثم وعدهم على ذلك الثواب الجزيل، فله الحمد، ثم أعلم خلقه أن من تلا القرآن وأراد به متاجرة مولاه الكريم، فإنه يربحه الربح الذي لا بعده ربح، ويعرفه بركة المتاجرة في الدنيا والآخرة.
(2)
معرفة فضائل تلاوة القرآن الكريم:
أثنى الله عز وجل على التالين لكتاب الله فقال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُواْ الصّلَاةَ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ * لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 29 - 30].
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على فضل تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه وهاك بعضٌ منها:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان» : قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف» : الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وسلم:«تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة» : أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.
(مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب وكذا المؤمن الذي يقرأ القرآن مرضيٌ حاله قلباً وقالباً _ وهذا إن كان عاملاً بكتاب الله تعالى _ وإلا انقلب علمه من نورٍ إلى نار.
(وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يترتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
(حديث ابن عباس في صحيحي الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إذا زلزلت} تعدل نصف القرآن و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القرآن و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
{تنبيه} : (ومن مظاهر سعة رحمة الله تعالى لعباده وكذا من مظاهر يسر الإسلام أن الله تعالى رتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم سواء كان القارئ يجيد القراءة أم يتتعتع في القراءة.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث جابر في صحيح أبي داود) قال: خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: اقرؤوا فكلٌ حسن وسيجئُ أقوامٌ يقيمونه كما يُقام القدحُ يتعجلونه ولا يتأجلونه.
الشاهد:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمر قراءة القرآن على التساهل حيث قال في قراءة الأعرابي والأعجمي (اقرؤوا فكلٌ حسن) وهما غالباً لا يحسنان القراءة لأن الأعرابي غالباً بعيدٌ عن العلم والأعجمي ليس عربياً أصلاً، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المهم في القراءة الاحتساب وإخلاص النية ثم نبه صلى الله عليه وسلم أنه سيجئُ أقوامٌ يقرؤون القرآن قراءةً صحيحةً ويقيمون الألفاظ كما يُقام القدح (أي السهم) ولكنهم مع ذلك يتعجلون ثوابه في الدنيا ولا يؤجلون ثوابه في الآخرة.
{تنبيه} : (
…
لسماع القران أثر إيجابي على المخ فقد ثبت علمياً أن تلاوة القرآن الكريم وترتيله والاستماع إلى آياته والإنصات لها يعزز القوى العقلية، وأن الترددات العقلية الصادرة عن أصوات تلاوة القرآن الكريم يجعل العقل يصدر سلسلة من الترددات والطاقات تعرف علمياً باسم (موجات العقل)
فإذا كنت حقاً تريد تزويد عقلك بالموجات الصوتية المغذية استمع للقرآن الكريم وأنصت جيداً لآياته وراقب جيداً كيف تزداد قواك العقلية، وكيف تصبح مبدعاً في
تفكيرك.
وثبت فعلياً أن الإنسان يحتاج للاستماع إلى الآيات المحكمات من كتاب الله كغذاء فعال للروح والعقل معاً أكثر من حاجة العقل إلى المغذيات الطبيعية والأعشاب
الطبية والفيتامينات وغيرها من منشطات العقل.
والعجيب فعلاً أن الاستماع للقرآن الكريم يزيل الضجر والتشتت والنسيان السريع بعكس الاستماع لأي أي شيء آخر.
(لذا فاحرصوا قدر استطاعتكم أن تظلوا يقظين أثناء الاستماع ولا تعطوا لعوامل التشتت الفرصة، فقد ثبت أن السر في تركيبة عقولنا يكمن في أنه بالاستماع للقرآن الكريم تبقى خلايا مخك حية سعيدة حتى في أثناء فترات الضغط عليها.
وثبت توقف خلايا المخ عن التناقص بعد دوام الاستماع للقرآن الكريم، وكذلك زيادة قدرة المستمع على التركيز واستدعاء الذاكرة والقيام بعمليات حسابية لم يكن بالإمكان القيام بها من قبل.
نسأل الله العظيم أن يعيننا على تلاوة القرآن الكريم، وحفظه، وتدبّر آياته، واتّباع سنة نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن تكون منزلتنا عند آخر آية نقرؤها، وأن نكون ممن نقرأ فنرقى، ولا نكون ممن يقرأ فيشقى، وأن نقيم حدوده، ولا نضيّع حدوده، وأن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونسارع في فعل الخيرات والطاعات وترك المنكرات وحب المساكين إنه ولي ذلك والقادرُ عليه.
(3)
الترغيب في تعلم القرآن وتعليمه:
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو أفضل ما يُتعلم، وأفضل ما يُعلَّم، لاشك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه هو أكثر كمالاً لأنه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر على نفسه والنفع المتعدي إلى غيره، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
[*] قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن:
"والغرض أنه صلى الله عليه وسلم قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمَّلُ في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال الله في حقهم:(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ)[النحل:88].
وكما قال تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ)[الأنعام: 26].
في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى:(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا)[الأنعام: 157]. فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم، كما في هذا الحديث، وكما قال تعالى:(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
[فصلت/ 33]
فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله -تعالى- من تعليم القرآن والحديث والفقه، وغير ذلك مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا -أيضا- فلا أحد أحسن حالا من هذا. انتهى.
(وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً كل الحرص على تعليم صحابته القرآن، وتعاهدهم على تلاوته والعمل به، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم القرآن. ونُقل عن ابن مسعود أنه أقرأ رجلاً، فقال له حين أخطأ: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من أمره صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل القراء إلى كل بلد يعلِّمون أهله كتاب الله، فأرسل مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته، وبعث معاذ بن جبل إلى مكة بعد فتحها. وعلى هذا الدرب سار السلف الصالح من بعدُ، فاهتموا بتعلِّم كتاب ربهم وتعليمه، فأقاموا المساجد والمدارس تحقيقاً لهذا الغرض.
(باب أخلاق المقرئ إذا جلس يُقْرِئَ كتاب الله:
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
ينبغي لمن علمه الله كتابه، فأحب أن يجلس في المسجد، يقرئ القرآن لله، يغتنم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1)»
(1) صحيح البخاري
فينبغي له أن يستعمل من الأخلاق الشريفة ما يدل على فضله وصدقه، وهو أن يتواضع في نفسه إذا جلس في مجلسه، ولا يتعاظم في نفسه، ويتواضع لمن يلقنه القرآن، ويقبل عليه إقبالا جميلا وينبغي له أن يستعمل مع كل إنسان يلقنه ما يصلح لمثله، إذا كان يتلقن عليه الصغير والكبير والحدث، والغني والفقير، فينبغي له أن يوفي كل ذي حق حقه، ويعتقد الإنصاف إن كان يريد الله بتلقينه القرآن: فلا ينبغي له أن يقرب الغني ويبعد الفقير، ولا ينبغي له أن يرفق بالغني ويحذق بالفقير، فإن فعل هذا فقد جار في فعله، فحكمه أن يعدل بينهما، ثم ينبغي له أن يحذر على نفسه التواضع للغني والتكبر على الفقير، بل يكون متواضعا للفقير، مقربا لمجلسه متعطفا عليه، يتحبب إلى الله بذلك. أهـ
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: (وَلَا تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ)[لقمان: 18]
قال: يكون الغني والفقير عندك في العلم سواء.
(وينبغي للمقرئ أن يتناول فيه ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم حيث أمره أن يقرب الفقير قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا)[الكهف: 28]
(قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
أي: اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء.
يقال: إنها نزلت في أشراف قريش، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كَبِلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة. فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء. أهـ
((حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ:
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا قَالَ وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل
(وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)
(إذا كان قوم أرادوا الدنيا، فأحبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدني منهم مجلسهم، وأن يرفعهم على من سواهم من الفقراء، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوا، لا لأنه أراد الدنيا، ولكنه تألفهم على الإسلام فأرشد الله نبيه على أشرف الأخلاق عنده، فأمره أن يقرب الفقراء وينبسط إليهم، ويصبر عليهم، وأن يباعد الأغنياء الذين يميلون إلى الدنيا، ففعل صلى الله عليه وسلم، «وهذا أصل يحتاج إليه جميع من جلس يعلم القرآن والعلم» ، ويتأدب به، ويلزم نفسه، ذلك إن كان يريد الله بذلك.
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
وأحب له إذا جاء من يريد أن يقرأ عليه من صغير أو حدث أو كبير أن يعتبر كل واحد منهم قبل أن يلقنه من سورة البقرة، يعتبره بأن يعرف ما معه من الحمد، إلى مقدار ربع سبع أو أكثر مما يؤدي به صلاته، ويصلح أن يؤم به في الصلوات إذا احتاج إليه، فإن كان يحسنه وكان تعلمه في الكتاب أصلح من لسانه وقومه، حتى يصلح أن يؤدي به فرائضه ثم يبتدئ فيلقنه من سورة البقرة وأحب لمن يلقن إذا قرئ عليه أن يحسن الاستماع إلى من يقرأ عليه، ولا يشتغل عنه بحديث ولا غيره، فبالحري أن ينتفع به من يقرأ عليه، وكذلك ينتفع هو أيضا، ويتدبر ما يسمع من غيره، وربما كان سماعه للقرآن من غيره له فيه زيادة منفعة وأجر عظيم، ويتناول قول الله عز وجل:(وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الأعراف: 204]
فإذا لم يتحدث مع غيره وأنصت إليه أدركته الرحمة من الله، وكان أنفع للقارئ عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود:(اقرأ علي «، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟، قال:» إني أحب أن أسمعه من غيري (1)
(وأحب لمن كان يقرئ أن لا يدرس عليه وقت الدرس إلا واحد، ولا يكون ثانيا معه فهو أنفع للجميع وأما التلقين: فلا بأس أن يلقن الجماعة، وينبغي لمن قرأ عليه القرآن فأخطأ عليه أو غلط، أن لا يعنفه وأن يرفق به، ولا يجفو عليه، ويصبر عليه، فإني لا آمن أن يجفو عليه فينفر عنه، وبالحري أن لا يعود إلى المسجد، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (2)»
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم، وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم»
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
فمن كانت هذه أخلاقه انتفع به من يقرأ عليه ثم أقول: إنه ينبغي لمن كان يقرئ القرآن لله أن يصون نفسه عن استقضاء الحوائج ممن يقرأ عليه القرآن، وأن لا يستخدمه ولا يكلفه حاجة يقوم بها، وأختار له إذا عرضت له حاجة أن يكلفها لمن لا يقرأ عليه وأحب أن يصون القرآن على أن يقضى له به الحوائج، فإن عرضت له حاجة سأل مولاه الكريم قضاءها، فإذا ابتدأه أحد من إخوانه من غير مسألة منه فقضاها، شكر الله؛ إذ صانه عن المسألة والتذلل لأهل الدنيا، وإذ سهل الله له قضاءها، ثم يشكر من أجرى ذلك على يديه؛ فإن هذا واجب عليه
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن ابن الربيع البوراني، قال: كنت عند عبد الله بن إدريس فلما قمت قال لي: سل عن سعر الأشنان، فلما مشيت ردني فقال: لا تسأل؛ فإنك تكتب مني الحديث، وأنا أكره أن أسأل من يسمع مني الحديث حاجة.
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن خلف بن تميم قال: مات أبي وعليه دين، فأتيت حمزة الزيات، فسألته أن يكلم صاحب الدين أن يضع عن أبي من دينه شيئا، فقال لي حمزة: ويحك إنه يقرأ علي القرآن، وأنا أكره أن أشرب من بيت من يقرأ علي القرآن الماء.
(1) رواه البخاري ومسلم
(2)
رواه البخاري
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الفضيل بن عياض قال: «ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجة إلى أحد من الناس، إلى خليفة فمن دون، وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه»
((حديث عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:: اقرؤوا القرآن، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن ابن مسعود قال: لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله سادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا على أهلها، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول:«من جعل الهم هما واحدا هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك»
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الحسن قال: قرأ هذا القرآن ثلاثة رجال: فرجل قرأه فاتخذه بضاعة ونقله من بلد إلى بلد، ورجل قرأه فأقام على حروفه، وضيع حدوده يقول: إني والله لا أسقط من القرآن حرفا، كثر الله بهم القبور، وأخلى منهم الدور فوالله لهم أشد كبرا من صاحب السرير على سريره، ومن صاحب المنبر على منبره، ورجل قرأه فأسهر ليله وأظمأ نهاره ومنع شهوته، فجثوا في براثنهم وركدوا في محاربهم، بهم ينفي الله عنا العدو وبهم يسقينا الله الغيث، وهذا الدرب من القراء أعز من الكبريت الأحمر.
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن حماد بن زيد قال: سمعت أيوب يقول: «ينبغي للعالم أن يضع الرماد على رأسه تواضعا لله عز وجل»
(باب أخلاق من يقرأ على المقرئ:
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
من كان يقرأ على غيره ويتلقن فينبغي له أن يحسن الأدب في جلوسه بين يديه، ويتواضع في جلوسه، ويكون مقبلا عليه، فإن ضجر عليه احتمله، وإن زَبَرَه احتمله ورفق به، واعتقد له الهيبة، والاستحياء منه، وأحب أن يتلقن ما يعلم أنه يضبط، هو أعلم بنفسه، إن كان يعلم أنه لا يحتمل في التلقين أكثر من خمس خمس، فلا ينبغي أن يسأل الزيادة، وإن كان يعلم أنه لا يحتمل أن يتلقن إلا ثلاث آيات، لم يسأل أن يلقنه خمسا، فإن لقنه الأستاذ ثلاثا لم يزده عليها، وعلم هو من نفسه أنه يحتمل خمسا سأله أن يزيده، على أرفق ما يكون، فإن أبى لم يزده بالطلب، وصبر على مراد الأستاذ منه، فإنه إذا فعل ذلك، كان هذا الفعل منه داعيا للزيادة له ممن يلقنه إن شاء الله ولا ينبغي له أن يضجر من يلقنه فيزهو فيه، وإذا لقنه شكر له ذلك، ودعا له، وعظم قدره، ولا يجفو عليه إن جفا عليه، ويكرم من يلقنه إن هو لم يكرم، وتستحي منه إن كان هو لا يستحي منك، تلزم أنت نفسك واجب حقه عليك، فبالحري أن يعرف حقك؛ لأن أهل القرآن أهل خير وتيقظ وأدب يعرفون الحق على أنفسهم، فإن غفل عن واجب حقك، فلا تغفل عن واجب حقه، فإن الله عز وجل قد أمرك أن تعرف. أهـ
((حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يجل كبيرنا و يرحم صغيرنا! ويعرف لعالمنا حقه.
(4)
استحباب قراءة القرآن الكريم جماعة:
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]
و قال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن/18]
و قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)[البقرة/114]
فأضاف المساجد إليه؛ لأنها موضع ذكره.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده.
قوله (يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم) يتلونه: يقرءونه و يتدارسونه أي: يدرس بعضهم على بعض.
(إلا نزلت عليهم السكينة) يعني: في قلوبهم و هي الطمأنينة و الاستقرار السكينة: حالة يطمئن بها القلب فيسكن عن الميل إلى الشهوات وعند الرعب.
و غشيتهم الرحمة: غطتهم و شملتهم.
و حفتهم الملائكة: أي يطوفون بهم يدورون حولهم.
وذكرهم اللّه: أثنى عليهم أو أثابهم.
فيمن عنده: أي من الملائكة.
(ومن فوائد الحديث: فضيلة اجتماع الناس على قراءة القرآن لقوله - و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ.
(ومن فوائد الحديث: أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت الله أي: في مسجد من المساجد لينالوا بذلك شرف المكان لأن أفضل البقاع مساجدها.
(ومن فوائد الحديث: بيان حصول هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة و هي الطمأنينة القلبية و تغشاهم الرحمة أي: تغطيهم و تحفهم الملائكة أي: تحيط بهم من كل جانب و يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة لأنهم يذكرون الله تعالى عن ملأ، و قد قال الله تعالى في الحديث القدسي -من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-.
[*] (قراءة القرآن جماعة لها أربع صور:
الصور الأولى:
أن يقرأ واحد والباقون يستمعون له، فهذه الصورة مستحبة لا تكره بغير خلاف،
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود: (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فقرأ عليْهِ من سُورة النِّساء حتّى بلغ قوله: ((فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قال:(حَسْبُكَ الآن). فالتفتُ إليه فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 5/ 345: وأما قراءة واحد والباقون يستمعون له فلا يكره بغير خلاف وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها كأبي موسى وغيره.
الصور الثانية:
أن يقرأ قارئ ثم يقطع ثم يعيد غيره ما قرأ الأول لأجل مدارسة القرآن، فهذه الصورة مستحبة باتفاق الفقهاء لأن جبريل كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم برمضان يعرض كل منهما على الآخر.
[*] قال الحافظ في الفتح:
يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، هذا عكس ما وقع في الترجمة لأن فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل وتقدم في بدء الوحي، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر.
[*] وقال في مطالب أولي النهى 1/ 598:
وأما لو أعاد ما قرأه الأول وهكذا فلا يكره؛ لأن جبريل كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن برمضان وهذا ما قرره البهوتي رحمه الله في كشاف القناع انظر 1/ 433.
[*] وقال الخرشي في شرحه على مختصر خليل 1/ 353:
كما لا تكره المدارسة بالمعنى الذي كان يدارس به جبريل النبي صلى الله عليه وسلم برمضان من قراءته وإعادة النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى
الصورة الثالثة:
أن يقرأ قارئ ثم يقطع ثم يقرأ غيره بما بعد قراءته، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذلك حسن لا يكره، وذهب الحنابلة إلى كراهة تلك الصورة، قال ابن مفلح في الفروع 1/ 554: وكره أصحابنا قراءة الإدارة، وقال حرب: حسنة، وحكاه شيخنا -أي ابن تيمية رحمه الله عن أكثر العلماء.
والراجح في هذه الصورة أنها لا تكره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإذا اتفق الحنابلة مع الجمهور على استحباب الصورة الأولى فلا وجه للكراهة هنا .. إذ لا فرق بين أن يعيد القارئ ما قرأ الأول أو أن يقرأ من حيث ما وقف الأول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى 5/ 345: وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء.
[*] وقال الإمام النووي في التبيان:
فصل في الإدارة بالقرآن وهو أن يجتمع جماعة يقرأ بعضهم عشراً أو جزءاً أو غير ذلك ثم يسكت ويقرأ الآخر من حيث انتهى الأول، ثم يقرأ الآخر وهكذا، وهذا جائز حسن. وقد سئل مالك رحمه الله تعالى عنه فقال: لا بأس به. انتهى
الصورة الرابعة:
أن يقرأ الكل مجتمعين بصوت واحد.
فمذهب الحنابلة والشافعية استحباب ذلك وهو القول الثاني عند الأحناف، قال البهوتي رحمه الله في شرح منتهى الإرادات 1/ 256: ولا تكره قراءة جماعة بصوت واحد.
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 345:
وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد، وللمالكية قولان في كراهتها. انتهى
[*] وقال محمد بن محمد الخادمي في بريقه محمودية:
وكره أن يقرأ القرآن جماعة لأن فيه ترك الاستماع والإنصات المأمور بها، وقيل لا بأس به ولا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهراً عند ختم القرآن، والأولى أن يقرأ واحد ويستمع الباقون. انظر 3/ 270
القول الثاني: كراهة قراءة الجماعة معاً بصوت واحد لتضمنها ترك الاستماع والإنصات، وللزوم تخليط بعضهم على بعض، وهو المعتمد عند الحنفية والمالكية.
قال صاحب غنية المتملي: يكره للقوم أن يقرءوا القرآن جملة لتضمنها ترك الاستماع والإنصات وقيل: لا بأس به.
وقد أثبت المالكية القول بالكراهة في كتبهم وشنعوا على القائلين بالجواز بلا كراهة، وقد عقد ابن الحاج رحمه الله فصلاً في المدخل 1/ 94 وما بعدها رد فيه على الإمام النووي رحمه الله، وما نقله من أدلة وآثار عن السلف فليراجع.
وقال الطرطوشي في الحوادث والبدع: لم يختلف قوله -يعني الإمام مالكاً - أنهم إذا قرؤوا جماعة في سورة واحدة أنه مكروه.
ونقل عن مالك كراهة القراءة بالإدارة وقوله: وهذا لم يكن من عمل الناس.
وقال أبو الوليد ابن رشد: إنما كرهه مالك للمجاراة في حفظه والمباهاة والتقدم فيه. انتهى
ولهذا ينبغي ترك هذه الصورة الأخيرة، فإن الخير في اتباع من سلف، وحذراً من المجاراة والمباهاة واختلاط الأصوات وترك الإنصات.
والله أعلم.
(فوائد قراءة القرآن جماعة:
(1)
تعهد القرآن الكريم، فهي تساعد على حفظه وضبطه ومراجعته وعدم نسيانه، وهي بذلك تحقق الاستجابة للأمر النبوي كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعاهدوا القرآن فالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت و كيت بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه فاستذكار القرآن
(وقد حمل بعض المفسرين قوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى على نسيان القرآن بعد حفظه.
إذن من فوائد هذه القراءة الجماعية التعاون على الحفظ أو المراجعة لأن المسلم الواحد لمفرده يمكن أن يضعف ، ولكنه بإخوانه يتقوى.
(2)
ومن فوائدها تسميع كتاب الله تعالى لمن يريد سماعه من عوام المسلمين، إذ لا يقدر العامي على تلاوته فيجد بذلك سبيلا إلى سماعه، ثم إن كثيرين حفظوا القرآن من خلال مواظبتهم على الحزب مع الجماعة.
(3)
ومن حسناتها التماس الفضل المذكور في حديث ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، فقد استفيد منه أن كل قوم اجتمعوا لما ذُكر حصل لهم الأجر من غير اشتراط وصف خاص فيهم من علم أو صلاح أو زهد.
(4)
ومن إيجابياتها أن ينتبه المسلم إلى مواضع الخلل في حفظه للقرآن بطريقة من الصعب أن ينتبه إليها لو كان يحفظ القرآن أو يراجعه لوحده.
(آداب القُراء مجتمعين:
قال الإمام النووي في التبيان في آداب حملة القرآن:
الآداب التي يحتاجون إليها كثيرة لا يمكن حصرها في هذا الموضع، ولكن نشير إلى بعضها تبييناً على الباقي، فجميع آداب القارئ وحده آداب المجتمعين، ونزيد في آدابهم أشياء مما يتساهل فيه بعض الجاهلين، فمن ذلك أن يتغنَّى لهم أن يتجنبوا الضحك، واللغط، والحديث في حالة القراءة، إلا كلاماً يضطر إليه، ومن ذلك العبث باليد وغيرها، والنظر إلى ما يُلهي، أو يُبدد الذِّهن، وأقبح من هذا كُله النَّظر ما لا يجوز النَّظر إليه، كالأمرد وغيره، فإن النَّظر إلى الأمرد الحسن حرام سواء كان بشهوة أو بغيرها، وسواء أمن الفتنة أم لم يأمنها، هذا هو المذهب الصحيح المختار عند المحققين من العلماء، وقد نصَّ على تحريمه الإمام الشّافعيّ، ومن لا يُحصى من العلماء، قال تعالى:((قُل للمؤمنين يَغضّوا من أبْصارهِم ويحفظوا فُروجَهُم))؛ لأنه في معنى المرأة؛ بل كثير منهم أحسن من كثير من النساء، ويَسهل من طُرق الشَّر في حقهم ما لايُتسهل في النساء فهم بالتحريم أولى، وأقاويل السلف في التنفير منهم أكثر من أن تُحصى.
واعلم أنه يجب على كل حاضر مجلس القراءة أن ينكر ما يراه من هذه المنكرات وغيرها فينكر بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فلينكره بقلبه.
(5)
الحث على حفظ القرآن الكريم:
(قد شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد من أهل الْملل قبلهم، وهي أنَّهم يقرءون كتاب ربِهم عن ظهر قلبٍ، بخلاف أهل الكتاب، فقد كانوا يقرءون كتبِهم نظرًا، لا عن ظهر قلب.
ميّز الله عز وجل القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه، قال تعالى:(إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9].
(وكان من حفظه لكتابه أن وفَّقَ هذه الأمة إلى حفظه واستظهاره.
ولقد يسّر الله سبحانه وتعالى تلاوة القرآن وحفظه لعباده فقال تعالى: (وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ)[القمر: 17].
فنجد الطفل الصغير والأعجمي وغيرهما، يقبل على حفظ القرآن، فييسر الله له ذلك، رغم أنه لا يعرف من العربية ولا الكتابة شيئاً.
وقد تظاهرت الأدلة على فضل حفظ القرآن الكريم، وفضل حفظته على غيرهم من الْمسلمين، فمن ذلك ما يلي:
(1)
التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم: فقد كان عليه الصلاة والسلام يحفظه، ويراجعه مع جبريل عليه السلام ومع بعض أصحابه.
(2)
التأسي بالسلف الصالح:
[*] قال ابن عبد البر:
طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه
…
ا هـ)
حفظه ميسر للناس كلهم، ولا علاقة له بالذكاء أو العمر، فقد حفظه الكثيرون على كبر سنهم. بل حفظه الأعاجم الذين لا يتكلمون العربية، فضلاً عن الأطفال.
(3)
علوُّ منزلة حَافظ القرآن، الْماهر به لأنه يكون مع السفرة الكرام البررة كما في الحديث الآتي:
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
فيا له من شرف أن تكون مع من قال الله فيهم {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس من الآية 13 (16:
(4)
صاحب القرآن يلبس حلة الكرامة وتاج الكرامة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة. ثم يقول: يا رب زده فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة.
(5)
ومن ذلك أيضًا أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته:
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(6)
ومن ذلك أيضًا أن حملة القرآن مقدمون على أهل الجنة:
[*] قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ:
حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
[*] وعن طاوس أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: ما معنى قول الناس: أهل القرآن عرفاء أهل الجنة؟ فقال: رؤساء أهل الجنة.
(7)
حملة القرآن هم أهل الله وخاصته وكفى بهذا شرفاً كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(8)
حامل القرآن يستحق التكريم كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
(9)
الغبطة الحقيقية تكون في القرآن وحفظه كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل.
(10)
حفظ القرآن وتعلمه خير من متاع الدنيا، كما في الحديث الآتي:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
(وتذكر أن الإبل في ذلك الزمان أنفس المال وأغلاه.
(11)
حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمامة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا و لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله و لا في سلطانه و لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
(وتذكر أن الصلاة عمود الدين وثاني أركان الإسلام.
(12)
حفظ القرآن الكريم رفعة في الدنيا والآخرة، كما في الحديث الآتي:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.
(بهذا الكتاب): أي بقراءته، أي بالعمل به. وقوله
(أقواما): أي: منهم مولاك.
(ويضع به): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
(وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
(13)
حافظ القرآن يقدم في قبره، فبعد معركة أحد وعند دفن الشهداء كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الرجلين في قبر واحد ويقدم أكثرهم حفظاً كما في الحديث الآتي:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.
(14)
وفي يوم القيامة يشفع القرآن لأهله، وشفاعته مقبولة عند الله تعالى كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان» : قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف» : الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وسلم:«تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة» : أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة:
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.
فهنيئاً لمن يشفع له هذا الكتاب العظيم في ذلك اليوم العصيب.
(15)
حفظ القرآن سبب للنجاة من النار كما في الحديث الآتي:
(حديث عصمة بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار.
[*] قال ابن الأثير:
وقيل الْمعنى: مَن علَّمهُ اللهُ القرآنَ لم تحرقْهُ نارُ الآخرةِ، فجُعِلَ جسمُ حافظ القرآن كالإهاب له.
[*] قال أبو أمامة: إن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن.
[*] وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ لِأَحْمَدَ مَا مَعْنَى لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إهَابٍ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ قَالَ: " هَذَا يُرْجَى لِمَنْ الْقُرْآنُ فِي قَلْبِهِ أَنْ لَا تَمَسَّهُ النَّارُ " فِي إهَابٍ يَعْنِي فِي قَلْبِ رَجُلٍ.
(16)
حفظ القرآن رفعة في درجات الجنة، كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
[*] قال ابن حجر الهيتمي:
الخبر خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها.
(17)
حافظ القرآن أكثر الناس تلاوة له، فحفظه يستلزم القراءة المكررة، وتثبيته يحتاج إلى مراجعة دائمة فيجعله يفوز بكنزٍ من كنوز الحسنات لأن من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
حافظ القرآن يقرأ في كل أحواله، فبإمكانه أن يقرأ وهو يعمل أو يقود سيارته أو في الظلام، ويقرأ ماشياً ومستلقياً، فهل يستطيع غير الحافظ أن يفعل ذلك؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
حافظ القرآن لا يعوزه الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في حديثه وخطبه ومواعظه وتدريسه، أما غير الحافظ فكم يعاني عند الحاجة إلى الاستشهاد بآية، أو معرفة موضعها.
فهل بعد هذا نزهد في حفظ ما نستطيع من كتاب الله؟! ..
(عناية السلف الصالح بحفظ القرآن:
لا شك ولا ريب أن أول الأمور في طلب العلم بل هو أعظمها وأجلّها (حفظ القرآن الكريم) والناظر إلى سير علمائنا السابقين واللاحقين يجد أنهم أول ما يهتمون بحفظ القرآن الكريم فيحفظونه منذ نعومة أظفارهم قبل البلوغ ذلك لأنه أساس العلوم وقوامها ومنه أولاً تستمد الأحكام والأدلة، ثم بعد ذلك يتدرجون في سلم العلوم الشرعية.
وكان السلف الصالح أول ما يسألون عنه حفظ كتاب الله منذ صغرهم ونعومة أظفارهم فيشبوا وقد علقت قلوبهم بحب الله ، وتعظيم كتابه ، وتدبر آياته
…
فيأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ، فان كانت من مكارم الأخلاق أطّلع عليها واقتدي بها، وان كانت عبراً وَعِظَات، اعتبر بها وَقَرَعَتْ فُؤَادَه.
،وهذه قصة عمر بن أبى سلمة أصح دليل على سرعة حفظ الطفل والحث على المسارعة في تحفيظ الأبناء:
(حديث عمر بن سلمة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنا بماء ممر الناس ، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم عن النبي؟ فيقولون يزعم أن الله أرسله أوحى إليه بكذا فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري فلما أسلم قومه وأمرهم النبي بالصلاة قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى! لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم و أنا ابن ست أو سبع سنين؟؟.
(ومما يدل على إن هذا دأب الصحابة قول ابن عباس: جمعت المحكم في عهد رسول الله؟؟ فقلت له: ما المحكم؟ قال: المفصل! (أي من الحجرات إلى آخر القرآن) وقال أيضاً: سلوني عن التفسير فإني حفظت القرآن وأنا صغير
[*] وعن ابن عباس قال: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتى الحكم صبيا (الآداب الشرعية لابن مفلح1/ 244)
(ومما يستطرف في هذا الشأن حكاية الفرزدق حيث دخل مع أبيه على علي بن أبى طالب رضي الله عنه وقال له:
إن ابني يوشك أن يكون شاعراً فقال له: أقرئه القرآن فهو خير له! فقال: ما زالت كلمته في نفسي حتى قيّد نفسه بقيد وآلي أن لا يفكه حتى يحفظ القرآن فما فكه حتى حفظه (خزانه الأدب 1/ 222)
[*] قال الشيخ أبو زكريا النواوي رحمه الله في التبيان:
والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل وكان السلف يتعاهدون أطفالهم على حفظ كتاب الله تعالى. دخل الرحالة الشهير ابن بطوطة خلال رحلته في مالي على قاض مالي يوم العيد عام 1352م فوجد أولاده في القيود فقال ألا تسرحهم فأجابه لا أفعل حتى يحفظوا القرآن كما مر ابن بطوطة في مالي بشاب حسن الصوت وعليه ثياب فاخرة وفي رجليه قيد ثقيل فسأل مرافقه عما ارتكبه هذا الشاب من جرم، وعلم أخيرا أنه قيد حتى ينتهي من حفظ القرآن.
ورغم أن أسلوب ربط القيود مما تَعافًه أنفسنا اليوم ولا تعتبره الأساليب التربوية الحديثة صحيحا، إلا أن هاتين القصتين توضحان مقدار حرص المسلمين في أقاصي إفريقيا وغيرها من بلاد المسلمين على تحفيظ أولادهم كتاب الله.
[*] قال الميموني: سألت أبا عبد الله (يعني الإمام أحمد) أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر، فتعلمه منه. (الآداب الشرعية لابن مفلح (2/ 3)
[*] وقال الخطيب البغدادي: ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم. (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/ 106).
[*] وقال الحافظ النووي رحمه الله: وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يُعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن. (مقدمة المجموع شرح المهذب)
[*] وقال شيخ الإسلام: وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين. (الفتاوى الكبرى 2/ 235)
[*] قال ابن خلدون رحمه الله: ((كان أول ما يُشرع في تعليم الصبيان تحفيظ القرآن الكريم)).
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما، لقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغي لحامل القرآن أن يحد مع من يحد، ولا يجهل (1) مع من يجهل؛ لأن القرآن في جوفه»
(1) الجهل: الكلام السيئ والتفحش
(وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
(ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا هذه القيم، ولم يهتموا بكتاب ربهم. هان الله في نفوسهم، فأهانهم الله بما اقترفوه من ذنوب. وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إَِّلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفََلا تَعْقِلُونَ} ] الأعراف: 169 [.
[*] قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها. فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدّعون أنهم سيغفر لهم. وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبا على الله تعالى. وقد قرأوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع! هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم.
[*] وقال القرطبي في تفسيره:
وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سَيَبْلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا.
واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به. وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بقسوة مع الأمة، وحاول إجبار الأمة على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار. وبسبب إتباع هذا المنهج السافر، فلم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أنه لم يكن قد بقي من الإسلام إلا طلاسم وذكريات إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا تشويه صورة دستورها. ولذلك تعامل الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين بصورة أكثر دهاء ومكرا ولكن بنفس المنطق والحزم في زحزحة الأمة عن دينها.
فيقف جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: " مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ". ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم ".
ويسير المنصرون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط. فيقول المنصر وليم جيفورد بالكراف، في كتاب جذور البلاء:" متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداُ عن محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه ". ويقول المنصر تاكلي، في كتاب التبشير والاستعمار:" يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداُ، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً ". ويقول المنصر ذاته " تاكلي "، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي:" يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية ".
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور وفي نفس الوقت. فتم إلغاء الكتاتيب والحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس. وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء الناجمة والتي تراكمت عبر الزمن وليس إلغائها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على الأزهر - كمؤسسة دينية - قائما مع إضعاف مكانته وزعزعة ثقة الناس فيه بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية إلى جانبه، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الأزهر (وبالأخص حملة القرآن منهم)، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!! ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهل ديني، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن مقتوه في داخل نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم. وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون " عالم دين " أو " دارس فقه " أو حامل للقرآن ". وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات! الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يستقر هذا الاتجاه في النفوس.
وبدأ المخطط بتحويل كتاب الله من قوة حاكمة دافعة للمجتمع إلى مجرد كتاب يحمل ذكريات. تُغير عليه قوى الشر ولا يتحرك المسلمون للدفاع عنه. وتنتشر من حوله الخرافات. وهكذا يصبح القرآن الذي هو حياة الأمة، رمزا للموت فيها، فلا يقرأ إلا في سرادقات العزاء، ولا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!! وجعلوا من فاتحة الكتاب - التي هي دستور حياة المسلمين، والتي كان حرص الشارع على قراءتها سبع عشرة مرة على الأقل يوميا في كل ركعة من الصلوات المفروضة - وسيلة لجلب الرحمة على الأموات، فلا تذكر ميتا حتى يقال " اقرءوا له الفاتحة "!!!
وصدق فيهم قول ربي عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]
(والذي يشاهد واقع الشباب اليوم يجد أن بعضهم يُغفل جانب حفظ القرآن بل بعضهم يبدأ بالحفظ قليلاً ثم لا يلبث أن ينقطع مع أنه ربما يكون مجتهداً في حضور الدروس العلمية الشرعية، وأخشى أن يكون هذا من عدم التوفيق فن فرَط في كتاب الله تعالى كان مُفَرِّطاً لغيره من باب أولى فليس هناك أنفع من كتاب الله تعالى.
(تيسير القرآن للتلاوة والحفظ:
قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكِر} [القمر /17].
[*] روى البخاري عن مجاهد أنه قال: "يسرنا القرآن أي هونّا تلاوته".
[*] وذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية قال: "سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه" وذكر عن سعيد ابن جبير أنه قال: "ليس من كتب الله كتابٌ يُقرأ كله ظاهراً أي عن ظهر قلب إلا القرآن".
[*] وفي تفسير ابن كثير قال: "سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراد أن يتذكر من الناس" فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسّر الله حفظه ومعناه.
[*] قال العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره:
ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم لأنه أحسن الكلام لفظاً وأصدقه معنى وأبينه تفسيراً، فكل من أقبل عليه يسّر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهّله عليه .. ثم يقول: ولهذا كان علم القرآن حفظاً وتفسيراً أسهل العلوم وأجلّها على الإطلاق وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أُعِين عليه، وقال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيُعان عليه؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله: ((فهل من مدّكر) انتهى كلامه رحمه الله.
إذاً فالأصل في القرآن أنه سهل الحفظ ميسوره لكن الخلل منا نحن الذين تشاغلنا عن الإقبال عليه حفظاً وتفهماً بأعذارٍ بعضها يوجد لها حل وكثير منها من تلبيس إبليس على الشباب.
(جاذبية القرآن:
والقرآن كتاب لا يمل قارئه ولا يكل سامعه ولا يخلق على كثرة الرد وقد عدّ العلماء هذا من خصائص القرآن بل عدّوه من وجوه إعجازه كما
[*] ذكر الماوردي من وجوه الإعجاز في القرآن إعجازه وذكر منه وجهاً من الوجوه فقال: ((إن قارئه لا يكل وسامعه لا يمل وهذا في غيره من الكلام معدوم)).وقال الرافعي الأديب: ((ومما انفرد به القرآن عن سائر الكلام أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار ولا تُمل منه الإعادة)).
(6)
تذكير الناس بفضل أهل القرآن:
(1)
أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الدائمين على تلاوة القرآن ودراسته، العاكفين على تدبر معانيه وتعلم أحكامه، حتى سماهم أهل الله وخاصته.
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(2)
بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يرفع صاحب القرآن في الدنيا والآخرة:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضعُ به آخرين.
(يرفع بهذا الكتاب): أي بقراءته والعمل به
(ويضع به آخرين): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
(3)
القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة وتقبل شفاعته:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه.
(حديث عبد اله بن عمرو في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيُشَفَّعان.
معنى فيشفَّعان: أي فتقبل شفاعتهما
(4)
رفع منزلة حافظ القرآن عند اله تعالى:
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل و آناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل و رجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل.
{تنبيه} : (المقصود بالحسد هنا: الغبطة لأن الحسد مذموم على كل أحواله فلا يحل في اثنتين ولا ثلاث.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(5)
إكرام أهل القرآن أحياءاً وأمواتاً
(إكرامهم أحياءاً
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا و لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله و لا في سلطانه و لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
(حديث ابن عباس في صحيح البخاري موقوفاً) قال: كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله تعالى عنه كهولاً كانوا أم شباناً.
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
معنى {من إجلال الله} : أي من تعظيم الله تعالى
معنى {غير الغالي فيه} : أي غير متجاوز الحد فيه في العمل به وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه وغير الغالي فيه من حيث قراءته ومخارج حروفه
ومعنى {والجافي عنه} أي وغير الجافي عنه أي غير التارك له البعيد عن تلاوته والعمل به.
(إكرامهم أمواتاً:
(حديث جابر في صحيح البخاري) قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحدٍ في الثوب الواحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسَّلوا ولم يُصلى عليهم.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يختالون"
[*] وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: " إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل شذا في النهار ".
[*] وعن الفضيل بن عياض قال: " ينبغي لحامل القرآن أن لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم "، وعنه أيضاً قال:" حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن ".
[*] قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنّا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإنّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به.
[*] قال عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن.
[*] قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين.
(7)
تحري الإخلاص عند تعلم القرآن وتلاوته:
لأن قراءة القرآن عبادة يبتغى بها وجه الله، وكل عمل يتقرب به إلى الله لا يتحقق فيه شرطا قبول العمل «الإخلاص والمتابعة» فهو مردود على صاحبه.
قال النووي رحمه الله: فأول ما يؤمر به [أي القاريء]: الإخلاص في قراءته، وأن يريد بها وجه الله سبحانه وتعالى، وأن لا يقصد بها توصلاً إلى شيء سوى ذلك (1).
وهذا الذي قاله النووي رحمه الله صحيح، فإن من القراء من يبتغي بقراءته صرف أنظار الناس إليه، والإقبال على مجلسه وتبجيله وتوقيره ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ. وكفى القارئ زجراً أن يعلم عقوبة من تعلم القرآن لكي يقال: قاريء!.
(1).الأذكار ص 160. دار الهدى. ط. الثالثة 1410هـ
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في الهم والحزن عن الحسن قال قراء القرآن ثلاثة فرجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس وقوم قرأوا القرآن فحفظوا حروفه وضيعوا حدوده استدرجوا به الولاة واستطالوا به على أهل بلادهم فتجد كثر هذا الضرب في حملة القرآن لا أكثرهم الله ورجل قرأ القرآن فبكى بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه فسهر لله وهملت عيناه تسربلوا الحزن وارتدوا بالخشوع وكدوا في محاريبهم وحنوا في براينسهم فبهم يسقي الله الغيث وينزل النصر ويرفع البلاء والله لهذا الضرب في حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر.
(وهاك صفوة مسائل الإخلاص لأهميتها:
(تعريف الإخلاص:
مسألة: ما هو الإخلاص لغةً وشرعا؟
الإخلاص لغةً: خلص خلوصاً خلاصاً، أي صفى وزال عنه شوبه، وخلص الشيء صار خالصاً وخلصت إلى الشيء وصلت إليه، وخلاص السمن ما خلص منه. فكلمة الإخلاص تدل على الصفاء والنقاء والتنزه من الأخلاط والأوشاب. والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس فيه شائبة مادية أو معنوية. وأخلص الدين لله قصد وجهه وترك الرياء. وقال الفيروز أبادي: أخلص لله ترك الرياء، وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد، والمخلصون هم الموحدون والمختارون.
والإخلاص شرعا: هو أن تبتغي بعملك وجه الله تعالى، فإن قصدت بعملك غيره تعالى لم يقبله فهو سبحان أغني الشركاء عن الشرك، فهو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل عن جميع الشوائب.
(الإخلاص هو أهم أعمال القلوب وأعلاها وأساسها، هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (البينة: من الآية 5).
و قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]
(والإخلاص هو لب العبادة وروحها.
[*] قال ابن حزم: النية سر العبودية وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب.
(والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله عز وجل به فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (البينة: من الآية 5).
وإليك الأدلة من السنة الصحيحة على ذلك:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشِركَه ".
(حديث جندب بن عبد الله في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمَّع سمَّع الله به ومن يرائي يرائي
…
الله به.
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ". قالوا: بلي. قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يري من نظر رجل.
{تنبيه} : (قوله: [أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال] وإنما كان كذلك، لأن التخلص منه صعب جداً، ولذلك قال بعض السلف:" ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه "
(الفرق بين الإخلاص و الصدق:
مسألة: ما الفرق بين الإخلاص و الصدق؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص و الصدق والقصد واحد.
فقيل: «هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة»
وقيل: «تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين»
وقيل: «التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك»
«و الصدق التنقي من مطالعة النفس»
«فالمخلص لا رياء له» «والصادق لا إعجاب له»
«ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص» ولا يتمان إلا بالصبر
وقيل: «من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص»
فنقصان كل مخلص في إخلاصه: بقدر رؤية إخلاصه فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلصا مخلصا.
(سُرُورِ الْإِنْسَانِ بِمَعْرِفَةِ طَاعَتِهِ هل يناقض الإخلاص:
مسألة: إذَا سُرَّ الْإِنْسَانُ بِمَعْرِفَةِ طَاعَتِهِ هَلْ هُوَ مَذْمُومٌ؟
(قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
إنْ كَانَ قَصْدُهُ إخْفَاءَ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ عز وجل وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَطْلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ مِنْ أَحْوَالِهِ فَسُرَّ بِحُسْنِ صَنِيعِ اللَّهِ عز وجل وَنَظَرِهِ لَهُ وَلُطْفِهِ بِهِ حَيْثُ كَانَ يَسْتُرُ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ فَأَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الطَّاعَةَ وَسَتَرَ الْمَعْصِيَةَ فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِذَلِكَ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ ، وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ يَسْتَدِلُّ بِإِظْهَارِ اللَّهِ الْجَمِيلَ وَسَتْرِ الْقَبِيحَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ كَذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ قَدْ جَاءَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ فَرَحُهُ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَمْدَحُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ وَيَقْضُوا حَوَائِجَهُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ مَذْمُومٌ. أهـ
ثم إن الفرح بتوفيق الله العبد للطاعة مشروع وهذا لا شك يَسُرُّ الْعُقَلَاءَ ويُبْهِجُ الْفُضَلَاءَ، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ)[يونس: 58]
((حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن.
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(وجبت). ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال:(وجبت) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
(فَأَمَّا إذَا أَعْجَبَهُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ مِنْهُ الْخَيْرَ وَيُكْرِمُونَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا رِيَاءٌ والعياذ بالله تعالى.
والرياء داءٌ عضال وسمٌ قتال من قبائح الذنوب وفواحش العيوب، وهاك صفوة مسائله لتحذر منه وتفر منه فرارك من الأسد:
مسألة: ما هو الإعجاب بالطاعة والعياذ بالله؟
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
الْإِعْجَابُ هو اسْتِكْثَارُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل وَرُؤْيَةُ النَّفْسِ بِعَيْنِ الِافْتِخَارِ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ اقْتِضَاءُ اللَّهِ عز وجل بِمَا أَتَى الْأَوْلِيَاءُ وَانْتِظَارُ الْكَرَامَةِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَيَنْكَشِفُ ذَلِكَ بِمَا يُرَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ مِنْ إمْرَارِ أَيْدِيهِمْ عَلَى أَرْبَابِ الْعَاهَاتِ وَالْأَمْرَاضِ ثِقَةً بِالْبَرَكَاتِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِنْ الْخُدَعِ حَتَّى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ كُسِرَ لَهُ عَرَضٌ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِضَاءِ لِلَّهِ؟ أَلَيْسَ قَدْ ضَمِنْتَ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا يَدْرِي الْجَاهِلُ مَنْ الْمُؤْمِنُ الْمَنْصُورُ؟ وَمَا النَّصْرُ؟ وَمَاذَا شَرْطُ النُّصْرَةِ؟ وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ الْعُجْبَ يَدْخُلُ مِنْ إثْبَاتِ نَفْسِكَ فِي الْعَمَلِ وَنِسْيَانِ أَلْطَافِ الْحَقِّ وَمِنْ إغْفَالِ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى ، وَإِلَّا «فَلَوْ لَحَظَ الْعَبْدُ اتِّصَالَ النِّعَمِ لَاسْتَقَلَّ عَمَلَهُ» وَإِنْ كَثُرَ أَنْ يُقَابِلَ النِّعَمَ شُكْرًا وَيَدْخُلُ مِنْ الْجَهْلِ بِالْمُطَاعِ ، فَلَوْ عَرَفَ الْعَبْدُ مَنْ يُطِيعُ وَلِمَنْ يَخْدُمُ لَاسْتَكْثَرَ لِنَفْسِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ ، وَاسْتَقَلَّهَا أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً مَعَ أَمْلَاكِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ. وَيَدْخُلُ أَيْضًا عَنْ طُرُقِ الْجَهَالَةِ بِكَثْرَةِ الْخَلَلِ وَالْعِلَلِ ، الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهَا عَلَى غَايَةِ الْخَجَلِ ، وَالْخَوْفِ مِنْ أَنْ يَقَعَ الطَّرْدُ وَالرَّدُّ ، فَإِنَّ الْفَيْءَ مُسْتَوْحَشٌ ، وَيَدْخُلُ أَيْضًا مِنْ النَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ بِعَيْنِ الِاسْتِقْلَالِ ، وَإِدْمَانِ النَّظَرِ إلَى الْعُصَاةِ الْمُتَشَرِّدِينَ ، وَلَوْ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْعُمَّالِ لِلَّهِ عز وجل لَاسْتَقَلَّ نَفْسَهُ. فَهَذِهِ مُعَالَجَةُ الْأَدْوَاءِ ، وَحَسْمُ مَوَادِّ الْفَسَادِ فِي الْأَعْمَالِ. أهـ
(لا ينبغي ترك العمل المشروع خوف الرياء:
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
مِمَّا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ طَاعَةٍ يَقُومُ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِهَا خَوْفَ وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى ذَلِكَ ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عز وجل بِهِ وَرَغَّبَهُ فِيهِ ، وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ رحمه الله: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الرِّيَاءُ بَلْ يَذْكُرُ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَيَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ عز وجل ، وَذَكَرَ قَوْلَ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رحمه الله: إنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ قَالَ: فَلَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ تَطَرُّقِ ظُنُونِهِمْ الْبَاطِلَةِ لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فَأَمَّا تَرْكُ الطَّاعَاتِ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ غَيْرَ الدِّينِ فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ ; لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ الدِّينَ وَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ عز وجل مُخْلِصًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ الدِّينُ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقَالَ: مُرَاءٍ ، فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إذَا أَتَاك الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ ، فَقَالَ: إنَّك مُرَاءٍ فَزِدْهَا طُولًا. أهـ
(الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا:
مسألة: ما الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا؟
((الرياء والسمعة) مقصودهما أن يحمد العبد في العبادة، أما إرادة العبد بعمله الدنيا فإنه يريد أمراً مادياً محضاً كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال.
2 -
أن يريد المرتبة، كمن تعلم في كلية وأخذ شهادة الدكتوراة لأجل الشهادة والمنزلة فقط وليس للتقرب إلى الله تعالى.
قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الَاخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[سورة: هود - الآيتان:15،16]
قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا). أي: البقاء في الدنيا.
قوله: (وزينتها). أي المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة، كما قال الله تعالى:{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} [آل عمران: 14].
قوله: (نوف إليهم). فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة الياء، لأنه جواب الشرط.
والمعني: أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، كما قال تعالى:{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها} [الأحقاف: 20].
ولهذا لما بكي عمر حين رأي النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في جنبه الفراش، فقال:" ما يبكيك؟ ". قال يا رسول الله! كسري وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم "(1) وفي الحقيقة هي ضرر عليهم، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا.
قوله: (وهم فيها إلا يبخسون). البخس: النقص، أي: لا ينقصون مما يجازون فيه، لأن الله عدل لا يظلم، فيعطعون ما أرادوه.
قوله: (أولئك). المشار إليه يريدون الحياة الدنيا وزينتها.
قوله: (ليس لهم في الآخرة إلا النار). فيه حصر وطريقة النفي والإثبات، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله.
قوله (وحبط ما صنعوا فيها). الحبوط: الزوال، أي: زال عنهم ما صنعوا في الدنيا.
قوله: (وباطل ما كانوا يعملون). (باطل): خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما " في قوله: (ما كانوا يعملون)، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط، وأن أعمالهم باطلة.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعس عبد الدينار، و عبد الدرهم، و عبد الخميصة، إن أُعطِيَ رضي، وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسُه، مغبَّرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأذن، لم يؤذن له، وإن شفع، لم يشفع "
قوله: " تَعِس ". بفتح العين أو كسرها، أي: خاب وهلك.
قوله: " عبد الدينار" الدينار: هو النقد من الذهب، وسماه عبد الدينار، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار، والدرهم هو النقد من الفضة.
قوله: " [و عبد الخميصة]، وهذا من يعنى بمظهره، لأن الخميصة كساء جميل، ليس له هم إلا هذا الأمر، فإذا كان عابداً لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا؟! فهذا أعظم.
قوله: " إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط ". يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدرياً، أي: إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله، كأن يقول: لماذا كنت فقيراً وهذا غنياً؟ وما أشبه ذلك، فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدرة لأن الله منعه.
والله سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين لمن يحب.
والواجب على المؤمن أن يرضي بقضاء الله وقدره، إن أعطي شكر، وإن منع صبر.
ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وإن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له، ولهذا سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم عبداً له.
قوله:" تعس وانتكس ". تعس، أي: خاب وهلك، وانتكس، أي: أنتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له، فكلما أراد شيئاً انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد، ولهذا قال:
وإذا شيك فلا انتقش" أي: إذا أصابته شوكة، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه.
وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبراً منه صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله، لأنه لا يهتم إلا للدنيا، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له.
قوله: " طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ". هذا عكس الأول، فهو لا يهتم للدنيا، وإنما يهتم للآخرة، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله.
و" طوبى " فُعْلى من الطيب، وهي اسم تفضيل، فأطيب للمذكر وطوبي للمؤنث، والمعني: أطيب حال تكون لهذا الرجل، وقيل إن طوبي شجرة في الجنة، والأول، أعم،
وقوله: " آخذ بعنان فرسه ". أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه.
قوله: " في سبيل الله ". ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلداً إسلامياً يجب الذود عنه، فهو في سبيل الله، وكذلك من قاتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو أهله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قتل دون ذلك، فهو شهيد "، فأما من قاتل للوطنية المحضة، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه.
قوله: [أشعثٌ رأسه، مغبَّرة قدماه] أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه مادام هذا الآمر ناتجاً عن طاعة الله عز وجل وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفاً، فليس له هم فيه.
قوله: [إن كان في الحراسة، فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة] المعنى أنه يُنكر ذاته فالأمر يستوي عنده سواء كان في المنزلة العليا كمرتبة الحراسة التي تكون في مقدمة الجيش أو في المنزلة الدنيا كالسقي ال
…
ي يكون في مؤخرة الجيش فهو لا يحرص على مكانة دنيوية حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع.
قوله:" إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ". أي: هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبه، فإن شفع لم يُشَفّع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية، لأنه يقاتل في سبيله.
والشفاعة: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
والاستئذان: طلب الإذن بالشيء.
{تنبيه} : (ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل:
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: الآية 83). وروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: " يانفس أخلصى تتخلصى ".
وكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل، تكدربه صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط فى حظوظه، منغمس فى شهواته، قلما ينفك فعلٌ من أفعاله، وعبادةٌ من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل:" من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ خالصةٌ لوجه الله نجا "، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب، فالإخلاص: تنقية القلب من الشوائب كلها، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصدُ التقرب فلا يكون فيه باعثُ سواه، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبق لحب الدنيا من قلبه قرارٌ، فمثل هذا لو أكل، أو شرب، أو قضى حاجته، كان خالص العمل، صحيح النية، ومن ليس كذلك فبابُ الإخلاص مسدودٌ عليه إلا على الندور.
وكما أن مَنْ غلب عليه حب الله، وحب الآخرة، فاكتسبت حركاتهُ الاعتيادية صفة همه، وصارت إخلاصاً، فالذى يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة، وبالجملة غير الله، اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عبادةٌ من صومٍ، وصلاة وغير ذلك إلا نادراً.
فعلاج الإخلاص كسرُ حظوظ النفس، وقطعُ الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر به الإخلاص، وكم من أعمل يتعب الإنسان فيها، ويظن أنها خالصةٌ لوجه الله، ويكون فيها من المغرورين، لأنه لم يَرَ وجهَ الآفة ِ.
كما حُكى عن بعضهم: أنه كان يصلى دائماً فى الصف الأول، فتأخر يوماً عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حيث رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يَرَوْنَ حسناتهم يوم القيامة سيئات، وهم المقصودون بقوله تعالى:{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} (الزمر: من الآيتين 47،48).
وبقوله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: الآية 103 - 104).
(فضائل الإخلاص:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخلاص
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]
و قال تعالى: (إِنّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لّهُ الدّينِ * أَلَا لِلّهِ الدّينُ الْخَالِصُ)[الزمر/2، 3]
وقال لنبيه: قال تعالى: (قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لّهُ دِينِي * فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ)[الزمر 14، 15]
و قال تعالى: (قُلْ إِنّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام 162، 163]
وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]
(قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا: لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110]
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]«فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله والإحسان فيه: متابعة رسوله وسنته» وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان: 23] وهي الأعمال التي كانت على غير السنة أو أريد بها غير وجه الله. أهـ.
وللإخلاص أهمية قصوى فهو منتهى أمل العبد وأقصى غايته للأسباب الآتية:
(1)
النجاة تكون بسببه في الآخرة لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(2)
اجتماع القلب في الدنيا وزوال الهم لا يكون إلا به:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له.
[من كانت الآخرة همّه]: يعني: أي شغله الشاغل، يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة، كان جزائه ما يلي:
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة:
[ومن كانت الدنيا همّه]: فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]
[جعل الله فقره بين عينيه]: يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[وفرَّق عليه شمله]: فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد.
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]: فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك.
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد: ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال:(كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم: يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
(لم يبال الله في أي أوديته هلك): يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
سادساً: أن محبها أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب فى دوره الثلاث: يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه، فهذا أشد الناس عذاباً فى قبره، يعمل الهمّ والحزنُ والغم والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه.
والمقصود: أن محب الدنيا يعذب فى قبره، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: الآية: 55).
[*] قال بعض السلف: " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها ".
(3)
مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات: كما في الحديث الآتي: (
(حديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك).
(4)
ينجي من العذاب العظيم يوم الدين: كما في الأحاديث الآتي:
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(5)
كذلك الإخلاص هو أساس أعمال القلوب، وأعمال الجوارح تبع ومكمل له، الإخلاص يعظم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل، كما أن الرياء يحقر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]
(6)
الإخلاص مهم جداً لأن أغلب الناس يعيشون في صراعات داخلية ويعانون من أشياء فحرموا البركة والتوفيق إلا من رحمه الله، فكيف يكون النصر و تعلم العلم إلا من المخلصين، الإخلاص مهم في إنقاذنا من الوضع الذي نعيش فيه، فقد أصبح عزيزاً نادراً قليلاً، مشاريع ودعوات تلوثت بالرياء، حركات إسلامية دمرت بسبب افتقاد الإخلاص وبعد أن أريد بها الرئاسة والجاه والمال، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار:
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما) بمعنى ليس
(ذئبان جائعان) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
(أرسلا في غنم) الجملة في محل رفع صفة
(بأفسد) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
(لها) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
(من حرص المرء على المال والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب (لدينه) اللام فيه للبيان، نحوها في قوله {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه، ذكره الطيبي،
(فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً، قال الحكيم: وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها. أهـ
[*] يقول ابن أبي جمرة وهو من كبار العلماء: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا تورع في الرياسة حامي عليها وعادي.
(7)
ومن فوائد الإخلاص أنه يقلب المباحات إلى عبادات وينال بها عالي الدرجات، قال أحد السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله. لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب للمهمات مطلوب شرعاً.
فالنية عند الفقهاء: تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات عن بعضها البعض، إرادة وجه الله عز و جل.
(8)
الإخلاص سبب للمغفرة الكبيرة للذنوب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه فيغفر فيه كبائر، وإلا فأهل الكبائر كلهم يقولون لا إله إلا الله. كالبغي التي سقت كلباً فقد حضر في قلبها من الإخلاص ما لا يعلمه إلا الله فغفر الله لها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: غُفِرَ لأمرأة مُومِسَة، مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ، يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فَغُفِرَ لها بذلك.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(غُفِرَ) بالبناء للمفعول بضبط المصنف أي غفر اللّه
(لامرأة مُومِسَة) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بضبطه
(مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ) بفتح الراي وكسر الكاف وشد التحتية بئر
(يلهث) أي يخرج لسانه من شدة الظمأ
(كاد يقتله العطش) لشدته وفي رواية يأكل الثرى من العطش أي التراب الندي
(فنزعت خفها) من رجلها
(فأوثقته) أي شدته
(بخمارها) بكسر الخاء أي بغطاء رأسها والخمار ككتاب ما يغطى به الرأس
(فنزعت) جذبت وقلعت
(له من الماء) أي بالبئر فسقته
(فَغُفِرَ لها بذلك) أي بسبب سقيها للكلب على الوجه المشروح فإنه تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير إذا شاء فضلاً منه. قال ابن العربي: وهذا الحديث يحتمل كونه قبل النهي عن قتل الكلاب وكونه بعده فإن كان قبله فليس بناسخ لأنه إنما أمر بقتل كلاب المدينة لا البوادي على أنه وإن وجب قتله يجب سقيه ولا يجمع عليه حرّ العطش والموت، ألا ترى أن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم لما أمر بقتل اليهود شكوا العطش فقال: لا تجمعوا عليهم حرّ السيف والعطش فسقوا واستدل به على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنها سقت الكلب من خفها ومنع باحتمال أن تكون صبته في شيء فسقته أو غسلت خفها بعد أو لم تلبسه على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، ولو قلنا به فمحله ما لم ينسخ (فائدة) قال شيخنا الشعراني: سقط على قلب زوجتي شيء فوصلت لحالة الموت فصاحت أهلها وإذا بقابل يقول وأنا بمجاز الخلاء خلص الذبابة من ضبع الذباب من الشق الذي تجاه وجهك ونحن نخلص لك زوجتك فوجدته عاضاً عليها فخلصتها فخلصت زوجتي حالاً.
(9)
تنفيس الكروب لا يحدث إلا بالإخلاص، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله همّهم وتأمل في هذا الحديث بعين البصيرة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
(10)
وبالإخلاص يرزق الناس الحكمة، ويوفقون للحق والصواب:
قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29]
(11)
وبالإخلاص يدرك الأجر على عمله وإن عجز عنه بل ويصل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإن مات على فراشه.
قال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَاّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92]
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة، فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر.
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لَا يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
(12)
وبالإخلاص يؤجر المرء ولو أخطأ كالمجتهد والعالم والفقيه، وهو نوى بالاجتهاد استفراغ الوسع وإصابة الحق لأجل الله، فلو لم يصب فهو مأجور على ذلك ..
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.
(13)
والمرء ينجو من الفتن بالإخلاص، ويجعل له حرز من الشهوات ومن الوقوع في براثن أهل الفسق والفجور، لذلك نجى الله يوسف عليه السلام من امرأة العزيز
قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]
لقد مر في الأمة كثير من المخلصين كانت سيرتهم نبراساً لمن بعدهم وقدوة وخيراً، لذلك أبقى الله سيرتهم وذكرهم حتى يقتدي بهم من بعدهم وعلى رأس هؤلاء الأنبياء، النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحواريو الأنبياء والصحابة الذين فتحوا البلاد بإخلاصهم ومن بعدهم من التابعين ..
[*] يقول عبدة بن سليمان: كنا مع سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فلما التقى ساعة فطعنه ازدحم الناس عليه ليعرفوا من هو فإذا هو يلثم وجهه، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال لائماً أأنت يا أبا عمر ممن يشنع علي.
[*] ويقول الحسن: إن كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً.
لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]
[*] يقول علي بن مكار البصري الزاهد: ((لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله)) فقد كان السلف يخشون من قضية المجاملات.
[*] قال الذهبي: يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: ((أصبت ببصري وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة)) قال الذهبي: صدق والله فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
[*] قال هشام الدستوائي: ((والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل).
[*] يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس)).
(ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة أن يعرف الرجل لمكافأته، ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً، فعاهده، و كان يقول: ((اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
(وعمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها، امتثالاً للحديثين الآتيين:
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل.
خَِبٌِء من عمل صالح: أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس، خالية من الرياء، فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة.
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
الغني: الغني عن الناس
الخفي: من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
(المجاهدة في إخفاء العمل:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يخبر به من عمله، لعله يكون كثير الطواف فيقول: ما كان أجلي الطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول ما أثقل السحور أو ما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، وإن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ، وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، وإذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم.
[*] يقول حماد بن زيد: كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.
[*] قال الحسن البصري: ((إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج)).
[*] يقول محمد بن واسع التابعي: ((إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم)).
(وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته لما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
(وكان علي بن الحسن يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين بالظلمة، فالصدقة تطفيء غضب الرب، وكان أهل بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات عرفوا، و رأوا على ظهره آثاراً مما كان ينقله من القرب والجرب بالليل فكان يعول مائة بيت.
(وهكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء ..
مسألة: متى يكون إظهار العمل مشروعاً؟
[*] قال ابن قدامة: {فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات} قال: وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به {إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر} ، قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
(وفصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي:
(1)
الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ.
(2)
الأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها.
(3)
الأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها وإن كان لا يقوى فيخفي لأن السلامة لا يعدلها شيء فليس له أن يكون كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.
ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يظهرون بعض أعمالهم الشريفة ليقتدى بهم كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار ((لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت)).
[*] قال أبو بكر بن عياش لولده ((يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة)) من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح.
(لله درَ أقوامٍ نُعِّمُوا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة، وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة، وتنزهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة، ولبسوا ثياب التقى وارتدوا بالقناعة، وداموا في الدنيا على السهر والمجاعة، فيا فخرهم إذا قامت الساعة.
(لله در أقوام أخلصوا الأعمال وحققوها، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الردية فمحقوها.
(ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص .. ؟
[*] قال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبداً أحب الشهرة.
[*] قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق. فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
[*] وسُئِل سهل بن عبد الله التستوري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب. فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس.
[*] وقال سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي. إذا أراد أن يجاهد نفسه يجد تقلبات، ولا يدري أهو في إخلاص أم رياء، وهذا طبيعي أن يشعر أنه في صراع لا تسلم له نفسه دائماً فهو يتعرض لهجمات من الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه خير، أما من اطمأنت نفسه بحاله فهذه هي المشكلة.
[*] قال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
[*] قال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
[*] عن داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنضب. أي حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع نفسك لله وإخراج حظوظ النفس من قلبك، هذا أمر عظيم.
[*] قال يعقوب: " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ".
[*] قال السوسي: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص ". وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات.
[*] قال أيوب: " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال ".
[*] وقال بعضهم: " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".
[*] وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال: " الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب ".
[*] وقال الفُضَيْل: " ترك العمل من أجل الناس رياء، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما ".
(فضل إحضار النية في الطاعات:
[*] (قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين:
اعلم أنه ينبغي لمن أراد شيئًا من الطاعات، وإن قل أن يحضر النية وهو: أن يقصد بعمله رضا الله عز وجل، وتكون نيته حال العمل.
ويدخل في هذا جميع العبادات من الصلاة والصوم، والوضوء، والتيمم، والاعتكاف، والحج، والزكاة، والصدقة، وقضاء الحوائج، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وابتداء السلام، ورده، وتشميت العاطس، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، وإجابة الدعوة، وحضور مجالس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار، والنفقة على الأهل، والضيف وإكرام أهل الود، وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم، والمناظرة فيه، وتكراره، وتدريسه، وتعليمه، ومطالعته، وكتاباته، وتصنيفه، والفتاوى، وكذلك ما أشبه هذه الأعمال، حتى ينبغي له إذا أكل، أو شرب، أو نام، أن يقصد بذلك التقوي على طاعة الله، أو راحة البدن، للتنشط للطاعة.
-وكذلك إذا أراد جماع زوجته، يقصد إيصالها حقها، وتحصل ولد صالح، يعبد الله تعالى، وإعفاف نفسه، وصيانتها من التطلع إلى حرام، والفكر فيه.
-فمن حُرِمَ النية في هذه الأعمال، فقد حرم خيرًا عظيمًا [كثيرًا]، ومن وُفِقَ لها، فقد أعطي فضلًا جسيمًا. فنسأل الله الكريم التوفيق لذلك؛ وسائر وجوه الخير!
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الإمام أحمد قال: حدثنا إسحاق بن خلف قال: حدثنا حفص بن غياث قال: " كان عبد الرحمن بن الأسود رضي الله عنه لا يأكل الخبز إلا بنية ". قلت لإسحاق: وأي شيء النية في أكل الخبز؟ قال: كان يأكل فإذا ثقل عن الصلاة خفف ليخف بها؛ فإذا خف ضعف فأكل ليقوى فكان أكله لها، وتركه لها.
قلت: معنى يخف: أي ينشط وتسهل عليه ويتلذذ بها.
وأحمد بن أبي الحواري يقال: بفتح الراء ويكسرها، والكسر أشهر، والفتح سمعته مرات من شيخنا الحافظ أبي البقاء يحكيه عن أهل الإتقان أو عن بعضهم والله تعالى أعلم.
-ودلائل هذه القاعدة ما قدمناه من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
(فضل إخلاص النيّة:
[*] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى ".
[*] وقال بعض السلف: رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية.
[*] وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية، فإنها أبلغ من العمل ".
[*] وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول: اللهم إني أريد الحج والعمرة فقال له: " أتُعْلم الناس، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هي: قصد القلب، ولا يجب التلفظ بها في شيء من العبادات وإنما يشرع في الحج والعمرة أن يقول: لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارناً، وهو الذي يسمى بالإهلال.
[*] قال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها.
[*] قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
[*] قيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي. أي انتظر حتى أجاهد نفسي.
[*] قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.
ومن أصلح الله سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.
{تنبيه} : (من أعظم الأشياء التي تكون عوناً بعد الله تعالى في حصول الإخلاص إخفاء العمل، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
الغني: الغني عن الناس
الخفي: من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
(خطورة ترك العمل خوف الرياء:
هذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى:
من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مرائي" لأنه ترك لأجل الناس" لكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء. فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء، وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره كأن يكون عاملاً يقتدى به أو أن العمل الذي يعمله المشروع فيه الإظهار.
{تنبيه} : (من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس؛ هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رؤوا أمر خير وسموه بالرياء، فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صالح، فهؤلاء ينكرون على أهل الدين والخير إذا رؤوا أمراً مشروعاً مظهراً خصوصاً إذا أظهر عمل خير معرض للأذى فيظهره احتسابا لإظهار الخير فيستهدفه هؤلاء المنافقون فليصبر على إظهاره ما دام لله، قال تعالى: ((الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم)).
(وينبغي أن نفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل، فمتى يبطل العمل؟ إذا حصل تشريك فيه، ومتى يأثم؟ ومتى لا يأثم؟
وفصل الخطاب أن المسألة على التفصيل الآتي:
(1)
أن يعمل لله ولا يلتفت إلى شيء آخر (أعلى المراتب).
(2)
أن يعمل لله ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه، مثل رجل صام مع نية الصيام لله أراد حفظ صحته، ورجل نوى الحج والتجارة، ورجل جاهد ونظر إلى مغانم، ورجل مشى إلى المسجد وقصد الرياضة، ورجل حضر الجماعة لإثبات عدالته وأن لا يتهم، فهذا لا يبطل الأعمال ولكن ينقص من أجرها ـ والأفضل أن لا تكون موجودة ولا مشركة في العمل ولا داخلة فيه أصلاً.
(3)
أن يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه من الرياء والسمعة وحمد الناس طلباً للثناء ونحو ذلك فيكون علي التفصيل الآتي:
(أ) إذا كان في أصل العمل فإنه يبطله كأن يصلي الرجل لأجل الناس.
(ب) أن يعرض له خاطر الرياء أثناء العمل فيدافعه ويجاهده، فعمله صحيح وله أجر على جهاده.
(جـ) أن يطرأ عليه الرياء أثناء العمل ولا يدافعه و يستمر معه وهذا يبطل العمل.
(د) أن يكون عمله الصالح للدنيا فقط، فيصوم لأجل الحمية والرجيم ولا يطلب الأجر، ويحج للتجارة فقط، ويخرج زكاة أموال لتنمو، ويخرج للجهاد للغنيمة، فهؤلاء أعمالهم باطلة قال تعالى:{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18]
(هـ) أن يكون عمله رياءً محضاً، وبالرياء يحبط العمل بل ويأثم به الإنسان، لأن هناك أشياء تبطل العمل ولا يأثم صاحبها كخروج ريح أثناء الصلاة، ومن الناس من يرائي في الفتوى للأغنياء والوجهاء وقد يكون لضعفه أمامهم
وقال تعالى: (مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ،
…
أُوْلَئِكَ
…
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) {هود/15،16}
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
[*] قال بعض السلف: ((إذا رأيت العالم على أبواب الغنى والسلطان فاعلم أنه لص))، أما الذي يذهب لقصد الإنكار والخير فلهو ما نوى.
(هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه:
(1)
إذا حمدك الناس على الخير بدون قصد فهذا عاجل بشرى المؤمنين.
(2)
رجل رأى العابدين فنشط للعبادة لرؤيته من هو أنشط منه.
(3)
تحسين وتجميل الثياب والنعل وطيب المظهر والرائحة.
(4)
كتم الذنوب وعدم التحدث بها، فبعض الناس يظن أنك حتى تكون مخلصاً لابد من الإخبار بالذنوب، نحن مطالبون شرعاً بالستر، وكتم الذنوب ليس رياءً بل هو مما يحبّه الله، بل إن ظن غير ذلك تلبيس من الشيطان وإشاعة للفاحشة وفضح للنفس.
(5)
اكتساب شهرة بغير طلبها، كعالم اشتهر وقصده منفعة الناس و بيان الحق ومحاربة الباطل والرد على الشبهات ونشر دين الله، فإن كانت هذه الأعمال وجاءت الشهرة تبعاً لها وليست مقصداً أصلياً فليس من الرياء.
(6)
ليس من الرياء أن يشتهر المرء ولكن الشهرة يمكن أن توقع في الرياء!!
(علامات الإخلاص:
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن ذي النون رضي الله تعالى عنه قال: ثلاث من علامات الإخلاص:
(1)
استواء المدح والذم من العامة.
(2)
ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال.
(3)
واقتضاء ثواب العمل في الآخرة.
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن أبي عثمان المغربي رحمه الله تعالى قاله: " الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى فقال: " الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: " ترك العمل لأجل الناس رياء! والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الإمام التابعي مكحول رضي الله عنه قال: ما أخلص عبد قط أربعين [يومًا] إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه.
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن سهل التستري رحمه الله تعالى قال: من زهد في الدنيا أربعين يومًا، صادقًا مخلصًا من قلبه في ذلك، ظهرت له الكرمات؛ ومن لم تظهر له فإنه عدم الصدق في زهده!.
فقيل لسهل: كيف تظهر له الكرامات؟ قال: يأخذ ما يشاء، كما يشاء، من حيث يشاء.
(وقال سهل التستري رحمه الله تعالى: نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء، لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا.
(8)
العمل بالقرآن:
بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والوقوف عند نهيه، والائتمار بأمره، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وإقامة حدوده وحروفه.
ولقد جاء نهي شديد فيمن آتاه الله القرآن ثم لم يعمل به. ففي صحيح البخاري من حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الطويل ـ (قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ؟ قَالَا: انْطَلِقْ. [ثم فسر له ذلك صلى الله عليه وسلم فقال:] وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(وهاك الحديث بتمامه:
((حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى أنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ
يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ؟ قَالَا نَعَمْ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قَالَا ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي قَالَا إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ.
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الحسن، قال:«الزموا كتاب الله وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، ثم قال: رحم الله عبدا عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله، حمد الله وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله، أعتب نفسه، ورجع من قريب»
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن أبي كنانة أن أبا موسى الأشعري جمع الذين قرءوا القرآن وهم قريب من ثلاثمائة، فعظم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخرا، وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زج في قفاه، فقذفه في النار
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الحسن قال: «من أحب أن يعلم ما هو فليعرض نفسه على القرآن»
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن مجاهد في قوله تعالى: (يَتْلُونَهُ حَقّ تِلَاوَتِهِ)[البقرة: 121]
قال: يعملون به حق عمله.
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
ينبغي لمن علمه الله القرآن وفضله على غيره، ممن لم يحمله، وأحب أن يكون من أهل القرآن وأهل الله وخاصته، ينبغي له أن يجعل القرآن ربيعا لقلبه يعمر به ما خرب من قلبه، يتأدب بآداب القرآن، ويتخلق بأخلاقٍ شريفة تبين به عن سائر الناس، ممن لا يقرأ القرآن:
(فأول ما ينبغي له أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية، باستعمال الورع في مطعمه ومشربه وملبسه ومسكنه، بصيرا بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلا على شأنه، مهموما بإصلاح ما فسد من أمره، حافظا للسانه، مميزا لكلامه، إن تَكَّلَم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صوابا، وإن سَكَتَ سكت بعلم إذا كان السكوت صوابا، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف عدوه، يحبس لسانه كحبسه لعدوه؛ ليأمن شره وشر عاقبته، قليل الضحك مما يضحك منه الناس لسوء عاقبة الضحك، إن سُرَّ بشيء مما يوافق الحق تبسم، يكره المزاح خوفا من اللعب، فإن مزح قال حقا، باسط الوجه، طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه، فكيف بما ليس فيه؟ يحذر نفسه أن تغلب على ما تهوى مما يسخط مولاه، لا يغتاب أحدا، ولا يحقر أحدا، ولا يسب أحدا، ولا يشمت بمصيبه، ولا يبغي على أحد، ولا يحسده، ولا يسيء الظن بأحد إلا لمن يستحق يحسد بعلم، ويظن بعلم، ويتكلم بما في الإنسان من عيب بعلم، ويسكت عن حقيقة ما فيه بعلم، وقد جعل القرآن والسنة والفقه دليله إلى كل خلق حسن جميل، حافظا لجميع جوارحه عما نهي عنه، إن مشى بعلم، وإن قَعَدَ قعد بعلم، يجتهد ليسلم الناس من لسانه ويده، لا يجهل؛ فإن جُهِلَ عليه حلم، لا يظلم، وإن ظلم عفا، لا يبغي، وإن بغي عليه صبر، يكظم غيظه ليرضي ربه ويغيظ عدوه، متواضع في نفسه، إذا قيل له الحق قَبِلَهُ من صغير أو كبير، يطلب الرفعة من الله، لا من المخلوقين، ماقتاً للكبر، خائفا على نفسه منه، لا يتآكل بالقرآن ولا يحب أن يقضي به الحوائج، ولا يسعى به إلى أبناء الملوك، ولا يجالس به الأغنياء ليكرموه، إن كسب الناس من الدنيا الكثير بلا فقه ولا بصيرة، كسب هو القليل بفقه وعلم، إن لبس الناس اللين الفاخر، لبس هو من الحلال ما يستر به عورته، إنْ وُسِّعَ عليه وَسَّعَ، وإنْ أُمْسِكَ عليه أَمْسَك، يقنع بالقليل فيكفيه، ويحذر على نفسه من الدنيا ما يطغيه يتبع واجبات القرآن والسنة، يأكل الطعام بعلم، ويشرب بعلم، ويلبس بعلم، وينام بعلم، ويجامع أهله بعلم، ويصطحب الإخوان بعلم، ويزورهم بعلم، ويستأذن عليهم بعلم، ويسلم عليهم بعلم، ويجاور جاره بعلم، يلزم نفسه بر والديه: فيخفض لهما جناحه، ويخفض لصوتهما صوته، ويبذل لهما ماله، وينظر إليهما بعين الوقار والرحمة، يدعو لهما بالبقاء، ويشكر لهما عند الكبر، لا يضجر بهما، ولا يحقرهما، إن استعانا به على طاعة
أعانهما، وإن استعانا به على معصية لم يعنهما عليها، ورفق بهما في معصيته إياهما بحسن الأدب؛ ليرجعا عن قبيح ما أرادا مما لا يحسن بهما فعله، يصل الرحم، ويكره القطيعة، من قطعه لم يقطعه، ومن عصى الله فيه أطاع الله فيه، يصحب المؤمنين بعلم، ويجالسهم بعلم، من صحبه، نفعه حسن المجالسة لمن جالس، إنْ عَلَّمَ غيره رفق به، لا يعنف من أخطأ ولا يخجله، رفيق في أموره، صبور على تعليم الخير، يأنس به المتعلم، ويفرح به المجالس، مجالسته تفيد خيرا، مؤدب لمن جالسه بأدب القرآن والسنة، إن أصيب بمصيبة، فالقرآن والسنة مؤدبان؛ يحزن بعلم، ويبكي بعلم، ويصبر بعلم، يتطهر بعلم، ويصلي بعلم، ويزكي بعلم ويتصدق بعلم، ويصوم بعلم، ويحج بعلم ويجاهد بعلم، ويكتسب بعلم، وينفق بعلم، وينبسط في الأمور بعلم، وينقبض عنها بعلم قد أدبه القرآن والسنة، يتصفح القرآن؛ ليؤدب به نفسه، لا يرضى من نفسه أن يؤدي ما فرض الله بجهل، قد جعل العلم والفقه دليله إلى كل خير إذا درس القرآن فبحضور فهم وعقل، همته إيقاع الفهم لما ألزمه الله: من اتباع ما أمر، والانتهاء عما نهى، ليس همته متى أختم السورة؟ همته متى أستغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من المحسنين؟ متى أكون من المتوكلين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من الصادقين؟ متى أكون من الخائفين؟ متى أكون من الراجين؟ متى أزهد في الدنيا؟ متى أرغب في الآخرة متى أتوب من الذنوب؟ متى أعرف النعم المتواترة؟ متى أشكره عليها؟ متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أفقه ما أتلو؟ متى أغلب نفسي على ما تهوى؟ متى أجاهد في الله حق الجهاد؟ متى أحفظ لساني؟ متى أغض طرفي؟ متى أحفظ فرجي؟ متى أستحي من الله حق الحياء؟ متى أشتغل بعيبي؟ متى أصلح ما فسد من أمري؟ متى أحاسب نفسي؟ متى أتزود ليوم معادي؟ متى أكون عن الله راضيا؟ متى أكون بالله واثقا؟ متى أكون بزجر القرآن متعظا؟ متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلا؟ متى أحب ما أحب؟ متى أبغض ما أبغض؟ متى أنصح لله؟ متى أخلص له عملي؟ متى أقصر أملي؟ متى أتأهب ليوم موتي وقد غيب عني أجلي؟ متى أعمر قبري، متى أفكر في الموقف وشدته؟ متى أفكر في خلوتي مع ربي؟ متى أفكر في المنقلب؟ متى أحذر مما حذرني منه ربي من نار حرها شديد وقعرها بعيد وعمقها طويل، لا يموت أهلها فيستريحوا، ولا تقال عثرتهم، ولا ترحم عبرتهم، طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم، كلما نضجت جلودهم
بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، ندموا حيث لا ينفعهم الندم، وعضوا على الأيدي أسفا على تقصيرهم في طاعة الله، وركونهم لمعاصي الله فقال، منهم قائل: يا ليتني قدمت لحياتي، وقال قائل: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، وقال قائل: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقال قائل: يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، وقالت فرقة منهم ووجوههم تتقلب في أنواع العذاب فقالوا: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، فهذه النار يا معشر المسلمين يا حملة القرآن، حذرها الله المؤمنين في غير موضع من كتابه، فقال تعالى:(يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6] و قال تعالى: (وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ)[آل عمران: 131]
و قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18]
(ثم حذر المؤمنين أن يغفلوا عما فرض عليهم، وما عهده إليهم، ألا يضعوه، وأن يحفظوا ما استرعاهم من حدوده، ولا يكونوا كغيرهم ممن فسق عن أمره، فعذبهم بأنواع العذاب، فقال تعالى: (وَلَا تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 19]
(ثم أعلن الله للمؤمنين أنه لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة فقال تعالى: (لَا يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ)[الحشر: 20] فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة، يرى بها ما حسن من فعله، وما قبح منه، فما حذره مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصفة، فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهدا وشفيعا وأنيسا وحرزا، ومن كان هذا وصفه، نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه، وعلى ولده كل خير في الدنيا وفي الآخرة.
(التحذير ممن قرأ القرآن للدنيا:
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
فأما من قرأ القرآن للدنيا ولأبناء الدنيا، فإن من أخلاقه أن يكون حافظا لحروف القرآن، مضيعا لحدوده، متعاظما في نفسه، متكبرا على غيره، قد اتخذ القرآن بضاعة، يتآكل به الأغنياء، ويستقضي به الحوائج يعظم أبناء الدنيا ويحقر الفقراء، إن علم الغني رفق به طمعا في دنياه، وإن علم الفقير زجره وعنفه؛ لأنه لا دنيا له يطمع فيها، يستخدم به الفقراء، ويتيه به على الأغنياء، إن كان حسن الصوت، أحب أن يقرأ للملوك، ويصلي بهم؛ طمعا في دنياهم، وإن سأله الفقراء الصلاة بهم، ثقل ذلك عليه؛ لقلة الدنيا في أيديهم، إنما طلبه الدنيا حيث كانت، ربض عندها، يفخر على الناس بالقرآن، ويحتج على من دونه في الحفظ بفضل ما معه من القراءات، وزيادة المعرفة بالغريب من القراءات، التي لو عقل لعلم أنه يجب عليه أن لا يقرأ بها فتراه تائها متكبرا، كثير الكلام بغير تمييز، يعيب كل من لم يحفظ كحفظه، ومن علم أنه يحفظ كحفظه طلب عيبه متكبرا في جلسته، متعاظما في تعليمه لغيره، ليس للخشوع في قلبه موضع، كثير الضحك والخوض فيما لا يعنيه، يشتغل عمن يأخذ عليه بحديث من جالسه، هو إلى استماع حديث جليسه أصغى منه إلى استماع من يجب عليه أن يستمع له، يوري أنه لم يستمع حافظا، فهو إلى كلام الناس أشهى منه إلى كلام الرب عز وجل، لا يخشع عند استماع القرآن ولا يبكي، ولا يحزن، ولا يأخذ نفسه بالفكر فيما يتلى عليه، وقد ندب إلى ذلك، راغب في الدنيا وما قرب منها، لها يغضب ويرضى، إن قصر رجل في حقه، قال: أهل القرآن لا يقصر في حقوقهم، وأهل القرآن تقضى حوائجهم، يستقضي من الناس حق نفسه، ولا يستقضي من نفسه ما لله عليها، يغضب على غيره، زعم لله، ولا يغضب على نفسه لله لا يبالي من أين اكتسب، من حرام أو من حلال، قد عظمت الدنيا في قلبه، إن فاته منها شيء لا يحل له أخذه، حزن على فوته لا يتأدب بأدب القرآن، ولا يزجر نفسه عن الوعد والوعيد، لاهٍ غافلٍ عما يتلو أو يتلى عليه، همته حفظ الحروف، إن أخطأ في حرف ساءه ذلك؛ لئلا ينقص جاهه عند المخلوقين، فتنقص رتبته عندهم، فتراه محزونا مغموما بذلك، وما قد ضيعه فيما بينه وبين الله مما أمر به القرآن أو نهى عنه، غير مكترث به، أخلاقه في كثير من أموره أخلاق الجهال، الذين لا يعلمون، لا يأخذ نفسه بالعمل بما أوجب عليه القرآن إذ سمع الله عز وجل قال:(وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ)[الحشر: 7]، فكان من
الواجب عليه أن يلزم نفسه طلب العلم لمعرفة ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فينتهي عنه، قليل النظر في العلم الذي هو واجب عليه فيما بينه وبين الله عز وجل، كثير النظر في العلم الذي يتزين به عند أهل الدنيا ليكرموه بذلك، قليل المعرفة بالحلال والحرام الذي ندبه الله إليه، ثم رسوله ليأخذ الحلال بعلم، ويترك الحرام بعلم، لا يرغب بمعرفة علم النعم، ولا في علم شكر المنعم، تلاوته للقرآن تدل على كبره في نفسه، وتزين عند السامعين منه، ليس له خشوع، فيظهر على جوارحه، إذا درس القرآن، أو درسه عليه غيره همته متى يقطع، ليس همته متى يفهم، لا يتفكر عند التلاوة بضروب أمثال القرآن، ولا يقف عند الوعد والوعيد، يأخذ نفسه برضا المخلوقين، ولا يبالي بسخط رب العالمين، يحب أن يعرف بكثرة الدرس، ويظهر ختمه للقرآن ليحظى عندهم، قد فتنه حسن ثناء من جهله يفرح بمدح الباطل، وأعماله أعمال أهل الجهل، يتبع هواه فيما تحب نفسه، غير متصفح لما ذكره القرآن عنه، إن كان ممن يُقْرِئ، غضب على من قرأ على غيره إن ذكر عنده رجل من أهل القرآن بالصلاح كره ذلك، وإن ذكر عنده بمكروه سره ذلك، يسخر بمن دونه، ويهمز بمن فوقه يتتبع عيوب أهل القرآن؛ ليضع منهم، ويرفع من نفسه، يتمنى أن يخطئ غيره ويكون هو المصيب ومن كانت هذه صفته فقد تعرض لسخط مولاه الكريم، وأعظم من ذلك، إن أظهر على نفسه شعار الصالحين بتلاوة القرآن، وقد ضيع في الباطن ما يجب لله، وركب ما نهاه عنه مولاه، كل ذلك بحب الرياسة والميل إلى الدنيا قد فتنه العجب بحفظ القرآن، والإشارة إليه بالأصابع، إن مرض أحد من أبناء الدنيا أو ملوكها، فسأله أن يختم عليه سارع إليه وسر بذلك، وإن مرض الفقير المستور، فسأله أن يختم عليه ثقل ذلك عليه، يحفظ القرآن ويتلوه بلسانه، وقد ضيع الكثير من أحكامه، أخلاقه أخلاق الجُهَّال، إن أكل فبغير علم، وإن شرب فبغير علم، وإن لبس فبغير علم، وإن جامع أهله فبغير علم، وإن نام فبغير علم، وإن صحب أقواما أو زارهم، أو سلم عليهم، أو استأذن عليهم، فجميع ذلك يجري بغير علم من كتاب أو سنة، وغيره ممن يحفظ جزءا من القرآن مطالب لنفسه بما أوجب الله عليه من علم أداء فرائضه واجتناب محارمه، وإن كان لا يؤبه له ولا يشار إليه بالأصابع.
فمن كانت هذه أخلاقه صار فتنة لكل مفتون؛ لأنه إذا عمل بالأخلاق التي لا تحسن بمثله، اقتدى به الجُهَّال، فإذا عيب الجاهل، قال: فلان الحامل لكتاب الله فعل هذا، فنحن أولى أن نفعله ومن كانت هذه حاله، فقد تعرض لعظيم، وثبتت عليه الحجة، ولا عذر له إلا أن يتوب، وإنما حداني على ما بينت من قبيح هذه الأخلاق؛ نصيحة مني لأهل القرآن ليتخلقوا بالأخلاق الشريفة، ويتجانبوا الأخلاق الدنيئة، والله يوفقنا وإياهم للرشاد. أهـ
(وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيجئُ أقوامٌ يقيمون القرآن كما يُقام القدحُ يتعجلونه ولا يتأجلونه.
((حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داود) قال: خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: اقرؤوا فكلٌ حسن وسيجئُ أقوامٌ يقيمونه كما يُقام القدحُ يتعجلونه ولا يتأجلونه.
(قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
(فقال اقرؤوا فكل حسن) أي فكل واحدة من قراءتكم حسنة مرجوة للثوب إذا اثرتم الآجلة على العاجلة ولا عليكم أن لا تقيموا ألسنتكم إقامة القدح وهو السهم قبل أن يراش.
(وسيجيء أقوام يقيمونه) أي يصلحون ألفاظه وكلماته ويتكلفون في مراعاة مخارجه وصفاته.
(كما يقام القدح) أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة لأجل الرياء والسمعة والمباهاة والشهرة
قال الطيبي وفي الحديث رفع الحرج وبناء الأمر على المساهلة في الظاهر وتحري الحسبة والإخلاص في العمل والتفكر في معاني القرآن والغوص في عجائب أمره.
(يتعجلونه) أي ثوابه في الدنيا.
(ولا يتأجلونه) بطلب الأجر في العقبى بل يؤثرون العاجلة على الآجلة. أهـ
((حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار، وحتى يخاض بالخيل في سبيل الله، ثم يأتي قوم يقرءون القرآن، فإذا قرءوه قالوا: قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا؟ فمن أعلم منا؟» ثم التفت إلى أصحابه فقال: «هل ترون في أولئك من خير؟» قالوا: لا، قال: «فأولئك منكم، وأولئك من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار.
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لقد أتى علينا حين وما نرى أن أحدا يتعلم القرآن يريد به إلا الله، فلما كان هاهنا بأخرة، خشيت أن رجالا يتعلمونه يريدون به الناس وما عندهم، فأريدوا الله بقرآنكم وأعمالكم، وإنا كنا نعرفكم إذ فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله من أخباركم، فأما اليوم فقد مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطع الوحي، وإنما أعرفكم بما أقول: من أعلن خيرا أجبناه عليه، وظننا به خيرا، ومن أظهر شرا بغضناه وظننا به شرا، سرائركم فيما بينكم وبين الله عز وجل.
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن ابن عمر، قال:«كنا صدر هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلا عليهم ورزقوا العمل به، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به»
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الحسن قال: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يتأولوا الأمر من أوله، قال الله عز وجل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ)[ص: 29] وما تدبر آياته إلا اتباعه، والله يعلم، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقط منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما ترى القرآن له من خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نفس واحد، والله ما هؤلاء بالقراء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القراء تقول مثل هذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء.
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن ابن مسعود قال: «ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، ونهاره إذ الناس مفطرون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبتواضعه إذ الناس يختالون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون.
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الفضيل بن عياض قال: ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجة إلى أحد من الخلق، إلى الخليفة فمن دون، وأن تكون حوائج الخلق إليه.
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الفضيل بن عياض قال: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو قال: وسمعت الفضيل يقول: إنما أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملا، أي ليحلوا حلاله ويحرموا حرامه، ويقفوا عند متشابهه.
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن حذيفة المرعشي أنه كتب إلى يوسف بن أسباط: بلغني أنك بعت دينك بحبتين، وقفت على صاحب لبن فقلت: بكم هذا؟ فقال: هو لك بسدس، فقلت: لا بثمن، فقال: هو لك، وكان يعرفك، اكشف عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموت، واعلم أنه من قرأ القرآن ثم آثر الدنيا لم آمن أن يكون بآيات الله من المستهزئين.
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن ميمون بن مهران قال: «لو صلح أهل القرآن صلح الناس»
(وأورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن الحسن، قال: كنت أمشي مع عمران بن الحصين، أحدنا آخذ بيد صاحبه، فمررنا بسائل يقرأ القرآن، فاحتبس عمران يستمع القرآن، فلما فرغ سأل، فقال عمران: انطلق بنا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن واسألوا الله به، فإن بعدكم قوما يقرءون القرآن، يسألون الناس به»
(هذه الأخبار كلها تدل على ما تقدم ذكرنا له من أن أهل القرآن ينبغي أن تكون أخلاقهم مباينة لأخلاق من سواهم ممن لم يعلم كعلمهم إذا نزلت بهم الشدائد لجئوا إلى الله فيها ولم يلجئوا فيها إلى مخلوق، وكان الله أسبق إلى قلوبهم، قد تأدبوا بأدب القرآن والسنة، فهم أعلام يهتدى بهم؛ لأنهم خاصة الله وأهله (أُوْلََئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلَا إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[المجادلة: 22]
(9)
الحث على استذكار القرآن وتعاهده:
استذكار القرآن أي: المواظبة على التلاوة وطلب ذكره. والمعاهدة، أي: تجديد العهد به بملازمته وتلاوته (1). فالمشتغل بحفظ كتاب الله العزيز، والحافظ له، إن لم يتعاهده بالمدارسة والاستذكار، فإن حفظه سيتعرض للنسيان، فالقرآن سريع التفلت من الصدور، ولذا وجب العناية به وكثرة مدارسته وتلاوته، و قد حذرنا الله عز وجل من الابتعاد عن القرآن الكريم بقوله تعالى:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ)[طه / 124]
فالإعراض عن تلاوته هجران، وعدم التفكر فيه هجران، وكذلك عدم العمل به هجران.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعاهدوا القرآن فالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كَيْتَ و كَيْتَ بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه في استذكار القرآن.
{تنبيه} : (
…
نظرا لوجود تشابه في ألفاظ بعض آيات القرآن الكريم أحيانا واختلافها أحيانا أخرى فإن حفظ القرآن قابل للنسيان إن لم يستذكر، لذلك يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستذكار القرآن حفاظا عليه من النسيان.
(وهنا إشارة إلى كراهة نسبة النسيان إلى النفس نظرا لأن هناك معنا آخر للنسيان وهو تعمد إغفال العمل بأحكام الآيات وهذا والعياذ بالله من سيء الأعمال. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه من 124: 126).
وفي هذا الحديث دليل على أن النسيان أمر محتمل للإنسان وليس بنقص ولكن على الإنسان الجد والحرص على عدم النسيان بالاستذكار. قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى صلى الله عليه وسلم إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى/7].
(1). انظر فتح الباري (8/ 697،699) ط. دار الريان للتراث.
وفي الحديث إشارة إلى مراقبة اللسان من التكلم حتى بكلام يقصد غيره إن كان اللفظ الذي يستخدم يشير إلى أمر فيه إثم أو معصية. فهنا رغم أن النسيان أمر متوقع للإنسان، إلا أن النهي عن نسبة هذا النسيان للنفس على أنه أمر قد قام به الإنسان اختيارا وتعمدا، خشية أن يكون مشمولا بمن تعمد النسيان الذي يشير الله إيه في الآية السابقة. ويشبه ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة /104]. وذلك لأن اليهود استخدموا لفظة راعنا فنهى الله عن استخدام ذلك اللفظ من قبل المسلمين.
ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يجعلون لأنفسهم نصيبا من القرآن كل يوم ، فاحرص على ذلك وتمسك به وعض عليه بالنواجذ ، واجعل لنفسك نصيبا يوميا لا تتركه ما دمت حيا مهما كان الأمر ، ومهما كانت مشاغل الدنيا، وقليلا دائما خيرا من كثيرا منقطع ، وان غفلت فاقضه من الغد كما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
(حديث عمر الثابت في صحيح مسلم): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل.
(ويجب عليه أن يجاهد نفسه في مراجعة القرآن حتى يشربه كشرب اللبن:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
(ومن أحسن الأدوية التي تعين على الحفظ وتبعد الإنسان على النسيان ترك المعاصي:
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
…
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور
…
ونور الله لا يُهدى لعاصي
وهنا يؤكد الإمام الشافعي على أن أستاذه وكيعا ينصحه بأن يترك المعاصي بعد أن شكا له سوء حفظه. فمن أصلح ما بينه وبين الله تعالى كان حقا على الله أن يعينه على طاعته ورضاه قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت /69].
مسألة: ما حكم نسيان القرآن؟
نسيان الحفظ له أسباب: منها عدم التكرار لشغل طارئ وهذا يحدث لكل فرد وعليه أن يراجع بعد أن يفرغ من شغله.
ومنها عدم التكرار لشغل مستديم. فإن كان شغله يمنعه من تكرار القرآن وكان شغله من الأهمية بمكان فعليه أن يكابد ويحاول إيجاد الوقت للتكرار ويدعو الله بالمغفرة. أما إن كان عدم التكرار إهمالا وتكاسلا، فهذا من التقصير الذي هو من الذنوب ويخشى أن يكون إثمه كبيرا.
[*] قال الضحاك بن مزاحم: ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يُحدِثُهُ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى /34]. وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب.
أما إذا كان النسيان نتيجة مرض يمنعه من التكرار أو ينُسيه ما حفظ فذلك مما يرجى أن لا يؤاخذه الله به بل ويكتب له ثواب يوم كان يكرر القرآن ويحفظه هذا إذا كان صابرا في مرضه محتسبا ذلك لله.
(10)
لا تقل نسيت؛ ولكن قل: أُنسيت، أو أُسقطت، أو نُسيت:
ودليل ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في سورة بالليل فقال: يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا كنتُ أُنسيتها من سورة كذا وكذا) وفي رواية عند مسلم: (
…
لقد أذكرني آية كنت أُسقطتها من سورة كذا وكذا) (1). وفي حديث ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس مالأحدهم يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسي)(2).
(قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
وفيه [أي الحديث] كراهية قول نسي آية كذا وهي كراهة تنزيه وأنه لا يكره قول أُنسيتها وإنما نهي عن نسيتها لأنه يتضمن التساهل فيها والتغافل عنها، وقد قال الله تعالى:{أتتك آياتنا فنسيتها} وقال القاضي عياض: أولى ما يتأول عليه الحديث أن معناه ذم الحال لا ذم القول، أي نسيت الحالة حالة من حفظ القرآن فغفل عنه حتى نسيه (3).
مسألة: ما حكم من حفظ القرآن أو شيئاً منه ثم نسيه؟
(1). رواه البخاري (5038) ومسلم (788)
(2)
. رواه البخاري (5039) ومسلم (790)
(3)
.شرح مسلم (المجلد الثالث- 6/ 63) ط. دار الفكر.
الجواب: قالت اللجنة الدائمة:
…
فلا يليق بالحافظ له أن يغفل عن تلاوته ولا أن يفرط في تعاهده، بل ينبغي أن يتخذ لنفسه منه ورداً يومياً يساعده على ضبطه ويحول دون نسيانه رجاء الأجر والاستفادة من أحكامه عقيدة وعملاً، ولكن من حفظ شيئاً من القرآن ثم نسيه عن شغل أو غفلة ليس بآثم
…
وما ورد من الوعيد في نسيان ما قد حفظ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق (1).
(11)
فضل تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه:
ينبغي عند قراءة القرآن أن يتدبّر القارئ ويتأمل في معاني القرآن وأحكامه، لأن هذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى:{كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [سورة ص: 29].
في هذه الآية بين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.
وفَقُهَ الصحابةُ رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلون مجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعمل بهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ختم القرآن في أقل من ثلاث لأنه لن يتحقق تدبره وفقهه.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
(وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظ القرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنين منهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهم بالقرَّاء لا يعني حفظه كله.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/ 75.
[*] وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامع لأحكام القرآن 1/ 76.
(1). فتاوى الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/ 64) ط. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
(وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميع بلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرض للحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك في العتبية).
(وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (كما في الحديث الآتي:
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة) قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا.
وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/ 44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 76، ط: دار الكتاب العربي بيروت).
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 187 مكتبة الرياض الحديثة.)[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/ 300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهم وتدبر) فتح القدير 1/ 104.
[*] وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله)، وعن عمر رضي الله عنه:(هم الذين إذا مروا بآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولم يفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها:(هجر تدبره وتفهمه ومعرفة مراد الله منه)(بدائع التفسير).
[*] وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
(وترك تدبره وتفهمه من هجرانه)(مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 678). وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها
…
فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع
…
والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه
…
وتلاوة المعنى أشرف من تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دار السعادة 1/ 42.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)،
[*] وروي عن أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال:(لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/ 187.
[*] وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين)(مجموع الفتاوى: 23/ 55)
(معنى التدبر:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: التدبر تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وقيل في معناه: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى: صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى من عمره اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرع وطلب.
(وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب.
وقد ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه.
قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ)[محمد / 24]
وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن.
(والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على تدبر القرآن منها ما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
[*] قال علي رضى الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.
[*] وقال ابن عباس رضى الله عنهما: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
[*] وقال ابن مسعود رضى الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن.
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.
[*] قال الأحنف بن قيس: عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة/ 102]
{تنبيه} : (واقعنا هو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.
(حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار.
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه.
(هذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي صلى الله عليه وسلم بآيةٍ يرددها حتى أصبح، والآية قال تعالى:(إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[المائدة / 118]
(فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة.
وقد تأسى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21)
[*] قال محمد بن كعب القرظي:
لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثرا ً.
[*] قال ابن القيم: ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.
وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.
وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته.
تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ فاعتصم بالله واستعن به وقل: {حسبي الله ونعم الوكيل.
(إنَّ المؤمن عندما يُحسن قراءة القرآن وتدبره يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وهداياته، ونحن في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى القرآن العظيم، نتلوه ونتدَّبره، نفهمه ونفسِّره، نحيا به ونتعامل معه، نصلح أنفسنا ومجتمعاتنا على هديه، ونقيم مناهج حياتنا على أسسه ومبادئه وتوجيهاته.
[*] يقول الإمام الآجري رحمه الله تعالى:
ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم، كيف يحثُّ خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبَّر كلامه عرف الربّ عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر ممَّا حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعزَّ بلا عشيرة، وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله:
"الزموا كتاب الله وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتابَ الله حمد الله وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه ورجع من قريب".
(إنَّ التمسك بكتاب الله عز وجل تلاوة وتدبراً، عملاً والتزاماً، سبيلُ السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وطريق الفلاح فيهما،
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:
"تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)[طه 123: 126]
(وإذا نظرنا في سير الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ نجدهم قد تلقوا هذا القرآن الكريم مدركين مدى الشرف الذي حباهم الله به، فأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه آناء وأطراف النهار، جعلوه غذاء أرواحهم وقوت قلوبهم وقرة أعينهم، نفذوا أحكامه وأقاموا حدوده وطبقوا شرائعه، طهرت به نفوسهم وصلحت به أحوالهم، ودعوا الناس إليه ورغبوهم فيه.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين الفاتحة إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثره نثر الدقل!!) ..
[*] قال الحسن البصري: والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن
…
} النساء: 82.
[*] وقال الحسن أيضاً: نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً. أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به.
[*] قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون القرآن)، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب. قال تعالى:{الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}
…
[البقرة: 121]
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله.
[*] وقال الشوكاني: يتلونه: يعملون بما فيه، ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر. قال تعالى:{ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} [البقرة: 78]
[*] قال الشوكاني: وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني. قال الله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان: 30]
[*] قال ابن كثير:
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع
…
الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا بمراعاة الآتي:
(1)
مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
(2)
التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة، الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفةً متأنيةً فاحصةً مكررةً، النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها – دلالاتها.
(3)
ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
(4)
العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها والاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.
(5)
النظرة الكلية الشاملة للقرآن، الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.
(6)
الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.
(7)
معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه، الاستعانة بالمعارف الثقافات الحديثة، العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد، ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة، التمكن من أساسيات علوم التفسير.
القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل لعبد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب.
(فوائد تدبر القرآن:
(1)
التدبر في القرآن غاية من غايات إنزاله: يقول الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص:29]. ومدح الحق جل وعلا من تدبر وانتفع، فذكر من صفات عباد الرحمن:{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} (الفرقان:73)
(وذم من لا يتدبرون القرآن وأنكر عليهم فقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد24].
(2)
التدبر من علامات الإيمان: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} ، {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}
(3)
التدبر يزيد الإيمان: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون} .
(4)
تدبر القرآن من النصيحة لكتاب الله، قال صلى الله عليه وسلم:(الدين النصيحة)
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول اللّه قال: للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
(5)
ترك التدبر يؤدي إلى قسوة القلب: قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلَا يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16]. وهو من أنواع هجر القرآن الذي شكاه النبي صلى الله عليه وسلم لربه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)
[الفرقان:30]
(12)
جواز تلاوة القرآن قائماً أو ماشياً أو مضطجعاً أو راكباً:
والأصل في ذلك قوله تعالى: (الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 191].
وقوله تعالى: (لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هََذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنّآ إِلَىَ رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ)[الزخرف 13، 14].
والسنة جاءت بهذا كله، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ وَقَالَ لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّكِئُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.
{تنبيه} : (في حديث عائشة رضي الله عنها دليل على جواز قراءة القرآن في حجر الحائض والنفساء، والمراد بالاتكاء هنا: وضع الرأس في الحجر. قال ابن حجر: وفيه جواز القراءة بقرب محل النجاسة، قاله النووي (1).
(13)
لا يمس المصحف إلا طاهر:
الأصل فيه قوله تعالى: (لاّ يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ)[الواقعة:79].
(1).فتح الباري (1/ 479)
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يمس القرآن إلا طاهر.
مسألة: هل يجوز حمل القرآن إذا كان بعلاقته (1) أو بين قماشه للمحدث؟
الجواب: نعم. يجوز حمل القرآن بعلاقته، لأنه ليس بمس له (2).
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
ومن كان معه مصحف فله أن يحمله بين قماشه. وفي خرجه وحمله، سواء كان ذلك القماش لرجل أو امرأة أو صبي وإن كان القماش فوقه أو تحته، والله أعلم (3).
{تنبيه} : (حمل المصحف بالجيب جائز، ولا يجوز أن يدخل الشخص مكان قضاء الحاجة ومعه مصحف بل يجعل المصحف في مكان لائق به تعظيماً لكتاب الله واحتراماً له، لكن إذا اضطر إلى الدخول به خوفاً من أن يسرق إذا تركه خارجاً جاز له الدخول به للضرورة (4).
(14)
جواز تلاوة القرآن للمحدث حدثاً أصغر عن ظهر قلب:
أما الجنابة، فإنه فلا يجوز للجنب قراءة القرآن بحال من الأحوال.
وأما الحدث الأصغر؛ فإنه يجوز معه قراءة القرآن عن ظهر قلب، ويستدل لذلك بالحديث الآتي:
(1). العِلاقة، بالكسر: عٍلاقة السيف والسوط، وعٍلاقة السوط ما في مقبضه من السير، وكذلك علاقة القدح والمصحف والقوس وما أشبه ذلك، وأعق السوط والمصحف والسيف والقدح: جعل لها علاقة. (لسان العرب:10/ 265) مادة: علق.
(2)
. انظر فتوى اللجنة الدائمة رقم (557)(4/ 76).
(3)
. فتاوي النساء (ص21) ط. دار القلم.
(4)
. فتوى اللجنة الدائمة (2245)(4/ 40)
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْيَ خَالَتُهُ قَالَ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي بِيَدِهِ الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.
(فقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن بعد نومه وقبل وضوءه دليل على جواز قراءة القرآن لمن أحدث ببول أو غائط أو نوم، والأكمل والأفضل هو قراءة القرآن على حال طهرٍ.
ولا لوم ولا نكير على من قرأ القرآن وهو بهذه الحالة، بل اللوم على المنكر أولى وأحرى لورود السنة الصحيحة بذلك. جاء في موطأ مالك أن عمر بن الخطاب كان في قوم وهم يقرءون القرآن، فذهب لحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتقرأ القرآن ولست على وضوء؟ فقال له عمر: من أفتاك بهذا أمسيلمة؟ (1).
مسألة: هل يجوز للمحدث حدثاً أصغر يقرأ القرآن من المصحف؟
الجواب: قالت اللجنة الدائمة في إحدى أجوبتها: لا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن حتى يغتسل، سواء قرأه من المصحف أو عن ظهر قلب، وليس له أن يقرأه من المصحف إلا على طهارة كاملة من الحدث الأكبر والأصغر (2).
(1). الموطأ (469)
(2)
. (5/ 328) فتوى رقم (8859)
مسألة 2:أيهما أفضل للقارىء أن يقرأ عن ظهر قلب أو من المصحف؟
الجواب: يوجد خلاف بين أهل العلم في ذلك، ففضل بعضهم القراءة عن ظهر قلب على القراءة من المصحف، ومنع ذلك آخرون وهم الأكثرون وقالوا: إن القراءة من المصحف أفضل، لأن فيه نظر للقرآن. وفي النظر للقرآن آثارٌ لم تثبت. وفصل آخرون في ذلك؛ (قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله:
وقال بعض العلماء: المدار في هذه المسألة على الخشوع، فإن كان الخشوع أكثر عند القراءة عن ظهر قلب، فهو أفضل، وإن كان عند النظر في المصحف أكثر، فهو أفضل، فإن استويا، فالقراءة نظراً أولى، لأنها أثبت، وتمتاز بالنظر إلى المصحف.
(قال الشيخ أبو زكريا النواوي رحمه الله في التبيان: الظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل (1).
(وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم أيات يسيرة لئلا يكون مهجوراً (2).
(15)
جواز قراءة القرآن للحائض والنفساء:
وذلك لأنه لم يثبت دليل يتعين المصير إليه على المنع من ذلك، ولكن بدون مس المصحف. قالت اللجنة الدائمة: أما قراءة الحائض والنفساء القرآن بلا مس مصحف فلا بأس به في أصح قولي العلماء؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنع ذلك (3).
(16)
استحباب تنظيف الفم بالسواك قبل التلاوة:
وذلك تأدباً مع كلام الله، فإن القارىء لما كان مريداً لتلاوة كلام الله، حسُنَ منه أن يطيب فمه وينظفه بالسواك أو بما يحصل به التنظيف، ولا شك أن في هذا تأدباً مع كلام الله. وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث حذيفة الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ.
((حديث علي الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: طَيِّبُوا أَفْوَاهَكُمْ بِالسِّوَاكِ فَإِنَّهَا طُرُقُ القُرْآن.
(1). فضائل القرآن ص212. تحقيق أبو اسحاق الحويني. ط. مكتبة ابن تيمية.
(2)
.الآداب الشرعية لابن مفلح (2/ 285) ط. مؤسسة الرسالة.
(3)
. فتاوي اللجنة الدائمة (3713)(4/ 74)
((حديث عائشة الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِ وُضُوْء.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ.
(17)
من السنة الاستعاذة والبسملة عند التلاوة:
من السنة الاستعاذة قبل التلاوة، والأصل في ذلك قوله تعالى:(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ)[النحل: 98]
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ ثُمَّ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثَلَاثًا ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلَاثًا أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ (1)) ثُمَّ يَقْرَأُ (2).
(فتحصل لنا من الآية والحديث صيغتان للاستعاذة.
1 -
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(1). همزه: همزَ الشيطان الإنسان همزاً: همس في قلبه وسواساً. وهمزات الشيطان: خطراته التي يُخطرها بقلب الإنسان (لسان العرب:5/ 426) مادة: همز.
نفخه: النفخ: الكبْر في قوله: أعوذ بك من همزه ونفخه ونفثه
…
لأن المتكبر يتعاظم ويجمع نفْسَه ونفَسَه فيحتاج أن ينفخ. (اللسان:3/ 64) مادة: نفخ.
نفثه: وأما النفث فتفسيره في الحديث أنه الشعر؛ قال أبو عبيد: وإنما سمي النفث شعراً لأنه كالشيء ينفثه الإنسان من فيه، كالرقية. اللسان:2/ 196) مادة: نفث.
(2)
. رواه أبوداود (775) وقال الألباني صحيح. وقال ابن كثير: قد رواه أهل السنن الأربعة
…
وقال الترمذي: هو أشهر شيء في هذا الباب
…
(تفسير القرآن العظيم)(1/ 13) ط. مكتبة الحرمين.
2 -
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
3 -
أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم (1).
فيستحب للقارىء أن يعمل بهذه وهذه. وفائدة الاستعاذة: ليكون الشيطان بعيداً عن قلب المرء، وهو يتلو كتاب الله حتى يحصل له بذلك تدبر القرآن، وتفهم معانيه، والانتفاع به؛ لأن هناك فرقٌ بين أن تقرأ القرآن وقلبك حاضر وبين أن تقرأ وقلبك لاه، قاله ابن عثيمين (2).
أما البسملة فهي سنة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ * إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ)[الكوثر 1: 3]
ثُمَّ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي فَيَقُولُ مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ.
مسألة: اعتاد الناس أن ينهوا تلاوتهم بقول: (صدق الله العظيم). فهل على هذا دليل صحيح؟
الجواب: لا دليل على قول (صدق الله العظيم) عند الانتهاء من التلاوة، وإن كان هذا عمل الأكثرين، وعمل الكثرة ليس دليلاً على إصابة الحق، قال تعالى:(وَمَآ أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[يوسف: 103]
(قال الفضيل بن عياض رحمه الله: لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها، ولا تغتر بكثرة السالكين الهالكين.
بل إن الدليل مع من منع ختم التلاوة بهذا القول الحديث الآتي:
(1) ذُكرت هذه الصيغة عند أبي داود برقم (785) ولم يصحح الألباني هذه الرواية. واستشهد بها ابن عثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع، مما يدل على ثبوتها عنده. انظر الشرح (3/ 71) ط. مؤسسة آسام.
(2)
. الشرح الممتع (3/ 71)
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ حَتَى بَلَغَ قَولَهُ: ((فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قَالَ:(حَسْبُكَ الآن). فَالتَفَتُ إِلَيهِ فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
بأبي هو وأمي. فلم يقل له صلى الله عليه وسلم قل: صدق الله العظيم، ولم يثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يعهد عن الصدر الأول رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفظون بذلك عند الانتهاء من تلاوتهم، ولم يعرف ذلك عند السلف الصالح من بعد الصحابة. إذاً ما بقي أن نقول إلا أنه محدث وليس فيه سنة تجوز هذا الذكر.
قالت اللجنة الدائمة: قول القائل صدق الله العظيم في نفسها حق، ولكن ذكرها بعد نهاية قراءة القرآن باستمرار بدعة، لأنها لم تحصل من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من خلفائه الراشدين فيما نعلم مع كثرة قراءتهم القرآن، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي رواية (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(1).
{فائدة} : (ذكر النووي في أذكاره [أنه]: يستحب للقارىء إذا ابتدأ من وسط السورة أن يبتدىء من أول الكلام المرتبط بعضه ببعض، وكذلك إذا وقف يقف على المرتبط وعند انتهاء الكلام، ولا يتقيد في الابتداء ولا في الوقف بالأجزاء والأحزاب والأعشار، فإن كثيراً منها في وسط الكلام المرتبط
…
ثم قال: ولهذا المعنى قال العلماء: قراءة سورة بكمالها أفضل من قراءة قدرها من سورة طويلة، لأنه قد يخفى الارتباط على كثير من الناس أو أكثرهم في بعض الأحوال والمواطن (2).
(18)
استحباب ترتيل القرآن وكراهية السرعة المفرطة في التلاوة:
(1). فتوى رقم (4310)(4/ 118). وتلاحظ أننا قد أطلنا في هذه المسألة لكثرة من يعمل بها مع وضوح السبيل. فالله المستعان.
(2)
. ص163
أمر المولى عزوجل بترتيل كتابه قال تعالى: (وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)[المزمل: 4] والترتيل في القراءة: الترسل فيها والتبيين من غير بغيٍ
…
وقال ابن عباس في قوله: (وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال: بينه تبييناً؛ وقال أبو إسحاق: والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآة، وإنما يتم التبيين بأن يُبيِّن جميع الحروف ويوفيها حقها من الإشباع (1). والفائدة المرجوة من الترتيل أنه أدعى لفهم معاني القرآن.
(وقد كره كثير من السلف من الصحابة ومن بعدهم؛ العجلة المفرطة في تلاوة القرآن، وعلة ذلك أن رغبة القارىء في تكثبر تلاوته في مدة أقصر، لأجل تحصيل أجر أكثر، يفوت عليه مصلحة أكبر؛ وهي تدبر آيات القرآن، والتأثر بها، وظهور أثرها على القاريء. ولا ريب أن حال من قرأ القرآن وهو متأمل لآياته، ومستحضرٌ لمعانيه؛ أكمل من الذي يستعجل به طلباً لسرعة ختمه وكثرة تلاوته.
((حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن رجلاً قال له لقد قرأت المفصل في ركعة فقال هذا كهزِ الشعر إن قوماً يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
*المقصود بقوله (كهذ الشعر): كانت عادتهم في إنشاد الشعر السرعة المفرطة.
((حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن) أي يسلقونه بألسنتهم من غير تدبر لمعانيه ولا تأمل في أحكامه بل يمر على ألسنتهم كما يمر اللبن المشروب عليها بسرعة.
(أورد الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن عن ابن مسعود قال: «لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة»
(وعن أبي جمرة قال: (قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلةٍ فأدبرها وأرتلها؛ أحبُّ إلي من أن أقرأ كما تقول). وفي رواية (فإن كنت فاعلاً لابد، فأقرأهُ قراة تسمعُ أذنيك ويعيه قلبك)(2).
(1). لسان العرب. لابن منظور (11/ 265) ط. دار صادر.
(2)
.أخرجه ابن كثير في فضائل القرآن. (ص236) وقال محققه: وإسناده صحيح. والزيادة أخرجها البيهقي في الشعب من حديث شعبة: وقال محقق الفضائل: وإسناده صحيح. انظر الحاشية (ص237)
قال ابن مفلح: قال أحمد: تعجبني القراءة السهلة، وكره السرعة في القراءة. وقال حرب: سألت أحمد عن السرعة في القراءة فكرهه، إلا أن يكون لسان الرجل كذلك، أو لا يقدر أن يترسل، قيل: فيه أثم؟ قال: أما الإثم فلا أجترىء عليه (1).
مسألة: أيهما أفضل للقارىء القرآة بتأني وتدبر، أم القراءة بسرعة مع عدم الإخلال بشيء من الحروف والحركات؟
الجواب: إذا كانت السرعة لا تخل بالقرآة، فقد فضل بعض العلماء الإسراع فيها طلباً لكثرة الأجر المترتب على كثرة التلاوة، وفضل بعضهم الترتيل والتأني فيها.
(قال ابن حجر: والتحقيق أن لكل من الإسراع والترتيل جهة فضل، بشرط أن يكون المسرع لا يخل بشيء من الحروف والحركات والسكون والواجبات، فلا يمتنع أن يفضل أحدهما الآخر وأن يستويا، فإن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة مثمنة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون بالعكس (2).
(19)
استحباب مد القراءة:
((حديث قَتَادَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ.
(20)
استحباب تحسين الصوت بالقراءة، والنهي عن القراءة بالألحان:
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم فليعرف قدر ما خصه الله به، وليقرأ لله لا للمخلوقين وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا، والصلاة بالملوك دون الصلاة بعوام الناس فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خفته أن يكون حسن صوته فتنة عليه، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله عز وجل في السر والعلانية وكان مراده أن يستمع منه القرآن؛ لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته، وانتفع به الناس. أهـ
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(1). الآداب الشرعية (2/ 297)
(2)
. فتح الباري (8/ 707)
((حديث البراء الثابت في الصحيحين) قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فِي الْعِشَاءِ وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لقد أُتيت مزماراً من مزامير آل داود.
((حديث البراء الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال زينوا القرآن بأصواتكم.
(وقال أحمد: يحسن القارىء صوته بالقرآن، ويقرؤه بحزن وتدبر، وهو معنى قوله عليه السلام: (ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن)(1).
مسألة: ما معنى زينوا أصواتكم بالقرآن؟
والمراد من تحسين الصوت بالقرآن تطريبه وتحزينه والتخشع به، قاله ابن كثير (2). ولما استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قراءة أبي موسى الأشعري قال له:(لو رأيتني وأنا استمع لقراءتك البارحة! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)(3).وفي رواية عند أبي يعلى زيادة قال أبو موسى: (أما أني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيراً)(4). فدل قول أبي موسى على جواز التكلف في القراءة، ولا يعني هذا إخراج القراءة عن حدها المشروع، من تمطيط الكلام، وعدم إقامته، والمبالغة فيه حتى ينقلب لحناً؛ لا. هذا ليس بمشروع البتة. وكره الإمام أحمد القراءة بالألحان وقال: هي بدعة (5).
وقال الشيخ تقي الدين: قراءة القرآن بصفة التحلين الذي يشبه تلحين الغناء مكروه مبتدع كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من الأئمة (6).
{تنبيه} : (بينت السنة الصحيحة أن أحسن الناس صوتاً بالقرآن هو الذي إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله.
((حديث جابر الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله.
(1). الآداب الشرعية (2/ 297)
(2)
.فضائل القرآن ص 190
(3)
. رواه مسلم (793) والبخاري (5048) الشطر الثاني منه فقط.
(4)
. انظر فتح الباري (8/ 711)
(5)
. الآداب الشرعية (2/ 301)
(6)
. الآداب (2/ 302)
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح ابن ماجة) أن أبا بكر وعمر بشراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد.
(كراهية القراءة بالألحان:
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
وأكره القراءة بالألحان والأصوات المعمولة المطربة، فإنها مكروهة عند كثير من العلماء، مثل يزيد بن هارون والأصمعي، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد والقاسم بن سلام، وسفيان بن عيينة، وغير واحد من العلماء، ويأمرون القارئ إذا قرأ أن يتحزن ويتباكى ويخشع بقلبه.
(أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي وقد سئل عن القراءة، بالألحان؟ فقال:«محدث إلا أن يكون من طباع ذلك الرجل ـ يعني طبع الرجل ـ كما كان أبو موسى»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن يعقوب بن بختان أنه قال لأبي عبد الله: فالقرآن بالألحان؟ فقال: لا، إلا أن يكون جرمه - أو قال: صوته - مثل صوت أبي موسى، أما أن يتعلمه، فلا
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أن الفضل، قال: سمعت أبا عبد الله، سئل عن القراءة، بالألحان؟ فكرهه، وقال:«يحسنه بصوته من غير تكلف»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن صالح أنه قال لأبيه: زينوا القرآن بأصواتكم، ما معناه؟ قال:«التزيين أن تحسنه»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن علي بن سعيد، قال: سألت أبا عبد الله عن القراءة، بالألحان؟ فقال:«ما يعجبني، هو محدث»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي الحارث أن أبا عبد الله قيل له: القراءة بالألحان والترنم عليه؟ قال: «بدعة، قيل له: إنهم يجتمعون عليه ويسمعونه، قال: الله المستعان»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي بكر المروذي قال: سئل أبو عبد الله عن القراءة، بالألحان؟ فقال:«بدعة لا يسمع»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن إسحاق قال: قال لي أبو عبد الله يوما وكنت سألته عنه: هل تدري ما معنى: «من لم يتغن بالقرآن فليس منا» ؟ قال: يرفع صوته، فهذا معناه: إذا رفع صوته فقد تغنى به. سألت أحمد بن يحيى النحوي ثعلب عن قوله: ليس منا من لم يتغن بالقرآن؟ فقال بعضهم: إلى أنه الغناء، يترنم به. وبعضهم يذهب إلى الاستغناء، وهو الذي عليه العمل. . «
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه قرئ على أبي عبد الله محمد بن إدريس قال: شهدت الأعمش، وقرأ عنده عورك بن الحصرمي، فقرأ هذه القراءة بالألحان، فقال الأعمش:«قرأ رجل عند أنس نحو هذه القراءة، فكره ذلك أنس»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ر عن محمد بن سيرين، سئل عن هذه الأصوات التي يقرأ بها؟ فقال:«هو محدث»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الحسن، «أنه كره القراءة بالأصوات»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي، أن رجلا كان يقرأ لهم بالمدينة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فطرب ذات ليلة، فأنكر ذلك القاسم بن محمد، وقرأ هذه الآية: (لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت: 42]
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عبد الرحمن المتطبب قال: قلت لأبي عبد الله في قراءة الألحان؟ فقال: «يا أبا الفضل، اتخذوه أغاني، اتخذوه أغاني، لا تسمع من هؤلاء»
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن محمد بن الهيثم قال: إنما كان الهيثم الذي يقرأ بالألحان مملوكا لرجل، وكان مخنثا، فحبسه مولاه في السجن، وحلف عليه ألا يخرج من السجن حتى يقرأ القرآن، ووضع فيه هذه الألحان.
(وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي الحارث قال: سمعت أبا عبد الله، يقول:«يعجبني من قراءة القرآن السهلة، فأما هذه الألحان فلا يعجبني»
(21)
البكاء عند تلاوة القرآن وسماعه:
وكلا الأمرين جاءت به السنة؛ ويستدل للأول بالحديثين الآتيين: (
((حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: أَتَيْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلِّي فَسَمِعْتُ لِصَدْرِهِ أَزِيزاً كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنْ البُكَاء.
((حديث عبيد بن عمير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: أَخْبِرِيْنَا بِأَعْجَبِ شَيءٍ رَأَيْتِيْهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لمَّا كَانَتْ لَيْلَةً مِنْ اللَيَالِي قَالَ: «يَا عَائِشَةُ ذَرِيْنِي أَتَعَبَدُ اللَيْلَةُ لِرَبِي» قُلْتُ: وَاللهِ إِنِّي أُحِبُ قُرْبُكَ وَأُحِبُ مَا يَسُرُكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي صلى الله عليه وسلم حَتَى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: وَكَانَ جَالِسَاً فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي صلى الله عليه وسلم حَتَى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى حَتَى بَلَ الأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالُ يُؤْذِنَهُ بِالصَّلاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مَا تَأَخَر؟ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ الَليْلَةُ آيِةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَرْ فِيْها: (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لَايَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ)[آل عمران: 190].
وقال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، يقرأ {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (1).
ويستدل للثاني بالحديث الآتي:
(1). أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً وبوب عليه باب: إذا بكى الإمام في الصلاة. قال ابن حجر: وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد سمع عبد الله بن شداد بهذا وزاد في صلاة الصبح. (فتح الباري 2/ 241،242)
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ حَتَى بَلَغَ قَولَهُ: ((فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قَالَ:(حَسْبُكَ الآن). فَالتَفَتُ إِلَيهِ فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
(قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق حملة القرآن:
أحب لمن يقرأ القرآن أن يتحزن عند قراءته، ويتباكى ويخشع قلبه، ويتفكر في الوعد والوعيد ليستجلب بذلك الحزن، ألم تسمع إلى ما نعت الله عز وجل من هو بهذه الصفة؟، وأخبرنا بفضلهم، فقال تعالى:(اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ)[الزمر: 23]
ثم ذم قوما استمعوا القرآن فلم تخشع له قلوبهم، فقال تعالى:(أَفَمِنْ هََذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ)[النجم 59: 61]
ثم ينبغي لمن قرأ القرآن أن يرتل كما قال تعالى: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)[المزمل: 4] قيل في التفسير: تبينه تبيينا، واعلم أنه إذا رتله وبينه انتفع به من يسمعه منه، وانتفع هو بذلك؛ لأنه قرأه كما أمر الله عز وجل في قوله تعالى:(وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً)[الإسراء: 106]
عَلَىَ مُكْثٍ: على تؤدة.
(أما مايفعله بعض الناس اليوم من صراخ، وعويل، ونحيب؛ فهو خروج عن الطريق القويم. ولا يظن ظان أننا نعمم الحكم حاشا وكلا!، بل نقول منهم صادقون ومنهم غير ذلك. والعجيب من المتكلفة أنهم يسكبون العبرات تلو العبرات عند سماع دعاء الإمام في القنوت، ولكن لا تكاد تخرج دمعة من محاجرهم عند سماع كلام الله وآياته!. ونقول لهؤلاء المتكلفة رويدكم، فأكمل الناس حالاً هم الذين وصفهم الله في كتابه: (اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ)[الزمر: 23]
وأكمل الناس حالاً من كان كحال النبي صلى الله عليه وسلم فإن بكاءه له أزيز كأزيز المرجل.
لكن قد يحتج علينا بأن بعض السلف، قد صُعقوا أو ماتوا من جراء تلاوة القرآن أو سماعه. والجواب عن ذلك أن يقال: إننا لا ننكر حدوث ذلك من بعض السلف من التابعين ومن بعدهم، ولكن لم يعهد هذا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وسبب ذلك أن الوارد كان قوياً وصادفت محلاً ضعيفاً وهو قلوبهم فلم تحتمله وحصل منهم ما حصل، فهم صادقون فيما انتابهم وهم أيضاً معذورون.
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية: وكان هذا الحال يحصل كثيراً للإمام علماً وعملاً ـ شيخ الإمام أحمد ـ يحيى بن القطان. وقال الإمام أحمد: لو دفع، أو لو قدر أحدٌ أن يدفع هذا عن نفسه دفعه يحيى. وحدث ذلك لغير هؤلاء، فمنهم الصادق في حاله ومنهم غير ذلك، ولعمري إن الصادق منهم عظيم القدر، لأنه لولا حضور قلب حيِّ، وعلمُ معنى المسموع وقدره، واستشعار معنىً مطلوب يُتلمح منه، لم يحصل ذلك، ولكن الحال الأول أكمل، فإنه يحصل لصاحبه ما يحصل لهؤلاء وأعظم، مع ثباته وقوة جنانه، رضي الله عن الجميع (1).
(ذكر الرجل يسقط عند قراءة القرآن من البكاء:
(أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي بكر المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: سمعت محمد بن سعيد الترمذي يقول: قرأت على يحيى فسقط حتى ذهب عقله، قال أبو عبد الله:«لو قدر أن يدفع هذا أحد لدفعه يحيى في كثرة عمله»
(أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الإمام أحمد قال: كان القارئ يقرأ فيخرج الفضيل بن عياض وهو يبكي، فيبكي الناس، ثم قال: بلغني عن محمد بن سعيد، أنه قرأ على يحيى فكان يذهب عقله، أو كان يغمى عليه، ثم قال:«لو كان يحيى يقدر أن يدفعه لدفعه»
(أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن يحيى بن معين قال: «كان يحيى بن سعيد إذا قرئ عليه القرآن يسقط حتى يصيب الأرض وجهه، قلت ليحيى: وأنت رأيته؟ قال: لا ولكن بلغني أنه كان يصيبه هذا»
(أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي خيثمة زهير بن حرب قال: «كنا عند يحيى القطان، فجاء محمد بن سعيد الترمذي، فقال له يحيى: اقرأ، فقرأ فسقط يحيى مغشيا عليه»
(22)
استحباب الجهر بالقرآن إذا لم يترتب عليه مفسدة:
(1). الآداب الشرعية (2/ 305)
(قال النووي رحمه الله في أذكاره:
جاءت آثار بفضيلة رفع الصوت بالقراءة، وآثار بفضيلة الإسرار. قال العلماء: والجمع بينهما أن الإسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل في حق من يخاف ذلك، فإن لم يخف الرياء، فالجهر أفضل، بشرط أن لا يؤذي غيره من مصلٍ أو نائم أو غيرهما.
ودليل فضيلة الجهر: أن العمل فيه أكبر، ولأنه يتعدى نفعه إلى غيره، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ولأنه يطرد النوم، ويزيد في النشاط، ويوقظ غيره من نائم وغافل، وينشطه، فمتى حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل (1).
(ولكن يحسن بنا أن نشير إلى أمرٍ هام وهو أن الذي يجهر بقراءته ينبغي عليه أن يراعي من حوله من مصلٍ أو تالٍ للقرآن، أو نائمٍ، فلا يؤذيهم برفع صوته، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ:
اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ.
{تنبيه} : (ترتيل البنات للقرآن بحضرة الرجال لا يجوز، لما يخشى في ذلك من الفتنة بهن وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع المفضية للحرام (2).
{فائدة} : (لابد من النطق بالقراءة والتلفظ بالتلاوة لحصول الأجر، وأما ما يفعله القليل من الناس من قراءة القرآن بدون تحريك الشفتين، فهو لا يحصل به فضل القراءة.
(1).الأذكار ص 162
(2)
. فتاوي اللجنة الدائمة (5413)(4/ 127)
(قال ابن باز رحمه الله في إحدى فتاويه: لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر والتعقل وفهم المعنى، ولكن لا يعتبر قارئاً ولا يحصل له فضل القراءة إلا تلفظ بالقرآن ولو لم يُسمع من حوله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) رواه مسلم. ومراده صلى الله عله وسلم بأصحابه: الذين يعملون به، كما في الأحاديث الأخرى، وقال صلى الله عليه وسلم:(من قرأ حرفاً من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها) خرجه الترمذي، والدارمي بإسناد صحيح، ولا يعتبر قارئاً إلا إذا تلفظ بذلك، كما نص على ذلك أهل العلم. والله ولي التوفيق (1).
مسألة: هل الجهر بالقرآن أفضل أم الإسرار؟
(المسألة على التفصيل الآتي:
(إذا خاف على نفسه الرياء أو العجب والعياذ بالله كان الإسرار في حقه أفضل وعيه يحمل الحديث
(حديث عقبة بن عامر في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة و المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة.
معنى الحديث: أن المسرَّ بالقرآن أفضل لكي يأمن من العجب المحبط للعمل والعياذ بالله، وهذا محمول على من خاف على نفسه ذلك.
(أما إذا لم يخف على نفسه الرياء والعجب فالجهر في حقه أفضل لأن نفعه متعدي، والمنفعة المتعدية أفضل من المنفعة اللازمة لأنه برفع صوته يوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه وعليه الأحاديث الآتية
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به
(23)
فضائل ختم القرآن، وفي كم يختم؟
يستحب اغتنام ختم القرآن والدعاء عقبه لأنه من مظان إجابة الدعاء.
- قال قتادة: "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا ". رواه الدارمي.
- وأما المدة التي يختم بها القرآن فتختلف باختلاف الأشخاص، ولكن ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة.
[*] عن مكحول قال:
"كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك ".
(1). مجلة البحوث الإسلامية. العدد (51) لعام 1418هـ (ص140)
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرأ القرآن في شهر). قلت: إني أجد قوة، حتى قال:(فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك).
(جواز ختم القرآن في يومٍ وليلة لصدور ذلك عن عثمان رضي الله عنه:
(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
(نفي الفقه لا نفي الثواب من قرأ القرآن في أقل من ثلاث:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
[*] (ختمات السلف للقرآن الكريم:
وقد اختلف الصحابة والتابعين في ختمهم للقرآن الكريم فمنهم من كان يختم ختمة واحدة في اليوم والليلة مثل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي وآخرون.
(ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات في اليوم والليلة سليم بن عمر رضي الله عنه قاضي مصر في خلافة معاوية رضي الله عنه.
[*] وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات، وروى أبو عمر سنان في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات.
[*] قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: " كان ابن الكاتب رضي الله عنه يختم بالنهار أربع ختمات وبالليل أربع ختمات وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة "، وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زادان من عباد التابعين رضي الله عنه:" أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ويختمه أيضاً فيما بين المغرب والعشاء ".
وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل وروى أبو داود بإسناده الصحيح:" أن مجاهدا كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء "، وعن منصور قال:" كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان " ..
حتى يحل حبوته: وعن إبراهيم بن سعد قال: " كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن " ..
(وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير رضي الله عنهم ختمة في كل ركعة في الكعبة
(وأما الذين ختموا في الأسبوع مرة أحدانا نقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين كعبد الرحمن بن يزيد وعلقمة وإبراهيم رحمهم الله ..
عن بهز بن حكيم أن بينها بن أوفى التابعي الجليل رضي الله عنه أمهم في صلاة الفجر فقرأ حتى بلغ فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير خر ميتاً قال بهز: " وكنت فيمن حمله " ..
وكان أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه وهو ريحانة الشام كما قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله:" إذا قرئ عنده القرآن يصيح ويصعق " ..
[*] وقال القسطلاني: أخبرني شيخ الإسلام البرهان ابن أبي شريف أنه كان يقرأ خمسة عشر ختمة في اليوم والليلة. وفي الإرشاد أنه النجم الأصبهاني رأى رجلاً من اليمن ختم في شوط أو أسبوع وهذا لا يتسهل إلا بفيض رباني ومدد رحمني.
قال الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء.
[*] الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة.
[*] عن مسبح بن سعيد قال:
كان محمد بن إسماعيل البخاري، إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن.
وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل الختم؛ دعوة مستجابة.
(تاريخ بغداد 2/ 12 صفة الصفوة 4/ 170)
[*] عن ذي الرياستين قال: إن المأمون ختم في شهر رمضان ثلاثاً وثلاثين ختمةً، أما سمعتم في صوته بحوحة؟ إن محمد بن أبي محمد اليزيدي في أذنه صمم، فكان يرفع صوته ليسمع، وكان يأخذ عليه.
(تاريخ بغداد 10/ 190)
[*] عن عبد الله بن محمد بن اللبان أنه صلى بالناس صلاة التراويح في جميع الشهر، وكان إذا فرغ من صلاته بالناس في كل ليلة لا يزال قائماً في المسجد يصلي حتى يطلع الفجر، فإذا صلى الفجر دارس أصحابه، وسمعته يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلاً ولا نهاراً وكان ورده كل ليلة فيما يصلي لنفسه سبعاً من القرآن يقرأه بترتيل وتمهل ولم أرى أجود ولا أحسن قراءة منه.
(تاريخ بغداد 10/ 144)
[*] عن محمد بن زهير بن محمد قال: كان أبي يجمعنا في وقت ختمة القرآن في وقت شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات تسعين ختمة في شهر رمضان
(تاريخ بغداد 8/ 485)
[*] عن أبي علي الطوماوي قال: كنت أحمل القنديل في شهر رمضان بين يدي أبي بكر بن مجاهد إلى المسجد لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه، وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف بباب مسجد محمد بن جرير ومحمد يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلاً ثم انصرف. فقلت له: يا أستاذ تركت الناس ينتظرونك وجئت تسمع قراءة هذا؟ فقال: يا أبا علي دع هذا عنك، ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا ً يحسن يقرأ هذه القراءة.
(تاريخ بغداد 2/ 164)
[*] عن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة ،فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منه ، وفي كل يوم ختمة ، فكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة.
(تاريخ بغداد 2/ 63)
[*] وعن أبي بكر بن أبي طاهر قال: كان للشافعي في رمضان ستون ختمة لا يحسب منها ما يقرأ في الصلاة.
(صفة الصفوة 2/ 255)
[*] عن أحمد بن خالد قال: قيل لأبي بكر بن عياش: كيف قراءتك بالترتيل؟ فقال: كيف أقدر أرتل، وأنا أقرأ القرآن في كل يوم وليلة منذ أربعين سنة!
(تاريخ بغداد 14/ 383)
[*] عن ابن سعد قال: كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، لم يفطر حتى يختم القرآن وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة. وكان كثيرا إذا أفطر يرسلني إلى مساكين فيأكلون معه رحمه الله.
(صفة الصفوة 2/ 146 - 147)
[*] عن منصور بن إبراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال.
(صفة الصفوة 3/ 23)
[*] أبو الأشهب قال: كان أبو رجاء يختم بنا في رمضان كل عشرة أيام.
(صفة الصفوة 3/ 221).
[*] عن سلام بن أبي مطيع عن قتادة أنه كان يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
(صفة الصفوة 3/ 259)
(في آداب الختم:
[*] قال الأمام النووي في التبيان:
يستحب أن يكون الختم أول النهار أو أول الليل وأنه يستحب أن يكون ختمه أول النهار، وأخرى آخره وأنه إذا كان يقرأ وحده يستحب أن يختم في الصلاة، واستحب السلف صيام الختم، فقد كان السلف من الصحابة وغيرهم يوصون عليه ويقولون يستجاب الدعاء عند الختم ويقولون تنزل الرحمة عند الختم، وكان أنس رضي الله عنه إذا أراد الختم استحباباً متأكداً، فقد جاءت فيه أثار، وينبغي أن يُلح في الدعاء، وأن يدعوا بالأمور المهمة، وأن يكثر من ذلك في صلاح المسلمين وصلاح سلطانهم وسائر ولاتهم ويختار الدعوات الجامعة ويكون فيها من دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعت دعوات مختصرة جامعة في "التبيان"، ويستحب إذا ختم أن يشرع في ختمة أخرى عقيب الختم، فقد استحبه السلف لحديث ورد فيه والله أعلم.
(فضل قراءة القرآن بالليل:
(ينبغي لحامل القرآن أن يعتني بقراءة القرآن بالليل أكثر من النهار، وذلك لكونها أجمع للقلب وأثبت للحفظ فالليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر لقوله تعالى: (إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً)[المزمل / 6]
[*] قال النووي في التبيان:
ينبغي أن يحافظ على قراءة القُرآن في الليل، ويكون إعتناؤه بها فيه أكثر وفي صلاة الليل أكثر؛ لأن الليل أجمع للقلب، وأبعد من الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات وأصون من تطرق الرياء، وغيره من المحبطات مع ما جاء في الشرع من إيجاد الخيرات في الليل كل إسراء، وحديث النُّزول، وحديث: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء كل ليلة.
وقد تظاهرة نصوص القُرآن والسُّنّة وإجماع الأمَّة على فضيلة القراءة والقيام بالليل، والحث عليه، وذلك يحصل بالكثير، والقليل، وما كثر أفضل إلا أن يستوعب الليل كله؛ فإنه يُكره الدَّوام عليه، وكذا يُكره إن أضرَّ بنفسه ما دون الجميع. (انتهى كلامه رحمه الله
(وبينت لنا السنة الصحيحة أن قراءة القرآن في الليل منجاة من الغفلة كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين.
معنى من المقنطرين: الذين يوفون أجورهم بالقنطار
(والمقصود هنا أن قراءة القرآن تذهب الغفلة عنا، وما أحوجنا لهذا في هذا العصر، وقراءة القرآن في الليل صفة من صفات المتقين لقول الله عز وجل (كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17: 18]
وقد ثبت في السنة الصحيحة أن قراءة القرآن في الليل شفاعة للمؤمن يوم القيامة:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصيامُ و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفَّعان.
(فيشفَّعان) أي فتقبل شفاعتهما.
[*] (وهذا غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في سيرة السلف في قراءة القرآن بالليل:
[*] قال سعيد بن المسيب رحمه الله:
إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إن لأحبُ هذا الرجل!!.
[*] قيل للحسن البصري رحمه الله:
ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره.
[*] صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب – رحمه الله – الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
[*] كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول:
ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها!!! (أي لأجل قيام الليل).
قال ثابت البناني رحمه الله:
لا يسمى عابد أبداً عابدا، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه!!
[*] قال طاووس بن كيسان رحمه الله:
ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك.
[*] قال سليمان بن طرخان رحمه الله:
إن العين إذا عودتها النوم اعتادت، وإذا عودتها السهر اعتادت.
[*] قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله:
إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني.
[*] أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله، فقال له: يا حسين: ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب: كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل، ..... ، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي.
[*] قال ابن الجوزي رحمه الله:
لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني] حلفت أجفانهم على جفاء النوم.
[*] قال محمد بن المنكدر رحمه الله:
كابدت نفسي أربعين عاماً (أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات) حتى استقامت لي!!
[*] كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة!! وتلذذت به عشرين سنة.
[*] كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة.
[*] كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول: ما ألينك!! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته.
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك.
[*] قال معمر: صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا، ثم خرجت إلى بيتي، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة!! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
[*] قالت امرأة مسروق بن الأجدع:
والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام!! .... ، وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف (أي إلى فراشه) كما يزحف البعير!!
[*] قال مخلد بن الحسين: ما انتبه من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم رحمه الله يذكر الله ويصلي إلا أغتم لذلك، ثم أتعزى بهذه الآية {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} .
[*] قال أبو حازم رحمه الله: لقد أدركنا أقواماً كانوا في العبادة على حد لا يقبل الزيادة!!
[*] قال أبو سليمان الدارني رحمه الله: ربما أقوم خمس ليال متوالية بآية واحدة، أرددها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها!! ولولا أن الله تعالى يمن علي بالغفلة لما تعديت تلك الآية طول عمري، لأن لي في كل تدبر علماً جديدا، والقرآن لا تنقضي عجائبه!!
[*] كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل، ثم دافع ثم دافع، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب.
[*] قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
[*] قال سفيان الثوري رحمه الله: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته.
[*] قال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى وأحب قيام الليل، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم؟!! فقال الحسن: ذنوبك قيدتك!!
[*] وقال رجل للحسن البصري: أعياني قيام الليل؟!! فقال: قيدتك خطاياك.
[*] قال ابن عمر رضي الله عنهما: أول ما ينقص من العبادة: التهجد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة.
[*] قال عطاء الخرساني رحمه الله: إن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أصبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه، وإذا غلبته عينه فنام (أي عن قيام الليل) أصبح حزيناً كأنه قد فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا (أي قيام الليل).
[*] رأى معقل بن حبيب رحمه الله: قوماً يأكلون كثيراً فقال: ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة.
[*] قال مسعر بن كدام رحمه الله حاثاً على عدم الإكثار من الأكل:
وجدت الجوع يطرده رغيف
…
وملء الكف من ماء الفرات وقل الطعم عون للمصلي
…
وكثر الطعم عون للسبات
[*] كان العبد الصالح علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه فيلمسه بيده ويقول: والله إنك لطيب!! والله إنك لبارد!! والله لا علوتك ليلتي (أي لا تمت عليك هذه الليلة) ثم يقوم يصلي إلى الفجر!!
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة!! إنما هو على الجنب، فإذا تحرك (أي أفاق من نومه) قال: ليس هذا لك!! قومي خذي حظك من الآخرة!!.
[*] قال هشام الدستوائي رحمه الله: إن لله عبادا يدفعون النوم مخافة أن يموتوا في منامهم.
[*] عن جعفر بن زيد رحمه الله قال:
خرجنا غزاة إلى [كأبول] وفي الجيش [صلة بين أيشم العدوي] رحمه، قال: فترك الناس بعد العتمة (أي بعد العشاء) ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس، حتى إذا نام الجيش كله وثب صلة فدخل غيضة وهي الشجر الكثيف الملتف على بعضه، فدخلت في أثره، فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة، وبينما هو يصلي إذا جاء أسد عظيم فدنا منه وهو يصلي!! ففزعت من زئير الأسد فصعدت إلى شجرة قريبة، أما صلة فو الله ما التفت إلى الأسد!! ولا خاف من زئيره ولا بالى به!! ثم سجد صلة فاقترب الأسد منه فقلت: الآن يفترسه!! فأخذ الأسد يدور حوله ولم يصبه بأي سوء، ثم لما فرغ صلة من صلاته وسلم، التفت إلى الأسد وقال: أيها السبع اطلب في مكان آخر!! فولى الأسد وله زئير تتصدع منه الجبال!! فما زال صلة يصلي حتى إذا قرب الفجر!! جلس فحمد محامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة!!! ثم رجع رحمه الله إلى فراشه (أي ليوهم الجيش أنه ظل طوال الليل نائماً) فأصبح وكأنه بات على الحشايا (وهي الفرش الوثيرة الناعمة والمراد هنا أنه كان في غاية النشاط والحيوية) ورجعت إلى فراشي فأصبحت وبي من الخمول شيء الله به عليم. [*] كان العبد الصالح عمرو بن عتبة بن فرقد رحمه الله يخرج للغزو في سبيل الله، فإذا جاء الليل صف قدميه يناجي ربه ويبكي بين يديه، كان أهل الجيش الذين خرج معهم عمرو لا يكلفون أحداً من الجيش بالحراسة؛ لأن عمرو قد كفاهم ذلك بصلاته طوال الليل، وذات ليلة وبينما عمرو بن عتبة رحمه الله يصلي من الليل والجيش نائم، إذ سمعوا زئير أسد مفزع، فهربوا وبقي عمرو في مكانه يصلي وما قطع صلاته!! ولا التفت فيها!! فلما انصرف الأسد ذاهبا عنهم رجعوا لعمرو فقالوا له: أما خفت الأسد وأنت تصلي؟!! فقال: إن لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه!!
[*] قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
أفضل الأعمال ما أكرهت إليه النفوس.
[*] عن أي غالب قال:
كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل علينا بمكة، وكان يتهجد من الليل، فقال لي ذات ليلة قبل الصبح: يا أبا غالب: ألا تقوم تصلي ولو تقرأ بثلث القرآن، فقلت: يا أبا عبد الرحمن قد دنا الصبح فكيف اقرأ بثلث القرآن؟!! فقال إن سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
[*] كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول:
يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا، وبادروا قوتكم، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا، ـ فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية!!
[*] كان العبد الصالح عبد الواحد بن يزيد رحمه الله يقول لأهله في كل ليلة: يا أهل الدار انتبهوا!! (أي من نومكم) فما هذه (أي الدنيا) دار نوم، عن قريب يأكلكم الدود!!
[*] قال محمد بن يوسف: كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول: قوموا يا شباب!! صلوا ما دمتم شبابا!! إذا لم تصلوا اليوم فمتى؟!!
[*] دخلت إحدى النساء على زوجة الإمام الأوزاعي رحمه الله فرأت تلك المرأه بللاً في موضع سجود الأوزاعي، فقالت لزوجة الأوزاعي: ثكلتك أمك!! أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ (أي مكان صلاته بالليل) فقالت لها زوجة الأوزاعي: ويحك هذا يُصبح كل ليلة!! من أثر دموع الشيخ في سجوده.
[*] قال: إبراهيم بن شماس كنت أرى أحمد بن حنبل رحمه الله يحي الليل وهو غلام.
[*] قال أبو يزيد المعَّنى: كان سفيان الثوري رحمه الله إذا أصبح مدَّ رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل!!
[*] كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور قال لنفسه: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا!! ثم يصلي إلى الفجر.
رأى أحد الصالحين في منامه خياماً مضروبة فسأل: لمن هذه الخيام؟!! فقيل هذه خيام المتهجدين بالقرآن!! فكان لا ينام الليل!!
[*] كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار!! ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم!! ثم يقوم يصلي إلى الفجر [*] كان عامر بن عبد الله بن قيس رحمه الله إذا قام من الليل يصلي يقول: أبت عيناي أن تذوق طعم النوم مع ذكر النوم.
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي (أي ما شبعت من القرآن والصلاة).
[*] لما احتضر العبد الصالح أبو الشعثاء رحمه الله بكى فقيل له: ما يبكيك!! فقال: إني لم أشتفِ من قيام الليل!!
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله: كان يقال: من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم، خلائق ثلاثة: الحلم والإنابة وحظ من قيام الليل.
[*] كان ثابت البناني رحمه الله يصلي قائما حتى يتعب، فإذا تعب صلى وهو جالس.
[*] قال السري السقطي رحمه الله: رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل.
[*] كان بعض الصالحين يقف على بعض الشباب العبّاد إذا وضع طعامهم، ويقول لهم: لا تأكلوا كثيرا، فتشربوا كثيرا، فتناموا كثيرا، فتخسروا كثيرا!!
[*] قال حسن بن صالح رحمه الله:
إني أستحي من الله تعالى أن أنام تكلفا (أي اضطجع على الفراش وليس بي نوم) حتى يكون النوم هو الذي يصير عني (أي هو الذي يغلبني)، فإذا أنا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائما فلا أرقد الله عيني!!
[*] كان العبد الصالح سليمان التميمي – رحمه الله – هو وابنه يدوران في الليل في المساجد، فيصليان في هذا المسجد مرة، وفي هذا المسجد مرة، حتى يصبحا.
(فإن فاتهُ حِزْبَه بالليل فليحرص على قِراءته في أول النَّهار.
(حديث عمر الثابت في صحيح مسلم): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل.
(24)
السنة الإمساك عن القراءة عند غلبة النعاس:
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدَكُمْ وَهُوَ نَاعِسٌ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فَلْيَضْطَجِعْ.
ومعنى استعجم القرآن عليه: أي استغلق ولم ينطلق به لسانه، قاله النووي (1). وعلة الإمساك عن القراءة بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قال: فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ. وهذا إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم لطيف، فإن الإنسان إذا نعس فإنه يخلط في كلامه، وقارئ القرآن والمصلي أُمرا أن يمسكا عن الصلاة والقراءة، حتى لا يدعو المصلي على نفسه من حيث لا يشعر، وحتى يصان القرآن عن الهذرمة والكلام المعجم.
{فائدة} : (ينبغي للقارئ أن يمسك عن القراءة إذا شرع في التثاؤب، لأنه لو استمر في القراءة وهو في حال تثاؤبه لأخرج كلاماً وصوتاً مزعجاً مضحكاً؛ يصان كلام الله عنه وينزه.
(25)
استحباب اتصال القراءة وعدم قطعها:
وهو من الآداب التي يستحب لتالي القرآن أن يأخذ بها، فإذا شرع في التلاوة فلا يقطعها إلا لأمر عارض، فأدباً مع كلام الله أن لا يقطع لأجل أمور الدنيا. وإنك لتعجب من بعض الذين ينتظرون الصلاة في المسجد، كيف أنهم يقطعون تلاوتهم عدة مرات، من أجل أمور دنيوية ليست بذات قيمة. ولكن هو الشيطان لا يريد الخير للمسلم أبداً!.
ويستأنس لما قدمنا بما رواه التابعي الجليل نافع، قال:(كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يوماً، فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال: تدري فيم أنزلت؟ قلت: لا. قال: أنزلت في كذا وكذا. ثم مضى)(2). فهذه عادة ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يقطع تلاوته إلا لأجل نشر علمٍ وهو عبادة أيضاً.
(26)
من السنة أن يسبح القارئ عند أية التسبيح، ويتعوذ عند آية العذاب، ويسأل عند آية الرحمة:
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث حذيفة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ فِي رَكْعَةٍ، لَا يَمُرُ بِآَيَةِ رَحْمَةٍ إِلَا سَأَلَ وَلَا بِآَيَةِ عَذَابٍ إِلَا اسْتَجَار.
(1). شرح مسلم (المجلد الثالث -6/ 62)
(2)
. رواه البخاري (4526)
((حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قَالَ
…
: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَتَيْنِ فَمَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَافْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَقَالَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَكَانَ قِيَامُهُ قَرِيبًا مِنْ رُكُوعِهِ ثُمَّ سَجَدَ فَجَعَلَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ رُكُوعِهِ.
(قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
فيه استحباب هذه الأمور لكل قارئ في الصلاة وغيرها (1).
(28)
من السنة السجود عند المرور بآية سجدة:
في كتاب الله خمس عشرة سجدة، فيسن لتالي القرآن إذا مر بها أن يسجد ويقول الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: وهاك بعض ما ورد في ذكر سجود القرآن:
((حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَتْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ يَقُولُ فِي السَّجْدَةِ مِرَارًا سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ
(1). شرح مسلم (المجلد الثالث- 6/ 52)
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ فَسَجَدْتُ فَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ قَالَ الْحَسَنُ قَالَ لِيَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ لِي جَدُّكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ قَالَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قَالَتْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.
((حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ.
(وهو ليس بواجب بل سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولكن لا ينبغي لأهل الإيمان تركها والفريط فيها.
(ودليل سنيتها وعدم وجوبها ما يلي:
((حديث عمر الثابت في صحيح البخاري) أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
((حديث عبد الله ابن زيد الثابت في الصحيحين) قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدُ فِيهَا.
مسألة: هل سجود التلاوة يلزم لها ما يلزم للصلاة من التكبير والتسليم والطهارة واستقبال القبلة ونحو ذلك؟
الجواب: سجود القرآن لا يشرع فيه تحريم ولا تحليل: هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه عامة السلف، وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين. وعلى هذا فليست صلاة، فلا تشترط لها شروط الصلاة، بل تجوز على غير طهارة، كما كان ابن عمر يسجد على غير طهارة؛ ولكن هي بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر، قاله ابن تيمية (1).
{فائدة} : (يسن السجود للتلاوة في حق المستمع دون السامع. والفرق بينهما: أن المستمع هو الذي ينصت للشيء، وعكسه السامع. فلو كان هناك اثنان أحدهما يستمع لقراءة قارئ القرآن، والآخر مرَّ بنفس المكان ثم سجد القارئ للسجدة؛ فإنه في هذه الحالة: يُسن سجود التلاوة للمستمع دون السامع، لأن المستمع له حكم القارئ وأما السامع فلا يأخذ حكمه، ويظهر هذا جلياً في قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام (قَدْ أُجِيبَتْ دّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا)[يونس:89] مع أن الداعي موسى؛ ولكن لما كان هارون يؤمن على دعاء موسى أخذ حكم الداعي فشمله الخطاب (2).
{فائدة2} : (لا ينبغي الاقتصار على الذكر الوارد في سجود التلاوة، بل يجب الإتيان بذكر السجود
…
(سبحان ربي الأعلى) أولاً ثم يأتي الساجد بما شاء من أذكار سجود التلاوة، بل عد بعض أهل العلم ذلك من المحدثات (3).
(27)
كراهية تقبيل المصحف ووضعه بين العينين:
فقد يقول من لا علم عنده لماذا تكرهون تقبيل المصحف ووضعه بين العينين، تعظيماً له وتقديساً لكلام الله؟
والجواب أن يقال: إن تقبيل المصحف ووضعه بين العينين ونحوه قربه يتقرب بها العبد إلى الله، وطريق القرب موقوفٌ حتى يثبت به الدليل الذي لا معارض له. ونحن نمنع تقبيل المصحف تعظيماً لله ولكلامه وتعظيماً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد بلغنا بطريق لا نشك فيه أبداً أنه صلى الله عليه وسلم قال:(من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد). أي مردود على صاحبه، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(1). الفتاوى (23/ 165)
(2)
. انظر الشرح الممتع لابن عثيمين (4/ 131 - 133)
(3)
. انظر تصحيح الدعاء، للشيخ: بكر أبو زيد. ص293. ط. دار العاصمة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1419هـ
((حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
((حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ.
(وعن الإمام أحمد في المسألة روايات منها التوقف قال القاضي في (الجامع الكبير) على هذه الرواية: إنما توقف عن ذلك وإن كان فيه رفعةٌ وإكرامٌ، لأن ما طريقه القرب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحب فعله وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف، ألا ترى أن عمر لما رأي الحجر قال: لا تضر ولا تنفع، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبَّلتك. وكذلك معاوية لما طاف فقبَّل الأركان كلها أنكر عليه ابن عباس، فقال: ليس في البيت شيءُ مهجور، فقال: إنما هي السنة، فأنكر عليه الزيادة على فعل النبي صلى الله عليه وسلم (1). ولما رأي ابن المسيب رجلاً يكثر الركوع والسجود بعد صلاة الفجر نهاه، فقال: يا أبا محمد، أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن على خلاف السنة! (2).
(قالت اللجنة الدائمة: لا نعلم دليلاً على مشروعية تقبيل القرآن الكريم، وهو أنزل لتلاوته وتدبره والعمل به (3).
(28)
كراهية تعليق الآيات على الجدر ونحوها:
انتشر في كثير من البيوتات تعليق بعض السور أو الآيات على جدران الغرف والممرات، منهم من علقها تبركاً ومنهم تجملاً. وبعضهم زيَّن بها محله (التجاري) وانتقى آيات تناسب المقام!، ومنهم من علقه في سيارته إما حرزاً أو تبركاً، وبعضهم يقول: تذكراً!.
(وللجنة الدائمة فتوى مطولة بهذا الشأن مؤداها المنع من تعليق الآيات على الحيطان والمحلات التجارية، ونحو ذلك. وملخصها كالآتي:
(1)
أن في تعليق الآيات ونحو ذلك انحراف بالقرآن عما أنزل من أجله من الهداية والموعظة الحسنة والتعهد بتلاوته ونحو ذلك.
(2)
أن هذا مخالف لما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.
(3)
أن في المنع من ذلك سد لذريعة الشرك، والقضاء على وسائله من الحروز والتمائم وإن كانت من القرآن.
(4)
أن القرآن أنزل ليتلى، ولم ينزل ليتخذ وسيلة للرواج التجاري.
(5)
أن في ذلك تعريض آيات الله للامتهان والأذى عند نقلها من مكان إلى مكان ونحو ذلك.
(1). الآداب الشرعية. لابن مفلح (2/ 273)
(2)
. التمهيد. لابن عبد البر (20/ 104) ط. دار طيبة.
(3)
فتوى (8852)(4/ 122)
ثم قالت اللجنة الدائمة: وبالجملة إغلاق باب الشر والسير على ما كان عليه أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية أسلم للمسلمين في عقائدهم وسائر أحكام دينهم من ابتداع بدع لا يدرى مدى ما تنتهي إليه من الشر (1).
(29)
التحذير من هجر القرآن:
لقد حكى الله عز وجل شكوى الرسول الله صلى الله عليه وسلم لربه هجران قومه للقرآن قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)[الفرقان:30]
[*] قال الألوسي في روح المعاني:
واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه، فهجر التلاوة إنما يكون بالإعراض عن المصحف وعدم القراءة ولو ليوم، وكلما طالت المدة كلما تحقق الهجر، هذا ولم نطلع على أقوال لأحد من أهل العلم قد حد الهجر بأيام معدودة، لكن قد وردت روايات عن بعض أهل العلم في أكثر مدة يختم فيها القرآن.
[*] روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: من قرأ القرآن في كل سنة مرتين فقد أدى حقه لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين.
[*] وقال أبو الليث في البستان: ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة.
[*] ونص أحمد على كراهة تأخير ختم القرآن أكثر من أربعين يوماً بلا عذر،
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: في كم يقرأ القرآن؟ قال: "" في أربعين يوما "" ثم قال "" في شهر "" ثم قال "" في عشرين "" ثم قال "" في خمس عشرة "" ثم قال "" في عشر "" ثم قال "" في سبع.
(وتوعّد الله سبحانه الذين يعرضون عنه فقال: {وقد آتيناك من لدنا ذكراً * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا} [طه: 99 - 101].
(ثم صوّر حالة ذلك المعرض يوم القيامة فقال: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا * ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123 - 124].
[*] (أنواع هجر القرآن:
[*] قال ابن القيم في كتابه القيم " الفوائد ":
وهجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
(1). فتوى رقم (2078)(4/ 30 - 33). وننصح بقراءة الفتوى ففيها فوائد.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به
…
وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
(وإليك تفصيل ذلك:
(1)
هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
لا يوجد على وجه البسيطة كتاب يحرم هجره، ويجب تعاهده وتلاوته إلا القرآن الكريم، فإن هذا من خصائصه التي لا يشاركه فيها أي كتاب.
وقد أثنى الله عز وجل على الذين يتعاهدون كتاب ربهم بالتلاوة فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113]. - وحتى لا يقع الناس في هجران القرآن، فقد بحث العلماء مسألة: في كم يقرأ القرآن، وقالوا:"يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوماً لا يقرأ فيها القرآن ".
(2)
هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
- يحرم هجر العمل بالقرآن الكريم، لأن القرآن إنما نزل لتحليل حلاله وتحريم حرامه والوقوف عند حدوده.
فلا يجوز ترك العمل بالقرآن، فإن العمل به هو المقصود الأهم والمطلوب الأعظم من إنزاله.
(3)
هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
- أنزل الله عز وجل كتابه الكريم حتى يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ونهاهم سبحانه عن تحكيم أو تحاكم إلى غير القرآن.
- فالقرآن الكريم هو دستور المسلمين، وهو الحكم فيما اختلفوا فيه من أمور دينهم ودنياهم، فلا يجوز هجره لابتغاء الحكم في غيره.
(4)
هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
- تدبر القرآن الكريم وتعقل معانيه مطلب شرعي، دعا إليه القرآن وحثّت عليه السنة، وعمل به الصحابة والتابعون ومن بعدهم، قال تعالى:{كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص: 29]. وقال أيضاً: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].
وعليه فلا يجوز هجر تدبره وتأمل معانيه وأحكامه.
(5)
هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به:
وردت نصوص كثيرة في أن القرآن الكريم شفاء، قال تعالى:{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]. وقال: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44].
وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم صور تطبيقية عديدة للتداوي بالقرآن، سواء كان دواء للأبدان، أو للنفوس.
- وهجر الاستشفاء بالقرآن خلاف السنة، فهو مذموم وممقوت.
(!! إني لأعجب من أمة تهجر كتاب ربها وتُعرض عن سنة نبيها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟ إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض. إن التمكين الذي وعد به الله، والذي تحقق من قبل لهذه الأمة، كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل، الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن. إن الذين يحلمون بنزول النصر من الله لمجرد أننا مسلمون لواهمين، هم كحال من يطلب المُحال، كحال يستنبتُ النباتَ في الهواء ويبذرُ البذورَ في الصخور وكحال من يطلب الولد بغير زواج، ذلك أن تحقق النصر له شروط، قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُ! دُونَنِي َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] كما أن ما بعد النصر له شروط. قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَو! ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ} [الحج: 41] فعودوا إلى كتاب ربكم تنالوا نصره في الدنيا وتدخلوا جنته في الآخرة.
[*] (آثار هجر القرآن:
(1)
من آثار هجر القرآن، تغلب الشيطان وأعوانه من شياطين الجن والإنس. لأن ذكر الله تعالى خير حافظ للعبد، فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا تأتيه البطلة، وهم شياطين الجن والإنس.
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان» : قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف» : الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وسلم:«تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة» : أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(2)
ومن آثار هجر القرآن حرمان العبد من فضل التلاوة والتعبد بها، والحرمان من كنز من كنوز الحسنات لأن الحرف بعشر حسنات بنص السنة الصحيحة:
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
(3)
ومن آثار هجر القرآن: الحرمان من شفاعته له يوم القيامة:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان» : قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف» : الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وسلم:«تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة» : أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة: أي السحرة
(4)
ومن آثار هجر القرآن موت السنة وانتشار البدعة بسبب الإعراض عن كتاب الله، ومن هجر القرآن هجر السنة فتكثر الأهواء ويقل العلم وينتشر الجهل وكل هذه عوامل على انتشار البدع وتحكيم الهوى قال تعالى:(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة: 50]
(5)
ومن آثار هجر القرآن قسوة القلب؛ لأن القرآن الكريم يعمل على ترقيق القلوب المؤمنة فهي تطمئن بذكر الله قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]، فنعوذ بالله من القلب القاسي.
(أين الخلف مما فعله السلف؟ هل نحن مع القرآن فقادنا إلى رضوان الله؟ وهل نحن مع القرآن إذا لقادنا إلى سبل السلام، هل نقلنا هدايات القرآن للقارات الخمس؟ في عالمنا أناس حجبوا القرآن فلا تعرف عنه شيئا والسبب هجر المسلمين لقرآنهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
(30)
ينبغي له أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى:
(قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن:
ينبغي له أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى ويقرأ على حال من يرى الله تعالى فإنه إن لم يكن يراه فإنه يراه فعليه أن يطرد الشواغل عن نفسه أثناء هذه المناجاة.
(31)
يستحب أن تكون القراءة في موضعٍ نظيف:
(قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن:
يستحب أن تكون القراءة في موضعٍ نظيف ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة ومحصلاً لفضيلةٍ أخرى هي فضيلة الاعتكاف فإنه ينبغي لكلِ جالس في المسجد أن ينويه سواء كثر جلوسه أو قل، وهذا الأدب ينبغي أن يعتني به ويشاع ذكره ويعرفه الصغير والكبير فإنه مما يغفل عنه.
(32)
يستحب للقارئ أن يقرأ وهو جالس مستحضراً عظمةَ من يناجيه:
(قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن:
يستحب للقارئ أن يقرأ وهو جالس مستحضراً عظمةَ من يناجيه خاشعاً متذللاً بين يدي الله تعالى، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً في فراشه أو غير ذلك من الأحوال جاز:
قال تعالى: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وقعودا وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض ربنا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران/191،190}
(حديث عائشة في صحيح مسلم) قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله.
(33)
احترام القرآن:
إن احترام القرآن من الأمور التي قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين، فيجب اجتناب الضحك واللغط (اختلاط الأصوات) والحديث خلال القراءة إلا كلاماً يضطر إليه، وليمتثل قول الله تعالى (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ){الأعراف/204}
[*] وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأه.
ويجب كذلك اجتناب العبث بين يديه فإنه يناجي الله تعالى، وكذا يجب اجتناب النظر إلى ما يلهي القلب.
(34)
يستحب له أن يقرأ القرآن على ترتيب المصحف:
يستحب له أن يقرأ القرآن على ترتيب المصحف لأن الله تعالى جعل هذا الترتيب لحكمةٍ بالغةٍ قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها، فينبغي له أن يحافظ على هذه الحكمة إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الفجر يوم الجمعة فإنه يقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة وفي الثانية سورة الإنسان وكذلك سنة الفجر فإنه يقرأ في الأولى الكافرون وفي الثانية سورة الإخلاص.
قيل لابن مسعودٍ رضي الله عنه إن فلاناً يقرأ القرآن منكوساً قال: ذلك منكس القلب.
(35)
كراهية الاختلاف في كتاب الله تعالى:
(حديث جندب ابن عبد الله في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا.
(حديث ابن مسعود في صحيح البخاري) قال سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما محسن، لا تختلفوا فإنه من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.
(36)
يستحب طلب القراءة الطيبة من إنسان حسن الصوت:
يستحب طلب القراءة من القارئ المجود حسن الصوت، ويتضح ذلك جلياً عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن. كما في الحديث الآتي:
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ حَتَى بَلَغَ قَولَهُ: ((فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قَالَ:(حَسْبُكَ الآن). فَالتَفَتُ إِلَيهِ فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
وعبد الله بن مسعود هو الذي قاله فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ) كما في الحديث الآتي:
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح ابن ماجة) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.
(وهو أحد الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَبَدَأَ بِهِ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
(37)
تحريم الجدال في القرآن بغير حق:
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المراء في القرآن كفر.
{تنبيه} : (المقصود بالمراء هنا الجدال المشكك في القرآن والعياذ بالله تعالى من ذلك، وقيل الجدال الذي يفعله أهل الأهواء في آيات القدر ونحوها.
(38)
استحباب دعاء ختم القرآن:
(قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن: يستحب الدعاء عقب ختم القرآن استحباباً متأكداً، وكان عبد الله بن ا لمبارك إذا ختم القرآن أكثر دعائه للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
{تنبيه} : (لم يذكر الإمام النووي في ذلك دليلاً، وربما يستدلُ له بالحديث الآتي
(حديث عمران بن حصين في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس.
(
…
آداب السلام:
(آداب السلام:
للسلام آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب السلام جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب السلام جملةً:
(1)
فضل إقراء السلام:
(2)
صفة السلام:
(3)
كراهة الابتداء بـ (عليك السلام):
(4)
استحباب تكرار السلام ثلاثاً، إذا كان الجمع كثيراً، أو شُك في سماع المُسَّلم عليه:
(5)
من السنة الجهر بالسلام وكذلك الرد:
(6)
أن يسلم على من يعرف ومن لا يعرف من المسلمين:
(7)
استحباب ابتداء القادم بالسلام:
(8)
من السنة إلقاء السلام، أما رده فهو واجب:
(9)
من السنة أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير.
(10)
استحباب السلام على الصبيان:
(11)
السلام على الأيقاظ في موضع فيه نيام، حيث يخفض المُسَّلِم صوته، فيسمع يقظاناً ولا يوقظ نائماً:
(12)
استحباب السلام عند دخول البيت:
(13)
السلام إذا دخل على أهل بيت:
(14)
سلام الرجل إذا دخل بيته:
(15)
الترغيب في السلام قبل الكلام:
(16)
من السنة إلقاء السلام قبل مفارقة المجلس:
(17)
أن يعيد إلقاء السلام إذا فارق أخاه ولو يسيرًا:
(18)
السلام قبل السؤال:
(19)
استحباب بَعْثُ السَّلَامِ وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُهُ:
(20)
رد السلام بتحيةٍ أحسن مثلها أو مثلها:
(21)
عدم الاكتفاء بالإشارة باليد أو الرأس فإنه مخالف للسنة:
(22)
جواز السلام بالإشارة لعذر:
(23)
جواز السلام على المصلي، ورده بالإشارة:
(24)
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ وَرُبَّمَا آذَى:
(25)
يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَنَعَهُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ مَانِعٌ أَنْ يَعْتَذِرَ إلَى الْمُسَلِّمِ وَيَذْكُرُ الْمَانِعَ لَهُ.
(26)
جواز السلام على تالي القرآن، ووجوب رده:
(27)
كراهية السلام على المتخلي:
(28)
رد السلام على من حمل إليه السلام:
(29)
تقديم تحية المسجد على السلام من بالمسجد:
(30)
كراهية السلام حال خطبة الجمعة:
(31)
السلام على المرأة الأجنبية:
(32)
السلام على أهل المعاصي والمبتدعة:
(33)
النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام:
(34)
رد السلام على أهل الكتاب بـ (وعليكم):
(35)
جواز السلام على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين:
(ثانيا آداب السلام تفصيلا:
(1)
فضل إقراء السلام:
من أفضل الخصال التي يتحلى به المسلم إقراء السلام لأنه من أفضل خصال الإسلام بنص السنة الصحيحة، ثم إنه من الأمور التي تجلب المحبة وتنشرها بين الناس ويترتب عليها الأجر الوفير.
(حديث عبد الله ابن عمرو في الصحيحين) أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيُ الإسلام خير؟ قال: تُطعم الطعام وتُقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم
(حديث عبد الله ابن سلام في صحيح الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
(حديث أنس في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه الله في الأرض فأفشوا السلام بينكم.
(حديث أبي هريرة في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبخل الناس من بخل بالسلام وإن أعجز الناس من عجز بالدعاء ،
(حديث هانئ ابن يزيد في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من موجبات المغفرة بذلَ السلام وحسنَ الكلام.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن اليهود ليحسدونكم على السلام والتأمين.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام و عيادة المريض و اتباع الجنائز و إجابة الدعوة و تشميت العاطس.
(حديث عمران ابن حصين في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فقال صلى الله عليه وسلم: عشر حسنات، وجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال ثلاثون.
(2)
صفة السلام:
(أفضلها: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(يليها: السلام عليكم ورحمة الله.
(يليها: السلام عليكم.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عمران ابن حصين الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَرَدَّ عليه السلام ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَشْرٌ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ عِشْرُونَ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ ثَلَاثُونَ.
((حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً وَمَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ كُتِبَتْ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً.
(أما صفة الرد فإنه يكون بمثل السلام أو بأحسن منه لقوله تعالى (وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ)[النساء: 86]
ويكون الرد بضمير الجمع وإن كان المسلِم واحداً؛ فيقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مسألة: إذا انتهى المبتدئ بالسلام عند وبركاته، فهل يشرع الزيادة عليها طلباً لظاهر الآية {بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} كأن يقال: ومغفرته وإحسانه .. الخ.
الجواب: لا يزاد بعد البركة شيء، عند الرد على السلام، ولو كان المبتدئ انتهى إلى البركة، وإن استحسن هذا بعض العلماء بناءً على ظاهر الآية؛ ولكن اتباع السنة أولى. قال ابن عبد البر: وقال ابن عباس وابن عمر: انتهى السلام إلى البركة، كما ذكر الله عز وجل عن صالح عباده:{رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} . وكانا يكرهان أن يزيد أحد في السلام على قوله: وبركاته (1).
(3)
كراهة الابتداء بـ (عليك السلام):
((حديث أَبِي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ
أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى.
فدل الحديث على كراهة الابتداء بـ (عليك السلام). ولبعض العلماء تفريع على ذلك، أغنانا عن إيراده وضوح النص وصراحته.
(4)
استحباب تكرار السلام ثلاثاً، إذا كان الجمع كثيراً، أو شُك في سماع المُسَّلم عليه:
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا.
(قال النووي رحمه الله بعد هذا الحديث: وهذا محمولٌ على ما إذا كان الجمع كثيراً (2).
وأضاف ابن حجر: وكذا لو سلم وظن أنه لم يسمع فتسن الإعادة فيعيد مرة ثانية وثالثة ولا يزيد على الثالثة (3)
(5)
من السنة الجهر بالسلام وكذلك الرد:
ولقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في السلام أن يرفع صوته بالسلام، وكذلك في الرد، فلا يحصل بالإسرار الأجر؛ إلا ما استثني وسيأتي.
(1).التمهيد (5/ 293)
(2)
. أي ولم يسمع بعضهم وقصد الاستيعاب (قاله ابن حجر -فتح الباري11/ 29) وكلام النووي في رياض الصالحين (باب كيفية السلام ص291) ط. دار عالم الكتب. الطبعة الحادية عشر 1409هـ.
(3)
. فتح الباري حديث رقم (6244)(11/ 29). وانظر كذلك زاد المعاد (2/ 418) ط. مؤسسة الرسالة.
فأخرج البخاري في أدبه أثراً عن ابن عمر: عن ثابت بن عبيد قال: أتيت مجلساً فيه عبد الله بن عمر فقال: إذا سلَّمت فأسمع فإنها تحية مباركة طيبة (1).
(وذكر ابن القيم: أن من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسمع المسلم رده عليه (2).
(وقال ابن حجر: واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سراً بل يشترط الجهر، وأقله أن يسمع في الابتداء والجواب ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه (3).
(وقال النووي: وأقل السلام الذي يصير به مسلِّماً مؤدياً سنة السلام أن يرفع صوته بحيث يُسمع المسلَّم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتياً بالسلام، فلا يجب الرد عليه. وأقل ما يسقط به فرض ردّ السلام أن يرفع صوته بحيث يسمعه المسلِّم، فإن لم يسمعه لم يسقط عنه فرض الرد (4).
(6)
أن يسلم على من يعرف ومن لا يعرف من المسلمين:
((حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلامُ خير؟ قال: تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
(هذا الحديث فيه الحث على إفشاء السلام ونشره بين الناس، لما فيه من المصالح العظيمة، لعل من أعظمها: التأليف بين المسلمين، وسلامة قلوبهم لبعض. وبضده السلام على الخاصة، أي: أن لا يسلم الرجل إلا على من يعرفه، وهذا فعل غير محمود؛ بل إن سلام الخاصة من علامات الساعة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة. وفي رواية: أن يسلَّم الرجل على الرجل، لا يسلم عليه إلا للمعرفة).
وفي رواية في السلسلة الصحيحة (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة
…
الحديث).
(وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّلَامِ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هو إفشاء السلام الذي هو سبب المحبة.
(1). الأدب المفرد (1005) وقال الألباني: صحيح الإسناد، وكذا قال الحافظ (11/ 18). صحيح الأدب المفردص385
(2)
.زاد المعاد (2/ 419)
(3)
. فتح الباري (11/ 21)
(4)
. الأذكار ص 354،355. وقد أكثرت النقل، لكثرة من يتساهل في رد السلام، فليعتن المسلم بذلك حتى يسقط عنه الإثم.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
((حديث عبد الله بن سلام الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
(7)
استحباب ابتداء القادم بالسلام:
وهذا أمر مشهور، ومنتشر بين الناس، وتشهد له النصوص الكثيرة، حيث أن استحباب السلام متوجه للقادم دون المقدوم عليه.
((حديث عمران ابن حصين الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَرَدَّ عليه السلام ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَشْرٌ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ عِشْرُونَ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ ثَلَاثُونَ.
(قال النووي رحمه الله
…
أما إذا ورد على قعود أو قاعد، فإن الوارد يبدأ بالسلام على كل حال، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً (1).
(8)
من السنة إلقاء السلام، أما رده فهو واجب:
ودليل السنية كثيرة جداً، وقد سبق قوله صلى الله عليه وسلم: حق المسلم على المسلم ست:
…
إذا لقيته فسلم عليه .. الحديث، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل صحابته رضوان الله عليهم. وشهرة ذلك تغنينا عن إيراد النصوص.
(وأما رد السلام فهو واجب، يتعين على المُسَّلم عليه الرد وإلا أثم، وأدلة فرضيتها كثيرة منها ما يلي:
قال تعالى: (وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ)[النساء: 86]
وقد ذكر ابن حزم وابن عبد البر والشيخ تقي الدين الإجماع على وجوب الرد (2).
مسألة: إذا سلم رجل على جماعة، فهل يتعين الرد عليهم كلهم، أم يجزئ الواحد عنهم؟
(1).الأذكار ص370
(2)
. انظر الآداب الشرعية (1/ 356) ط. مؤسسة الرسالة.
الجواب: إن سلم رجل على جماعة، فإن ردوا كلهم فهو أفضل، وإن رد واحدٌ منهم، سقط الحرج عن الباقين، ولا إثم (1).
((حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُجْزِئُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِئُ عَنْ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ.
(9)
من السنة أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير.
وفي ذلك أحاديث صحاح، منها:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير.
(وقد ذكر بعض أهل العلم الحكمة من ابتداء هؤلاء المذكورين بالسلام، فقالوا: سلام الصغير على الكبير: لحق الكبير من التوقير والتكريم وهو الأدب الذي ينبغي سلوكه، وسلام الراكب على الماشي: حتى يحمل السلامُ الراكبَ على التواضع وعدم التكبر، وسلام الماشي على القاعد: لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وسلام القليل على الكثير: لحق الكثير فحقهم أعظم (2).
مسألة: هل يترتب على المخالفة حكم، فيما لو سلم الكبير على الصغير، أو سلم الماشي على الراكب، أو سلم الكثير على القليل، أو سلم القاعد على الماشي؟
الجواب: لا يلحق المخالف في ذلك إثم، ولكنه تاركٌ للأولى. قال المازري: ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركاً للمستحب والآخر فاعلاً للسنة، إلا إن بادر فيكون تاركاً للمستحب أيضاً (3).
مسألة: إذا تقابل ماشيان أو راكبان، فمن يبدأ بالسلام؟
الجواب: يستحب أن يبدأ اصغرهما للحديث السابق. فإن كانا في السن سواء، واستويا من جميع الجهات فخيرهما الذي يبدأ بالسلام لقوله صلى الله عليه وسلم:(وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)(4) من حديث المتهاجرين، ولحديث جابر قال:(الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل)(5).
(1). انظر النووي شرح صحيح مسلم حديث رقم (2160) ط. دار الفكر، فتح الباري حديث رقم (6231) ط. دار الريان. والآداب الشرعية
(2)
. انظر فتح الباري (11/ 19)
(3)
.فتح الباري (11/ 19)
(4)
. رواه البخاري (6077)
(5)
. رواه البخاري في الأدب المفرد (994). وصحح سنده ابن حجر في الفتح (11/ 18). ولم أجده في صحيح الأدب المفرد ولا ضعيفه، للشيخ الألباني.
مسألة: إذا كان هناك ماشيان ثم حال بينهما حائل، كشجرة أو جدار ونحو ذلك؛ فهل يشرع لهما السلام إذا التقيا مرة أخرى؟
الجواب: نعم. يشرع لهما السلام ولو تكرر ذلك مرات، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه.
(10)
استحباب السلام على الصبيان:
وذلك لتعويدهم وتدريبهم منذ الصغر على آداب الشريعة، وفاعله متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
(وفي السلام على الصبيان حمل النفس على التواضع، وسلوك لين الجانب.
مسألة: إذا سلم بالغٌ على صبي، أو سلم صبيٌ على بالغ، فهل يجب رد السلام عندئذٍ؟
الجواب: إذا سلم بالغٌ على صبي فإنه لا يلزم الصبي الرد، وذلك لأنه ليس من أهل الفروض. أما إذا سلم الصبي على البالغ، فإنه يتعين عليه الرد وهو قول الجمهور (1).
(11)
السلام على الأيقاظ في موضع فيه نيام، حيث يخفض المُسَّلِم صوته، فيسمع يقظاناً ولا يوقظ نائماً:
، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث المقدام بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم، ويسمع اليقظان.
جاء ذلك في حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه، وفيه قال:
…
فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه. قال: فيجيءُ من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً، ويسمع اليقظان
…
(2).
((حديث الْمِقْدَادِ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ
(1).أنظر شرح صحيح مسلم للنووي (المجلد السابع/ الجزء الثالث عشر/ص123)، وفتح الباري (11/ 35)
(2)
.رواه مسلم (2055) وهو جزء من حديث طويل.
أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنْ الْجَهْدِ فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْبَلُنَا فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى أَهْلِهِ فَإِذَا ثَلَاثَةُ أَعْنُزٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ بَيْنَنَا قَالَ فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشْرَبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ وَنَرْفَعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصِيبَهُ قَالَ فَيَجِيءُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ قَالَ ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَأْتِي شَرَابَهُ فَيَشْرَبُ فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِي فَقَالَ مُحَمَّدٌ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ فَأَتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِي بَطْنِي وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ قَالَ نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ فَقَالَ وَيْحَكَ مَا صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ فَيَجِيءُ فَلَا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ وَجَعَلَ لَا يَجِيئُنِي النَّوْمُ وَأَمَّا صَاحِبَايَ فَنَامَا وَلَمْ يَصْنَعَا مَا صَنَعْتُ قَالَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُسَلِّمُ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ الْآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فَأَهْلِكُ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِي قَالَ فَعَمَدْتُ إِلَى الشَّمْلَةِ فَشَدَدْتُهَا عَلَيَّ وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى الْأَعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ فَأَذْبَحُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هِيَ حَافِلَةٌ وَإِذَا هُنَّ
حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ فَعَمَدْتُ إِلَى إِنَاءٍ لِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ قَالَ فَحَلَبْتُ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمْ اللَّيْلَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْرَبْ فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْرَبْ فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِي فَلَمَّا عَرَفْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَوِيَ وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ ضَحِكْتُ حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى سَوْآتِكَ يَا مِقْدَادُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَمْرِي كَذَا وَكَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا هَذِهِ إِلَّا رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ أَفَلَا كُنْتَ آذَنْتَنِي فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا فَيُصِيبَانِ مِنْهَا قَالَ فَقُلْتُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُبَالِي إِذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا مَعَكَ مَنْ أَصَابَهَا مِنْ النَّاسِ.
(وفي هذا أدب نبويٌ رفيع، حيت يُراعى فيه حال النائم فلا يكدر عليه نومه، وفي الوقت نفسه لا تفوت فضيلة السلام!.
(12)
استحباب السلام عند دخول البيت:
يستحب السلام عند دخول البيت فإن كان البيت خالياً، فقد استحب بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم أن يسلم الرجل على نفسه إن كان البيت خالياً.
((حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الأدب المفرد موقوفاً) قال: (إذا دخل البيت غير المسكون فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).
(قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
ويدخل في عموم إفشاء السلام، السلام على النفس لمن دخل مكاناً ليس فيه أحد، لقوله تعالى قال تعالى:(فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ)[النور: 61](1).
(وإن كان البيت ليس فيه إلا أهلك فيستحب لك أن تسلم عليهم أيضاً.
((حديث جابراً رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد موقوفاً) قال: يقول: (إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة) ..
(1).فتح الباري (11/ 22)
(والسلام عند دخول البيت ليس واجباً، قال ابن جريج: قلت لعطاء أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم؟ قال: لا. ولا أوثر وجوبه عن أحد ولكن هو أحب إلي وما أدعه إلا ناسياً (1). ولكن لا ينبغي للمسلم أن ينأى عنه بعد أن يعلم فضله؛ وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثةٌ كلُّهمْ ضامنٌ على الله إن عاش رُزقِ وكُفِيَ، وإن ماتَ أدخلَهُ اللهُ الجنّة، من دخل بيتَه فَسَلَّمَ، فهو ضامنٌ على الله ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله.
(13)
السلام إذا دخل على أهل بيت:
((حديث قتادة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دَخلتم بيتاً فسلموا على أهلِه، فإذا خرجتم، فأودِعوا أهلهُ بالسلام.
(14)
سلام الرجل إذا دخل بيته:
((حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء.
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الكلم الطيب) قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بُني إذا دخلت على أهلك فسلِّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك".
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثةٌ كلُّهمْ ضامنٌ على الله إن عاش رُزقِ وكُفِيَ، وإن ماتَ أدخلَهُ اللهُ الجنّة، من دخل بيتَه فَسَلَّمَ، فهو ضامنٌ على الله ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله.
(15)
الترغيب في السلام قبل الكلام:
الذي عليه سلف الأمة وخلفها أنهم كانوا يقدمون السلام قبل كلامهم، وسؤال حاجاتهم. قال النووي: السنة أن المسلِّم يبدأ بالسلام قبل كل كلام، والأحاديث الصحيحة وعمل سلف الأمة وخلفها على وفق ذلك مشهورة، فهذا هو المعتمد في هذا الفصل، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1). تفسير ابن كثير (3/ 305)
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السلام قبل السؤال، فمن بدأكم بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه.
(16)
من السنة إلقاء السلام قبل مفارقة المجلس:
فكما أنه يسن السلام عند القدوم على المجلس، فكذلك من السنة أن يُلقى السلام عند مفارقة ذلك المجلس، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليُسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى أحق من الثانية.
(17)
أن يعيد إلقاء السلام إذا فارق أخاه ولو يسيرًا:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه.
(18)
السلام قبل السؤال:
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السلام قبل السؤال، فمن بدأكم بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه.
(19)
استحباب بَعْثُ السَّلَامِ وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُهُ:
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام). قلت: وعليه السلام ورحمة الله، قالت: وهو يرى ما لا نرى.
(20)
رد السلام بتحيةٍ أحسن مثلها أو مثلها:
امتثالاً لقوله تعالى (وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ)(النساء / 86)
(21)
عدم الاكتفاء بالإشارة باليد أو الرأس فإنه مخالف للسنة:
إلا إذا كان المسلَّم عليه بعيدًا فإنه يسلم بلسانه ويشير بيده ولا يكتفي بالإشارة.
((حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وإن تسليم النصارى بالأكف».
(22)
جواز السلام بالإشارة لعذر:
الأصل في السلام بالإشارة النهي، لأنه من فعل أهل الكتاب ونحن أمرنا بمجانبتهم، وعدم التشبه بهم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة: (
((حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وإن تسليم النصارى بالأكف».
(لكن يجوز قرن الإشارة بالتلفظ بالسلام، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قَالَتْ: أَلْوَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى النَّسَاءِ بِالسْلَام.
قال النووي بعد حديث الترمذي: فهذا محمولٌ على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين اللفظ والإشارة، يدل على هذا أن أبا داود روى هذا الحديث، وقال في روايته:(فسلم علينا)(1). (2). وقال الحافظ: والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حساً وشرعاً، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس، وكذا السلام على الأصم (3).
(23)
جواز السلام على المصلي، ورده بالإشارة:
من الجائز السلام على المصلي، وهذا ثابت من لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته، حيث كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة ولم ينكر عليهم ذلك، فدل إقراره جوازه. وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي لِحَاجَةٍ ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يَسِيرُ (قَالَ قُتَيْبَةُ: يُصَلِّي) فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي فَقَالَ:(إِنَّكَ سَلَّمْتَ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي) وَهُوَ مُوَجِّهٌ حِينَئِذٍ قِبَلَ الْمَشْرِقِ.
((حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ:
مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ إِشَارَةً قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ إِشَارَةً بِأُصْبُعِهِ.
(ففي هذه الأحاديث وغيرها دليل على جواز إلقاء السلام على المصلي، ورده بالإشارة.
مسألة: ما صفة السلام بالإشارة في الصلاة؟
(1). رواه أبو داود (5204).
(2)
. الأذكار ص 356
(3)
.فتح الباري (11/ 16)
الجواب: ليست هناك صفة محددة لرد السلام بالإشارة في الصلاة، والوارد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم متنوع فمرة كانت الإشارة بالأصبع كما في حديث صهيب المتقدم، ومرة كانت الإشارة باليد كما في حديث جابر (1)،ومرة كانت الإشارة بالكف كما في حديث عبد الله بن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار، فسلموا عليه، وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال يقول هكذا، وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق (2) .. قال في عون المعبود: واعلم أنه ورد الإشارة لرد السلام في هذا الحديث بجميع الكف، وفي حديث جابر باليد، وفي حديث ابن عمر عن صهيب بالإصبع، وفي حديث ابن مسعود عند البيهقي بلفظ فأومأ برأسه، وفي رواية له فقال برأسه يعني الرد، ويجمع بين هذه الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم فعل هذا مرة وهذا مرة فيكون جميع ذلك جائزاً. والله أعلم (3).
(24)
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ وَرُبَّمَا آذَى:
((حديث المقدام بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم، ويسمع اليقظان.
(25)
يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَنَعَهُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ مَانِعٌ أَنْ يَعْتَذِرَ إلَى الْمُسَلِّمِ وَيَذْكُرُ الْمَانِعَ لَهُ.
(1). أخرجه أبو داود (926)، وهو نفس حديث مسلم المتقدم (540)، وإنما ذكرت رواية أبي داود لأن فيها التصريح بذكر اليد.
(2)
. رواه أبو داود 927). وقال الألباني: حسن صحيح. صحيح أبي داود رقم (820)
(3)
. عون المعبود. شرح سنن أبي داود 0 (المجلد الثاني/ الجزء الثالث/ ص138) ط. دار الكتب العلمية.
((حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له، فانطلقت، ثم رجعت وقد قضيتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه فلم يرد علي، فوقع في قلبي ما الله أعلم به، فقلت في نفسي: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَدَ علي أني أبطأت عليه؟. ثم سلمت عليه فلم يرد علي، فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى، ثم سلمت عليه فرد علي، فقال:(إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي). وكان على راحلته، متوجها إلى غير القبلة.
(26)
جواز السلام على تالي القرآن، ووجوب رده:
السلام على المشتغل بتلاوة القرآن منعه بعض العلماء وأجازه بعضهم، والصواب مع من أجازه، فلا دليل على إخراج تالي القرآن من عمومات النصوص التي تحث على إفشاء السلام، وعلى وجوب رده. وكونه مشتغلاً بأعلى أنواع الذكر وهو قراءة القرآن؛ لا يمنع من إلقاء السلام عليه، ولا يسقط عنه واجب الرد.
(قالت اللجنة الدائمة في ردها على أحد الأسئلة: يجوز بدء قارئ القرآن بالسلام وعليه أن يرد السلام؛ لأنه لم يثبت دليل شرعي على المنع من ذلك والأصل عموم الأدلة في مشروعية البدء بالسلام والرد على من سلم حتى يثبت ما يخصص ذلك من الأدلة (1).
(27)
كراهية السلام على المتخلي:
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبُولُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
((حديث المهاجر بن قُنفد الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجه) أَنَّهُ
أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عز وجل إِلَّا عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى طَهَارَةٍ.
فعلى هذا فإن المتخلي ببول أو غائط يكره له رد السلام باتفاق أهل العلم (2)،
(ويستحب لمن أُلقي عليه السلام وهو يقضي حاجته أن يرد السلام بعد الوضوء تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1). فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/ 83)
(2)
. انظر شرح مسلم للنووي (المجلد الثاني/ الجزء الرابع / ص55)
((حديث المهاجر بن قُنفد الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجه) أَنَّهُ
أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عز وجل إِلَّا عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى طَهَارَةٍ.
فعلى هذا فإن المتخلي ببول أو غائط يكره له رد السلام باتفاق أهل العلم (1)،
(28)
رد السلام على من حمل إليه السلام:
وهذا قد وردت به السنة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام). قلت: وعليه السلام ورحمة الله، قالت: وهو يرى ما لا نرى.
والحاصل أن رد السلام على حامل السلام ليس بواجب بل هو مندوب إليه. قال ابن حجر: ولم أر في شيء من طرق حديث عائشة أنها ردت على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه غير واجب (2).
{فائدة} : (قال ابن عبد البر: قال رجل لأبي ذر: فلان يقرئك السلام، فقال: هديةٌ حسنة ومحمل خفيف (3).
(29)
تقديم تحية المسجد على السلام من بالمسجد:
فالداخل للمسجد يستحب له أن يقدم تحية المسجد قبل تحية أهله، وفي حديث المسيء في صلاته ما يدل لذلك:
(1). انظر شرح مسلم للنووي (المجلد الثاني/ الجزء الرابع / ص55)
(2)
.فتح الباري (11/ 41)
(3)
. الآداب الشرعية (1/ 393).
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلَامَ قَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ الرَّجُلُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا عَلِّمْنِي قَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا.
(قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد، ثم يجيءُ فيسلم على القوم، فتكون تحية المسجد قبل تحية أهله، فإن تلك حق لله تعالى، والسلام على الخلق حق لهم، وحق الله في مثل هذا أحق بالتقديم
…
ثم ساق حديث المسيء في صلاته متسدلاً به على قوله، وقال: فأنكر عليه صلاته، ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه صلى الله عليه وسلم إلى ما بعد الصلاة (1).
(فتبين لنا من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي أن السنة في تقديم تحية المسجد على السلام على أهله.
(30)
كراهية السلام حال خطبة الجمعة:
والأصل في ذلك الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ.
وعلى هذا لا يشرع السلام حال الخطبة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم المأمومين بالإنصات حال خطبة الإمام.
مسألة: لو سلم أحد الداخلين إلى المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة، هل يجب على المأمومين رد السلام؟
(1). زاد المعاد 2/ 413،414)
الجواب: قالت اللجنة الدائمة: لا يجوز لمن دخل والإمام يخطب يوم الجمعة إذا كان يسمع الخطبة أن يبدأ بالسلام من في المسجد، وليس لمن في المسجد أن يرد عليه والإمام يخطب، ولكن إن رد عليه بالإشارة جاز (1).
مسألة: ماذا يلزم المأموم إذا سلم عليه من بجانبه وصافحه أثناء خطبة الجمعة؟
الجواب: قالت اللجنة الدائمة: يصافحه بيده ولا يتكلم، ويرد عليه السلام بعد انتهاء الخطيب من الخطبة الأولى، وإن سلم والإمام يخطب الخطبة الثانية فأنت تسلم عليه بعد انتهاء الخطيب من الثانية (2).
(31)
السلام على المرأة الأجنبية:
(سلام الرجل على المرأة الأجنبية، منعه بعض أهل العلم، وأجازه البعض بقيد أمن الفتنة، وبعضهم فصل فقال: إن كانت شابة جميلة لم يجز، وإن كانت عجوزاً جاز، وبعضهم أطلق فمنعه في الشابة، وأجازه مع الكبيرة، وهذا هو منصوص أحمد رحمه الله قال صالح: سألت أبي: يسلم على المرأة؟ فقال: أما الكبيرة، فلا بأس، وأما الشابة فلا تستنطق (3).
وصوب ابن القيم في هذه المسألة: أنه يسلم على العجوز وذوات المحارم دون غيرهن (4). وهو المختار، وعلة المنع ظاهرة، وهي سد الذريعة، وخشية الافتتان.
وما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، فهو معصوم مأمون من الفتنة. وما ورد عن الصحابة، يحمل على أمن الفتنة. ومثاله الحديث الآتي:
((حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ إِذَا صَلَّيْنَا زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا وَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلَا نَقِيلُ إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَاللَّهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ.
{تنبيه} : (يجوز السلام على مجموعة من النساء:
((حديث أسماء بنت يزيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت: مرّ علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة ٍ فسلَّم علينا.
(1). فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (8/ 243)
(2)
.فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (8/ 246)
(3)
. الآداب الشرعية (1/ 352)
(4)
. انظر زاد المعاد 2/ 411،412)
إذا كانت المرأة واحدة فالأولى ألا يسلم عليها مخافة الفتنة ولا سيما إن كانت شابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ما ترك بعده فتنة أضر على الرجال من النساء.
مسألة: ما حكم
(32)
السلام على أهل المعاصي والمبتدعة:
أما أهل المعاصي فهم يسلم عليهم ويرد عليهم سلامهم.
(قال النووي رحمه الله في الأذكار:
اعلم أن الرجل المسلم الذي ليس بمشهور بفسق ولا بدعة يسلِّم ويسلَّم عليه، فيسن له السلام ويجب الرد عليه (1). ولكن إن كان العاصي مشهوراً بفسقه ومعصيته، فهل يقال بترك السلام عليه؟
الجواب: إذا كان في ترك السلام عليه مصلحة راجحة، كأن يرتدع العاصي عن معصيته إذا لم يُسلم عليه أو لا يرد عليه سلامه، فإن كان في ذلك مصلحة تُرك السلام عليه لعله ينتهي، أما إن كان العكس وغلب على ظننا أنه معصيته تزيد؛ فإننا نسلم عليه ونرد عليه سلامه تقليلاً للمفسدة لأنه لا مصلحة من ترك السلام عليه. وهذا ينبني على (مسألة الهجر:
وأما أهل البدع؛ فإن من البدع ما يكون مكفراً، ومنها دون ذلك. فصاحب البدعة المكفرة لا يسلم عليه بحال، وصاحب البدعة غير المكفرة فإنه يأخذ حكم أهل المعاصي كما سبق بيانه. وسنورد كلام الشيخ ابن عثيمين في بيان هجر أهل البدع، وكلامه ينزل على مسألة السلام عليهم، ولا فرق فإن الهجر يتضمن ترك السلام إلقاءً ورداً. قال الشيخ: أما هجرهم [أي المبتدعة] فهذا يترتب على البدعة، فإذا كانت البدعة مكفِّرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث)(2).
(1).الأذكار. ص364
(2)
. فتاوي العقيدة. ص 614
والأصل في ذلك كله حديث كعب بن مالك-رضي الله عنه الطويل في تخلفه عن الغزو مع رسول الله صلى اله عليه وسلم وتوبة الله عليه- وفيه قال كعب: (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي بالتي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه بردِّ السلام عليَّ أم لا؟)(1).
(33)
النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام:
مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا أَلَّا يُبْدَأَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدءوا اليهود و لا النصارى بالسلام و إذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه.
(ولا كلام لأحد بعد هذا النهي الصريح.
مسألة: إذا دعت الحاجة للسلام على أهل الكتاب، فهل يجوز السلام عليهم؟
الجواب: الحديث السابق ظاهر في المنع، ولكن إن احتيج لذلك، فليكن بغير السلام، ككيف أصبحت، أو كيف أمسيت ونحو ذلك.
(قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية:
قال الشيخ تقي الدين: إن خاطبه بكلامٍ غير السلام مما يُؤنسه به، فلا بأس بذلك (2) (قال (النووي رحمه الله في الأذكار: قال أبو سعد-المتولي-: لو أراد تحية ذمي، فعلها بغير السلام، بأن يقول: هداك الله، أو أنعم الله صباحك. قلت [أي: النووي]: هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به إذا احتاج إليه، فيقول: صُبحت بالخير، أو السعادة، أو بالعافية، أو صبحك الله بالسرور، أو بالسعادة والنعمة، أو بالمسرة، أو ما أشبه ذلك. وأما إذا لم يحتج إليه، فالاختيار أن لا يقول شيئاً، فإن ذلك بسط له وإيناس وإظهار صورة ود، ونحن مأمورن بالإغلاظ عليهم ومنهيون عن ودهم فلا نظهره. والله أعلم (3).
(34)
رد السلام على أهل الكتاب بـ (وعليكم):
(1). رواه البخاري (4418). وتلاحظ أني أطلت قليلاً في إيراد الشاهد، وذلك من أجل بيان أن الهجر وترك السلام متلازمان وكل منهما يتضمن الآخر.
(2)
. الآداب الشرعية (1/ 391).
(3)
. الأذكار ص366 - 367
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ.
(فالحديث بين لنا أن صفة الرد على أهل الكتاب أن نقول وعليكم.
مسألة: إذا سمعنا الكتابي يقول: (السلام عليكم) بلفظ واضح، فهل نرد عليه بـ (وعليكم) عملاً بظاهر الحديث، أم نرد عليه سلامه ونقول:(وعليكم السلام)؟
الجواب: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا تحققنا من لفظ السلام ولم نشك فيه فإنه ينبغي علينا أن نرد السلام.
(قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فلو تحقق السامع أن الذي قال له: سلام عليكم لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أو يقتصر على قوله وعليك؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له، وعليك السلام. فإن هذا من باب العدل، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وقد قال تعالى:{وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} . فندب إلى الفضل، وأوجب العدل، ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الراد (وعليكم) بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقال:(ألا ترينني قلت: وعليكم، لما قالوا: السّام عليك) ثم قال: (إذ ا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه. قال الله تعالى: {وإذا جاءوك حيَّوك بما لم يحيِّك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} . فإذا زال السبب، وقال الكتابي:(سلام عليكم ورحمة الله) فالعدل في التحية أن يرد عليه نظير سلامه. اهـ (1).
(35)
جواز السلام على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين:
هو مأخوذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1). أحكام أهل الذمة. (1/ 425 - 426) رمادي للنشر. ط. الأولى 1418هـ. وانظر فتاوي العقيدة لابن عثمين ص235 - 236. والسلسلة الصحيحة للألباني (2/ 327 - 330)
((حديث أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ وَفِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ قَالَ لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَوَقَفَ وَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ
…
الحديث).
والابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار مجمع على جوازه؛ قاله النووي (1). ولا يعكر على هذا؛ حديث المنع من ابتداء أهل الكتاب بالسلام، فإن ذلك الحديث في ما إذا كان المُسَّلم عليه ذمياً أو كانوا جماعة من أهل الكتاب، أما هنا فإن المجلس فيه مسلمون، ولذلك فإنه يجوز السلام على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين بنية السلام على المسلمين فقط. قيل للإمام أحمد رضي الله عنه: نعامل اليهود والنصارى ونأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون، أُسلم عليهم؟ قال: نعم، وتنوي السلام على المسلمين (2). وقال النووي: إذا مرَّ واحد على جماعة فيهم مسلمون، أو مسلم وكفار، فالسنة أن يسلم عليهم ويقصد المسلمين أو المسلم (3).
مسألة: هل يقال لجماعة فيهم مسلمون وكفار عند السلام: السلام على من اتبع الهدى؟
الجواب: لا يقال (السلام على من اتبع الهدى) لجماعة فيهم مسلمون وكفار، بل يسلم عليهم كما سبق وينوي بذلك المسلمين. وحول هذا المعنى قال ابن عثيمين: وإذا كانوا مسلمين ونصارى فإنه يسلم عليهم بالسلام المعتاد يقول السلام عليكم يقصد بذلك المسلمين (4).
(آداب الاستئذان:
(آداب الاستئذان:
(1).شرح صحيح مسلم (المجلد السادس/الجزء الثاني عشر/ ص125)
(2)
. الأدآب الشرعية (1/ 390)
(3)
.الأذكار للنووي ص367
(4)
.فتاوي العقيدة. ص237. ط. دار الجيل.
(للاستئذان آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب الاستئذان جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب الاستئذان جملةً:
(1)
السنة أن تقديم السلام قبل الاستئذان:
(2)
إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر و يقول السلام عليكم السلام:
(3)
يحرم نظر الرجل في بيت غيره إلا بإذنه:
(4)
الاستئذان ثلاثاً فإن أُذن وإلا رجع المستأذن:
(5)
لا يقل المستأذن (أنا) إذا قيل من هذا:
(6)
ينبغي للمستأذن أن لا يدق الباب بعنف:
(7)
إذا قال رب البيت للمستأذن ارجع، فليرجع:
(8)
لا يدخل المستأذن الدار إن لم يكن بها أحد:
(9)
أن من دعي أو أُرسل إليه رسول، فإنه لا يحتاج إلى الاستئذان:
(10)
الاستئذان عند إرادة القيام والانصراف من المجلس:
(11)
الاستئذان على الأم والأخت ومن في حكمهما:
(12)
استحباب تنبيه الزوجة عند الدخول:
(13)
الطوافون مما ملكت الأيمان والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم؛ يستأذنون في ثلاثة أوقات:
(ثانيا آداب الاستئذان تفصيلا:
(1)
السنة أن تقديم السلام قبل الاستئذان:
((حديث كِلْدَةَ بن الحنبل الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قد دخلت عليه ولم أُسَلِّم فقال: ارجع فقل السلام عليكم أأدخل.
((حديث عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَيَدْخُلُ عُمَرُ.
مَشْرُبَةٍ: بضم الراء وفتحها: غرفة له صلى الله عليه وسلم.
(2)
إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر و يقول السلام عليكم السلام:
وذلك حتى لا يقع بصره على موضع لا يحل له النظر إليه، أو على شيء يكره رب الدار لأحد رؤيته.
(حديث عبد الله بن بسر في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: السلام عليكم السلام عليكم.
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) قال: اطَّلع رجلٌ من جحرٍ في حجرِ النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مِدْرى يحكُ به رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.
(3)
يحرم نظر الرجل في بيت غيره إلا بإذنه:
وذلك لأن الاستئذان لم يشرع إلا من أجل البصر، ومن تعدى واطلع ببصره على ما لا يحل له بغير إذنٍ؛ ففقئت عينه، فإنه لا قصاص ولا دية.
((حديث سهل بن سعد في الصحيحين) قال: اطَّلع رجلٌ من جحرٍ في حجرِ النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مِدْرى يحكُ به رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ.
(4)
الاستئذان ثلاثاً فإن أُذن وإلا رجع المستأذن:
((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع.
مسألة: إذا استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له وظن أنه لم يسمعه، فما ذا يفعل المستأذن في هذه الحالة؟
الجواب: قالوا: يرجع عملاً بظاهر الحديث. وقيل: له أن يزيد حتى يتحقق أن صوته سُمع (1). قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأساً أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع (2).
(5)
لا يقل المستأذن (أنا) إذا قيل من هذا:
وسبب ذلك أن قول المستأذن (أنا) ليس فيه تعريف بالمستأذن، فالإبهام باقٍ على حاله، وقوله (أنا) لم تفد شيئاً، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1). انظر فتح الباري (11/ 29) حديث رقم 6245، ومسلم بشرح النووي (المجلد السابع- الجزء الرابع عشر / 108) حديث رقم 2153.
(2)
. التمهيد لا بن عبد البر (3/ 192)
((حديث جابر الثابت في الصحيحين) قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دَيْنٍ كان عليّ، فدققت الباب فقال من ذا؟ قلت: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أنا! كأنه كرهها.
(ولا بأس أن يقول المستأذن: أنا فلان، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وأبو موسى يقرأ، فقال:(من هذا)؟ فقلت: أنا بريدة جُعلتُ فداك فقال: (قد أعطي هذا مزماراً من مزامير آل داود).
(ولا بأس أن يقول المستأذن: أن أبو فلان وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ قَالَتْ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ.
(ولا بأس أن يقول أنا القاضي فلان أو الشيخ فلان إذا لم يحصل التعريف بالاسم لخفائه. قاله النووي (1).
{تنبيه} : (إذا كان اسم المستأذن لا يحصل به التعريف، لاشتراك شخص آخر معه في نفس الاسم، ولم يمكن تمييز الصوت، فإنه يستحب للمستأذن أن يزيل هذا الإبهام ليحصل التعريف، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1). وقال: وعليه يحمل حديث أم فلان، ومثله لأبي قتادة وأبي هريرة، والأحسن في هذ ا أن يقول أنا فلان المعروف بكذا والله أعلم. (شرح مسلم حديث رقم 2155)
((حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ فَقِيلَ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ نَعَمْ ائْذَنُوا لَهَا فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ.
(الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم أَيُّ الزَّيَانِبِ؟
(6)
ينبغي للمستأذن أن لا يدق الباب بعنف:
لما في ذلك من سوء الأدب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) أنه قال: (إن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير).
(قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وهذا محمول منهم على المبالغة في الأدب، وهو حسن لمن قرب محله من بابه، أما من بعد عن الباب بحيث لا يبلغه صوت القرع بالظفر فيستحب أن يقرع بما فوق ذلك بحسبه (1).
(أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية عن الميموني قال: إن أبا عبد الله دقَّت عليه امرأة دقاً فيه بعض العنف فخرج وهو يقول: ذا دقُّ الشُرطِ! (2).
(7)
إذا قال رب البيت للمستأذن ارجع، فليرجع:
(1). فتح الباري (11/ 38) حديث رقم 6250.
(2)
. الآداب الشرعية (1/ 73).
لقوله تعالى: (وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىَ لَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[النور: 28].
قال قتادة: قال بعض المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض أخوتي فيقول لي ارجع فأرجع وأنا مغتبط! (1).
(8)
لا يدخل المستأذن الدار إن لم يكن بها أحد:
لأن ذلك تعدي على حقوق الآخرين. قال ابن كثير: وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه فإن شاء أذن وإن شاء لم يأذن (2).
(9)
أن من دعي أو أُرسل إليه رسول، فإنه لا يحتاج إلى الاستئذان:
وذلك أن توجيه الدعوة وإرسال الرسول يتضمن الأذن، فاستغني بالدعوة والرسول عن الاستئذان.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ.
(واستثنى بعض أهل العلم ما إذا تأخر المدعو عن وقت الدعوة، أو كان في مكان يُحتاج معه في العادة إلى الأذن؛ فإنه يستأذن (3).
(10)
الاستئذان عند إرادة القيام والانصراف من المجلس:
وهذا أدبٌ نبوي رفيع، يوجه الزائر إلى سلوك الأدب في الانصراف، فكما أن دخولك كان بإذن فليكن انصرافك بإذن أيضاً. ولعل العلة في ذلك هو خشية وقوع البصر على شيء لا يحل النظر إليه، أو غير مرغوب في رؤيته.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذا زار أحدكم أخاه فجلس عنده، فلا يقومن حتى يستأذنه.
(وفي الحديث تنبيه على أدب رفيع وهو أن الزائر لا ينبغي أن يقوم إلا بعد أن يستأذن المزور، وقد أخل بهذا التوجيه النبوي الكريم كثير من الناس في بعض البلاد العربية، فتجدهم يخرجون من المجلس دون استئذان، وليس هذا فقط بل وبدون سلام أيضاً، وهذه مخالفة لأدب إسلامي آخر، قاله الألباني (4).
(1). تفسير ابن كثير (3/ 281) سورة النور آية 29.
(2)
. تفسير ابن كثير (3/ 281)
(3)
. انظر شرح سنن أبي داود للحديث رقم (5189،5190)، وشرح الأدب المفرد للحديث رقم (1074)
(4)
. السلسلة الصحيحة (1/ 306)
(11)
الاستئذان على الأم والأخت ومن في حكمهما:
وذلك لكي لا يقع البصر على عورة، أو هيئة تكره النساء أن يراهن أحد وهن على تلك الحالة.
((حديث علقمة الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: جاء رجل إلى عبد الله قال: أأستأذن على أمي؟ فقال: (ما على كل أحيانها تحب أن تراها.
((حديث مسلم بن نذير الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: سأل رجل حذيفة فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: (إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره.
((حديث عطاء الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: سألت ابن عباس فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم، فأعدت فقلت: أُختان في حجري، وأنا أُموِّنهما، وأنفق عليهما، أستأذن عليهما؟ قال:(نعم، أتحب أن تراهما عريانتين؟!).
(12)
استحباب تنبيه الزوجة عند الدخول:
كي لا يرى الزوج ما يبغضه في زوجه، أو تكون الزوجة على حال لا تود أن يراها زوجها وهي على تلك الحال.
(أورد الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن زينب امرأة ابن مسعود-رضي الله عنها قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه (1).
(أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية عن أحمد قال: إذا دخل على أهله يتنحنح. وقال منها: سألت أحمد عن الرجل يدخل منزله، ينبغي له أن يستأذن؟ قال: يحرك نعله إذا دخل (2).
(13)
الطوافون مما ملكت الأيمان والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم؛ يستأذنون في ثلاثة أوقات:
(الأولى: قبل صلاة الفجر.
(الثانية: وقت القيلولة.
(الثالثة: بعد صلاة العشاء.
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ)[النور: 27]
وقال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرّاتٍ)[النور: 58]
وقال تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)[النور: 59]
(1).ذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 280) وقال: إسناده صحيح.
(2)
. الآداب الشرعية (1/ 424،425)
وما عداها فلا جناح عليهما. قال ابن كثير: أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال لأنه قد أذن لهم في الهجوم ولأنهم طوافون عليكم أي في الخدمة وغير ذلك
…
[ثم ساق أثر ابن عباسٍ]: عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في ثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن فقال ابن عباس: إن الله ستير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله. ثم جاء الله بعد بالستور فبسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به (1).
(
…
آداب لقاء الإخوان:
(آداب لقاء الإخوان:
(للقاء الإخوان آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب لقاء الإخوان جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب لقاء الإخوان جملةً:
(1)
استحباب المصافحة:
(2)
استحباب عدم نزع اليد عند المصافحة حتى يكون الآخر هو البادئ بذلك:
(3)
القيام تحية للقادم:
(4)
هل يقبل الرجلُ الرجلَ عند لقائه؟:
(5)
تحريم الانحناء أو السجود عند التحية:
(ثانيا آداب لقاء الإخوان تفصيلا:
(1)
استحباب المصافحة:
تكون سبباً في غفران الذنوب، والمصافحةُ رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بها صحابته-رضوان الله عليهم-، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
((حديث البراء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا.
(1). تفسير ابن كثير (3/ 303) سورة النور آية (85). وقال بعد أثر ابن عباس: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. وفي رواية أبي داود رقم (5192) بلفظ: أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس كيف ترى في هذه الآية
…
الحديث. قال الألباني: حسن الإسناد- موقوف). وساقه ابن عبد البر أيضاً بسنده إلى ابن عباس نفس سياق أبي داود. (التمهيد 16/ 233)
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا لقي المسلم أخاه المسلم، فأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما من بين أصابعهما كما يتناثر ورق الشجر بالشتاء.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض قال لا قلنا أيعانق بعضنا بعضا قال لا ولكن تصافحوا.
((حديث أنس أبن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا.
((حديث قَتَادَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَعَمْ.
((حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: لَمَّا جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَاءَكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ جَاءَ بِالْمُصَافَحَةِ.
((حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد موقوفا) قال: (من تمام التحية أن تصافح أخاك).
(والمصافحة سنة عند التلاقي، وهو توكيد للسلام. جاء في الأدب المفرد: واعلم أن التصافح عند الملاقاة للتأنيس وتوكيد التسليم القولي، فإن التسليم إيذان بالأمن قولاً والتصافح نحو بيعة وتلقين على ذلك وتوكيد لما تلفظاه بالتسليم ليكون كل من المتلاقيين على أمن من صاحبه (1).
وبعد ذكر الآثار الدالة على جواز المصافحة، والمرغبة فيها، فلا نظنُ بمسلمٍ يبخل على نفسه بخيرٍ، أو يرغب عن سنة!.
مسألة: اعتاد بعض الناس أن يسلموا على من بجانبهم أدبار الصلوات المكتوبات، فهل ذلك الفعل مشروع؟
الجواب: السلام أدبار الصلوات المكتوبات، ليس بمشروع، ولم يعهد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين، ولا عن صحابته الكرام، والعمل بها إحداث في الدين لم يأذن به الله.
(1). نقله شارح الأدب المفرد من فيض الباري (4/ 412). انظر شرح الأدب (2/ 432) ط. المكتبة السلفية.
قال فضل الله الجيلاني: قال ابن عابدين: إن المواظبة عليها بعد الصلوات الخمس خاصة قد تؤدي بالجهلة إلى اعتقاد سنيتها في خصوص هذا المواضع، وأن لها خصوصية زائدة على غيرها، مع أن ظاهر كلامه أنه لم يفعلها أحد من السلف في هذه المواضع. وفي الملتقط: تكره المصافحة بعد أداء الصلاة بكل حال، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك، ولأنها من سنن الروافض. وعن الشافعية أنها بدعة: لا أصل لها في الشرع، وأنه ينهى فاعلها أولاً ويعزر ثانياً. وفي المدخل: أنها من البدع، وموضع المصافحة في الشرع هو إنما عند لقاء المسلم لأخيه، لا في أدبار الصلوات، فحيث يضعها الشرع يضعها. فينهى عن ذلك ويزجر فاعله لما أتى به خلاف السنة (1).
{فائدة} : (عند البخاري في الأدب المفرد عن سلمة بن وردان قال: (رأيت أنس ابن مالك-رضي الله عنه يسلم على الناس، فسألني من أنت؟ فقلت: مولى لبني ليث، فمسح على رأسي ثلاثاً وقال: (بارك الله فيه)(2). فعلى هذا يستحب السلام على الصبيان لما فيه من الرحمة بهم، والحنو عليهم، وتعويدهم على الخير. وفي مسح أنس رضي الله عنه على رأس الغلام دليل على شفقته ورحمته بالصبيان.
(تحريم مصافحة المرأة الأجنبية:
((حديث معقل ابن يسار في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن يُطعنَ في رأس أحدكم بمخيطٍ من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له.
((حديث أميمة بنت رقيقة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لا أصافح النساء.
(قال ابن عبد البر: في قوله: (أني لا أصافح النساء)، دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له، ولا يمسها بيده، ولا يصافحها (3).
(1). شرح الأدب المفرد (2/ 430 - 431)
(2)
. حديث رقم (966). وبوب عليه البخاري باب: مصافحة الصبيان. وقال الألباني: حسن الإسناد.
(3)
. التمهيد (12/ 243)
{فائدة} : (يعتقد بعض الناس أنه يجوز مصافحة المرأة الأجنبية من وراء حائل ونحوه، وهذا اعتقاد خاطئ، فلا يجوز مصافحة النساء الأجنبيات مطلقاً. نعم، هناك آثار وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبايع النساء من فوق ثوبه، ولكنها مراسيل لا تقوى على دفع الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تمنع من مصافحة الاجنبيات. قال الألباني: وقد روي في ذلك بعض الروايات الأخرى ولكنها مراسيل كلها ذكرها الحافظ في الفتح (8/ 488)، فلا يحتج بشيء منها لا سيما وقد خالفت ما هو أصح منها
…
(1).
(2)
استحباب عدم نزع اليد عند المصافحة حتى يكون الآخر هو البادئ بذلك:
لما رواه أنس بن مالك-رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجلُ الذي ينزع
…
الحديث) (2). وفي الحديث استحباب المصافحة وإطالة المعاقدة بحيث لا يكون فيه مشقة.
مسألة: لو تصافح اثنان وأطالا المعاقدة فمن ينزع أولاً؟
(قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية:
قال الشيخ تقي الدين: الضابط أن من غلب على ظنه أن الآخر سينزع أمسك، وإلا فلو استحب الإمساك لكل منهما أفضى إلى دوام المعاقدة، لكن تقييد عبد القادر حسن (3) أن النازع هو المبتدئ (4).
(3)
القيام تحية للقادم:
القيام على ثلاثة أنحاء: الأول: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة، والثاني: قيام إليه عند قدومه ولا بأس به، والثالث: قيام عند رؤيته وهو المتنازع فيه، قاله ابن القيم (5).
فدليل الأول: الحديث الآتي:
(1). السلسلة الصحيحة (2/ 53)
(2)
. رواه الترمذي (2490)، وابن ماجه (3716). وصحح الألباني الحديث بمجموع طرقه. قال: والحديث صحيح بهذه الطرق، ولاسيما وله شواهد. ثم ساقها. (السلسلة الصحيحة (2485)(5/ 635).
(3)
. يشير ابن تيمية إلى قول عبد القادر الجيلاني (ويكره
…
نزع يده من يد من صافحه قبل نزعه هو) ذكره ابن مفلح في آدابه (2/ 251)
(4)
. الآداب لابن مفلح (2/ 251)
(5)
. حاشية السنن (
…
) بتصرف.
((حديث جَابِرٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا.
(وهذا القيام منهي عنه بلا ريب والحديث صريح في منع قيام الناس على أكابرها وعظمائها، وهو فعل الجبابرة.
إلا إذا دعت الحاجة لذلك، كأن يخاف على الرجل أن يعتدى عليه فلا بأس أن يقوم عليه القائم، وكذلك إذا قام عليه الرجل إكراماً له في حال يقصد فيه إكرامه وإهانة العدو، مثل ما حصل من المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في صلح الحديبية حينما كانت قريش تراسل النبي صلى الله عليه وسلم، للمفاوضة فيما بينهم، كان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقفاً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيده السيف تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإهانة لرسل الكفار الذين يأتون للمفاوضة، قاله ابن عثيمين (1).
ودليل الثاني: ما رواه مالك في موطأه في قصة إسلام عكرمة ابن أبي جهل -وفيه-: (
…
فأسلم وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه
…
الحديث) (2). وسبق ذكر قصة توبة كعب وفيه قيام طلحة له مهنئاً. قال: (دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني)(3)
ودليل الثالث-المتنازع فيه وهو القيام عند الرؤية -:
((حديث معاوية الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سرَّه أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار.
(1).شرح رياض الصالحين (1/ 260). دار الوطن. ط الأولى 1415هـ
(2)
. التمهيد (12/ 52)
(3)
. علقه البخاري في كتاب الاستئذان. باب المصافحة، وهو موصولٌ عنده من قصة كعب في المغازي (4418)
وهذا الحديث انقسم أهل العلم في فهمه إلى ثلاثة فرق، الأولى: ذهبت إلى أن هذا الحديث دليل على كراهة القيام على العظماء كما يُفعل عند عظماء فارس والروم، والحقوا هذا الحديث بحديث مسلم في كراهة القيام على رأس الجالس كما تفعله الأعاجم بعظمائها.
والفرقة الثانية: استدلت به على كراهة القيام للقادم، وذهبت إلى أن النص صريحٌ في ذلك، فمعاوية رضي الله عنه أورد هذا الحديث عندما قام ابن عامر لرؤيته، فإيراده لهذا الحديث عند هذا الحدث قرينةٌ قوية تبين المراد من الحديث. ثم إن عدم إنكار ابن الزبير على معاوية-رضي الله عنهما دليل على استقرار ذلك عنده أيضاً.
وردت هذه الفرقة على من حمل حديث معاوية، بأنه قيام على رأس الجالس، بأوجه منها:
[الوجه الأول:] إن العرب لم يكونوا يعرفون هذا-أي القيام على رأس الجالس-، وإنما هو من فعل فارس والروم.
[الوجه الثاني:] ولأن هذا لا يقال له: قيام للرجل، إنما هو قيام عليه. ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه: المشبه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة عند العرب، قاله ابن القيم (1).
والفرقة الثالثة: فصَّلت في ذلك فقالت: إن كان القيام على وجه التعظيم فمكروه، وإن كان على وجه الإكرام فلا يكره، قاله الغزالي، وحسن قوله ابن حجر (2).
وجماع هذا الأمر أوجزه ابن تيمية رحمه الله فقال: لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين: أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك (3).ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة، وقال للإنصار لما قدم سعد بن معاذ، (قوموا إلى سيدكم)(4). وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه.
(1). شرح ابن قيم على سنن أبي داود (عون المعبود 14/ 95) ط. دار الكتب العلمية.
(2)
. فتح الباري (11/ 56)
(3)
. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (946)، مع اختلاف يسير في الألفاظ. وقال الألباني: صحيح.
(4)
. رواه البخاري (6262)
والذي ينبغي للناس: أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى، وهدي خير القرون إلى ما هو دونه. وينبغي للمطاع أن لا يقر ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد. وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن.
وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لا اعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة: فليس في ترك ذلك إيذاء له (1).
(وقال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام (2).
(4)
هل يقبل الرجلُ الرجلَ عند لقائه؟:
لم تكن عادة السلف من الصحب ومن بعدهم، أن يقبلوا بعضهم بعضاً عند اللقاء كما هو الحال اليوم، والآثار التي فيها ذكر التقبيل عند اللقاء لا تقوى على رد الحديث الصريح الذي ينهى عن التقبيل عند اللقاء، ورد الألباني على هذه الأحاديث من وجهين مفادهما: أنها أحاديث معلولة لا تقوم بها
((حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ لَا قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ لَا قَالَ أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ قَالَ نَعَمْ.
(والحديث صريح في النهي عن الإنحناء والتقبيل عند اللقاء المعتاد. ولكن لا يمنع من المعانقة عند لقاء المسافر والغائب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: لما قدم جعفر من الحبشة عانقه النبي صلى الله عليه وسلم.
{فائدة} : (قبلة الوالد لولده من تمام العطف والمحبة، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبل أولاده، وقبل الحسن والحسين، وقبل أبو بكر ابنته عائشة، وهذه أخبار مشهورة، استغنينا بشهرتها عن تخريجها وردها إلى مصادرها.
{فائدة2} : (تقبيل اليد، أجازها بعض العلماء على طريق التدين.
(1). مجموع الفتاوي (1/ 374 - 375)
(2)
. فتح الباري (11/ 56)
(أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية عن المروذي قال: سألتُ أبا عبد الله عن قبلة اليد فقال: إن كان على طريق التدين، فلا بأس؛ قد قَبَّلَ أبو عبيدة يدَ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وإن كان على طريق الدنيا فلا، إلا رجلاً يخاف سيفه وسوطه
…
وقال عبد الله بن أحمد: رأيتُ كثيراً من العلماء والفقهاء والمحدثين وبني هاشم وقريش والأنصار يقبَّلونه -يعني أباه-: بعضهم يده وبعضهم رأسه (1).
وكره آخرون تقبيل اليد وسموها السجدة الصغرى. قال سليمان بن حرب: هي السجدة الصغرى، وأما ابتداءُ الإنسان بمدِّ يده للناس ليقبلوها وقصده لذلك، فهذا ينهى عنه بلا نزاع كائناً من كان، بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدئ بذلك (2).
(5)
تحريم الانحناء أو السجود عند التحية:
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض قال: لا، قلنا أيعانق بعضنا بعضا قال لا ولكن تصافحوا.
(والحديث صريح في النهي، ولا صارف له، وهو يقتضي التحريم. فلا يجوز الانحناء لمخلوق أبداً لأن ذلك لا يكون إلا للخالق جل وعلا، والسجود من باب أولى.
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
وأما الانحناء عند التحية: فينهى عنه، كما في الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم سألوه عن الرجل يلقى أخاه ينحني له؟ قال: لا) ولأن الركوع والسجود لا يجوز فعله إلا لله عز وجل (3).
(1). الآداب لابن مفلح (2/ 247)
(2)
. الآداب (2/ 248)
(3)
.مجموع الفتاوى (1/ 377)
وأما السجود فلا يرتاب عاقل في صرفه لله-سبحانه وتعالى دون غيره، وفيه من العبودية ما ليس في الانحناء، فإنه ليس من هيئة يجتمع فيها معاني الذل والخضوع والاستكانة والعبودية كما في السجود؛ ولذا جاء في حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمنٌ أن يستجاب لكم)(1). وقوله: (قمنٌ) أي حقيق وجدير أن يستجاب هذا الدعاء. ولما كان السجود فيه من التعظيم ما فيه كان فعله لغيره حراماً. والدليل على ذلك أنه لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال:(ما هذا يا معاذ؟) قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددتُ في نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فلا تفعلوا فإني لوكنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسُ محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه)(2).
فائدة في السجود: يضع المسلم وجهه وهو أكرم الأعضاء وأشرفها عنده على الأرض التي هي مواطئ الأقدام، إجلالاً لله وتعظيماً لله وعبودية لله، ويجد المؤمن في قلبه من اللذة عند التضرع إلى الله حال السجود ما لا يجده في موضع آخر. فسبحان من سجد له المصلون في الأرض ونزهوه عن السفول بقولهم:(سبحان ربي الأعلى).
(
…
آداب زيارة الإخوان:
(آداب زيارة الإخوان:
(لزيارة الإخوان آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب زيارة الإخوان جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب زيارة الإخوان جملةً:
(1)
أن تكون الزيارة في غير الأوقات الثلاثة التي في آية الاستئذان:
(2)
لا يؤم الزائر صاحب البيت ولا يجلس على فراشه إلا بإذنه:
(3)
إغباب الزيارة:
(ثانيا آداب زيارة الإخوان تفصيلا:
(1)
أن تكون الزيارة في غير الأوقات الثلاثة التي في آية الاستئذان:
(1). رواه مسلم (479)، وأحمد (1903)، والنسائي (1045)، وأبو داود (876)، وابن ماجه (3899)،والدارمي (1325)
(2)
. رواه أحمد (18913)، وابن ماجه (1853) واللفظ له، وقال الألباني حسن صحيح برقم (1515)
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرّاتٍ مّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَآءِ)[النور: 58]
أرشد الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يمنعوا خدمهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، من الدخول عليهم في أوقات العورات الثلاثة، وهي: من قبل صلاة الفجر، ووقت القيلولة، ومن بعد صلاة العشاء. والعلة في ذلك أن هذه الأوقات مظنة النوم، والإخلاد إلى الراحة، والإفضاء إلى الأهل، فلذلك حصل المنع من الدخول في هذه الأوقات إلا بإذن. والزيارة في أحد هذه الأوقات الثلاثة لا شك أنها تعكر على أهل البيت صفوهم، وتقلق راحتهم، وتسبب لهم الحرج لأن الناس في الغالب لا يكونون مستعدين لاستقبال أحد في هذه الأوقات. ويخرج من ذلك ما لو كان الإنسان مدعواً لوليمة طعام الغداء أو العشاء فهذا ليس من هذا. ولعلنا نستأنس في هذا بحديث وأثر.
((حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قَالَتْ: لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ.
الشاهد: هو قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في وقتٍ ليس بوقت زيارة، وهو وقت القيلولة، وتعجب أبو بكر من قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الساعة دلالة على أن هذا الوقت ليس بوقت زيارة عندهم.
(وأما الأثر ما رواه ابن عباس عن نفسه وفيه: (قال: فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائلٌ فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب
…
) (1).
الشاهد: أن ابن عباس مع حرصه على طلب العلم، واغتنام الأوقات، إلا أنه آثر أن ينتظر حتى يخرج إليه من يريد، لأن مجيئه كان في وقت القيلولة وهو وقت راحة القوم.
(1). الدارمي (570)
(أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن ابن مسعود قال: «كنا إذا فقدنا الأخ أتيناه، فإن كان مريضا كان عيادة، وإن كان مشغولا كان عونا، وإن كان غير ذلك كان زيارة»
(2)
لا يؤم الزائر صاحب البيت ولا يجلس على فراشه إلا بإذنه:
وذلك لأن الرجل في بيته أحق من غيره، فكانت إمامة الصلاة، والجلوس على فراشه المعد له، لا يكون إلا بإذنه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي مسعود الأنصاري الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ (1) إِلَّا بِإِذْنِهِ.
[وفي رواية: إلا أن يأذن لك أو بإذنه]) (2).
(قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
معناه
…
أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ وأورع وأفضل منه، وصاحب المكان أحق فإن شاء تقدم وإن شاء قدم من يريده، وإن كان الذي يقدمه مفضولاً بالنسبة إلى باقي الحاضرين لأنه سلطانه فيتصرف فيه كيف شاء (3).
(3)
إغباب الزيارة:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: زُر غِباً تزدد حُباً)
أما الصديق الملاطف فيستثنى من ذلك، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1).التكرمة: الفراش ونحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويخص به. (النووي/ شرح مسلم/المجلد الثالث 5/ 143 / ح673)
(2)
. رواه مسلم (673) واللفظ له، أحمد ()، أبو داود (582)، الترمذي (235)، النسائي (780)، ابن ماجه (980). ومابين المعقوفتين روايات عند مسلم.
(3)
.النووي بشرح مسلم (المجلد الثالث / 5/ 142)(ح673)
((حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قَالَتْ: لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ.
قال ابن بطال: الصديق الملاطف لا يزيده كثرة الزيارات إلا محبة، بخلاف غيره (1).
(أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية عن ابن عبد البر قال:
أزور خليلي ما بدالي هَشُّهُ
…
وقابلني منه البشاشةُ والبشرُ
فإن لم يكن هشٌ وبشٌ تركتُهُ
…
ولو كان في اللقيا الولايةُ والبشرُ (2)
(
…
آداب الضيافة:
(آداب الضيافة:
(لآداب الضيافة آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب الضيافة جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب الضيافة جملةً:
(1)
إجابة الدعوة:
(2)
إكرام الضيف واجب:
(3)
استحباب الترحيب بالضيوف:
(4)
ماذا يقول الضيف إذا تبعه من لم يُدعى:
(5)
لا ينبغي التكلف للضيف كثيراً بحيث يخرج عن حده المعقول:
(6)
الدخول بإذن والانصراف بعد الفراغ من الطعام:
(7)
تقديم الأكبر فالأكبر، وتقديم الأيمن فالأيمن:
(8)
دعاء الضيف لمن استضافه بعد الفراغ من الطعام:
(9)
استحباب الخروج مع الضيف إلى باب الدار:
(10)
إكرام كريم القوم:
(ثانيا آداب الضيافة تفصيلا:
(1)
إجابة الدعوة:
قد جاءت أحاديث كثيرة في إيجاب إجابة الدعوة، منها ما يلي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.
(1). الفتح (10/ 515)(ح6079)
(2)
. الآداب الشرعية (3/ 524)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حق المسلم على المسلم ست قيل ما هن يا رسول الله قال إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه.
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل و إن كان صائما فليدع بالبركة.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها.
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضربوا المسلمين.
(وجمهور أهل العلم على أن إجابة الدعوة مستحبة إلا دعوة العرس فإنها واجبة عندهم بدلالة الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
(ولكن اشترط بعض أهل العلم شروطاً لحضور هذه مثل الدعوات، ساقها الشيخ محمد ابن صالح العثيمين فقال:
أ- أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن.
ب- ألا يكون هناك منكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر فإن أمكنه إزالته وجب عليه الحضور لسببين: إجابة الدعوة، وتغيير المنكر. وإن كان لا يمكنه إزالته حرم عليه الحضور.
ت- أن يكون الداعي مسلماً، وإلا لم تجب الإجابة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (حق المسلم على المسلم ست
…
) وذكر منها (إذا دعاك فأجبه).
ث- أن لا يكون كسبه حراماً؛ لأن إجابته تستلزم أن تأكل طعاماً حراماً وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم. وقال آخرون: ما كان محرماً لكسبه فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرماً لعينه كالخمر والمغصوب ونحوهما وهذا القول وجيه [ثم ساق الأدلة].
ج- أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب أو ما هو أوجب منها، فإن تضمن ذلك حرمت الإجابة.
ح- أن لا تتضمن ضرراً على المجيب، مثل: أن يحتاج إلى سفر أو مفارقة أهله المحتاجين إلى وجوده بينهم (1).
(1). القول المفيد على كتاب التوحيد (3/ 111 - 113) بتصرف يسير جداً.
(ونزيد أيضاً:
خ- أن لا يعين الداعي المدعو ولا يخصه بالدعوة، فإن لم يعينه كأن يتكلم الداعي في مجلس عام، فلا تجب حينئذٍ هذه الدعوة، لأنها دعوة الجَفَلَى (1).
مسألة: هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة؟
الجواب: البطاقات [التي] ترسل إلى الناس ولا يدرى لمن ذهبت إليه فيمن أن نقول إنها تُشبه دعوة الجَفَلَى فلا تجب الإجابة، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه فإنه لها حكم الدعوة بالمشافهة. قاله ابن عثيمين (2).
{فائدة} : (الصيام لا يمنع من إجابة الدعوة. فمن دُعي وهو صائم فليجب الدعوة وليدعو لهم بالمغفرة والبركة، سواءٌ كان صومه فرضاً أم نفلاً، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دُعيَ أحدكم إلى طعامٍ وهو صائم، فليقل إني صائم)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ.
((حديث أم هانئ الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصائمُ المتطوع أمينُ نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر)
((حديث أم هانئ الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصائمُ المتطوع أميرُ نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر)
((حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) قالت: يا رسول الله أهدى لنا حيسٌ فقال: أرينه فلقد أصبحتُ صائماً فأكل)
(قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
وأما الصائم فلا خلاف أنه لا يجب عليه الأكل، لكن إن كان صومه فرضاً لم يجز له الأكل لأن الفرض لا يجوز الخروج منه، وإن كان نفلاً جاز له الفطر وتركه، فإن كان يشق على صاحب الطعام صومه فالأفضل الفطر وإلا فإتمام الصوم والله أعلم (3).
(2)
إكرام الضيف واجب:
(1). في لسان العرب: ودعاهم الجفلى والأجفلى، وهو أن تدعو الناس إلى طعامك عامة، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
…
لا ترى الآدب فينا ينتقر
قال الأخفش: دعي فلان في النَّقرى لا في الجفلى والأجفلى أي دُعي في الخاصة لا في العامة. (11/ 114) مادة (جفل).
(2)
.القول المفيد على كتاب التوحيد (3/ 113)
(3)
.شرح مسلم المجلد الخامس (9/ 197 - 198)
إكرام الضيف واجب، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة
قال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَىَ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ)[الذاريات: 24:27]
((حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ.
((حديث أبي شريح الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته (1) يومٌ وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوِي عنده حتى يُحْرِجه.
(ذكر النووي الإجماع على الضيافة وأنها من متأكدات الإسلام (2). ثم بين خلاف العلماء في وجوبها وسنيتها، فمالك والشافعي وأبو حنيفة يرون أنها سنة وليست بواجبة وحملوا الأحاديث على أشباهها من الأحاديث الأخرى كحديث غسل الجمعة واجب على كل محتلم وغيره. وقال الليث وأحمد بوجوب الضيافة يوماً وليلة، وقيد أحمد ذلك على أهل القرى والبادية دون المدن.
(1). قال ابن الجوزي: الجائزة: العطية. وجوائز السلطان عطاياه. والمراد بالجائزة هنا ما يجوز به مسافة يوم وليلة. (كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 86) -الطبعة الأولى -دار الوطن، لعام 1418هـ)
(2)
. انظر شرح مسلم المجلد السادس (12/ 26)
{فائدة} : (في الحديث النهي عن بقاء الضيف أكثر من ثلاثة أيام، حتى لا يوقع من استضافه في الإثم إما بالظن به ما لا يجوز، أو اغتيابه، أو نحو ذلك. قال الخطابي: لا يحل للضيف أن يقيم عنده بعد ثلاثة أيام من غير استدعاء حتى يضيق صدره فيبطل أجره (1). وقال ابن الجوزي عند قوله (حتى يؤثمه): وذلك أنه إذا لم يكن له ما يقريه به تسخط بإقامته، وربما ذكره بقبيح، وربما أثم في كسب ما ينفقه عليه (2). ولكن يستثنى من ذلك إذا علم الضيف أن من ضيفه لا يكره ذلك، أو أنه طلب منه المكوث أكثر من ذلك. أما إذا شك الضيف في حال المضيف فالأولى له أن لا يبقى بعد الثلاث.
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن نافع بن أبي نعيم قال: قال رجل ممن قد أدرك الجاهلية قدمت المدينة فإذا مناد ينادي من أراد الشحم واللحم فليأت دار دليم وهو جد سعد ابن عبادة بن دليم سيد الخزرج ثم ضرب الزمان من ضربه فقدمت المدينه فإذا مناد ينادي من أراد الشحم واللحم فليأت دار عبادة ثم ضرب الزمان من ضربه فقدمتها فإذا مناد ينادي من أراد الشحم واللحم فليأت دار سعد.
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الحسن بن عيسى بن ماسرجس قال صحبت ابن المبارك من خراسان إلى بغداد فما رأيته أكل وحده.
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان من دعاء قيس ابن سعد بن عبادة اللهم ارزقني مالا وفعالا فإنه لا يصلح الفعال إلا المال.
(3)
استحباب الترحيب بالضيوف:
قال تعالى: (وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىَ قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)[سورة: هود - الآية: 69]
الشاهد: قوله تعالى [فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى: [فما لبث أن جاء] التقدير: فما لبث عن أن جاء، أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل
[بِعِجْلٍ حَنِيذٍ] أي مشوي، وقال رحمه الله تعالى: في هذه الآية من أدب الضيف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف الضيف.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1). غذاء الألباب للسفاريني (2/ 159)
(2)
.كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 88)
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ الْوَفْدُ قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ مَرْحَبًا (1) بِالْوَفْدِ أَوْ الْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارَ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَسَأَلُوا عَنْ الْأَشْرِبَةِ فَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ وَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَظُنُّ فِيهِ صِيَامُ رَمَضَانَ وَتُؤْتُوا مِنْ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ قَالَ احْفَظُوهُنَّ وَأَبْلِغُوهُنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ.
(والذي لا شك فيه أن استقبال الرجل لضيوفه بعبارات الترحيب وما شابهها، تدخل السرور والأنس عليهم، والواقع يصدقه.
(4)
ماذا يقول الضيف إذا تبعه من لم يُدعى:
مَنْ دُعِيَ إلى طعام فَتَبِعَهُ رَجُلٌ لَا يَنْهَاهُ وَلَا يَأْذَنُ لَهُ وَيَلْزَمُهُ إعْلَامُ صَاحِبِ الطَّعَامِ وَيُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حُضُورِهِ مَفْسَدَةٌ.
(1). في اللسان (1/ 414) مادة (رحب): وقولهم في تحية الوارد: أهلا ومرحبا أي صادفت أهلا ومرحبا. وقالوا: مرحبك الله ومسهلك، وقولهم: مرحباً وأهلاً أي أتيت سعةً، وأتيت أهلاً، فاستأنس ولا تستوحش. وقال الليث: معنى قول العرب مرحباً: انزل في الرحب والسعة.
((حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان رجل من الأنصار يقال له أبو شعيب وكان له غلام لَحَّام فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف في وجهه الجوع فقال لغلامه ويحك اصنع لنا طعاما لخمسة نفر فإني أريد أن أدعو النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة قال فصنع ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه خامس خمسة واتبعهم رجل فلما بلغ الباب قال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا اتبعنا فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع قال لا بل آذن له يا رسول الله.
(وفي الحديث فوائد نسوق منها ما نحن بصدده. ففيه أن من دعا قوماً متصفين بصفة ثم طرأ عليهم من لم يكن معهم حينئذٍ أنه لا يدخل في عموم الدعوة
…
وفيه أن من تطفل في الدعوة كان لصاحب الدعوة الاختيار في حرمانه فإن دخل بغير إذنه كان له إخراجه، وإن من قصد التطفيل لم يمنع ابتداءً (1) لأن الرجل تبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له. قاله ابن حجر (2).
(5)
لا ينبغي التكلف للضيف كثيراً بحيث يخرج عن حده المعقول:
وذلك لأن التكلف عموماً منهيٌ عنه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ (3).
((حديث سلمان الثابت في صحيح الجامع) قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التكلف للضيف.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(نهى عن التكلف للضيف) أي أن يتكلف المضيف له ضيافة فوق ما يليق بالحال لما فيه من الإضرار بل لا يمسك موجوداً ولا يتكلف مفقوداً ولا يزيد على عادته.
(وليس هناك حدٌ معتبر لقولنا هذا فيه تكلف أو ليس فيه تكلف، وإنما المرجع في ذلك إلى العرف، فما تعارف الناس على أمرٍ وعدوه تكلفاً، فهو تكلف، وما لا فلا. وصنع الطعام للضيف يكون بالقدر الذي يفي بالمقصود بلا إسراف ولا تقتير، وخير الأمور أوسطها، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(1). وخالف في ذلك النووي فقال: (أن المدعو إذا تبعه رجل بغير استدعاء ينبغي له أن لا يأذن له وينهاه
…
) (شرح مسلم ح2036) وليس في الحديث ما يدل على ذلك، والصحيح ما قاله ابن حجر.
(2)
.فتح الباري (9/ 471 - 472)(5434)
(3)
. البخاري (7293) والحديث له حكم الرفع لقول الصحابي نُهينا. كما هو متقرر في علم الأصول.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة.
((حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طعام الواحد يكفي الإثنين وطعام الإثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية.
((حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي.
((حديث وَحْشِيٍّ ابن حرب الثابت في صحيح ابن ماجة) أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ.
(وأما ما يعهد اليوم من إسراف بعض الناس في ولائمهم، والتكلف بها، وإخراجها عن حدها المشروع، فحدث ولا حرج! بل إن بعضهم أصبح في سباق مع غيره أيهما يغلب صاحبه، كثرة تنويع الأصناف، وتكثيرها، والمبالغة فيها، حتى يُقال فلان ابن فلان فعل كذا وكذا، ولا شك أن هذا فعلٌ مذموم، ولا يجوز أكل مثل هذا الطعام، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ.
(قال الخطابي: المتباريان هما المتعارضان بفعليهما يقال تبارى الرجلان إذا فعل كل واحد منهما مثل فعل صاحبه ليرى أيهما يغلب صاحبه، وإنما كُره ذلك لما فيه من الرياء والمباهاة ولأنه داخل في جملة ما نهى الله عنه من أكل المال بالباطل (1).
(6)
الدخول بإذن والانصراف بعد الفراغ من الطعام:
وهذا أدبٌ بينه القرآن قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ)[الأحزاب: 53]
(1).عون المعبود. المجلد الخامس (10/ 161) كتاب الأطعمة. باب في طعام المتباريين.
حيث نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يدخلوا بيوت النبي إلا بإذن، والمؤمنون كذلك لا يدخلوا بيوت بعضهم إلا بإذن فالنهي يدخل فيه جميع المؤمنين. قال الشوكاني: فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام (1). وكانت عادتهم في الجاهلية أنهم يأتون إلى الوليمة مبكرين جداً ينتظرون نضج الطعام، فنهاهم الله عن ذلك بقوله:{غير ناظرين إناه} أي: غير منتظرين نضجه وإدراكه (2).
ثم بين الله-سبحانه وتعالى أن من أصاب حاجته من الطعام فلينصرف ولا يجلس مستأنس لحديث، لأن ذلك فيه إيذاءٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك بقية الناس فالغالب أنهم يتأذون من بقاء المدعوين بعد الفراغ من الطعام، فلا ينبغي المكث لهم، إلا يكون رب البيت يرغب في بقائهم، أو أن تكون عادة القوم كذلك، ولم يكن هناك مشقة ولا أذى فلا بأس بذلك؛ لأن العلة التي من أجلها جاء النهي انتفت.
(7)
تقديم الأكبر فالأكبر، وتقديم الأيمن فالأيمن:
ينبغي على من أضاف قوماً أن يقدم أكبرهم ويخصه بمزيد عناية، وذلك لحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك في أيما حديث، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ فَجَذَبَنِي رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْآخَرِ فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِي كَبِّرْ فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ.
((حديث أنس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يرحم صغيرنا و يوقر كبيرنا.
((حديث أبي موسى الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من إجلالِ الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم و حاملَ القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرامَ ذي السلطان المقسط.
((حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يجل كبيرنا و يرحم صغيرنا! ويعرف لعالمنا حقه.
(1). فتح القدير (4/ 341)
(2)
.فتح القدير (4/ 340) بتصرف يسير.
((حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَمَرَنِي جِبْرِيْلُ أَنْ أُقَدِّمَ الأَكَابِرَ.
((حديث سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي.
((حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أنها حلبت لرسول الله شاة داجن، وهي في دار أنس بن مالك، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطى رسول الله القدح فشرب منه، حتى إذا نزع القدح من فيه، وعلى يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي، فقال عمر، وخاف أن يعطيه الأعرابي: أعط أبا بكر يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه، ثم قال:(الأيمن فالأيمن).
((حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أتي رسول الله بقدح فشرب، وعن يمينه غلام هو أحدث القوم، والأشياخ عن يساره، قال:(يا غلام، أتأذن لي أن أعطي الأشياخ). فقال: ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحدا يا رسول الله، فأعطاه إياه.
{تنبيه} : (حديث سهل بن سعد السابق فهو وإن كان يُفيد تقديم الأيمن فالأيمن صغيراً كان أو كبيراً، إلا أنه لا يعارض أحاديث تقديم الكبير على من دونه، ويمكن الجمع بينهما فنقول:
أن تقديم الأيمن يُنزل على من شرب شيئاً وبقي منه فضله، فيعطي من على يمينه إلا أن يأذن. وحول هذا المعنى يُشير ابن عبد البر فقال: وفيه (1) من أدب المواكلة والمجالسة، أن الرجل إذا أكل أو شرب، ناول فضله الذي على يمينه كائناً من كان، وإن كان مفضولاً، وكان على يساره فاضلاً (2) وتقديم الأكبر يُنزل على تقديم الشراب أو الطعام ابتداءً، ثم يليه من كان على يمينه. ولعل هذا القول يتقوى بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما فقال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال ابدءوا بالكبير)(3) وفي هذا جمعٌ بين الأدلة والله أعلم.
(8)
دعاء الضيف لمن استضافه بعد الفراغ من الطعام:
(1). أي حديث سهل بن سعد.
(2)
. التمهيد (6/ 155)
(3)
. أخرجه أبو يعلى () قال الحافظ وسنده قوي. فتح الباري (10/ 89)
من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا أكل طعاماً عند قومٍ دعا لهم، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
((حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قال فقربنا إليه طعاما ووطبة فأكل منها ثم أتي بتمر فكان يأكله ويلقي النوى بين إصبعيه ويجمع السبابة والوسطى قال شعبة هو ظني وهو فيه إن شاء الله إلقاء النوى بين الإصبعين ثم أتي بشراب فشربه ثم ناوله الذي عن يمينه قال فقال أبي وأخذ بلجام دابته ادع الله لنا فقال اللهم بارك لهم في ما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة.
((حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهمَّ أطعِم من أطعمني، وأسقِ من سقاني.
(9)
استحباب الخروج مع الضيف إلى باب الدار:
وهذا من تمام الضيافة، وحسن الرعاية للضيف، وتأنيسه حتى يغادر الدار. و لا يثبت في ذلك خبر مرفوع صحيح يُعول عليه، إنما هي آثار عن سلف هذه الأمة وأئمتهم، نقتصر على واحدٍ منها:
(أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية أن أبا عبيد القاسم بن سلام زار أحمد بن حنبل .. قال أبو عبيد (فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، فقال: قال الشعبي: من تماما زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه
…
) (1).
(10)
إكرام كريم القوم:
((حديث ابن عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إذا أتاكم كريم قوم) أي رئيسهم المطاع فيهم المعهود منهم بإكثار الإعظام وإكثار الاحترام
(1). الآداب الشرعية (3/ 227)
(فأكرموه) برفع مجلسه واجزال عطيته ونحو ذلك مما يليق به لأن الله تعالى عوده منه ذلك ابتلاء منه له فمن استعمل معه غيره فقد استهان به وجفاه وأفسد عليه دينه فإن ذلك يورث في قلبه الغل والحقد والبغضاء والعداوة وذاك يجر إلى سفك الدماء وفي إكرامه اتقاء شره وإبقاء دينه فإنه قد تعزز بدنياه وتكبر وتاه وعظم في نفسه فإذا حقرته فقد أهلكته من حيث الدين والدنيا وبه عرف أنه ليس المراد بكريم القوم عالمهم أو صالحهم كما وهم البعض، ألا ترى أنه لم ينسبه في الحديث إلى علم ولا إلى دين؟ ومن هذا السياق انكشف أن استثناء الكافر والفاسق كما وقع لبعضهم منشؤه الغفلة عما تقرر من أن الإكرام منوط بخوف محذور ديني أو دنيوي أو لحوق ضرر للفاعل أو للمفعول معه فمتى خيف شيء من ذلك شرع إكرامه بل قد يجب فمن قدم عليه بعض الولاة الظلمة الفسقة فأقصى مجلسه وعامله معاملة الرعية فقد عرض نفسه وماله للبلاء فإن أوذي ولم يصبر فقد خسر الدنيا والآخرة، وقد قيل: دارهم ما دمت في دارهم * وحيهم ما دمت في حيهم [ص 242] وقال صلى الله عليه وسلم " بعثت بمداراة الناس ".
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {: إذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ} قَالَ: نَعَمْ هَكَذَا يُرْوَى قُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ السُّوءُ وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي هَذَا وَاحِدٌ قَالَ: لَا قُلْت: فَإِنْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يُكْرِمُهُ ، قَالَ: لَا ، وَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ حَضَرَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَمَعَهُ إبْرَاهِيمُ سِيلَانُ فَرَأَيْته قَدَّمَ الْغُلَامَ ، وَرَأَيْت رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ قَدَّمَهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَكَانَ حَدِيثَ السِّنِّ فَجَعَلَ الْفَتَى يَمْتَنِعُ ، وَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَأْتِي حَتَّى قَدَّمَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَأَيْت أَبِي إذَا جَاءَ الشَّيْخُ وَالْحَدَثُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَشْرَافِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ فَيَكُونُوا هُمْ يَتَقَدَّمُونَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: رَأَيْته جَاءَ إلَيْهِ مَوْلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ فَأَلْقَى لَهُ مِخَدَّةً وَأَكْرَمَهُ وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ الْمِخَدَّةَ مِنْ تَحْتِهِ فَيُلْقِيهَا لَهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إعْظَامًا لِإِخْوَانِهِ وَمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ ، لَقَدْ جَاءَهُ أَبُو هَمَّامٍ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ فَأَخَذَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِالرِّكَابِ وَرَأَيْته فَعَلَ هَذَا بِمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْ الشُّيُوخِ. أهـ
(
…
آداب المجالس:
(آداب المجالس:
(لآداب المجالس آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب المجالس جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب المجالس جملةً:
(1)
فضل ذكر الله في المجالس والنهي عن مجالسٍ لا يذكر فيها اسمه:
(2)
اختيار رفيق المجلس:
(3)
السلام على أهل المجلس عند القدوم، والانصراف:
(4)
لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مَقْعَدِه ثم يجلس فيه:
(5)
من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به:
(6)
التفسح في المجالس:
(7)
لا يَجْلَس بين رجلين إلا بإذنهما:
(8)
يجلس حيث ينتهي:
(9)
النهي عن تناجي اثنين دون الثالث:
(10)
النهي عن سماع الحديث بدون إذن:
(11)
الجلوس المنهي عنه:
(12)
النهي عن كثرة الضحك:
(13)
كراهية التجشؤ (1) بحضرة الآخرين:
(14)
استحباب ختم المجالس بكفارة المجلس:
(15)
جواز قيام الرجل لأخيه احتراماً:
(ثانيا آداب المجالس تفصيلا:
(1)
فضل ذكر الله في المجالس والنهي عن مجالسٍ لا يذكر فيها اسمه:
جاء النهي الشديد عن مجالس لا يذكر فيها اسم الله، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(1). في اللسان: التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء. وجشأت المعدة وتجشأت: تنفست، والاسم الجشاء. (1/ 48) مادة (جشأ)
((حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار و كان لهم حسرة.
(وفي ألفاظ هذا الحديث من التنفير ما فيه، وقوله: (إلا قاموا عن مثل جيفة حمارٍ) أي مثلها في النتن والقذارة، وذلك لما يخوضون من الكلام في أعراض الناس وغير ذلك (1). والحسرة هي الندامة؛ وذلك بسبب تفريطهم.
((حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة.
(وفي مقابل ذلك ما لو عُمرت هذه المجالس بذكر الله والثناء عليه، والصلاة على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذه المجالس محبوبةٌ إلى الله، وأهلها في ازدياد من الخيرات.
((حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لله ملائكة يطوفون في الطرقات يلتمسون الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجاتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم و هو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك و يكبرونك و يحمدونك و يمجدونك فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا و الله ما رأوك فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة و أشد لك تمجيدا و أكثر لك تسبيحا فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة فيقول: و هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا و أشد لها طلبا و أعظم فيها رغبة قال: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا و أشد لها مخافة فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة! فيقول: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.
(2)
اختيار رفيق المجلس:
من الأمور المهمة جداً في حياة المرء، اختيار رفيق المجلس، لأن الإنسان يتأثر بجليسه ولابد، ومهما كانت عنده من قوة وحصانة. ولذا أرشدنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى حسن اختيار الخليل، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(1). عون المعبود. المجلد السابع (13/ 138)
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل.
(ومعنى الحديث: أن الإنسان على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، فليتأمل ويتدبر من يخالل، فمن رضي دينه وخلقه خالله، ومن لا تجنبه فإن الطباع سراقة (1).
(قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
قوله: (المرء على دين خليله) معناه لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه قال سفيان بن عيينة: وقد روى في هذا الحديث انظروا إلى فرعون معه هامان انظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه انظروا إلى سليمان بن عبد الملك صحبه رجاء بن حيوة فقوَّمه وسدده ويقال: إن الخلة مأخوذة من تخلل المودة القلب وتمكنها منه: وهي أعلى درج الإخاء وذلك أن الناس في الأصل أجانب فإذا تعارفوا ائتلفوا فهم أوداء وإذا تشاكلوا فهم أحباء فإذا تأكدت المحبة صارت خلة. أهـ
(أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول وهو يعظ رجلا: لا تتكلم فيما لا يعنيك واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين خلا من يخشى الله عز وجل ويطيعه ولا تمش مع الفاجر فيعلمك من فجوره.
(أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الخطاب بن المعلى المخزومي أنه وعظ ابنه فقال: إياك وإخوان السوء فإنهم يخونون من رافقهم ويخرفون من صادقهم وقربهم أعدى من الجرب ورفضهم من استكمال الأدب والمرء يعرف بقرينه.
((حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.
((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة.
(والحديث بيّنٌ في التحذير من مجالسة أهل السوء، والترغيب في مجالسة أهل الصلاح والتقى، وجليس السوء إما مبتدعاً، وإما فاسقاً.
(1). عون المعبود المجلد السابع (13/ 123) بتصرف يسير.
فإن كان مبتدعا فقد جاءت أقوال السلف في التحذير منهم، وعدم مجالستهم، لأنهم ضررٌ على الدين والدنيا، ومجالس أهل البدع لا تخلو من أمرين إما أن ينغمس في بدعتهم، أو يصاب بالحيرة والشك لما يلقيه أهل البدع من الشبهات المضلة، وكلاهما شر.
(ومن أقول السلف في ذم أهل البدع والتحذير من مجالستهم، قول الحسن البصري: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم. وقال أبو قلابة: لا تجالسوهم ولا تخالطوهم فإنى لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون. وقال ابن المبارك
…
: يكون مجلسك مع المساكين وإياك أن تجالس صاحب بدعة. وقال الفضيل بن عياض: إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر فانظر مع من يكون مجلسك، لا يكون مجلسك مع صاحب بدعة فإن الله لا ينظر إليهم وعلامة النفاق أن يقوم الرجل يقعد مع صاحب بدعة (1).
وإن كان الجليس فاسقاً. فإنك لن تسلم من سماع الخنا، والقول الباطل، والغيبة، وقد يصاحب ذلك تهاون في الصلوات، وغير ذلك من المعاصي التي تميت القلب. ولذا نجد أن بعض الذين انتكسوا بعد الاستقامة كان بسبب مجالستهم للفساق.
(3)
السلام على أهل المجلس عند القدوم، والانصراف:
سبق لنا في آداب السلام بيان أن من السنة السلام على أهل المجلس عند القدوم عليهم، وعند إرادة الانصراف، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليُسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى أحق من الثانية.
{تنبيه} : (يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم و يجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم.
(حديث علي في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم و يجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم.
(4)
لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مَقْعَدِه ثم يجلس فيه:
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا أوَتَوَسَّعُوا.
(5)
من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به:
(1). النقول من شرح أصول واعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي. (دار طيبة - الطبعة الرابعة 1416هـ)(1/ 150 - 156)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به.
من جلس في مكان مباح كالمسجد ونحوه، فهو أحق بمجلسه من غيره، بحيث أنه لو طرأ عليه وترك مجلسه لأمرٍ ما ثم عاد لمجلسه في وقتٍ يسير، فإنه أحق بمجلسه وله أن يقيم من جلس فيه. فالحق لصاحب المجلس لا يعدوه، فهو أولى به، ولذا جاء النهي من إقامة الرجل من مجلسه المباح.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا أوَتَوَسَّعُوا.
(والحكمة في هذا النهي منع استنقاص حق المسلم المقتضي للضغائن، والحث على التواضع المقتضي للمودة، وأيضاً فالناس في المباح كلهم سواء، فمن استحق شيئاً استحقه، ومن استحق شيئاً فأُخذ منه بغير حق فهو غصب والغصب حرام. قاله ابن أبي جمرة (1).
مسألة: قد علمنا كراهية إقامة الرجل من مجلسه والقعود فيه، ولكن هل تزول هذه الكراهية إذا كانت بإذن صاحب المكان؟
الجواب: إذا تنازل صاحب المجلس عن مجلسه لغيره، فلا مانع من الجلوس فيه، لأن الحق له وقد تنازل عنه. وأما ما أُثر عن ابن عمر من كراهية ذلك، فقد روى أبا الخصيب قال:(كنت قاعداً فجاء ابن عمر فقام رجلٌ من مجلسه له فلم يجلس فيه وقعد في مكان آخر. فقال الرجل ما كان عليك لو قعدت، فقال: لم أكن أقعد في مقعدك ولا مقعد غيرك بعد شئ شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام له رجلٌ من مجلسه فذهب ليجلس فيه فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وأما ما نسب إلى ابن عمر-رضي الله عنهما فيقول النووي: فهذا ورعٌ منه، وليس قعوده فيه حراماً إذا قام برضاه، لكنه تورع من وجهين: أحدهما أنه ربما استحى منه إنسان فقام له من مجلسه من غير طيب قلبه، فسد ابن عمر الباب ليسلم من هذا. والثاني: أن الإيثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى فكان ابن عمر يمتنع من ذلك لئلا يرتكب أحد بسببه مكروهاً أو خلاف الأولى بأن يتأخر عن موضعه في الصف الأول ويؤثره به وشبه ذلك (3).
(1). فتح الباري (11/ 65)
(2)
. أحمد (5542)
(3)
. شرح صحيح مسلم. المجلد السابع (14/ 133)
مسألة: يعمد بعض الناس إلى وضع (سجادة الصلاة) أو نحو ذلك، رغبةً منهم في نيل فضل الصف الأول، مع تأخرهم في الحضور إلى المسجد، فهل هذا الفعل مشروع؟
الجواب: تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة بخصوصها فقال: وأما ما يفعله كثيرٌ من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة، أو غيرها، قبل ذهابهم إلى المسجد، فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين؛ بل محرم. وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان. [ثم قال]
…
والمشروع في المسجد أن الناس يتمون الصف الأول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول، فالأول، ويتراصون في الصف)(1). وفي الصحيحين عنه أنه قال: (لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لا ستبقوا إليه)(2). والمأمور أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين: من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم. ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد، ومنعه السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيه، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى الناس إذا حضروا. وفي الحديث (الذي يتخطى رقاب الناس، يتخذ جسراً إلى جهنم)(3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آذيت)(4).
ثم إذا فرش هذا فهل لمن سبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له ذلك لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه.
والثاني: وهو الصحيح أن لغيره رفعه، والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم، وهو مأمور بذلك أيضاً، وهو لا يتمكن من فعل هذا المأمور واستيفاء هذا الحق إلا برفع ذلك المفروش وما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به.
(1). أخرجه مسلم (430)، أحمد (20519)، أبو داود (661)، النسائي (816)، ابن ماجه (992)
(2)
. رواه البخاري (615)، مسلم (437)، أحمد (7185)، الترمذي (225)، النسائي (540)،مالك (151)
(3)
. رواه أحمد (15182)، والترمذي (513)، وابن ماجة (1126) وقال الألباني: ضعيف.
(4)
.رواه أحمد (17221) والنسائي (1399) وأبو داود (1118) وابن ماجه (1125) وصحح الألباني روايتي أبو داود وابن ماجه (923).
وأيضاً فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب، وذلك منكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسيلم:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)(1). لكن ينبغي أن يراعى في ذلك أن لا يؤول إلى منكر أعظم منه، والله تعالى أعلم (2).
(6)
التفسح في المجالس:
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11]
(هذا أدب من الله لعباده، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم، واحتاج بعضهم، أو بعض القادمين للتفسح له في المجلس، فإن من الأدب، أن يفسحوا له، تحصيلاً لهذا المقصود. وليس ذلك بضار الفاسح شيئاً، فيحصل مقصود أخيه، من غير ضرر يلحقه. والجزاء من جنس العمل، فإن من فسح لأخيه، فسح الله له، ومن وسع لأخيه، وسع الله عليه. {وإذا قيل انشزوا} أي: ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم، لحاجة تعرض. {فانشزوا} أي: فبادروا للقيام، لتحصيل تلك المصلحة. فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم والإيمان. قاله ابن سعدي (3).
(7)
لا يَجْلَس بين رجلين إلا بإذنهما:
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يُجْلَس بين رجلين إلا بإذنهما.
وهذا أدب نبوي عظيم، وهو منع الرجل أن يجلس بين اثنين إلا بإذنهما، والعلة في ذلك؛ أنه قد يكون بينهما محبة ومودة وجريان سر وأمانه فيشق عليهما التفريق بجلوسه بينهما، قاله في عون المعبود (4).
(8)
يجلس حيث ينتهي:
وهذا ثابتٌ من فعل الصحابة وإقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث جابر بن سمُرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم يجلسُ أحدنا حيث ينتهي.
(1). رواه مسلم (49)، أحمد (10689)، الترمذي (2172)، النسائي (5008)، أبو داود (1140)، ابن ماجه (1275)
(2)
. مجموع الفتاوى (22/ 189 - 191)
(3)
. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (7/ 316)
(4)
. المجلد السابع (13/ 133)
حيث كانوا-الصحابة- إذا جاء أحدهم إلى المجلس لم يتكلف الجلوس في المقدمة، أو مزاحمة ومضايقة الجالسين، بل كانوا يجلسون حيث انتهى بهم المجلس، وهذا من كمال أدبهم-رضي الله عنهم وأرضاهم-.
(9)
النهي عن تناجي اثنين دون الثالث:
في اللسان، النجو: السِّرُّ بين اثنين، يقال: نَجَوته نجواً أي ساررته، وكذلك ناجيته، والاسم النجوى (1). والتناجي المنهي عنه، هو أن يتسَّار اثنان دون الثالث، والعلة في ذلك، حتى لا يدخل الحزن إلى قلب الثالث لما يراه من تسَّار صاحبيه، والشيطان حريصٌ كل الحرص على إدخال الحزن، والوساوس، والشكوك على قلب المسلم، فجاء النهي النبوي عن ذلك حتى يقطع الطريق على الشيطان، وحتى لا يظن المسلم بإخوانه سوءً، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس فإن ذلك يحزنه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى) التناجي التحادث سراً
(رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس) أي تنضموا إليهم وتمتزجوا ويتحدث بعضهم مع بعض.
(فإن ذلك يحزنه) ثم علل ذكر النهي بقوله فإن ذلك يحزنه، أي التناجي مع انفراد واحد، وذلك لئلا يقع في نفسه أنهما يتحدثون عنه بما يشينه أو أنهما لم يشاركاه في الحديث احتقاراً له.
(وأما إن كان القوم أربعة فما فوق فلا بأس بذلك، لانتفاء العلة.
(10)
النهي عن سماع الحديث بدون إذن:
لقد جاء وعيد شديد فيمن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ وَمَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ (2) يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا وَلَيْسَ بِنَافِخٍ.
(1).لسان العرب. لابن منظور (15/ 308) مادة (نجا)
(2)
. الآنك: هو الرصاص المذاب. انظر فتح الباري (12/ 447)
(والنهي مقيد بما إذا كان القوم كارهون لذلك، ويخرج بذلك ما إذا كانوا راضين به، ويخرج أيضاً إذا كان كلامهم جهراً يُسمع من حولهم، لأنهم لو أرادوا إخفاءه لم يجهروا به (1).
(11)
الجلوس المنهي عنه:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن الجلوس، في هيئات معينة، وفي أحوال مخصوصة، وهذه الهيئات والأحوال، منها ما علمنا علتها عن طريق السمع، ومنها ما كان طريق الاجتهاد والنظر.
فهيئة الجلوس المنهي عنها: أن يضع الرجل يده اليسرى خلف ظهره ويتكئ على لحمة يده اليمنى التي في أصل الإبهام (2).
((حديث الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ
مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِيَ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي فَقَالَ أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
(وأما الحال التي ينهى عنها، وهي جلوس الرجل بين الشمس والظل.
((حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُقْعَدَ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ.
(والعلة في ذلك؛ أنه مجلس الشيطان. جاء مصرحاً بذلك في الحديث الآتي:
((حديث أبي عياض عن رجل من أصحاب النبي الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ أن يجلس بين الضح والظل، وقال مجلس الشيطان.
مسألة: ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى)(3). وثبت أيضاً في الصحيحين وغيرهما، من حديث عباد بن تميم عن عمه، أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يضطجع في المسجد رافعاً إحدى رجليه على الأخرى) (4). والحديثان ظاهرهما التعارض، فكيف الجمع بينهما؟
(1). انظر فتح الباري (12/ 447)
(2)
. انظر عون المعبود. المجلد السابع (13/ 135)
(3)
. رواه مسلم (2099)، وأحمد (13766)، والترمذي (2767)
(4)
. البخاري (5969) واللفظ له، ومسلم (2100)، وأحمد (15995)، والترمذي (2765)، والنسائي (721)، وأبو داود (4866)، ومالك (418)، والدارمي (2656)
الجواب: قال بعض العلماء أن النهي منسوخ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ورد ذلك ابن حجر، بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال (1). قلت: ولا بد من معرفة المتقدم من المتأخر. وجمع النووي وغيره فقال: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، وأنكم إذا أردتم الاستلقاء فليكن هكذا، وأ، النهي الذي نهيتكم عن الاستلقاء ليس على الإطلاق بل المراد به من ينكشف شيء من عورته أو يقارب انكشافها والله أعلم (2). ويؤيد هذا القول بأن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز
…
لا أنه مختصٌ به، هو ما ثبت عند البخاري - بعد إيراده حديث عباد بن تميم عن عمه- قال: وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر وعثمان يفعلان ذلك (3). فلما كان بعض الصحابة يفعلون ذلك، دل ذلك على أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم كان لبيان الجواز، ولكن مع الأمن من انكشاف العورة، والله أعلم.
(12)
النهي عن كثرة الضحك:
ليس من المروءة ولا الأدب أن يكون الضحك هو الغالب على المجلس، فقليله يبعث في النفس النشاط ويروح عنها، وكثيره داءٌ يميت القلب،
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس و أحسن إلى جارك تكن مؤمنا و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما و لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.
((حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس وكن قنعا تكن أشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
((حديث جابر بن سمرة الثابت في صحيح الترمذي) قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت قليل الضحك.
(13)
كراهية التجشؤ (4) بحضرة الآخرين:
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1). انظر فتح الباري (1/ 671)
(2)
. مسلم بشرح النووي. المجلد السابع (14/ 65)
(3)
. البخاري (475)
(4)
. في اللسان: التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء. وجشأت المعدة وتجشأت: تنفست، والاسم الجشاء. (1/ 48) مادة (جشأ)
((حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قَالَ: تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعاً فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
(14)
استحباب ختم المجالس بكفارة المجلس:
لما كان الإنسان ضعيفاً، وكان الشيطان حريصاً على إضلاله، والسعي دوماً إلى إغوائه، والنيل منه عن طريق اقترافه للسيئات. فكان منه أن تربص للمسلمين في مجالسهم، وأنديتهم، محرضاً لهم على قول الزور والباطل. ولما كان الله رؤوفاً بعباده شرع لهم على لسان نبيهم كلمات يقولونها، تكفَّر عنهم ما علق بهم من أدران ذلك المجلس، ثم امتن عليهم ربهم بأن جعل هذه الكلمات طابعاً لمجالس الخير فالحمد لله أولاً وآخراً، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كفارة المجلس أن يقول العبد: سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك.
(15)
جواز قيام الرجل لأخيه احتراماً:
(يستحب القيام لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ وَالْوَالِدَيْنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالْكَرَمِ وَالنَّسَبِ، وعليه يُحملُ الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فجاء، فقال: قوموا إلى سيدكم _ أو قال خيركم – فقعد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال هؤلاء نزلوا على حكمك. قال فإني أحكم أن تُقْتَلَ مقاتلتهم وتُسْبَى ذراريهم فقال صلى الله عليه وسلم لقد حكمت بماحكم به الملك.
(أما قيام الرجل للرجل على سبيل التعظيم فحرامٌ قطعاً.
(حديث معاوية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سرَّه أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار.
*معنى [يتمثل]: أي ينتصب الجالسون له تعظيماً
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[فليتبوأ مقعده من النار] لأن قوله فليتبوأ أمر بمعنى الإخبار أي دخل النار إذا سره ذلك.
{تنبيه} : (وَاَلَّذِي يُقَامُ إلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَكْبِرَ نَفْسَهُ إلَيْهِ وَلَا يَطْلُبَهُ ، وَالنَّهْيُ قَدْ وَقَعَ عَلَى السُّرُورِ بِذَلِكَ الْحَالِ فَإِذَا لَمْ يُسَرَّ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ وَقَامُوا لَهُ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ.
(
…
آداب الكلام:
(آداب الكلام:
(آداب الكلام:
(للكلام آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب الكلام جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب الكلام جملةً:
((1) وجوب حفظ اللسان:
((2) اجتناب آفات اللسان:
((3) قل خيراً أو اصمت:
((4) فضل الصمت وقلة الكلام وكراهية كثرته:
((5) الكلمة الطيبة صدقة:
((6) إذا حدث الرجل لأخيه بحديث ثم التفت فهي أمانة:
((7) تقديم الأكبر في الكلام:
((8) عدم مقاطعة الحديث:
((9) التأني في الكلام وعدم الإسراع فيه:
((10) يكرر كلامه ثلاثاً تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم:
((11) خفض الصوت عند الكلام:
((12) ألفاظ وكلمات تُجتنب:
((13) لزوم الصدق ومجانبة الكذب:
((14) جواز المعاريض والتورية بشروطها:
((15) أن يطابق قوله عمله:
(ثانيا آداب الكلام تفصيلا:
((1) وجوب حفظ اللسان:
(حفظ اللسان من الأمور البالغة الأهمية والتي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها فإن اللسان أمره خطير وشرُّه مستطير.
(قال عليُّ رضي الله عنه: اللسان سبْعُ إن خُلِيَ عنه عقر.
[*] (قال ابن السماك: سبعك بين لحييك. يعني أن كل إنسان يجب أن ينظر إلى لسانه هذا المحبوس في قفصين: قفص من عظم وقفص من لحم، فالعظم هو الأسنان، واللحم هو الشفتان، فلا يتمكن اللسان من أن ينطق ويخرج الكلام إلا بأن يخرج من بين هذين القفصين وهذين السجنين. فشبهه بالسبع بأنه يوجد داخل هذا الفم سبع ـ أي: أسد ـ لو فتحت له الباب لخرج ولأكل الناس، ونال من أعراضهم، وأهلك صاحبه، ولذلك يقول ابن السماك: سبعك بين لحييك ـ يعني: بين فكيك ـ تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور.
أي: فرغت من غيبة الأحياء وغيبة الرائح والجائي، وبعد أن انتهيت من الأحياء انتقلت إلى الأموات، فأخذت أيضاً تنبش الموتى، وتذكر عيوب الموتى، فأنت تؤذي الموتى في قبورهم، وتؤذي أقرباءهم من الأحياء، وتؤذي نفسك. قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم.
(فما ترثي لهم) أي: ألا تشفق عليهم؟ وقد انقطع عملهم وفنيت أجسادهم وتحللت وانتهوا، والآن هم في دار الجزاء؟ فلذلك أدبنا النبي صلى الله عليه وسلم مع الأموات ـ حتى لو كانوا من الظلمة أو الفسقة أو المقصرين ـ أننا لا نذكر عيوبهم، كما في الحديث الآتي:
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا.
أي: ما عملوه في فترة الحياة الآن هم يحاسبون عليه، فأنت دعه وربه، ولا داعي أن تنشغل أيضاً بذم الموتى. قال:«قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم» ، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم. فهل تعتقدون أن نبش الموتى فقط هو حفر القبر من جديد وسرقة الأكفان؟ وهل هذا هو النبش؟ الجواب: لا بل النبش له معنىً آخر لا يقتصر على الاستيلاء على الكفن كما يفعل النباشون، ولذا قال ابن السماك: وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، فإذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال. هنا يرشد ابن السماك إلى ثلاثة أشياء وثلاث صفات وخصال إذا التزمها الإنسان منعته من إطلاق لسانه بذكر عيوب الآخرين.
قال: أما واحدة فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟! أي: فيك نفس العيب الموجود في هذا الشخص، وأنت تذمه بسببه، فمن أولى بالذم؟ قال: ما ظنك بربك ـ يعني: أن يفعل بك ـ وأنت تذكر أخاك بأمر هو فيك؟!
الثانية: ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك.
الثالثة: ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت:(ارحم أخاك واحمد الذي عافاك). يعني: إما أنك مبتلىً بشيء مثل الذي فيه، وإما أن تفعل شيئاً أشر مما يفعله هو فالعيب عندك أشد، وإما أن يكون الله قد عافاك من هذا العيب، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! إذا كان الله قد عافاك من هذا العيب وبرأك منه، فهل جزاء هذه النعمة أن تشتغل بذم الآخرين، أم أنك تحمد الله سبحانه وتعالى، وترحم العصاة؟!
(قال النووي رحمه الله في الأذكار: (اعلم أنه ينبغي لكل مكلَّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجز الكلام المباح إلى حرام، أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء)(1). وقد قال عليه الصلاة والسلام: ”من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه“ (2). قال الشاعر:
احفظ لسانك أيها الإنسان
…
لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه
…
كانت تهاب لقاءه الشجعان
فينبغي للإنسان المسلم أن لا يخرج لفظةً ضائعة فعليه أن يحفظ ألفاظه بأن لا يتكلم إلا فيما يرجوا فيه الربح والزيادة في دينه فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوت بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه، وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان، فإنه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى.
قال يحيى بن معاذ: (القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، حلو وحامض وعذب، وأجاج، وغير ذلك ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه)(3) أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقة ذلك، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدر بلسانك.
(1) الأذكار للإمام النووي ص 284.
(2)
أخرجه الترمذي 4/ 558 وابن ماجه 2/ 1316 وانظر صحيح الترمذي 2/ 269 وابن ماجه 2/ 360.
(3)
حلية الأولياء 10/ 63.
ومن العجب: أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتزاز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحرز من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين، والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقى لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي
…
وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى ما رواه مسلم من حديث جُندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك“ (1).
فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء الله أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله.
(لذا يجب على المسلم أن يعتني بحفظ لسانه غاية الاعتناء، فيجتنب القول الباطل، وقول الزور، والغيبة، والنميمة، والفاحش من القول، وجماع ذلك أن يصون لسانه عما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد يتكلم المرء كلمةً توبق دنياه وآخرته، وقد يقول كلمةً يرفعه الله بها درجات ودرجات. وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ.
(أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة أن حفظ اللسان هو ملاك الأمر كله في العمل الذي يُدخل الجنة ويباعد من النار، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1) أخرجه مسلم 4/ 2023 وتقدم في بذاءة اللسان وانظر بقية احاديث الترهيب من أخطار اللسان هناك.
((حديث معاذ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال قلت يا رسول الله أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال لقد سألتني عن عظيم و إنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤتي الزكاة المفروضة و تصوم رمضان و تحج البيت ; ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار و صلاة الرجل في جوف الليل ; ألا أخبرك برأس الأمر وعموده و ذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام و عموده الصلاة و ذروة سنامه الجهاد ; ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا ـ و أشار إلى لسانه ـ قال: يا نبي الله! و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! و هل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.
(ضمن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الجنة لمن صان لسانه وفرجه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة.
فعلى المسلم أن يصون لسانه وفرجه عن محارم الله، طلباً لمرضاته، ورغبةً في نيل ثوابه، وهو يسيرٌ على من يسره الله عليه.
(أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة أن أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال الفم والفرج.
(أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة أن من خزن لسانه ستر الله عورته وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كف غضبه كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه ستر الله عورته، ومن أعذر إلى الله قبل عذره»
(أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة أن ابن آدم إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا.
((حديث أبي سعيدٍ الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا.
(تكفِّر اللسان) أي أن الأعضاء تخضع للسان، وتذل له، وتقر له بالطاعة، فإن استقمت أيها اللسان استقمنا، وإن خالفت وحدت عن الطريق المستقيم، فإنا تبعٌ لك، فاتق الله فينا (1).
((حديث أبي بكر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيءٌ من الجسد إلا و هو يشكو ذرب اللسان.
ذرب اللسان: أي فحشه.
(أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة أن النجاة أن تملك عليك لسانك، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عقبة بن عامر في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك.
(الآثار الواردة في حفظ اللسان:
(وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله "يوم حار ويوم بارد" ولقد رُؤيَ بعض الأكابر من أهل العلم في النوم فسئل عن حاله فقال: أنا موقوف على كلمةٍ قلتها قلت: ما أحوج الناس إلى غيث فقيل لي: وما يدريك أنا أعلم بمصلحة عبادي.
(وقال بعض الصحابة لجاريته يوماً: هاتي السفرة نعبث بها ثم قال: أستغفر الله ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام، أو كما قال (2).
(وقال ابن بريدة رأيت ابن عباس رضي الله عنهما آخذ بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم أو اسكت عن سوءٍ تسلم وإلا فاعلم أنك ستندم. فقيل له يا ابن عباس لِمَ تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان أراه قال: ليس على شيءٍ من جسده أشد حنقاً وغيظاً يوم القيامة منه على لسانه إلا من قال خيراً أو أملى به خيراً (3).
(وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لساني (4).
(1). انظر لسان العرب (5/ 150) مادة (كفر)،
(2)
انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم رحمه الله ص 276 - 281.
(3)
ذكره ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 241.
(4)
ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 242.
(وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطق رجل قط إلا عرفت ذلك في سائر عمله (1).
واعلم أن أيسر حركات الجوارح حركة اللسان وهي أضرها على العبد. واختلف السلف والخلف هل يكتب جميع ما يلفظ به أو الخير والشر فقط؟ على قولين: أظهرهما القول الأول.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سعيد قال قلت للحكم مالك لا تكتب عن زاذان قال كان كثير الكلام.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن مسعود يقول والله الذي لا إله غيره ما شيء أحق بطول سجن من لساني.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن إبراهيم التيمي أخبرني من صحب الربيع بن خيثم عشرين عاما فلم يسمع منه كلمة تعاب.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي طعمه عن رجل من الحي قال أتيت الربيع بن خيثم بنعي الحسين وقالوا اليوم يتكلم مقاله فتأوه ومد بها صوته ثم قال اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك بالحق فيما كانوا فيه يختلفون.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن المعلي بن زياد قال قال مؤرق العجلى أمر أنا في طلبه منذ عشر سنين ولست بتارك طلبه قال وما هو يا أبا المعتمر قال الصمت عما لا يعنيني.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن خارجة قال: صحبت عبد الله بن عون خمس عشرة سنة فما أظن الملائكة كتبت عليه شيئا.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه اطَّلع على أبي بكر رضي الله عنه وهو يمد لسانه فقال ما تصنع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن هذا أوردني الموارد.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان على الصفا يلبي ويقول يا لسان قل خيرا تغنم أو أنصت تسلم من قبل أن تندم.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن ابن عباس رضي الله عنه قال: يا لسان قل خيرا تغنم أو اسكت عن شر تسلم
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن رضي الله عنه قال ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
(1) المرجع السابق ص 242.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الأوزاعي قال كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله برسالة لم يحفظها غيري وغير مكحول أما بعد فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا ينفعه.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن سفيان قال: قال بعض الماضين إنما لساني سبع إن أرسلته خفت أن يأكلني.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي إسحاق الفزاري قال كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يطيل السكوت فإذا تكلم ربما انبسط قال فأطال ذات يوم السكوت فقلت لو تكلمت فقال الكلام على أربعه وجوه فمن الكلام كلام ترجو منفعته وتخشى عاقبته والفضل في هذا السلامة منه ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته فأقل مالك في تركه خفة المؤنة على بدنك ولسانك ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته فهذا الذي يجب عليك نشره.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن محمد بن واسع أنه قال لمالك بن دينار أبا يحيى حفظ اللسان على الناس أشد من حفظ الدنانير والدراهم.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن يونس بن عبيد يقول ما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن محمد بن سيرين قال كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحدث.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن خارجة بن مصعب يقول صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن رياح بن عبيدة قال كنت عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فذكر الحجاج فشتمته ووقعت فيه قال فنهاني عمر وقال مهلا يا رياح فإنه بلغني أن الرجل يظلم بالمظلمة فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه حتى يستوفي حقه ويكون للظالم الفضل عليه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان أن عبد الله بن أبي زكريا كان إذا خاض جلساؤه في غير ذكر الله رأيته كالساهي فإذا خاضوا في ذكر الله كان أحسن الناس استماعا.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن إبراهيم التيمي قال أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة فلم يتكلم بكلام لا يصعد.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: رأيت ابنة الربيع بن خثيم أتته فقالت يا أبتاه أذهب ألعب قال يا بنيتي اذهبي قولي خيرا.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الأوزاعي عن يحيى رحمه الله قال أثنى رجل على رجل فقال له بعض السلف وما علمك به قال رأيته يتحفظ في منطقه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عن أبي عبيد قال ما رأيت رجلا قط أشد تحفظا في منطقه من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال كنا عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال رجل لرجل تحت إبطك فقال عمر رضي الله عنه وما على أحدكم أن يتكلم بأجمل ما يقدر عليه قالوا وما ذاك قال لو قال تحت يدك كان أجمل.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن عن إبراهيم التيمي رحمه الله قال المؤمن إذا أراد أن يتكلم نظر فإن كان كلامه له تكلم وإن كان عليه أمسك عنه والفاجر إنما لسانه رسلاً رسلا.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن رضي الله عنه قال كانوا يقولون لسان الحكيم من وراء قلبه فإذا أراد أن يقول رجع إلى قلبه فإن كان له قال وإن كان عليه أمسك وإن الجاهل قلبه على طرف لسانه لا يرجع إلى قلبه ما جرى على لسانه تكلم به.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عن الصلت بن بسطام التيمي قال: قال لي أبي الزم عبد الملك بن أبجر فتعلم من توقيه في الكلام فما أعلم بالكوفة أشد تحفظا للسانه منه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لرجل وبعثه في حاجة إياك وكل أمر تريد أن تعتذر منه وإذا أردت أن تتكلم بكلام فانظر فيه قبل أن تتكلم به فإن كان لك فتكلم به وإن كان عليك فالصمت عنه خير لك.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أرطاة بن المنذر قال تعلم رجل الصمت أربعين سنة بحصاة يضعها في فيه لا ينزعها إلا عند طعام أو شراب أو نوم.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن فضيل بن عياض رحمه الله قال: كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن حسان بن عطية قال كان شداد بن أوس في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه ائتنا بالسفرة نعبث بها فأنكرت عليه فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا كلمتي هذه فلا تحفظوها علي.
((2) اجتناب آفات اللسان:
(اعلم رحمك الله تعالى أن في اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى:
«آفة الكلام، وآفة السكوت» وقد يكون كلُّ منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاصٍ لله ومراء مداهن إذا لم يخف على نفسه.
والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته. فهم بين هذين النوعين وأهل الوسط - وهم أهل السراط المستقيم - كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة فضلاً أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به (1).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ قَالَ إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ وَأَجْمِعْ الْيَأْسَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ.
(فهذه الوصايا الثلاث يا لها من وصايا إذا أخذ بها العبد تمت أموره وأفلح (2).
(ولهذا كان النجاة في الصمت.
((حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صمت نجا.
((حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الترمذي) قال قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أملك عليك لسانك ولْيسعك بيتُك وابكِ على خطيئتك.
ومنها ما يلي:
(1)
الغيبة:
(2)
النميمة:
(1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم رحمه الله ص 276 - 281.
(2)
انظر بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار لعبد الرحمن السعدي الحديث رقم 74.
(3)
القول على الله بغير علم:
(4)
القذف:
(5)
الخصومات والجدال بالباطل:
(6)
بذاءة اللسان:
(7)
الحلف بغير الله تعالى:
(8)
الحلف بالله كذبا ومنه اليمين الغموس:
(9)
استخدام الفصاحة في قلب الحقائق:
(10)
التحديث بكل ما سُمع:
(11)
الغناء:
(12)
الشعر المحرم:
(13)
الفحش والتفحش (1):
(14)
الجدال العقيم:
(15)
شهادة الزور:
(16)
المدح المذموم:
(17)
اللعن:
(18)
كثرة المزاح:
(19)
الغضب:
(20)
التكلم فيما لا يعنيه:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(1)
الغيبة:
(تساهل الناس في الغيبة:
(قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
إني فكرت في عظم ذنب الغيبة وحقارة فعلها، وتساهل جل الناس بها، حتى صارت مألوفة غير منكورة، كأنها لم تكن أمّ كل محظور، تدار كؤوسها في المجامع، ويصغي إلى لحن شيطانها جميع المجامع، وما علم مرتكبها بوقوعه فيما هو أشد من الزنى، وأعظم جرماً من الربا، وهو لو تحقق قد ساواهم وزاد، لكونه ذنباً تعلقه بالعباد. أهـ
(تعريف الغيبة:
الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره بنص السنة الصحيحة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهته.
والغيبة من آفات اللسان التي يجب على طالب العلم أن يحفظ لسانه منها، وجاء في الكتاب والسنة الصحيحة النكيرُ الشديد والنهي الأكيد عن ارتكاب هذه الرذيلة
قال تعالى: (وَلَا يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ)[الحجرات / 12]
الشاهد من الآية: أن الله تعالى نهى عن الغيبة، والأصل في الأمر التحريم، وشبه المغتاب بأكل الميتة،
(حكم الغيبة:
(قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
أن الغيبة محرمة بالكتاب والسنة والإجماع.
وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة
(1). في اللسان: أفحش الرجل إذا قال قولاً فاحشاً، وقد فحش علينا فلان، وإنه لفحاش، وتفحش في كلامه
…
والفاحش، ذو الفحش والخنا من قول وفعل، والمتفحش الذي يتكلف سب الناس ويتعمده. (6/ 325 - 326) مادة:(فحش) بنصرف يسير.
قال الله تعالى: (لَاّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)[النساء: 148]
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12]
وقال سبحانه: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]
وقال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]
وقال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]
والغيبة آفة خطيرة من آفات اللسان، ولقد عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهته.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبكَ من صفية كذا وكذا ـ تعني قصيرة ـ فقال: لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمزجته.
*معنى مزجته: أي خالطته مخالطةً شديدةً يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها، وهذا من الزجر.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه اعتل بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب أعطيها بعيرا فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال ما يبكيك؟ فقالت قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك ثم قال اتقي الله يا حفصة.
((حديث سعيد ابن زيد الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربى الربا الاستطالة في عِرض المسلم بغير حق.
(بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أربى الربا إطالة اللسان في عرض المسلم باحتقاره، والترفع عليه، والوقيعة فيه بقذف، أو سب، ونحو ذلك، فإن ذلك أكثر الربا، وأشده تحريماً؛ لأن العرض أعز على النفس من المال.
وقد أدخل صلى الله عليه وسلم العرض في جنس المال على سبيل المبالغة وجعل الربا نوعين:
متعارف: وهو ما يؤخذ من الزيادة على ماله من المديون.
وغير متعارف: وهو استطالة الإنسان في عرض المسلم بغير حق وبين أنّ أشد النوعين تحريماً هو الاستطالة في عرض المسلم بغير حق (1).
((حديث أبي برزة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم، فمن اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته.
{تنبيه} : (والحديث فيه تنبيه على أن غيبة المسلم من شعار المنافق لا المؤمن، وفيه الوعيد بكشف الله عيوب الذين يتبعون عورات المسلمين ومجازاتهم بسوء صنيعهم، وكشف مساويهم ولو كانوا في بيوتهم مخفيين من الناس (2) ولا حول ولا قوة إلا بالله.
((حديث أنس الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما عرج بي ربي عز و جل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجههم و صدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم.
معنى يخمشون: يخدشون
((حديث المستورد ابن شداد الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم و من اكتسى برجل مسلم ثوبا فإن الله يكسوه مثله من جهنم و من قام برجل مسلم مقام سمعة و رياء فإن الله يقوم به مقام سمعة و رياء يوم القيامة.
(1) انظر عون المعبود 13/ 222.
(2)
انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 13/ 224.
(وهذا الحديث فبه الوعيد لمن أكل أكلةً برجل مسلم: أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه، أو كُسِيَ ثوباً بسبب إهانته. فإن الله عز وجل يطعمه من جهنم مثل ما طعم بهذا الرجل المسلم، ويكسوه من جهنم مثل ما كُسِيَ؛ لأن الجزاء من جنس العمل (1). والله أعلم.
ومعنى ”من قام برجل مسلم
…
“ ذكروا له معنيين:
المعنى الأول: أن الباء للتعدية أي قام رجلاً مقام سمعة ورياء ووصفه بالصلاح، والتقوى، والكرامات، وشهره بها وجعله وسيلة إلى تحصيل أغراض نفسه وحطام الدنيا فإن الله يقوم بعذابه وتشهيره، لأنه كان كاذباً.
والمعنى الثاني: أن الباء للسببية وقيل: هو أقوى وأنسب أي من قام برجلٍ من العظماء من أهل المال والجاه مقاماً يتظاهر فيه بالصلاح والتقوى ليعتقد فيه ويصير إليه المال والجاه أقامه الله مقام المرائين ويفضحه ويعذبه عذاب المرائين (2).
وقد يحتمل أن تكون الباء في (برجل) للتعدية والسببية فإن كانت للتعدية يكون معناه: من أقام رجلاً مقام سمعة ورياء يعني من أظهر رجلاً بالصلاح والتقوى، ليعتقد الناس فيه اعتقاداً حسناً ويعزونه ويخدمونه لينال بسببه المال والجاه فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء بأن يأمر ملائكته بأن يفعلوا معه مثل فعله ويظهروا أنه كذاب.
وإن كانت للسببية فمعناه: أن من قام وأظهر من نفسه الصلاح والتقوى لأجل أن يعتقد فيه رجلٌ عظيم القدر كثير المال؛ ليحصل له مال وجاه .. (3).
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخْذُلُه ولا يَحْقره التقوى هاهنا ـ و أشار إلى صدره ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله وعرضه.
((حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت.
(قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
(1) انظر عون المعبود 13/ 225.
(2)
انظر عون المعبود 13/ 225.
(3)
المرجع السابق 13/ 226.
فَجَمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الدَّمِ وَالْعِرْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيغَارِ الصُّدُورِ، وَإِبْدَاءِ الشُّرُورِ، وَإِظْهَارِ الْبَذَاءِ، وَاكْتِسَابِ الأعداء، وَلَا يَبْقَى مَعَ هَذِهِ الأمور وَزْنٌ لمرموقٍ وَلَا مُرُوءَةٌ لِمَلْحُوظٍ ثُمَّ هُوَ بِهَا مَوْتُورٌ مَوْزُورٌ؛ وَلِأَجْلِهَا مَهْجُورٌ مَزْجُورٌ.
((حديث أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَمَنْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا فَكَانَ يَقُولُ لَا حَرَجَ لَا حَرَجَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَذَلِكَ الَّذِي حَرِجَ وَهَلَكَ.
(ومعنى اقترض: أي اقتطع، والمراد أنه نال من أخيه المسلم بالطعن فيه.
(قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
فَجَمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الدَّمِ وَالْعِرْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيغَارِ الصُّدُورِ، وَإِبْدَاءِ الشُّرُورِ، وَإِظْهَارِ الْبَذَاءِ، وَاكْتِسَابِ الأعداء، وَلَا يَبْقَى مَعَ هَذِهِ الأمور وَزْنٌ لمرموقٍ وَلَا مُرُوءَةٌ لِمَلْحُوظٍ ثُمَّ هُوَ بِهَا مَوْتُورٌ مَوْزُورٌ؛ وَلِأَجْلِهَا مَهْجُورٌ مَزْجُورٌ.
((حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ:
مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيُعَذَّبُ فِي الْبَوْلِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُعَذَّبُ فِي الْغَيْبَةِ.
[*] (أورد أبو الشيخ الأصبهاني رحمه الله تعالى في التوبيخ والتنبيه عن المحاربي قال: قيل للربيع بن خثيم: مالك لا تذم الناس؟ قال: والله ما أنا عن نفسي براض، فأتفرغ من ذمها إلى ذم غيرها، إن الناس خافوا الله في ذنوب غيرهم، وأمنوه على ذنوبهم.
(الإجماع على تحريم الغيبة:
(قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
وأما الإجماع فلا شكّ ولا ريب في اتفاق جميع الأمة على تحريم الغيبة ولم يسمع عن أحد الترخيص فيها، لكنهم استثنوا صوراً ذكرها النووي في شرح مسلم، وهي ستة أسباب: الأول: الاستعانة على تغيير المنكر.
الثاني: جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين والمشاورة والنصيحة.
الثالث: التعريف.
الرابع: الاستفتاء.
الخامس: المظلوم. قال النووي: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان أو القاضي أو غيرهما ممن له ولاية وقدرة على إنصافه من ظالمه ويقول: فعل بي فلان أو ظلمني.
السادس: المجاهر بفسقه وبدعته. أهـ
(نصح من اغتاب الناس:
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع أن محمد بن واسع رأى شبابًا في المسجد، قد خاضوا في بحر الغيبة والضلالة، فقال لهم: أيجمل بأحدكم أن يكون له حبيب، فيخالفه ليفوز به غيره؟ فقالوا: لا. فقال: أنتم قعود في بيت الله تخالفون أمره، وتغتابون الناس. فقالوا: قد تبنا. فقال: يا أولادي، هو ربكم وحبيبكم، وإذا عصيتموه، وأطاعه غيركم، خسرتموه. وربحه غيركم، أفلا يضرّكم ذلك؟ قالوا: نعم. فقال: ومن خالفه، وربما يعاقبه لو عاقبه، أفلا تغيرون على شبابكم كيف يعاقب بالنار والعذاب وغيركم يفوز بالجنة والثواب. قالوا: نعم وحسن رجوعهم إلى الله تعالى.
(التحذير من غيبة الميت:
(ولا شك أن غيبة المسلم الميت أفحش من غيبة الحي وأشد؛ لأن عفو الحي واستحلاله ممكن بخلاف الميت (1)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ وَلَا تَقَعُوا فِيهِ.
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الْغِيبَةُ مَرْعَى اللِّئَامِ.
وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: لَا يَذْكُرُ فِي النَّاسِ مَا يَكْرَهُونَهُ إلَّا سِفْلَةٌ لَا دِينَ لَهُ. أهـ
مسألة: ما حكم أن يصفَ الرجلُ الرجلَ بِالْعَوَرِ أَوْ الْعَرَجِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ شَيْنَهُ إلَّا إرَادَةَ أَنْ يُعْرَفَ؟
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَصِفُ الرَّجُلَ بِالْعَوَرِ أَوْ الْعَرَجِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ شَيْنَهُ إلَّا إرَادَةَ أَنْ يُعْرَفَ؟ قَالَ لَا أَدْرِي هَذَا غِيبَةً.
(1) انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 13/ 242.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ " الْغِيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي الرَّجُلِ مَا فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَإِنْ قَالَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَهَذَا بُهْتٌ " ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَحْمَدُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ السَّلَفِ وَبِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ مَا نَقَلَ عَنْ الْأَثْرَمِ ، وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ الْأَعْمَشُ إنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا فَسَهْلٌ فِي مِثْل هَذَا إذَا كَانَ قَدْ شَهُرَ.
قَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ ذِكْرُ الرَّاوِي بِلَقَبِهِ وَصِفَتِهِ وَنَسَبِهِ الَّذِي يَكْرَهُهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَهُ لَا تَنَقُّصَهُ لِلْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ الْجَرْحُ لِلْحَاجَةِ. أهـ
(ما ينبغي لمن سمع غيبة أخيه المسلم:
(قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها، ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد، ولا باللسان فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق، أو من أهل الفضل والصلاح، كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر)(1).
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي الدرداء الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
((حديث أسماء بنت يزيد الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيْهِ بِالغَيْبَةِ كَانَ حَقَاً عَلَى اللهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ.
(1) الأذكار للنووي 294.
((حديث جابر الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ.
(الأسباب الباعثة على الغيبة:
عندما ينظر الإنسان المسلم العاقل ويفكر في الأسباب التي تدفع المغتاب إلى الغيبة وتدفع النمام إلى النميمة فسوف يجد لذلك أسباباً منها ما يأتي:
(السبب الأول: هو محاولة الانتصار للنفس والسعي في أن يشفي المغتاب الغيظ الذي في صدره على غيره فعند ذلك يغتابه أو يبهته، أو ينقل عنه النميمة.
(السبب الثاني: الحقد للآخرين والبغض لهم فيذكر مساوئ من يبغض؛ ليشفي حقده ويبرِّد صدره بغيبة من يبغضه ويحقد عليه. وهذا ليس من صفات المؤمنين كاملي الإيمان نسأل الله العافية.
(السبب الثالث: إرادة رفعة النفس وخفض غيره كأن يقول: فلان جاهل، أو فهمه ضعيف، أو سقيم، أو عبارته ركيكة تدرجاً إلى لفت أنظار الناس إلى فضل نفسه وإظهار شرفه بسلامته عن تلك النقائص التي ذكرها في مَنْ اغتابه. وهذا من الإعجاب بالنفس نعوذ بالله من ذلك وهو من المهلكات التي بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(السبب الرابع: موافقة الجلساء والأصحاب، والأصدقاء ومجاملتهم فيما هم عليه من الباطل؛ لكي يُكسَب رضاهم حتى ولو كان ذلك بغضب الله عز وجل وهذا من ضعف الإيمان وعدم مراقبة الله عز وجل.
(السبب الخامس: إظهار التعجب من أصحاب المعاصي:
كأن يقول الإنسان: ما رأيت أعجب من فلان كيف يخطئ وهو رجل عاقل أو كبير أو عالم أو غير ذلك وكان من حقه عدم التعيين.
(السبب السادس: السخرية والاستهزاء بالآخرين والاحتقار لهم:
(السبب السابع: الظهور بمظهر الغضب لله على من يرتكب المنكر فيظهر غضبه ويذكر اسمه مثل أن يقول فلان لا يستحيي من الله يفعل كذا وكذا ويقع في عرضه بالغيبة.
(السبب الثامن: الحسد فيحسد المغتاب من يُثني عليه الناس ويحبونه فيحاول المغتاب الحسود قليل الدين والعقل أن يزيل هذه النعمة فلا يجد طريقاً إلى ذلك إلا بغيبته والوقوع في عرضه حتى يزيل نعمته أو يقلل من شأنه عند من يثنون عليه. وهذا من أقبح الناس عقلاً وأخبثهم نفساً نسأل الله العافية، نسأل الله تعالى أن يرزقنا القلب المخموم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الناس ذو القلب المخموم و اللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن.
(السبب التاسع: إظهار الرحمة والتّصنُّع بمواساة الآخرين كأن يقول لغيره من الناس: مسكين فلان قد غمني أمره وما هو فيه من المعاصي
…
(السبب العاشر: التصنع، واللعب، والهزل، والضحك فيجلس المغتاب خبيث النفس فيذكر عيوب غيره مما يضحك به الناس فيضحك الناس فعند ذلك يرتاح ويزيد من الكذب والغيبة على سبيل الهزل والنكت والإعجاب بالنفس. وهذا ينطبق عليه الحديث الآتي:
((حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويلٌ للذي يُحَدِّثُ فيكذبُ ليضحك به القوم ويلٌ له ويلٌ له.
(السبب الحادي عشر: هو أن ينسب إليه فعلاً قبيحاً فيتبرأ منه ويقول: فلان الذي فعله ومحاولة إلقاء اللوم والتقصير على غيره؛ ليظهر بمظهر البريء من العيوب.
(السبب الثاني عشر: الشعور بأن غيره يريد الشهادة عليه أو تنقيصه عند كبير من الكبراء، أو صديق من الأصدقاء، أو سلطان فيسبقه إلى هذا الكبير ويغتابه؛ ليسقط من عينه، وتسقط عدالته، أو مروءته (1).
(علاج الغيبة:
الغيبة لها علاجان:
(1) انظر تطهير العيبة من دنس الغيبة لأحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي ص54 بتحقيق مجدي السيد إبراهيم وانظر فتاوى ابن تيمية 28/ 236 - 238 و28/ 222 –238.
(العلاج الأول: هو أن يعلم الإنسان أنه إذا وقع في الغيبة فهو متعرض لسخط الله تعالى ومقته كما دلت عليه الأحاديث السابقة وغيرها من الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ.
(ويعلم أن حسناته يؤخذ منها يوم القيامة لمن اغتابه بدلاً عما استباح من عرضه فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه فربما ترجح كفة سيئاته فيدخل النار وقد يحصل ذلك للإنسان بإذهاب حسنة واحدة من حسناته أو بوضع سيئة واحدة من سيئات خصمه وعلى تقدير أن لا يحصل هذا الرجحان فكفى بنقص الحسنات عقاباً مع المخاصمة والمطالبة، والسؤال، والجواب، والحساب. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا آمن الإنسان المسلم بالأخبار الواردة في الغيبة وتدبرها حق التدبر لم ينطق لسانه بغيبة، وتدبر نفسه، وعيوبها، وتقصيرها، وأن يتدبر في إصلاح نفسه عن عيوب الناس والكلام فيهم، وعلى من به عيب أن يستحيي من الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية حين يرى نفسه على العيوب ويذكر عيوب غيره بل ينبغي له أن يلتمس لأخيه عذراً ومخرجاً ويعلم أن عجزه عن تطهير نفسه من ذلك العيب كعجزه هو عن تطهير نفسه من عيوبها فإن كان الذم له بأمر خَلْقي كان ذماً للخالق؛ فإن ذم الصنعة يستلزم ذم صانعها فليتق الله عز وجل ويصلح نفسه عن عيوبها وكفى بذلك شُغلاً!
(العلاج الثاني: عليه أن ينظر في السبب الباعث له على الغيبة فإن علاج العلة إنما يتم بقطع سببها المستمدة هي منه.
فإذا كان سبب الغيبة الغضب فعليه أن يقول: إن أمضيت غضبي عليه فأنا أخشى الله أن يمضي غضبه عليَّ بسبب الغيبة فإن الله قد نهاني عنها فعصيته واستخففت بنهيه.
وإذا كان سبب الغيبة موافقة للآخرين وطلب رضاهم فعليك أن تعلم أن الله يغضب عليك إذا طلبت سخطه برضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن تسخط مولاك من أجل إرضاء المخلوقين الذين لا ينفعون ولا يضرون وإن كان الغضب لله فلا تذكر المغضوب عليه بسوء لغير ضرورة بل ينبغي أن تغضب على من اغتابه إلا إذا كان من باب تحذير المسلمين عن الشر. وهذا سيأتي فيما يجوز من الغيبة.
وإذا كان سبب الغيبة: هو تنزيه النفس ونسبة الخيانة إلى غيرك. فاعلم أن التعرض لمقت الله أشد من التعرض لمقت الخلق وأنت بالغيبة قد تعرضت لسخط الله يقيناً ولا تدري هل تسلم من سخط الناس أو لا تسلم والذي يرضي الناس بسخط الله يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس
…
!
وإذا كان: سبب الغيبة هو الرغبة في أن تزكي نفسك بزيادة الفضل وذلك بقدحك في غيرك حتى تشعر الناس أنك تتصف بخلاف ما يتصف به من اغتبته فاعلم أنك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله تعالى إن كان لك فضل وأنت من اعتقاد الناس فضلك لست على يقين وعلى تقدير أنهم يفضلونك فأنت سينقص فضلك أو يزول بالكلية إذا عرفوك بغيبة الناس والوقوع في أعراضهم فأنت بعت ما عند الله يقيناً بما عند الناس وهماً ولو اعتقدوا فضلك لم يغنوا عنك من الله شيئاً لأن قلوبهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فعليك أن تتدبر دقائق الأمور ولا تغتر بظواهرها.
وإذا كان الباعث على الغيبة: هو الحسد فأنت قد جمعت بين عذابين؛ لأنك حسدته على نعمة الدنيا فكنت معذباً بالحسد وذلك لأن الحاسد يجد الهم والغم وضيق الصدر ثم لا يقنع بذلك حتى يضاف إليه عذاباً آخر يوم القيامة فالحاسد قد جمع خسران الدنيا والآخرة وهو في الحقيقة صديق للمحسود عدو لنفسه؛ لأنه يضيف حسناته إلى حسنات المحسود ويتحمل من سيئاته إن لم يكن للحاسد حسنات مع أن الحسد، والغيبة لا تضر المحسود بل ربما كان ذلك سبباً لانتشار فضله.
وإذا كان البعث على الغيبة هو الاستهزاء والسخرية فينبغي للحاسد أن يعلم أنه متى استهزأ بغيره عند الناس فإن ذلك يكون مخزياً لنفسه عند الله ثم عند خلقه وهذه هي الخسارة بعينها.
وإذا كان المغتاب يقصد بغيبته الرحمة لغيره فهذا مقصود فاسد؛ لأنه أراد الرحمة فوقع في الغيبة المحرمة فلو كان صادقاً في رحمته لنصح له ووجّهه وأرشده ..
أما إذا كان السبب الباعث على الغيبة هو التعجب والضحك، فإنه ينبغي للمغتاب أن يتعجب من نفسه كيف أهلك نفسه بنفس غيره وكيف نقص دينه بكمال دين غيره أو بدنياه. فهو مع ذلك لا يأمن عقوبة الدنيا ويخشى على المغتاب أن يهتك الله ستره ويفضحه في الدنيا قبل الآخرة كما هتك بالتعجب ستر أخيه.
فإذا نظر الإنسان العاقل في أسباب الغيبة وعلاجها واستعمل هذا الدواء الذي ذكر هنا سلم إن شاء الله من ضرر الغيبة وكان ممن اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، وصان لسانه عن النطق إلا بالخير فبذلك يفوز بخيري الدنيا والآخرة. وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعلنا جميعاً ممن يقول بالحق ويكون أسبق الناس إلى العمل به كما يحب ربنا ويرضى إنه أكرم مسؤول (1).
(طريق التوبة من الغيبة:
وطريق التوبة بالنسبة لمن اغتاب المسلمين هو أن يتحلله ويطلب منه العفو إذا أمِنَ الفتنة أما إذا كان هذا يسبب الشحناء أو يسبب منكراً آخر أو فتنة فإن المغتاب يذكره بالخير الذي فيه في المجالس التي ذكره فيها بسوء ويرد عنه الغيبة بجهده وطاقته فتكون تلك بتلك إن شاء الله مع مراعاة شروط التوبة وبالله التوفيق (2).
(ما يباح من الغيبة:
قال الله تعالى: {لَاّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]
قال النووي رحمه الله تعالى: تباح الغيبة لغرضٍ صحيحٍ شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهي ستة أسباب:
(1)
التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولايةٌ أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلانٌ بكذا.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: قالت هند بنت عتبة يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.
(2)
الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته فلان يعمل كذا فازجره عنه أو نحو ذلك.
(1) انظر تطهير العيبة من دنس الغيبة لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي ص 47.
(2)
انظر تطهير العيبة من دنس الغيبة ص62.
((حديث زيد ابن أرقم الثابت في الصحيحين) قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} من حوله وقال {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل قالوا كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله عز وجل تصديقي في {إذا جاءك المنافقون} فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم.
(3)
الاستفتاء: بأن يقول للمفتي ظلمني فلان بكذا، فهل له ذلك وما الطريق في دفع ظلمه عني.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: قالت هند بنت عتبة يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
(4)
تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائزٌ بإجماع المسلمين للحاجة. ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو معاملته أو مجاورته أو غير ذلك، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة لأن المستشار مؤتمن بنص السنة الصحيحة
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المستشار مؤتمن.
ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد على مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم فعليه أن ينصحه ببيان حاله قاصدا النصيحة. ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو لفسقه فيذكره لمن له عليه ولاية ليستدل به على حاله فلا يغتر به ويلزم الاستقامة.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام قال أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
(5)
أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته فيجوز ذكره بما يجاهر به ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر.
((حديث فاطمة بنت قيس الثابت في صحيح مسلم) قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له.
(6)
التعريف: فإذا كان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والقصير والأعمى ونحوها جاز تعريفه به ويحرم ذكره به تنقصاً ولو أمكن تعريفه بغيرها كان أولى.
(ولله درُ من قال:
والذم ليس بغيبة في ستة
…
متظلم ومعرف ومحذر
ولمظهر فسقا ومستفت ومن
…
طلب الإِعانة في إِزالة منكر
(2)
النميمة:
مسألة: ما هي النميمة، وما خطرها، وما أدلة تحريمها؟
النميمةُ نقل الكلام بين الناس بغرضِ الإفساد.
(تعريف النميمة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى نقلاً عن الإمام الغزالي رحمه الله ما ملخصه: (النميمة في الأصل نقل القول إلى المقول فيه ولا اختصاص لها بذلك، بل ضابطها كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو غيرهما، وسواء كان المنقول قولاً، أم فعلاً، وسواء كان عيباً أم لا، حتى لو رأى شخصاً يخفي ماله فأفشى كان ينميه)(1).
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (
…
في رواية لا يدخل الجنة نمام وفي أخرى قتات وهو مثل الأول فالقتات هو النمام. ثم قال: قال الجوهري وغيره يقال: (نم الحديث ينمه، وينُمه، بكسر النون وضمها، نما، والرجل نمّامٌ، وقته يقته بضم القاف قتا. قال العلماء: النميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم)(2).
والنم إظهار الحديث بالوشاية. وأصل النميمة الهمس والحركة (3).
وقد بوب البخاري رحمه الله تعالى باباً قال فيه: (باب ما يكره من النميمة).
ثم قال ابن حجر رحمه الله تعالى: كأنه أشار بهذه الترجمة إلى بعض القول المنقول على جهة الإفساد يجوز إذا كان المقول فيه كافرًا مثلاً، كما يجوز التجسس في بلاد الكفار ونقل ما يضرهم) (4).
(حكم النميمة:
النميمة محرمة بإجماع المسلمين، وقد تظاهر على تحريمها الدلائل الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة (5).
(الترهيب من الوقوع في النميمة:
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 473، والأذكار للنووي 298.
(2)
شرح الإمام النووي على مسلم 2/ 112.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 472.
(4)
المرجع السابق 10/ 472.
(5)
انظر الأذكار للإمام النووي ص 289.
قال الله تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم 12،11]
وقال سبحانه: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) [الهمزة: 1]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث حذيفة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يدخل الجنة قتَّات.
((حديث حذيفة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ.
(والقتات هو النمام. ووقع في رواية أبي وائل عن حذيقة عند مسلم (1) وقيل. الفرق بين القتات والنمام أن النمام الذي يحضر القصة فينقلها، والقتات الذي يستمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه (2).
(قال الحافظ ابن حجر: قوله: "لا يدخل الجنة" أي في أول وهلة كما في نظائره (3).أهـ
(وهذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بشيء من المعاصي ما لم يستحله، إلا ما خصه الدليل.
((حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قال: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنبئكم ما العَضَةُ؟ هي النميمةُ القالةُ بين الناس.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قال: ”ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس“ وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قال: ”إنَّ الرجل يصدق حتى يكتب صديقاً. ويكذب حتى يكتب كذاباً“ (4).
(1) مسلم 1/ 101.
(2)
فتح الباري 10/ 473.
(3)
الفتح 10/ 473.
(4)
مسلم 4/ 2012.
(وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: ”يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة“ والنميمة من أنواع السحر، لأنها تشارك السحر في التفريق بين الناس وتغيير قلوب المتحابين وتلقيح الشرور (1).
(ما ينبغي لمن حملت إليه النميمة:
قال الإمام النووي: (وكل من حملت إليه نميمة، وقيل له: فلان يقول فيك، أو يفعل فيك كذا فعليه ستة أمور:
الأول: أن لا يصدق، لأن النمام فاسق.
الثاني: أن ينهاه عن ذلك، وينصحه، ويقبح له فعله.
الثالث: أن يبغضه في الله تعالى؛ فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من أبغضه الله تعالى.
الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء.
الخامس: أن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك.
السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكي نميمته عنه فيقول: فلان حكى كذا، فيصير به نماماً، ويكون آتياً ما نهى عنه
…
) (2).
(ذو الوجهين:
تأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
(قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: "إِنَّمَا كَانَ ذُو الْوَجْهَيْنِ شَرّ النَّاس لِأَنَّ حَاله حَال الْمُنَافِق إِذْ هُوَ مُتَمَلِّقٌ بِالْبَاطِلِ وَبِالْكَذِبِ مُدْخِلٌ لِلْفَسَادِ بَيْنَ النَّاس".
(وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
"هُوَ الَّذِي يَأْتِي كُلّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا فَيُظْهِر لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا وَمُخَالِف لِضِدِّهَا وَصَنِيعه نِفَاق وَمَحْض كَذِب وَخِدَاع وَتَحَيُّل عَلَى الِاطِّلَاع عَلَى أَسْرَار الطَّائِفَتَيْنِ وَهِيَ مُدَاهَنَة مُحَرَّمَة".
((حديث عمار ابن ياسر الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار.
(1) انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ص325.
(2)
شرح النووي على مسلم 2/ 113 نقلاً عن الغزالي، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 473 نقلاً عن الغزالي كذلك، والأذكر للنووي ص299 نقلاً عن الغزالي كما تقدم.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً.
((حديث أَبِي الشَّعْثَاءِ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَمِيرِنَا فَنَقُولُ الْقَوْلَ فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا غَيْرَهُ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ النِّفَاقِ "
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَثَلُ المنافق كَمَثَلِ الشاةِ العَائِرةِ بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير في هذه مرة وفي هذه مرة لا تدري أيها تتبع.
(كمثل الشاة العائرة): المترددة المتحيرة.
(تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة): أي تعطف على هذه وعلى هذه.
(لا تدري أيهما تتبع) لأنها غريبة ليست منهما، فكذا المنافق لا يستقر بالمسلمين ولا بالكافرين بل يقول لكل منهم أنا منكم.
(الدوافع الباعثة على الوقوع في النميمة:
لا شك أن دوافع النميمة هي دوافع الغيبة كما تقدم. ويضاف إلى الدوافع السابقة: الكراهة، والتقرب للمحكي له، والرغبة في إشعال النيران، وإثارة الفتن، وتفريق المجتمعات، وزرع البغضاء في قلوب الناس.
(علاج النميمة:
علاج النميمة هو علاج الغيبة كما تقدم.
(النميمة لها علاجان:
(العلاج الأول: هو أن يعلم الإنسان أنه إذا وقع في النميمة فهو متعرض لسخط الله تعالى ومقته كما دلت عليه الأحاديث السابقة وغيرها من الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ.
(ويعلم أن حسناته يؤخذ منها يوم القيامة لمن نم عليه بدلاً عما استباح من عرضه فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه فربما ترجح كفة سيئاته فيدخل النار وقد يحصل ذلك للإنسان بإذهاب حسنة واحدة من حسناته أو بوضع سيئة واحدة من سيئات خصمه وعلى تقدير أن لا يحصل هذا الرجحان فكفى بنقص الحسنات عقاباً مع المخاصمة والمطالبة، والسؤال، والجواب، والحساب. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا آمن الإنسان المسلم بالأخبار الواردة في النميمة وتدبرها حق التدبر لم ينطق لسانه بالنميمة، وتدبر نفسه، وعيوبها، وتقصيرها، وأن يتدبر في إصلاح نفسه عن عيوب الناس والكلام فيهم، وعلى من به عيب أن يستحيي من الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية حين يرى نفسه على العيوب ويذكر عيوب غيره بل ينبغي له أن يلتمس لأخيه عذراً ومخرجاً ويعلم أن عجزه عن تطهير نفسه من ذلك العيب كعجزه هو عن تطهير نفسه من عيوبها فإن كان الذم له بأمر خَلْقي كان ذماً للخالق؛ فإن ذم الصنعة يستلزم ذم صانعها فليتق الله عز وجل ويصلح نفسه عن عيوبها وكفى بذلك شُغلاً!
(العلاج الثاني: عليه أن ينظر في السبب الباعث له على النميمة فإن علاج العلة إنما يتم بقطع سببها المستمدة هي منه.
فإذا كان سبب النميمة الغضب فعليه أن يقول: إن أمضيت غضبي عليه فأنا أخشى الله أن يمضي غضبه عليَّ بسبب النميمة فإن الله قد نهاني عنها فعصيته واستخففت بنهيه.
وإذا كان سبب النميمة موافقة للآخرين وطلب رضاهم فعليك أن تعلم أن الله يغضب عليك إذا طلبت سخطه برضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن تسخط مولاك من أجل إرضاء المخلوقين الذين لا ينفعون ولا يضرون وإن كان الغضب لله فلا تذكر المغضوب عليه بسوء لغير ضرورة بل ينبغي أن تغضب على من اغتابه إلا إذا كان من باب تحذير المسلمين عن الشر. وهذا سيأتي فيما يجوز من الغيبة.
وإذا كان سبب النميمة: هو تنزيه النفس ونسبة الخيانة إلى غيرك. فاعلم أن التعرض لمقت الله أشد من التعرض لمقت الخلق وأنت النميمة قد تعرضت لسخط الله يقيناً ولا تدري هل تسلم من سخط الناس أو لا تسلم والذي يرضي الناس بسخط الله يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس
…
!
وإذا كان: سبب النميمة هو الرغبة في أن تزكي نفسك بزيادة الفضل وذلك بقدحك في غيرك حتى تشعر الناس أنك تتصف بخلاف ما يتصف به من نممت عليه فاعلم أنك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله تعالى إن كان لك فضل وأنت من اعتقاد الناس فضلك لست على يقين وعلى تقدير أنهم يفضلونك فأنت سينقص فضلك أو يزول بالكلية إذا عرفوك بالنميمة الناس والوقوع في أعراضهم فأنت بعت ما عند الله يقيناً بما عند الناس وهماً ولو اعتقدوا فضلك لم يغنوا عنك من الله شيئاً لأن قلوبهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فعليك أن تتدبر دقائق الأمور ولا تغتر بظواهرها.
وإذا كان الباعث على النميمة: هو الحسد فأنت قد جمعت بين عذابين؛ لأنك حسدته على نعمة الدنيا فكنت معذباً بالحسد وذلك لأن الحاسد يجد الهم والغم وضيق الصدر ثم لا يقنع بذلك حتى يضاف إليه عذاباً آخر يوم القيامة فالحاسد قد جمع خسران الدنيا والآخرة وهو في الحقيقة صديق للمحسود عدو لنفسه؛ لأنه يضيف حسناته إلى حسنات المحسود ويتحمل من سيئاته إن لم يكن للحاسد حسنات مع أن الحسد، والغيبة لا تضر المحسود بل ربما كان ذلك سبباً لانتشار فضله.
وإذا كان البعث على النميمة هو الاستهزاء والسخرية فينبغي للحاسد أن يعلم أنه متى استهزأ بغيره عند الناس فإن ذلك يكون مخزياً لنفسه عند الله ثم عند خلقه وهذه هي الخسارة بعينها.
وإذا كان النميمة يقصد بغيبته الرحمة لغيره فهذا مقصود فاسد؛ لأنه أراد الرحمة فوقع في الغيبة المحرمة فلو كان صادقاً في رحمته لنصح له ووجّهه وأرشده ..
أما إذا كان السبب الباعث على النميمة هو التعجب والضحك، فإنه ينبغي للمغتاب أن يتعجب من نفسه كيف أهلك نفسه بنفس غيره وكيف نقص دينه بكمال دين غيره أو بدنياه. فهو مع ذلك لا يأمن عقوبة الدنيا ويخشى على المغتاب أن يهتك الله ستره ويفضحه في الدنيا قبل الآخرة كما هتك بالتعجب ستر أخيه.
فإذا نظر الإنسان العاقل في أسباب النميمة وعلاجها واستعمل هذا الدواء الذي ذكر هنا سلم إن شاء الله من ضرر الغيبة وكان ممن اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، وصان لسانه عن النطق إلا بالخير فبذلك يفوز بخيري الدنيا والآخرة. وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعلنا جميعاً ممن يقول بالحق ويكون أسبق الناس إلى العمل به كما يحب ربنا ويرضى إنه أكرم مسؤول (1).
(ما يباح من النميمة:
(1) انظر تطهير العيبة من دنس الغيبة لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي ص 47.
(قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
(فإن دعت حاجة
…
(إلى النميمة) فلا مانع منها وذلك كما إذا أخبره أن إنساناً يريد الفتك به، أو بأهله أو بماله، أو أخبر الإمام، أو من له ولاية بأن إنساناً يفعل كذا ويسعى بما فيه مفسدة. ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وإزالته. فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام وقد يكون بعضه واجباً، وبعضه مستحباً على حسب المواطن والله أعلم) (1).
(قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه) ثم ساق بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتمعر وجهه وقال: ”رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر“ (2).
(والمذموم من نقلة الأخبار من يقصد الإفساد وأما من يقصد النصيحة، ويتحرى الصدق، ويجتنب الأذى فلا، وقل من يفرق بين البابين فطريق السلامة في ذلك لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك، مما لا يباح الإمساك عن ذلك
…
(3).
(الفرق بين الغيبة والنميمة:
(قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (واختُلِفَ في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان: والراجع التغاير وأن بينهما عموماً وخصوصاً وجيهاً. وذلك؛ لأن النميمة نقل حال شخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه سواء كان بعلمه أم بغير علمه.
والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه فامتازت النميمة بقصد الإفساد ولا يشترط ذلك في الغيبة.
وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه واشتركا في ما عدا ذلك.
ومن العلماء من يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائباً والله أعلم (4).
(3)
القول على الله بغير علم:
(إن القول على الله بغير علم داءٌ عضال وسمٌ قتال من قبائح الذنوب وفواحش العيوب، القول على الله بغير علم أصل البدع والعصيان، والبغي والعدوان، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة
(1) انظر شرح النووي على مسلم 2/ 113.
(2)
صحيح البخاري 7/ 87 وفتح الباري 10/ 475.
(3)
انظر فتح الباري 10/ 476.
(4)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 473.
قال تعالى: (وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هََذَا حَلَالٌ وَهََذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)[النحل: 116]
قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36]
(أورد ابنُ كثيرٍ رحمه الله في تفسيره عن ابن عباس: يقول: لا تقل.
((حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ.
((حديث عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ.
(فعلى المسلم أن يحذر من القول على الله بغير علم فيقتصر على ما يعلمه، ويقول: (الله أعلم) فيما يجهله، فإنها نصف العلم، فالذي يقول بغير علم: قد يكون ذنبه أكبر من الشرك، لأنه ينصب نفسه مشرعا، وحاكما، وقد حرم الله سبحانه وتعالى القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء «وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها»
قال تعالى: (قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]
(قال ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين عن رب العالمين:
مراتب المحرمات أربع مراتب وقد بدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك بالله سبحانه ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بغير علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه [الإعلام 1/ 38]
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعِدَّ له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدوره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَآءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ)[النساء: 127]
وكفى بما تولاه الله بنفسه شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)[النساء: 176]
وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئول غداً وموقوف بين يدي الله [الأعلام 1/ 11]
(قال الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسائل الجاهلية: قاعدة الضلال: القول على الله بلا علم) ا. هـ وقد يكون القول على الله بلا علم من الشرك كما قال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} ، وقال جل وعلا:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} سورة الأعراف.
(لقد رسم السلف الصالح رحمهم الله المسلك الوضَّاء في هذه القضية، ديانةً وتثبتاً وورعاً، فهذا أعلم الأمة وسيدها وإمامها صلى الله عليه وسلم، يسأل عما لم ينزل عليه فيه وحي، فينتظر حتى ينزل عليه الوحي، وآيات يسألونك في الكتاب العزيز غير قليلة، وهكذا كان الأجلاء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه وقد سأل عن معنى آيه من كتاب الله يقول:«أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟» وهذا عمر رضي الله عنه تنزل به الحادثة فيجمع لها أكابر الصحابة ويستشيرهم فيها.
(قال ابن سيرين رحمه الله: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر.
(وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن استطعت أن تكون أنت المُحَدَّثَ فافعل. (وقال رضي الله عنه: إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون.
(وقال أيضاً: من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم.
(ورحم الله الإمام الشعبي حينما سئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقال له أصحابه: إنا نستحي لك من كثرة ما تسأل فتقول: لا أدري، فقال رحمه الله: لكن ملائكة الرحمن لم يستحيوا إذ سئلوا عما لا علم لهم به فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].
(وكان عطاء بن أبي رباح يقول: لا أدري نصف العلم. وقال بعضهم: إذا نسي العالم كلمة لا أدري فقد أصيبت مقاتله.
(تدافع الفتوى وذم المسارعة إليها:
(أورد ابن عبد البر رحمه الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى.
(وهذا إمام دار الهجرة رحمه الله يقدم عليه رجل من مسافة بعيدة، فيعرض عليه أربعين مسألة، فيجيب عن أربع منها ويقول في ست وثلاثين مسألة منها: الله أعلم.
فيقول له الرجل: أنت مالك بن أنس، إليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد، وقد جئتك من مسافة بعيدة وتقول: الله أعلم! ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟! قال: تقول لهم: إن مالكاً يقول: الله أعلم.
(وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يسأل فيتوقف، أو يقول: لا أدري، أو نحو ذلك.
(وقال سفيان بن عيينة: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً.
(وقال البراء: لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا.
(رأى رجل ربيعة بن عبد الرحمن يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم. ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق. وقال الإمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي بعدما ساق هذا الأثر: فكيف لو رأى زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا مع قلة خبرته وسوء سيرته وشؤم سريرته، وإنما قصده السمعة ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين والعلماء الراسخين والمتجردين السابقين، ومع هذا فهم يفهمون فلا ينتهون وينبهون فلا ينتبهون قد أملي لهم بانعكاف الجهال عليهم وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم فمن أقدم على ما ليس له أهلا من فتيا أو قضاء أو تدريس أثم فإن أكثر منه وأصر واستمر فسق .. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(وقال سحلول بن سعيد: أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.
وكان إذا سئل رحمه الله يقول: إنما يفتي الناس مفت أو أحمق، وأنا لست بمفت ولا أريد أن أكون الآخر.
(قال ابن القيم رحمه الله تعالى: كل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها، إلا قل توفيقه واضطرب في أمره، وإن كان كارهاً لذلك غير مختار له وما وجد ممدوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتاويه وجوابه أغلب.
(أسباب القول على الله بغير علم:
وللقول على الله بغير علم أسباب كثيرة، من أبينها وأوضحها وأخطرها أمران:
الأول: الجهل.
الثاني: الخصومات في الدين.
(السبب الأول: الجهل.
لقد نفرت الشريعة من الجهل في الدين، وحضت على العلم وطلبه، وبينت الفرق بين الفريقين فقال الله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العالم والجاهل، وجعل فضل العالم على العابد كفضله صلى الله عليه وسلم على أدنى رجل من أمته، وكفضل القمر على سائر الكواكب. وما ذاك إلا لخطورة آثار الجهل في الدين وما ينتج عنه من عبادة الله بغير ما شرع، وإنشاء البدع والمحدثات.
والقائل على الله بلا علم لا يعدو حاله أمرين: الجهل، أو الهوى والابتداع.
أما الجاهل فقد يكون جهله عامَّا، وقد يكون جزئياً منحصرا في مسألته التي قال فيها بغير علم، فإنه إذا كان مريدا للحق ولكن حبه للخير وإخلاصه لله دفعاه للقول على الله بلا علم، فإنه غالبا إذا نصح، وأخبر بأن ما قاله مخالف للشريعة، فإنه سرعان ما يرجع للحق وينيب إلى الله، أما صاحب الهوى، فإنه لا تعييه كثرة السبل، ولا يردعه الخوف من الله، ولكن تسيره الأهواء كورق الشجر حيث مال الهوى والشهوة مال معه وانقاد.
(وإنك لتعجب لجهل بعض الناس، تجده جاهلا معرضا عن العلم وأهله، منقادا لكل ناشئ ومحدث من القول، متتبعا للرخص الباطلة والزلات التي لا يتابع فيها أصحابها، فاقدا لأداة التمييز بين الأدلة المتعارضة، ومع ذلك تجده متفيهقا، متعالما، كالورم الخبيث، تراه تحسبه صحة، فإذا ما تفحصت الأمر وجدته سما زعافا، وقيحا منتناًً.
وهذا هو ما يسمه أهل العلم بـ: (الجاهل المركب). والبلاء كل البلاء يأتي من هؤلاء.
وهؤلاء غالبا، لا تنفع معهم الموعظة، إنما ينفع معهم قهر السلطان، لأنهم كثيرا ما يُغلِّبون الهوى والرأي على الدليل والحق. وسرعان ما تجد المحدثات في الدين، والأقوال الضالة تخرج من جيوبهم، ومن تحت أقدامهم. وهذا هو الجاهل الذي لا يدري أنه جاهل.
وآخرون جهلة مقرون بجهلهم، ولكن قد عرفوا قدر أنفسهم، فلم يتحملوا ما لا يطيقون حمله، وإن زل أحدهم رجع عن قوله بعد علمه بخطئه، وهذا هو ما يسميه أهل العلم بالجاهل البسيط وهو الجاهل الذي يدري أنه جاهل، وهذا سرعان ما تتقدم به المعرفة والعلم ويرتفع عن جهله شيئا فشيئا ما دامت هذه حاله، حتى يصل إلى ما هو خير مما هو عليه؛ ذلك لأن من عود نفسه اتباع الحق متى علمه فإن الله سبحانه وتعالى يهديه للحق، ويزيده هدى وعلما. ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
(فالجهل في الدين خطره عظيم، لأنه أصل في القول على الله بلا علم، ولقد قال العلامة ابن جبرين -حفظه الله- في رسالة له بعنوان: (الجهل وآثاره السيئة ص: 9): (الجهل ينقسم إلى قسمين: الأول جهل بالله وبعبادته، والثاني جهل بالشريعة وبالحقوق التي على الإنسان لربه سواء مما أمر بفعله أو أمر بتركه. والواجب أن يزيل هذا الجهلة) ا. هـ
وقال -حفظه الله- محذّرا من الجهل بالعقيدة (ص10): (لا يجوز للعبد أن يبقى على هذا الجهل الذي هو الجهل بالعقيدة) ا. هـ.
وقال -حفظه الله- مبينا آثار الجهل بالدين (ص11): (كثير من الناس أعرضوا عن التعلم الذي هو تعلمهم الشرائع فوقعوا في بدع ومنكرات، أو تعلموا ضد ما أمروا به فوقعت منهم تلك البدع والخرافات) ا. هـ.
(إنه من الخطورة بمكان على المسلم أن يصدّر نفسه للقول في دين الله بما لا يعلم، أو متتبعا للرخص الباطلة، أو مجادلاً في دين الله تعالى بغير حجة ولا برهان، ومن هذا الباب نشأت الفرق الضالة، ومن أسهل الأمور أن يقول الإنسان الكلمة، ومن أصعبها الرجوع عنها، وليت المسألة تقف عند قولها ثم الرجوع عنها، ولكن ما يدري القائل في دين الله بلا علم أن يأخذ بقوله جاهل أو صاحب هوى، فيطير قوله في الآفاق، وعند هذا يكون هذا القائل على الله بلا علم ارتكب محاذير عدّة منها:
(1)
أنه سن في الإسلام سنة سيئة.
(2)
أنه شرع في الدين ما لم يأذن به الله.
(3)
أنه معول هدم للشريعة ومفتاح شر.
(4)
إنه يُخشى عليه من الدخول في الوعيد المترتب على الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
(السبب الثاني: الخصومات والجدال في الدين:
والخصومات في الدين وكثرة الجدال بغير مصلحة شرعية باب شر على مريد الحق، لاسيما إذا كان جاهلا، قليل البضاعة من العلم الشرعي. فقد ثبت عن بعض السلف رحمهم الله قول:(من عرض نفسه للخصومات أكثر التنقل) ا. هـ.
وهذا بين واضح. فمن أعظم أبواب القول على الله بلا علم الخصومات والجدال في الدين. فمن دخل فيها وليس معه علم شرعي كاف، أو كان جاهلا، فإنه سرعان ما يتنقل من قول إلى قول، وسينشئ أقوالا لا دليل عليها، أو سيتتبع أقوالا مهجورة وشذوذات في بطون الكتب مطمورة، وذلك كله ليغلب خصم.
(ولهذا فإن الواجب على مريد الحق الكف عن الخصومات والجدال في الدين ما لم يكن معه حجة ودليل صالح للاستدلال، وليدع ما لم يعلم لمن يعلم وليتق الله أن يَضل أو يُضل.
(قال العلامة صالح الفوزان -حفظه الله- في تعليقه على نونية ابن القيم المسمى: (التعليق المختصر على القصيدة النونية 1 - 76): (إذا تسلحت بالكتاب والسنة والعلم النافع فاطلب المبارزة من المخالفين، أما قبل أن تتسلح فلا تدخل في المناظرة، فالإنسان يتعلم قبل أن يدخل في ميدان المناقشة والرد والمجادلة) ا. هـ.
(وقال -حفظه الله- (ص 79): (تعرَ من الجهل بتعلم العلم، لأن الجهل داء قاتل، والجاهل لا يُصلح) ا. هـ وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسائل الجاهلية: (المسألة التاسعة عشر بعد المائة: مخاصمتهم فيما ليس لهم به علم) قال العلامة صالح الفوزان تعليقاً على هذه المسألة في كتاب: (شرح مسائل الجاهلية: ص 293): (الواجب أن الإنسان لا يجادل إلا بعلم، أما ما لا يعلمه فإنه يسكت عنه) ا. هـ.
(وخلاصة القول:
إن الجهل والخصومات في الدين هما بريد الابتداع، وأصل الضلال، ومنشأ القول على الله بلا علم.
(صفات من يقول على الله بغير علم:
إن من يتأمل أحوال هؤلاء الناس الذين يتصدرون في دين الله بغير علم يجد الواحد منهم لا يخلو من إحدى ست خصال أو من كلها:
(1)
يحاول أن يظهر التعالم بين الناس، فما يكاد من حوله يثيرون مسألة أو يتكلمون في مبهمة إلا ويتفيهق ويتشدق ليظهر نفسه أمامهم في مظهر المثقف العارف المتعلم، نعوذ بالله من فتن المضلين.
(2)
يجده قليل الاستشهاد في كلامه على النصوص الشرعية، من كتاب أو سنة وأكثر كلامه في الدين برأيه وفكره ومزاجه وذوقه دون تدليل وبرهان شرعي وما ذاك إلا نه قد قعدت به همته عن طلب العلم وحفظ الآيات والأحاديث، والأمر كما قال: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t: إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم.
(3)
كما أن هذا النوع من الناس قليل الرجوع العلماء فهو كثيراً ما يفتي نفسه بنفسه .. وسبحان ربي العظيم، لو نزل بهذا الرجل مرض لما اجتهد رأيه في أخذ الدواء بل يبحث عن الطبيب الناصح ليسأله في مرضه .. أما دينه فلا يحتاط له هذه الحيطة. ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوبك الدهر مغسول من الدنس
(4)
كما أن هذا النوع من الناس يكون مستكبراً عن قبول الحق إذا بين له وقليل الرجوع عن قوله أو رأيه.
(5)
وهو مع ذلك كله يحب الظهور والشهرة بل زد على ذلك أنه متعصب لرأيه يرى أنه دائماً على الصواب وغيره على الخطأ. عباد الله: فليكن الواحد منا أحرص على فتواه منه على درهمه .. وليعلم أن علماء كباراً تهيبوا عن الكلام في الدين والتوقيع عن رب العالمين .. جاء رجل إلى القاسم بن محمد بن أبي بكر فسأله عن شيء فقال: لا أحسنه. فقال السائل: إني جئت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي .. والله ما أحسنه .. والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي. وسئل الشعبي عن شيء فقال: لا أدري فقيل له: ألا تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق فقال:" لكن الملائكة لم تستح حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا. وقد نبّه الشاعر على ذلك بقوله: وإن بدت بين أناس مسألة معروفة في العلم أو مفتعلة فلا تكن إلى الجواب سابقا حتى ترى غيرك فيها ناطقا والصمت فاعلم بك حقا أزين إن لم يكن عندك علم متقن وقل إذا أعياك ذاك الأمر ما لي بما تسأل عنه خير فذاك شطر العلم عند العلما كذاك ما زالت تقول الحكما.
(صفات من يتصدر للفتيا:
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
(الأولى: أن تكون له نية صالحة، وهي أن يخلص لله تعالى في كلامه ولا يقصد تصوراً ولا ظهوراً ولا مدحاً أو ثناء "، بل يقصد بذلك تبليغ دين الله للناس وتعليمهم ورفع الجهل عنهم.
(والثانية: أن يكون له حلم ووقار .. وأن لا يتعجل الجواب وإن كان صحيحا لأن الفتيا أمر عظيم. قال أبوبكر الخطيب رحمه الله: قلَّ من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره. وقال الخليل بن أحمد: إن الرجل ليسأل عن المسألة قد يعجل في الجواب فيصيب فأذمه، ويسأل عن مسألة فيثبت في الجواب فيخطئ فأحمده.
(الثالثة: أن يكون على علم ومعرفة لما سئل عنه وإن عرض نفسه لخطر عظيم وإذا سئل عن مسألة لا يعلمها فليتذكر بالحصن الحصين: لا أدري ولا يستحي من قولها .. فقد روى الإمام أحمد والحاكم بسند حسن عن محمد بن جبر بن مطعم عن أبيه أنه أتى النبي r فقال: يا رسول الله: أي البلدان شرٌ؟ فقال: لا أدري، فلما أتاه جبريل عليه السلام قال: يا جبريل: أي البلدان شرٌ؟ قال: لا أدري حتى أسال ربي عز وجل، فانطلق جبريل عليه السلام ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم جاء فقال: يا محمد إنك سألتني أي البلدان شر فقلت: لا أدري وإني سألت ربي عز وجل: أي البلدان شر؟ فقال أسواقها. وقال الشعبي: لا أدري هي نصف العلم. وقال الإمام أحمد: ليس كل شيء ينبغي أن يتكلم فيه وذكر أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل فيقول: لا أدري حتى أسأل جبريل.
(الرابعة: الكفاية هي أن لا يسأل الناس ما في أيديهم.
(الخامسة: معرفته بالناس، وأن يكون بصيراً بمكرهم وخداعهم لئلا يوقعوه في مكروه.
{تنبيه} : (ينبغي للرجل إذا أراد أن يتكلم في مجلس من المجالس في مسألة من المسائل: أن يمسك عن الكلام إن كان في المجلس من هذا علم منه. قال يحي بن معين: الذي يحدث بالبلدة وبها من هو أولى منه بالحديث فهو أحمق. كما أنه ينبغي أن ينسب الأقوال ما استطاع إلى أهلها فإذا نقل كلاماً عن عالم نسبه إلى قائله؛ لأن في ذلك تعلق للعامة بأهل العلم خاصة العلماء الأحياء، لكن ينبغي له أن يتبين في نقله فلا ينسب إلى أهل العلم ما لم يقولوه. اللهم إنا نسألك أن تعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمتنا وأن يرزقنا العمل بما علمناه يا رب العالمين. اللهم احفظ علماءنا ودعاتنا ومشايخنا ووفقهم بتوفيقك.
(4)
القذف:
(تعريف القذف:
يقال: قذف بالحجارة (أي) رمى بها، والمحصنة رماها بزنية
…
والتقاذف الترامي
…
(1).
وهو في الأصل رمي الشيء بقوة ثم استعمل في الرمي بالزنا ونحوه (2).
(الترهيب من الوقوع في القذف:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور 6:4]
(1) القاموس المحيط فصل القاف باب الفاء 3/ 183.
(2)
الروض المربع بشرح زاد المستنقع 3/ 314.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور 42،23]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ.
((حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت.
(قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
(والغرض – من هذا الحديث- بيان تحريم العرض – الذي هو موضع المدح والذم من الشخص – أعم من أن يكون في نفسه، أو نسبه، أو حسبه)(1).
(1) الفتح 10/ 464.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخْذُلُه ولا يَحْقره التقوى هاهنا ـ و أشار إلى صدره ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله وعرضه.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ.
(5)
الخصومات والجدال بالباطل:
(الخصومة والنزاع:
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أبغض الرجال عند الله الألدُ الخَصِم.
والألدُّ: هو شديد اللدد كثير الخصومة. والخَصِمُ الذي يخصم أقرانه ويحاجهم بالباطل ولا يقبل الحق (1).
((حديث جابر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب وركن في التحريش بينهم.
معنى أيس: أي يأس
(فالشيطان يحرش بين المصلين بالخصومات والشحناء، والحروب، والإغراء بين الناس بأنواع المعاصي والفتن وغيرها (2).
((حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلٍ جواظ جعظري مستكبر.
((حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون.
(1) انظر جامع الأصول لابن الأثير 2/ 752 وفتح الباري 13/ 181.
(2)
انظر جامع الأصول لابن الأثير 2/ 754.
(العتل): الغليظ الجافي.
(الجواظ): الذي جمع ومنع،
(المستكبر): المتعاظم في نفسه، الذي يرد الحق، ويحتقر الناس كما في الحديث الآتي:((حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلٍ جواظ جعظري مستكبر.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب في الأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل بالآخرة.
(الجعظري): الفظُّ الغليظُ المتكبر.
(والجوّاظ): الجموع المنوع.
(سخاب في الأسواق): والسخاب: كالصخاب: كثير الضجيج والخصام المتكبر.
(جيفة بالليل):جيفة: أي كالجيفة؛ لأنه يعمل كالحمار طوال النهار لدنياه، وينام طوال ليله كالجيفة التي لا تتحرك (1).
((حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون.
(المستكبر): المتعاظم في نفسه، الذي يرد الحق، ويحتقر الناس كما في الحديث الآتي:
((حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غمطُ الناس.
بَطَرُ الحقِ: التكبر على الحق وعدم قبوله
غمطُ الناس: احتقارهم وازدرائهم
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ما من رجل يتعاظم في نفسه و يختال في مشيته إلا لقي الله تعالى و هو عليه غضبان.
((حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) قال لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقَاً.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام قال أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
(1) انظر الأحاديث الصحيحة [التعليق] 1/ 172.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ.
والفاحش الذي يرسل لسانه بما لا ينبغي، وذو الفحش وهو القبيح في الأقوال والأفعال. والمتفحش: الذي يتكلف ذلك ويتعاطاه ويستعمله (1).
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان و لا الفاحش و لا البذيء.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظلم فإن الظلم هو ظلمات يوم القيامة وإياكم والفحش فإن الله لا يحب الفاحش والمتفحش وإياكم والشح فإن الشح دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
(علاج الخصومات والغضب:
من أسباب السلامة من اللجاج والخصومات كظم الغيظ والابتعاد عن الغضب وأسبابه. وعلاج الغضب بالأدوية المشروعة يكون بطريقتين:
الطريق الأول: الوقاية ومعلوم أن الوقاية خير من العلاج، وتحصل الوقاية من الغضب قبل وقوعه باجتناب أسبابه والابتعاد عنها ومن هذه الأسباب التي ينبغي لكل مسلم أن يطهر نفسه منها: الكبر، والإعجاب بالنفس، والافتخار، والتيه، والحرص المذموم، والمزاح في غير مناسبة، أو الهزل، أو ما شابه ذلك (2).
الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب هناك عدة أدوية نافعةٌ بإذن الله تعالى لعلاج الغضب منها:
(1)
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم لقوله تعالى: (وَإِماّ يَنَزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[سورة: الأعراف - الآية: 200]
((حديث سليمان بن صرد الثابت في الصحيحين) قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبَّاً قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(2)
تغيير الحالة التي كان عليها الغضبان:
((حديث أبي ذرٍ الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع.
(1) انظر جامع الأصول لابن الأثير 11/ 739 وفيض القدير شرح الجامع الصغير 2/ 285.
(2)
انظر الدعائم الخلقية والقوانين الشرعية لصبحي محمصاني ص 227.
(3)
استحضار ما ورد في ثواب كظم الغيظ:
((حديث معاذ بن أنس الجُهَنِّي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظا و هو قادر على أن يُنَفِّذَهُ دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء.
وَهُوَ قادرٌ على أَنْ يُنَفِّذَهُ: بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ يُمْضِيَهُ.
(أخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي المتوكل أن أبا هريرة رضي الله عنه كانت له زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً فقال: لولا القصاص لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، اذهبي فأنت لله.
(4)
أن يسكت:
((حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا غضب أحدكم فليسكت.
(5)
أن يُروِّض نفسه على الحلم والأناة وكظم الغيظ فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتقِ الشر يُوَقَّه.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يوقه.
(الجدال بالباطل:
الجدل اللدد في الخصومة والقدرة عليها (1) يقال: جادل مُجادلةً وجدالاً: إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب (2).
(والجدال نوعان:
(النوع الأول: الجدال المحمود الممدوح: وهو كل جدال أيّد الحق أو أوصل إليه بنية صالحة خالصة وطريق صحيح (3).
قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]
وقال عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]
والمجادلة بالتي هي أحسن هي التي تكون عن علم، وبصيرة، وبحسن الخلق، ولطف، ورفق، ولين، وحسن خطاب، ودعوة إلى الحق، وتحسينه، ورد الباطل وبيان قبحه بأقرب طريق موصل إلى ذلك، وأن لا يكون القصد منها مجرد المغالبة وحب العلو، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق (4).
(1) انظر القاموس المحيط، فصل الجيم، باب اللام، ص1261 والمصباح المنير ص93 والمعجم الوسيط 1/ 111.
(2)
انظر المصباح المنير ص 93.
(3)
انظر منهاج الجدل في القرآن الكريم ص 50.
(4)
انظر تفسير ابن كثير 2/ 592 و3/ 416 وتفسير السعدي 4/ 254 و6/ 92.
(النوع الثاني: الجدال المذموم: وهو كل جدال أيد الباطل أو أوصل إليه أو كان بغير علم وبصيرة.
وهذا النوع هو من أعظم آفات اللسان قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج 4،3]
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (1). [الحج 9،8]
وقال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا} (2).). [الكهف:56]
وقال تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (3). [البقرة:197]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث جابر الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء و لا تخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار.
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا قوله تعالى (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)[الزخرف: 58]
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أبغض الرجال عند الله الألدُ الخَصِم.
(وقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم بيتاً في الجنة لمن ترك الجدال بالباطل من أجل الله عز وجل:
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
(الأسباب الباعثة على الجدال بالباطل:
لا شك أن الأسباب الباعثة على الجدال بالباطل كثيرة منها:
1 -
الغرور، والكبرياء، والخيلاء.
(1) سورة الحج الآيتان: 8، 9.
(2)
سورة الكهف الآية: 56.
(3)
سورة البقرة الآية: 197.
2 -
إظهار العلم والفضل.
3 -
الاعتداء على الغير بإظهار نقصه وقصد أذاه.
وعلاج ذلك بالتوبة إلى الله تعالى، وبأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله، والعدوان الباعث على احتقار غيره وتنقصه (1).
(6)
بذاءة اللسان:
(الترهيب من الوقوع في بذاءة اللسان:
قال الله تعالى: {لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]
قال ابن كثير رحمه الله: {لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} يعني كلام الناس (2).
وقال سبحانه: {لَاّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]
أي ولا يحب الله الفحش قي القول ولا الإيذاء باللسان، إلا المظلوم فإنه يباح له أن يجهر بالدعاء على ظالمه، وأن يذكره بما فيه من السوء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (المعنى لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً)(3).
وقال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]
وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
((حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المسلمون من لسانه و يده وأفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا و أفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله تعالى عنه وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز و جل.
((حديث أسود بن أصرم رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لا تبسط يدك إلا إلى خير ولا تقل بلسانك إلا معروفا.
(1) انظر إحياء علوم الدين للغزالي 3/ 116 ومنهاج الجدل ص 59.
(2)
مختصر تفسير ابن كثير 1/ 437.
(3)
صفوة التفاسير للصابوني 1/ 314.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهنَّ كأسنمةِ البُخْتِ المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحَها لتوجد من مسيرة كذا و كذا.
((حديث ابن عباس الثابت في صحيح ابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يُشرْ أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ.
(7)
الحلف بغير الله تعالى:
يجب حفظ اللسان من الحلف بغير الله لوجهين:
الأول: أن الحلف بغير الله شركٌ لفظي
الثاني: أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والتعظيم لا يستحقه إلا الله تعالى
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق ومن حُلِفَ له بالله فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله.
((حديث عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ”من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك“ (1).
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ.
(حديث بريدة في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حلف بالأمانة فليس منا.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعالَ أقامرك فليتصدق.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حلف فقال إني برئٌ من الإسلام! فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً.
(8)
الحلف بالله كذبا ومنه اليمين الغموس:
يجب حفظ اللسان عن الحلف بالله كذباً فإن من حلف بالله كذباً لم عظم الله تعالى حق تعظيمه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض و عنقه مثنيِّة تحت العرش و هو يقول: سبحانك ما أعظمك! فيرد عليه: لا يعلم ذلك من حلف بي كاذبا.
(ومن الحلف بالله كذبا اليمين الغموس والعياذ بالله:
(حديث عبد الله ابن عمرو في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الكبائر: الإشراك بالله و عقوق الوالدين و قتل النفس و اليمين الغموس.
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار و حرم عليه الجنة و إن كان قضيبا من أراك.
(9)
استخدام الفصاحة في قلب الحقائق:
((حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يُبْغِضُ البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخللَ الباقرةِ بلسانها.
(1) رواه الترمذي وغيره وانظر صحيح الترمذي 2/ 99.
وهو الذي يظهر التفاصح تيهاً على الغير، وتفاصحاً واستعلاءً ووسيلة إلى الاقتدار على تصغير عظيم، أو تعظيم حقير، أو بقصد تعجيزه، أو تزيين الباطل في صورة الحق أو عكسه، أو يقصد إجلال الحكام له ووجاهته وقبول شفاعته. وهو يتشدق بلسانه كما تتشدق البقرة بلسانها. ووجه الشبه: إدارة لسانه حول أسنانه وفمه حال التكلم كما تفعل البقرة بلسانها حال الأكل. وهذا كله ما كان على جهة الإعجاب والتعاظم (1).
(10)
التحديث بكل ما سُمع:
وذلك لأن الحديث المسموع من الناس فيه الكذب والصدق، فإذا حدث الرجلُ بكل ما سمع، فإنه سيحدث بالكذب جزماً، ولذا كان المحدث بكل ماسمع كذاباً بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.
(قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
الزَّجْرُ عَنْ التَّحْدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِي الْعَادَةِ الصِّدْقَ ، وَالْكَذِبَ فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لِإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ.
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا.
(شبه النبي صلى الله عليه وسلم من لم يتثبت في كلامه بمن ركب مطية مذمومة غير محمودة وذلك لأنه يجب عليه أن يتثبت قبل أن يتكلم.
(حديث المغيرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم وكره لكم قيل وقال، وهو التحديث بهذه الصيغة التي تسبه زعموا والتي تفيد التحدث بدون تثبت.
(11)
الغناء:
قال تعالى: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُزُواً أُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ)[لقمان / 6]
(أورد الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قالا: أن لهو الحديث في الآية هو الغناء.
(1) انظر فيض القير شرح الجامع الصغير لعبد الرؤوف المناوي 2/ 283.
(حديث أبي مالك الأشعري في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير و الخمر و المعازف.
معنى يستحلون الحر: الحِر أي الفروج، يستحلون الحر أي يستحلون الفروج أي الزنا والعياذ بالله، والمعازف آلات اللهو
{تنبيه} : (هذا الحديث ذكره البخاري تعليقاً وهو موصولاً في صحيح أبي داوود.
*ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع القينات أي المغنيات وعن شرائهن وبين أن ثمنهن حرام
(حديث أبي أمامة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا القينات و لا تشتروهن و لا تعلموهن و لا خير في تجارة فيهن و ثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية {و من الناس من يشتري لهو الحديث} الآية.
(وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ظهور المغنيات والمعازف من أسباب حلول العذاب في هذه الأمة من الخسف والمسخ والقذف
(حديث عمران ابن حُصَين في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في هذه الأمة خسف و مسخ و قذف فقال رجلٌ من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك؟ إذا ظهرت القيان و المعازف و شربت الخمور.
معنى القيان: أي المغنيات
(فالغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، بريد الزنا ورقيته.
وحب القرآن وألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان!
[*] قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 414) عن الغناء: «ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور» ا. هـ.
(وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
ومن مكايد عدو الله ومصايده، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقة غاية المُنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشُبَهَ الباطلة على حُسْنِهِ فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، «وقد خالط خمارة النفوس، ففعل فيها أعظم ما تفعله حُمَّيه الكؤوس» ، فلغير الله، بل الشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخَزَ في صدورهم وخزاً. وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسُيَطْ الديار.
«فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام» ، ويا شماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زنداً، حتى إذا تُلِيَ عليه قرآن الشيطان، وولج مزمور سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان، عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السنيات، عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدراً وشرعاً، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن هذا أين الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُريتَهُ أَوْلِياَءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظّالمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50].
ولقد أحسن القائل:
تُلِيَ الكتَابُ، فأطْرَقُوا، لا خِيفَةً لكِنَّهُ إِطْرَاقُ سْاهٍ لاهِي
وأتَى الغِنَاءُ، فكالحَمير ِتَنَاهَقُوا وَاللهِ مَا رَقَصُوا لأجْلِ اللهِ
دُفٌ وَمِزْمَارٌ، وَنغْمَةُ شَاذِنٍ فمتَى رَأَيتَ عِبَادَةً بملاهي؟
ثَقُلَ الكِتَابُ عليهمُ لَمَّا رَأوْا تَقْيِيدَهُ بأَوَامِرٍ وَنَوَاهِي
سَمِعُوا له رَعْدًا وبَرْقاً، إِذْ حَوَى زَجْرًا وتخْوِيفاً مَنَاهِي
وَرَأَوْهُ أَعْظمْ قاطعٍ لِلنَّفسِ عَنْ شهَوَاتِها، يا ذبحها المُتَناهِي
وَأتى السماعُ مُوافِقاً أَغْرَاضَها فَلأَجْلَ ذاكَ غَدَا عَظِيمَ الجاهِ
أيْنَ المُسَاعِد ُلِلْهَوَى مِنْ قاطعٍ أَسْبَابَهُ، عِنْدَ الجَهُولِ السّاهي
إنْ لَمْ يَكُنْ خَمَر الجُسُومِ، فإنَّهُ خَمْرُ العُقولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِي
فانظْر إِلى النّشْوان عِنْدَ شَرَابَه وانْظُرْ إلى النَّسْوَانِ عِنْدَ مَلاهِي
وانظُرْ إِلى تمْزِيقِ ذَا أَثوَابَهُ مِن بَعْدِ تمزيقِ الفُؤَادِ اللاهِي
واحكم فأيَّ الخمرتين أحق بالتحريم، والتأثيم عند الله؟
وقال آخر:
برِئْنَا إِلَى اللهِ منْ مِعْشَرٍ يهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الغِنَا
وكم قلْتُ يَا قَوْمُ، أَنْتُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مَابِهِ مِنْ بِنَا
شَفَا جُرُفٍ تحْتَهُ هُوَّة إِلى دَرَكٍ، كم بِهِ مِنْ عَنا
وتَكْرَارُ النُّصْحِ مِنا لهم لنُعْذِرَ فِيهِمْ إِلى ربَّنا
فَلمَّا اسْتَّهانُوا بَتَنْبِيهنا رَجَعْنَا إِلى اللهِ فى أَمْرِنا
فعِشْنَا عَلَى سُنَّةِ المُصْطَفَى وَمَاتوُا عَلَى تِنْتِنَا تِنْتِنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من، جميع طوائف الملة.
[*] (قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه، في تحريم السماع:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه. وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين ـ وفقنا الله وإياهم ـ استزلهم الشيطان، واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو، وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقَّت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِين نُوَلهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِه جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]. فرأيت أن أوضح الحق، وأكشف عن شبه أهل الباطل، بالحجج التي تضمنها كتاب الله، وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصي الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها. والله ولى التوفيق.
ثم قال:
(أما مَالِكٌ فإنه نهى عن الغناء، وعن استماعه، وقال:"إذا اشترى جارية فوجدها مغنية له أن يردها بالعيب".
(وسئل مالك رحمه الله: عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق".
قال:
("وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب"،
(وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي، وغيرهم، لا اختلاف بينهم فى ذلك، ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة فى المنع منه.
قلت: مذهب أبى حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال. وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثاً لا يصح رفعه.
قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به، أو كان في جواره
وقال أبو يوسف، في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي:"أدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهي عن المنكر فرض"، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض".
قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه و ضربه سياطاً، وإن شاء أزعجه عن داره.
(وأما الشافعي: فقال في كتاب "أدب القضاء": "إن الغناء لهوٌ مكروه، يشبه الباطل والمحال. ومن استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته".
وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبى الطيب الطبري، والشيخ أبى إسحاق، وابن الصباغ.
قال الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه": "ولا تصح الإجارة على منفعة محرمة، كالغناء، والزمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافاً".
وقال في "المهذب": "ولا يجوز على المنافع المحرمة، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم".
فقد تضمن كلام الشيخ أمورا.
أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.
الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضاً عن الميتة والدم.
الرابع: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله في مقابلة محرم. وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة.
الخامس: أن الزمر حرام.
وإذا كان الزمر، الذي هو أخف آلات اللهو، حراماً، فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع، «ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك». فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور.
وكذلك قال أبو زكريا النووي في "روضته".
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وأما مذهب الإمام أحمد؛ فقال عبد الله ابنه: "سألت أبى عن الغناء؟ فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني"، ثم ذكر قول مالك:"إنما يفعله عندنا الفساق".
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشاياً، وكم من معافى تعرّض له فأمسى، وقد حلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا، وكم جرّع من غصة وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (15/ 313): «ومن أقوى ما يهيج الفاحشة إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرض من العشق! ومحبة الفواحش، ومقدماتها بالأصوات المطربة، فإن المغني إذا غنى بذلك حرك القلوب المريضة إلى محبة الفواحش، فعندها يهيج مرضه ويقوى بلاؤه!! وإن كان القلب في عافيه من ذلك جعل فيه مرضاً! كما قال بعض السلف: الغناء رقية الزنا» ا. هـ.
[*] وقال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 442):
«ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله سماع رقية الزنا، فهو أعلم بالاسم الذي يستحقه!
ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان!! فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا!
وكم من حر أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدل اسماً قبيحاً بين البرايا!
وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا!
وكم من معافى تعرض له، فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا!
وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بداً من قبول تلك الهدايا!
وكم جرع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه إحدى العطايا!
وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة!» ا. هـ. مختصراً.
[*] وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتاب نزهة الأسماع في مسألة السماع (460):
«والغناء المشتمل على وصف ما جبلت النفوس على حبه، والشغف به من الصور الجميلة يثير ما كمن في النفوس من تلك المحبة، ويشوق إليها، ويحرك الطبع ويزعجه عن الاعتدال، ويؤزه إلى المعاصي أزاً، ولهذا قيل: إنه رقية الزنا!
وقد افتتن بسماع الغناء، خلق كثير فأخرجهم استماعه إلى العشق!
وفتنوا في دينهم، فلو لم يرد نص صريح في تحريم الغناء بالشعر، الذي توصف فيه الصور الجميلة لكان محرماً بالقياس على النظر إلى الصور الجميلة!
التي حرم النظر إليها بالشهوة، بالكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من علماء الأمة».
[*] وقال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 442) مبيناً أحوال المغنين:
«فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه!
ويثب وثبات الدباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان!
ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين!» ا. هـ.
[*] وقال ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (1/ 284): «الغناء يخرج من الإنسان عن الإعتدال ، ويغير العقل ، وبيان هذا أن الإنسان إذا طرب فعل ما يستقبحه في حال صحته من غيره من تحريك رأسه ، وتصفيق يديه ، ودق الأرض برجليه إلى غير ذلك مما يفعله أصحاب العقول السخيفة ، والغناء يوجب ذلك بل يقارب فعله فعل الخمر في تغطية العقل فينبغي أن يقع المنع منه» .
(وسماع الغناء يضاد سماع القرآن:
[*] قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتاب نزهة الأسماع في مسألة السماع (417):
«واعلم أن سماع الأغاني يضاد سماع القرآن من كل وجه!
فإن القرآن كلام الله، ووحيه ونوره الذي أحيا الله به القلوب الميتة، وأخرج العباد به من الظلمات إلى النور، والأغاني وآلاتها مزامير الشيطان، فإن الشيطان قرآنه الشعر، ومؤذنه المزمار ومصائده النساء. كذا قال قتادة وغيره من السلف» ا. هـ.
(وقال رحمه الله (474):
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن يحيى الوزير. قال: خرج الشافعي يوماً من سوق القناديل متوجهاً إلى حجرته، فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت إلينا الشافعي فقال: نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو رددت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها.
(أسماء الغناء في الشرع:
مسألة: ما هي أسماء الغناء في الشرع؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
هذا السماع الشيطاني المضادّ للسماع الرحمان، له في الشرع بضعة عشر اسما:
اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق في القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود:
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
فالاسم الأول: اللهو، ولهو الحديث:
قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين: على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود، فى رواية أبى الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة.
وروى ثور بن أبى فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال: "هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِى الَجْارِيَةَ تُغَنِّيهِ لِيْلاً وَنهَارًا"}
وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد: "هو اشتراء المغني والمُغَنِّيَة بالمال الكثير، والاستماع إليه، وإلى مثله من الباطل" وهذا قول مكحول.
وهذا اختيار أبى إسحاق أيضاً.
قال: أكثر ما جاء في التفسير: أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء، لأنه يلهى عن ذكر الله تعالى.
قال الواحدي: قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو، والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء، فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال، والاختيار، وهو كثير في القرآن. قال: ويدل على هذا: ما قاله قتادة في هذه الآية "لعله أن لا يكون أنفق مالاً" قال: "وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق".
قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء، ثم ذكر كلام الشافعي في رد الشهادة بإعلان الغناء.
(ثم قال الإمام ابن القيم رحمه الله الحديث الآتي:
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعاً إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الحديث الآتي:
(حديث أبي أمامة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن و لا تعلموهن و لا خير في تجارة فيهن و ثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان: 6].
الاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِالَّلغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72].
قال محمد بن الحنفية: "الزور هاهنا الغناء"، وقاله ليث عن مجاهد، وقال الكلبي: لا يحضرون مجالس الباطل.
واللغو في اللغة: كل ما يلغى ويطرح، والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مروا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه. ويدخل في هذا: أعياد المشركين، كما فسرها به السلف، والغناء، وأنواع الباطل كلها.
قال الزجاج: "لا يجالسون أهل المعاصي، ولا يمالئونهم عليها، ومروا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله".
وقد روى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: مر بلهو فأعرض عنه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"إِنْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيماً".
وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه نقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللغو أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55].
وهذه الآية، وإن كان سبب نزولها خاصاً، فمعناها عام، متناول لكل من سمع لغواً فأعرض عنه، وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه:"لنا أعمالنا ولكم أعمالكم".
وتأمل كيف قال سبحانه {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72].
ولم يقل: بالزور، لأن يشهدون بمعنى: يحضرون. فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف بالتكلم به، وفعله؟. والغناء من أعظم الزور.
والزور: يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها كما فى حديث معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به، فقال:"هذا الزور" فالزور: القول، والفعل، والمحل.
وأصل اللفظة من الميل، ومنه الزور بالفتح، ومنه: زرت فلانا، إذا ملت إليه، وعدلت إليه، فالزور: ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له قولاً وفعلاً.
الاسم الرابع: الباطل.
والباطل: ضد الحق، يراد به المعدوم الذي لا وجود له، والموجود الذي مضرة وجوده أكثر من منفعته.
فمن الأول: قول الموحد: كل إله سوى الله باطل، ومن الثاني قوله: السحر باطل، والكفر باطل، قال تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِن الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81].
«فالباطل إما معدوم لا وجود له، وإما موجود لا نفع فيه» ، فالكفر والفسوق والعصيان والسحر، والغناء، واستماع الملاهي: كله من النوع الثاني.
قال ابن وهب: أخبرني سليمان بن بلال عن كثير بن زيد: أنه سمع عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: "كيف ترى في الغناء، قال: فقال له القاسم: هو باطل، فقال: قد عرفت أنه باطل، فكيف ترى فيه؟ فقال له القاسم: أرأيت الباطل، أين هو؟ قال: في النار، قال: فهو ذاك".
وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: "ما تقول في الغناء، أحلال هو أم حرام؟ فقال: لا أقول حراماً إلا ما في كتاب الله. فقال: أفحلال هو؟ فقال: ولا أقول ذلك، ثم قال له: أرأيت الحق والباطل، إذا جاء يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك".
فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن غناء الأعراب، الذي ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربات. [فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا] أعظم قول. فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم من فتنته.
(اسم المكاء والتصدية.
فقال تعالى عن الكفار: {وَمَا كانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35].
قال ابن عباس، وابن عمر، وعطية، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة:"المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق".
وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير، يقال: مكا، يمكو، مكاء، إذا جمع يديه ثم صفر فيهما، ومنه: مكت است الدابة، إذا خرجت منها الريح بصوت. ولهذا جاء على بناء الأصوات، كالرغاء، والعواء، والثغاء. قال ابن السكيت: الأصوات كلها مضمومة، إلا حرفين: النداء، والغناء.
وأما التصدية: فهي في اللغة: التصفيق، يقال: صدى يصدى تصدية، إذا صفق بيديه. قال حسان بن ثابت، يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم:
ِإذَا قامَ المَلائِكَةُ انْبَعَثْتُمْ صَلاتُكُمُ التَّصَدِّى وَالمُكاءُ
وهكذا الأشباه يكون المسلمون فى الصلوات الفرض والتطوع، وهم فى الصفير والتصفيق.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، ويصفرون ويصفقون".
وقال مجاهد: "كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويصفرون ويصفقون، يخلطون عليه صلاته وطوافه"، ونحو ذلك عن مقاتل.
ولا ريب أنهم كانوا يفعلوا هذا وهذا.
فالمتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق أشباه النوع الأول، وإخوانهم المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه النوع الثاني.
قال ابن عرفة، وابن الأنبارى: المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زرته، فجعل جفائي صلتي، أي أقام الجفاء مقام الصلة.
والمقصود: أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، فلهم قسط من الذم، بحسب تشبههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال [وقت الحاجة إليه] في الصلاة إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلاً؟.
(إنما تسميته رقية الزنا:
فهو اسم موافق لمسماه، ولفظ مطابق لمعناه، فليس في رقى الزنا أنجع منه، وهذه التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض.
قال ابن أبى الدنيا: أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن قال: قال فضيل بن عياض:
الغناء رقية الزنا ".
قال إبراهيم بن محمد المروزى عن أبى عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد: "يا بنى أمية، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد فى الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا".
قال: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال: نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته مليكة، فلما جنه الليل سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعنى ابنته، فإن كففته وإلا خرجت عنك.
ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن قال: "كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينبّ فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة. ثم قال: اخصوهم، فقال عمر بن عبد العزيز: هذه المثلة، ولا تحل، فخل"[سبيلهم قال:] فخلى سبيلهم".
قال: وأخبرني الحسين بن عبد الرحمن قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: "جاوروا الحطيئة قوماً من بنى كلاب، فمشى ذو النهى منهم بعضهم إلى بعض، وقالوا: يا قوم، إنكم قد رميتم بداهية، هذا الرجل شاعر، والشاعر يَظن فيحقِّق، ولا يستأنى فيتثبت، ولا يأخذ الفضل فيعفو، فأتوه وهو في فناء خبائه، فقالوا: يا أبا مليكة، إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تحب، فنأتيه، وعما تكره، فنزدجر عنه، فقال: جنبوني ندى مجلسكم، ولا تسمعوني أغاني شبيبتكم. فإن الغناء رقية الزنا".
فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان، الذي هابت العرب هجاه خاف عاقبة الغناء وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره؟
ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب، ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه.
وأما تسميته: مُنبت النفاق:
فقال على بن الجعد: حدثنا [محمد بن] طلحة عن سعيد بن كعب المروزي عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع".
وقال شعبة: حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود: "الغناء ينبت النفاق في القلب".
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله.
وقد روى عن ابن مسعود مرفوعاً رواه ابن أبى الدنيا في "كتاب ذم الملاهي".
فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي؟
قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء، وكثرة المرَضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوى مادة المرض، فاشتد المرض وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، قام كل جهول يطبب الناس.
«فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق» ، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، «فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان» ، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وخليفته، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ، «وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل» ، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة، والرعونة، والحماقة. فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن. فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقَلَّ حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد، فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الدباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا عَلَى طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ؟
وَدَارَتْ بَيْننَا كأْسُ الأغاني فأَسْكَرَتِ النُّفُوسَ بِغَيْرِ رَاحِ
فَلمْ تَرَ فيهِمُ إِلا نَشَاوَى سُرُورًا، وَالسُّرُورُ هُنَاك صَاحِي
إذَا نَادَى أَخُو الّلذّاتِ فِيهِ أَجابَ الّلهْوُ: حَيَّ عَلَى السَّماحِ
وَلَمْ نْملِكْ سِوَى المُهَجَاتِ شَيْئاً أَرَقْنَاهَا لأَلْحَاظِ المِلَاحِ
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد فى قوم، والتكذيب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم.
وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقاً فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان، كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا.
وأيضاً فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين، إما أن يتهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلى بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف، وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.
وأيضاً فإن الإيمان قول وعمل: قول الحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر، وتلاوة القرآن. والنفاق: قول الباطل، وعمل البغي، هذا ينبت على الغناء.
وأيضاً، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتوناً بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضاً: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق.
وأيضاً، فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك.
وأيضا: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث [يظن] أنه يصلحه. والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات، قال الضحاك:"الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب".
[*] (وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: "ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغاني، واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء".
فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب، وأدويتها وبالله التوفيق.
(وأما تسميته قرآن الشيطان: فمأثور عن التابعين
قال قتادة: "لما أهبط إبليس قال: يا رب لعنتني، فما عملي؟ قال: السحر، قال فما قرآني؟ قال: الشعر، قال: فما كتابي؟ قال: الوشم، قال: فما طعامي؟ قال: كل ميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما شرابي؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكني؟ قال: الأسواق، قال فما صوتي؟ قال: المزامير، قال: فما مصايدي؟ قال: النساء".
وأما كونه الشعر قرآنه فشاهده الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(مِنْ هَمْزِهِ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ وَسْوَسَتِهِ
(وَنَفْخِهِ) أَيْ كِبْرِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى كُفْرِهِ
(وَنَفْثِهِ) أَيْ سِحْرِهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: النَّفْخُ كِنَايَةٌ عَنِ الْكِبْرِ كَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفُخُ فِيهِ بِالْوَسْوَسَةِ فَيُعَظِّمُهُ فِي عَيْنِهِ وَيُحَقِّرُ النَّاسَ عِنْدَهُ. وَالنَّفْثُ عِبَارَةٌ عَنِ الشِّعْرِ لِأَنَّهُ يَنْفُثُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ فِيهِ كَالرُّقْيَةِ انْتَهَى وَقِيلَ مِنْ نَفْخِهِ أَيْ تَكَبُّرِهِ يَعْنِي مِمَّا يَأْمُرُ النَّاسَ بِهِ مِنَ التَّكَبُّرِ، وَنَفْثُهُ مِمَّا يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ الْمَذْمُومِ مِمَّا فِيهِ هَجْوُ مُسْلِمٍ أَوْ كُفْرٌ أَوْ فِسْقٌ، وَهَمْزِهِ أَيْ مِنْ جَعْلِهِ أَحَدًا مَجْنُونًا بِنَخْسِهِ وَغَمْزِهِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ،
قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي قُوتِ الْمُغْتَذِي: مِنْ هَمْزِهِ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِالْمَوْتَةِ وَهِيَ شَبَهُ الْجُنُونِ، وَنَفْخِهِ فُسِّرَ بِالْكِبْرِ، وَنَفْثِهِ فُسِّرَ بِالشِّعْرِ. أهـ
(ولما علم الله رسوله القرآن وهو كلامه صانه عن تعليم قرآن الشيطان. وأخبر أنه لا ينبغي له، فقال:
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ} [يس: 69].
(وأما تسميته بالصوت الأحمق، والصوت الفاجر:
فهي تسمية الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى.
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم أنه عن البكاء إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة مزمار شيطان و لعب و صوت عند مصيبة خمش وجوه و شق جيوب و رنة شيطان و إنما هذه رحمة.
فكيف يستجيز المسلم إباحة ما نهى عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وسماه صوتا أحمق فاجراً، ومزامير الشيطان، وجعله والنياحة التي لعن فاعلها أخوين؟ وأخرج النهى عنهما مخرجاً واحداً، ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا.
(وأما تسميته صوت الشيطان:
فقد قال تعالى للشيطان وحِزْبه: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اُسْتَطَعْتُ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فى الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً} [الإسراء: 63 - 64].
قال ابن أبى حاتم في تفسيره: حدثنا أبى أخبرنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال: "كل داع إلى معصية".
ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فسر صوت الشيطان به. قال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى. أخبرنا يحيى بن المغيرة. أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد قال: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اُسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}
قال: "استزل منهم من استطعت قال: "وصوته الغناء، والباطل".
وبهذا الإسناد إلى جرير عن منصور عن مجاهد قال: "صوته المزامير".
ثم روى بإسناده عن الحسن البصري قال: "صوته هو الدف".
وهذه الإضافة إضافة تخصيص، كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك، فكل متكلم بغير طاعة الله، ومصوت بيراع أو مزمار، أو دف حرام، أو طبل، فذلك صوت الشيطان، وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رجله، وكل راكب في معصية الله فهو من خيالته، كذلك قال السلف، كما ذكر ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال:"رجله كل رجل مشت فى معصية الله".
وقال مجاهد: "كل رجل يقاتل في غير طاعة الله فهو من رجله".
وقال قتادة: "إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس".
(وأما تسميته مزامير الشيطان:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
فلم ينكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أبى بكر تسميته الغناء مزمار الشيطان، وأقرهما، لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب، الذي قيل في يوم حرب بُعاث من الشجاعة، والحرب، وكان اليوم يوم عيد، فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية، أو صبى أمرد صوته فتنة، وصورته فتنة، يغنى بما يدعو إلى الزنا والفجور، وشرب الخمور، مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، مع التصفيق والرقص وتلك الهيئة المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأوثان، فضلاً عن أهل العلم والإيمان، ويحتجون بغناء جويريتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب ونحوها في الشجاعة ونحوها وفى يوم عيد، بغير شبابة ولا دف، ولا رقص ولا تصفيق، ويدعون المحكم الصريح، لهذا المتشابه وهذا شأن كل مبطل.
نعم، نحن لا نحرم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك الوجه، وإنما نحرم وسائر أهل العلم والإيمان السماع المخالف لذلك، وبالله التوفيق.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صوتان ملعونان في الدنيا و الآخرة: مزمار عند نعمة و رنة عند مصيبة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة) هو الآلة التي يرمز بها بكسر الميم قال الشارح: والمراد هنا الغناء لا القصبة التي يرمز بها كما دل عليه كلام كثير من الشراح
(ورنة) أي صيحة (عند مصيبة) قال القشيري: مفهوم الخطاب يقتضي إباحة غير هذا في غير هذه الأحوال وإلا لبطل التخصيص انتهى وعاكسه القرطبي كابن تيمية فقالا: بل فيه دلالة على تحريم الغناء فإن المزمار هو نفس صوت الإنسان يسمى مزماراً كما في قوله لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود انتهى وأقول: هذا التقرير كله بناء على أن قوله نغمة بغين معجمة وهو مسلم إن ساعدته الرواية فإن لم يرد في تعيينه رواية فالظاهر أنه بعين مهملة وهو الملائم للسياق بدليل قرنه بالمصيبة.
(وأما تسميته بالسمود:
فقد قال تعالى: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61].
قال عكرمة عن ابن عباس "السمود: الغناء فى لغة حمير". يقال: اسمُدى لنا، أى غنى لنا، وقال أبو زبيد:
وكَأَنَّ العَزِيفَ فِيهَا غِنَاءٌ لِلنَّدَامَى مِنْ شَارِبٍ مَسْمُودِ
قال أبو عبيدة: "المسمود: الذى غنى له"، وقال عكرمة:"كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا، فنزلت هذه الآية".
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود الغفلة والسهو عن الشيء، قال المبرد: هو الاشتغال عن الشيء بهمّ أو فرح يتشاغل به، وأنشد:
رَمَى الْحَدَثَانُ نِسْوَةَ آلِ حرْبٍ بمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لهُ سُمُودَا
وقال ابن الأنباري: السامد اللاهي، والسامد الساهي، والسامد المتكبر، والسامد القائم.
وقال ابن عباس في الآية: "وأنتم مستكبرون". وقال الضحاك: "أشرون بطرون"، وقال مجاهد:"غضاب مبرطمون"، وقال غيره:"لاهون غافلون معرضون".
فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه.
(تحريم ألآت اللهو والمعازف:
(حديث أبي مالك الأشعري في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير و الخمر و المعازف.
ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والحِر بالحاء والراء المهملتين، فهو استحلال الفروج الحرام.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير.
وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير. وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط فى الذم والوعيد.
معنى القيان: أي المغنيات
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال كل مسكر حرام.
[*] قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
والكوبة هي الطبل كما رواه البيهقي من حديث بن عباس
والغبيراء اختلف في تفسيرها فقيل الطنبور وقيل العود وقيل البربط قال بن الأعرابي الكوبة النرد.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والمزر، والكوبة، والقنين، وزادني صلاة الوتر.
المزر: النبيذ
القنين: هو الطنبور بالحبشية، والتقنين: الضرب به، قاله ابن الأعرابي.
(حكم سماع الغناء من المرأة الأجنبية:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
وأما سماعه من المرأة الأجنبية، أو الأمرد فمن. أعظم المحرمات، وأشدها فساداً للدين.
[*] (قال الشافعي رحمه الله: "وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته"، وأغلظ القول فيه. وقال:"هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثا".
قال القاضي أبو الطيب: "وإنما جعل صاحبها سفيها، لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقاً".
قال: وكان الشافعي يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول:"وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن".
(فيجب على المسلم أن ينزه سمعه عن سماع الخنا:
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن يحيى الوزير. قال: خرج الشافعي يوماً من سوق القناديل متوجهاً إلى حجرته، فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت إلينا الشافعي فقال: نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو رددت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها.
(12)
الشعر المحرم:
وهو ما كان فيه مدحٌ بالباطل أو ذمُ قومٍ بالباطل أو قول زورٍ أو بهتان، وعليه يحمل قوله تعالى:(وَالشّعَرَآءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ224،أَلَمْ تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)[الشعراء / 226:224]
ومنه الهجاء بغير حق:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أعظم الناس عند الله فرية: لرجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها و رجل انتفى من أبيه و زنى أمه.
(حكم الشعر:
مما يُجدر ذكره في هذا المقام أن الشعر ليس كله مذموم ولا محرم بل هو بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام بنص السنة الصحيحة
(حديث عائشة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام و قبيحه كقبيح الكلام.
(أولاً النوع الجائز منه:
هو ما يكون فيه مدحٌ للإسلام والمسلمين ونصرة الحق وأهله، وعليه تحمل الأحاديث الآتية:
(حديث أبي ابن كعب في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشعرِ حكمة.
وقد يكون الشعر من الجهاد باللسان.
(حديث أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم.
(حديث أنس في صحيحي الترمذي والنسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول
خلوا بني الكفارِ عن سبيله
…
اليومَ نضربكم علي تنزيله
ضرباً يَزِيلُ الهامَ عن مَقِيله
…
ويذهلُ الخليلُ عن خليله
فقال عمر: يا ابن رواحة! بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله عز وجل تقول الشعر! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خلِّ عنه يا عمر فلهي أسرعُ فيهم من نضح النَّبل.
{تنبيه} : (هذا النوع من الشعر المحمود يجب على طالب العلم أن يراعي فيه أن لا يشغل وقته كله أو معظمه بحيث يشغله عن الكتاب والسنة والعلوم الشرعية، فلو حصل ذلك لكان محرماً.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا.
الشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبَّر بالامتلاء، فنبه أنك أيها الإنسان لو ملئت جوفك قيحاً خيرٌ لك من أن تملأه شعراً، وعلى هذا فيؤخذ من الشعر بقدر الحاجة فقط.
(ثانياً النوع المحرم:
وهو ما كان فيه مدحٌ بالباطل أو ذمُ قومٍ بالباطل أو قول زورٍ أو بهتان، وعليه يحمل قوله تعالى:(وَالشّعَرَآءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ224،أَلَمْ تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)[الشعراء / 226:224]
ومنه الهجاء بغير حق:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أعظم الناس عند الله فرية: لرجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها و رجل انتفى من أبيه و زنى أمه.
(13)
الفحش والتفحش (1):
(1). في اللسان: أفحش الرجل إذا قال قولاً فاحشاً، وقد فحش علينا فلان، وإنه لفحاش، وتفحش في كلامه
…
والفاحش، ذو الفحش والخنا من قول وفعل، والمتفحش الذي يتكلف سب الناس ويتعمده. (6/ 325 - 326) مادة:(فحش) بنصرف يسير.
كان النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خلقاً، وكان أبعدهم عن بذئ القول وساقطه، وكان صلوات الله وسلامه عليه ينهى عن الفحش في القول، واللعن، وقول الخنا، وغير ذلك من الأقوال الباطلة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
((حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) قال لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقَاً.
((حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا سَبَّابًا كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قَالَتْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ قَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ.
والفاحش الذي يرسل لسانه بما لا ينبغي، وذو الفحش وهو القبيح في الأقوال والأفعال. والمتفحش: الذي يتكلف ذلك ويتعاطاه ويستعمله (1).
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ.
(والفحش في الكلام يأتي على معان، فقد يأتي بمعنى السب والشتم وقول الخنا كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما السابق قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً).
(وقد يأتي بمعنى: التعدي في القول والجواب (2): كما في الحديث الآتي:
(1) انظر جامع الأصول لابن الأثير 11/ 739 وفيض القدير شرح الجامع الصغير 2/ 285.
(2)
. انظر لسان العرب (6/ 325)
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ وَعَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوْ الْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.
{تنبيه} : (اللَّعَّانُ لا يكون صِدِّيْقَاً، وهو محروم من الشفاعة والشهادة يوم القيامة، ومن لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت عليه.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا.
((حديث أبي الدراداء رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي)
أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تَلْعَنْ الرِّيحَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ.
(قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
فيه الزجر عن اللعن وأن من تخلق به لا يكون فيه هذه الصفات الجميلة، لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله تعالى، وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة بينهم والتعاون على البر والتقوى، وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يوده المسلم من الكافر ويدعو عليه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح:(لعن المؤمن كقتله)(1). لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة ورحمة الله تعالى (2).
(1). جزء من حديث وهو عند البخاري (6047)، ومسلم (110)، وأحمد (15950)
(2)
. صحيح مسلم بشرح النووي. المجلد الثامن (16/ 127)
{تنبيه} : (من أعظم الذنوب، بل من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه.
((حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ.
(ومن الفحش في القول السباب:
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما يعتدِ المظلوم.
معنى (فعلى البادئ منهما ما يعتدِ المظلوم) أي إثم السباب الواقع بيت الاثنين يقع على البادئ منهم ما لم يتجاوز المظلوم قدر الانتصار.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
إذا سبَّك رجلٌ بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم منه فيكون أجر ذلك لك و وباله عليه.
(أخرج أحمد، واللألكائي في السنة، وأبو القاسم بن بُشران في أماليه، وابن عساكر عن البهي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شتم المقداد رضي الله عنه، فقال عمر: عليَّ نذر إن لم أقطع لسانك فكلَّموه وطلبوا إليه. فقال عمر: دعوني حتى أقطع لسانه حتى لا يشتم بعدُ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{تنبيه} : (ومن جملة النهي عن السباب النهي عن سب الديك لأنه يوقظ للصلاة وكذلك النهي عن سب الشيطان لأنه يتعاظم ويقول بقوتي صرعته
(حديث زيد ابن خالد في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا الشيطان و تعوذوا بالله من شره.
(حديث أبي المليح في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت و يقول: بقوتي صرعته و لكن قل: باسم الله فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يصير مثل الذباب.
(14)
الجدال العقيم:
من آفات اللسان التي يجب على المسلم أن يحترز منها ويتخلى عنها ويحفظ لسانه منها الجدال العقيم الذي لا يكن قصده بيان الحق وهداية الخلق، وكان قصده مجرد المغالبة والعلو والظهور والعياذ بالله تعالى من ذلك.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ.
معنى الألدُّ: شديد اللدودة أي الجدال
معنى الخَصِم: شديد الخصومة
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ضل قوم بعد هدى إلا استو طئوا الجدال واتخذوه مركباً، وبئس المطية هو يصل بصاحبه إلى الهاوية السحيقة ويبعده عن جادة الاستقامة. وعلى ذلك فيجب على من رام السلامة في دينه أن يجتنب الجدال العقيم اجتناب السم القاتل والداء العضال وألا يحوم حوله ولا يقترب منه وإلا كانت العاقبة وخيمة فإنه شرٌ كله.
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ
(مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)[الزخرف: 58]
{تنبيه} : (وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ترك الجدال وإن كان محقاً للتخلص من هذا الداء الوبيل.
(حديث أبي أمامة في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
معنى زعيم: أي ضمين
معنى ربض الجنة: حولها خارجٌ عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن.
(ففي الحديث: أن من ترك الجدال ولو كان صادقاً محقاً، فإنه موعودٌ على لسان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ببيت في ربض الجنة، قال في التحفة [وذلك] لتركه كسر قلب من يجادله ودفعه رفعة نفسه وإظهار نفاسة فضله (1).
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ.
{تنبيه} : (المقصود بالمراء هنا الجدال المشكك في القرآن والعياذ بالله تعالى من ذلك، وقيل الجدال الذي يفعله أهل الأهواء في آيات القدر ونحوها.
((حديث جندب ابن عبد الله الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ.
(1). تحفة الأحوذي (6/ 109)
(يحتمل الاختلاف هنا في فهم معانيه، ويحتمل الاختلاف في كيفية الأداء، وعند الاختلاف الجالب للشر في القرآن فإن المسلم مأمورٌ بأن ينته عن ذلك حتى لا يقع الشر، وتكثر المنازعة.
(قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
والأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمولٌ عند العلماء على اختلاف لا يجوز أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز كاختلاف في نفس القرآن أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار ونحو ذلك. وأما الاختلاف في فروع الدين منه ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة وإظهار الحق واختلافهم في ذلك فليس منهياً عنه بل هو مأمورٌ به وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن والله أعلم (1).
(وفي هذا الحديث: الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف والنهي عن المراء في القرآن بغير حق، ومن شر ذلك أن تظهر دلالة الآية على شئ يخالف الرأي فيتوسل بالنظر وتدقيقه إلى تأويلها وحملها على ذلك الرأي يقع اللجاج في ذلك المناضلة عليه، قاله في الفتح (2).
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: سمع سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا.
{فائدة} : (قال السعدي في تأويل قوله تعالى: {فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً} .
قال: {فلا تمار} تجادل وتحاج فيهم. {إلا مراء ظاهراً} أي: مبنياً على العلم واليقين، ويكون أيضاً فيه فائدة. وأما الممارة المبنية على الجهل والرجم بالغيب، أو التي لا فائدة فيها، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها، كعدد أصحاب الكهف، ونحو ذلك، فإن في كثرة المناقشات فيها، والبحوث المتسلسلة، تضييعاً للزمان، وتأثيراً في مودة القلب بغير فائدة (3).
(15)
شهادة الزور:
إن شهادة الزور من قبائح الذنوب وفواحش العيوب، وقد حرمها الله تعالى لأنها تكون سبباً في إبطال الحق وإظهار الباطل والعياذ بالله، وقد أمر الله تعالى في كتابه باجتناب قول الزور
(1) شرح صحيح مسلم. المجلد الثامن (16/ 188)
(2)
. فتح الباري (8/ 721)
(3)
. تيسير الكريم الرحمن. (5/ 24) سورة الكهف (22)
قال تعالى: (فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ)[سورة: الحج - الآية: 30]
وقد أثنى الله تعالى على عباد الرحمن بكونهم لا يشهدون الزور
قال تعالى: (وَالّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزّورَ وَإِذَا مَرّواْ بِاللّغْوِ مَرّوا كِراماً)[سورة: الفرقان - الآية: 72]
وشهادة الزور من أكبر الكبائر بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي بكرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله و عقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
(تعريف الزّور:
الأصل في الزور، تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه خلاف ما هو به. والشرك قد يدخل في ذلك؛ لأنه محسن لأهله حتى قد ظنوا أنه محق وأنه باطل. ويدخل فيه الغناء؛ لأنه أيضاً مما يحسنه ترجيع الصوت حتى يستحل سَامِعُهُ سَمَاعَه.
والكذب أيضاً: قد يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه حتى يظن صاحبه أنه حق. فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور؛ فإن كان ذلك كذلك فأولى الأقوال بالصواب
…
أن يقال: إن الزور كل باطل سواء كان ذلك، شركاً، أو غناء، أو كذباً، أو غيره، وكل ما لزمه اسم الزور؛ لأن الله عمّ في وصفه عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيئاً إلا بحجة (1).
(الترهيب من الوقوع في شهادة الزور:
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
(1) جامع البيان 19/ 31 بتصرف.
وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج 33: 35]
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140]
وقال سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]
وقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]
وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]
وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]
(قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} عامٌّ في تحريم القول في الدين من غير يقين) (1).
((حديث أبي بكرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله و عقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
(1) زاد المسير في علم التفسير 3/ 192.
وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: (باب ما قيل في شهادة الزور لقول الله عز وجل والذين لا يشهدون الزور، وكتمان الشهادة لقوله: تعالى: {وَلَا تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1).
وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه باباً قال فيه: (باب لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهِد).
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله. ثم بدا له فوهبها لي. فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم. فأخذ بيدي وأنا غلام فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا، قال: ”ألك ولد سواه“ قال: نعم، قال فأراه قال: ”لا تشهدني على جور“ وفي رواية ”لا أشهد على جور“ (2).
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خَيْرٌ قَالَ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ.
(واليمين الغموس سُمّيت بذلك، لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار ولا كفارة فيها؛ لأنها يمين غير منعقدة، ولأن المنعقد ما يمكن حله ولا يَتَأتَّى في اليمين الغموس البر أصلاً (3).
((عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس).
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن قضيبا من أراك.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله و قتل النفس بغير حق و بهت المؤمن والفرار من الزحف و يمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه، وشرابه“ (4).
(1) البخاري 3/ 151.
(2)
البخاري 3/ 151.
(3)
انظر فتح الباري 11/ 556.
(4)
البخاري 7/ 87.
فنجد أن الله تبارك وتعالى حرم شهادة الزور، لكونها سبباً لإبطال الحق، وحرم كتمانها، لكونه سبباً أيضاً لإبطال الحق (1).
(ما يترتب على شهادة الزور من الجرائم:
شهادة الزور عظيمة الخطر والضرر؛ لأنه يترتب عليها جرائم كثيرة منها ما يأتي:
(1)
تضليل الحاكم عن الحق والتسبب في الحكم بالباطل؛ لأن الحكم ينبني على أمور منها: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر فإذا كانت البينة كاذبة أثرت على الحكم فكان بخلاف الحق والإثم على الشاهد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ”إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر فأقض له نحو ما أسمع“ (2).
(2)
الظلم لمن شهد له لأنه ساق إليه ما ليس بحق بسبب شهادة الزور فوجبت له النار لقوله صلى الله عليه وسلم: ”إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها“ (3).
(3)
الظلم لمن شهد عليه حيث أخذ منه ماله أو حقه بالشهادة الكاذبة فيتعرض الشاهد بذلك لدعوة المشهود عليه بغير الحق ظلماً ودعوة المظلوم مستجابة لا ترد وليس بينها وبين الله حجاب كما قال صلى الله عليه وسلم: ”ثلاثة لا تردّ دعوتهم
…
“ وذكر منهم ”دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الربُّ: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين“ (4) وقال صلى الله عليه وسلم: ”من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة“ فقال له رجلٌ وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله قال: ”وإن قضيباً من أراك“ (5).
(4)
تخليص المجرمين من عقوبة الجريمة بالشهادة الباطلة وذلك يسبب للناس الرغبة في ارتكاب الجرائم اتكالاً على وجود شهادة الزور.
(5)
يترتب على شهادة الزور انتهاك المحرمات وإزهاق النفوس المعصومة، وأكل الأموال بالباطل والحاكم والمحكوم له وعليه بالباطل خصماء لشاهد الزور عند أحكم الحاكمين يوم القيامة.
(1) انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 5/ 263.
(2)
البخاري مع الفتح 5/ 288.
(3)
البخاري مع الفتح 5/ 288.
(4)
أبو داود والترمذي 5/ 578 وانظر جامع الأصول 4/ 145.
(5)
مسلم، برقم 137، 1/ 122.
(6)
يحصل بشهادة الزور تزكية المشهود له وهو ليس أهلاً لذلك، ويحصل بها جرح المشهود عليه بالباطل والتزكية شهادة للمزكى فإذا كان حال المزكى وواقعه بخلاف مضمون التزكية فإن المزكي شاهد بالزور حيث شهد بخلاف الحق أو بما لا يعلم حقيقته.
فكذلك شاهد الزور وهو مزكٍّ للظالم، ومجرِّح للمظلوم.
يترتب على شهادة الزور القول في دين الله بغير حق وبغير علم فإن ذلك أعظم الفتن ومن أخطر أسباب الصد عن سبيل الله ومن أفحش عوامل الضلال للناس وهو من الجرأة على الله ومن أوضح الأدلة على جهل قائله خاصة إذا تبين له الحق فلم يرجع إليه أو على نفاقه وإلحاده قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (1). فما أكثر شهادة الزور اليوم ومثلهم الذين يحرمون ما أحل الله لهم من طعام أو غيره. وأخطر من ذلك قوم يكتمون الحق مع علمهم به ويظهرون الباطل ويدعون إليه الناس ويزينونه لهم نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة (2).
(16)
المدح المذموم:
مسألة: ما هو حكم المدح؟
المسألة على التفصيل الآتي:
(أولاً: إذا كان المدح فيه مبالغة أو كان الممدوح ممن يُخشى عليه العُجب كُرِره مدْحُه في وجهه كراهةً شديدةً وعليه تُحملُ الأحاديث الآتية:
(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال: أثنى رجلٌ على رجلٍ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك! قطعت عنق صاحبك، مراراً، ثم قال: من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحْسِبُ فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسِبه كذا و كذا إن كان يعلم ذلك منه.
(حديث المقداد في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجههم التراب.
(حديث معاوية في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والتمادحَ فإنه الذبح.
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
(1) سورة النحل الآية: 116.
(2)
انظر مجلة البحوث الإسلامية مجلة دورية تصدرها الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض. العدد السابع عشر، ص 255 - 272، بحث أعده فضيلة الشيخ عبد الله بن صالح القصير وفقه الله.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يُقَالُ لَهُ فِي وَجْهِهِ: أَحْيَيْت السُّنَّةَ. قَالَ: هَذَا فَسَادٌ لِقَلْبِ الرَّجُلِ.
(ثانياً: إذا كان الممدوح لا يُخاف عليه العجب ولا يخشى عليه من الاغترار فإنه يجوز مدحه مع عدم المبالغة لأنه من عرف نفسه لم يضره المدح كما قال بعض السلف، وعليه تُحملُ الأحاديث الآتية:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر نعم الرجل أبو عُبيدة.
(حديث سعد في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إيه يا ابن الخطاب! و الذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا آخر.
(حديث بريدة في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان ليخافُ منك يا عمر.
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه: جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ بِشْرٍ فَذَكَرُوهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ بِشْرٌ ، وَقَالَ: لَا يَنْسَى اللَّهُ لِأَحْمَدَ صَنِيعَهُ ، ثَبَتَ وَثَبَتْنَا ، وَلَوْلَاهُ لَهَلَكْنَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَجْهُ أَبِي يَتَهَلَّلُ ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ أَلَيْسَ تَكْرَهُ الْمَدْحَ فِي الْوَجْهِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّمَا ذُكِرْت عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، وَمَا كَانَ مِنِّي فَحَمِدَ صَنِيعِي ، وَقَدْ قَالَ: صلى الله عليه وسلم {الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ} .
{تنبيه} : (ويستحب لمن زُكِيَ أن يقول: اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واغفر لي ما يقولون.
(حديث عدي ابن أَرْطأة في صحيح الأدب المفرد) قال كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا زُكِيَ قال: اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واغفر لي ما يقولون.
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
وَقَالَ خَطَّابُ بْنُ بِشْرٍ: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الشَّافِعِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِبَقَائِك وَكَلَامٌ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَثِيرٌ ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَبَا عُثْمَانَ. وَمَنْ أَنَا فِي النَّاسِ؟
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَكْثَرَ الدَّاعِينَ لَك فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنُهُ ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِدْرَاجًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: لَوْ أَنَّ لِلذُّنُوبِ رِيحًا مَا جَلَسَ إلَيَّ مِنْكُمْ أَحَدٌ.
قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ بَعْضَ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ لِي: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَزْهَدْ فِي الدَّرَاهِمِ وَحْدَهَا. قَدْ زَهِدَ فِي النَّاسِ ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَزْهَدَ فِي النَّاسِ. النَّاسُ يُرِيدُونَ أَنْ يُزَهِّدُونِي.
وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ ، وَيَغْفِرَ لَنَا مَا لَا يَعْلَمُونَ.
وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَأَيْتُكَ. قَالَ: اُقْعُدْ أَيْشٍ ذَا؟ مَنْ أَنَا؟
وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، اللَّهَ اللَّهَ ، فَإِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَيْكَ ، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ لَا يُمْكِنُ فَمَسَائِلُ فَإِنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إلَيْكَ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إلَيَّ أَنَا؟ وَاغْتَمَّ مِنْ قَوْلِهِ وَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ ، وَرَأَيْت فِي وَجْهِهِ أَثَرَ الْغَمِّ.
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا. فَقَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا ، فَقَالَ: لَا بَلْ جَزَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَنِّي خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِلرَّجُلِ أَنَا؟ وَمَنْ أَنَا وَمَا أَنَا؟
(17)
اللعن:
اللعن هو الطرد من رحمة الله تعالى، ويجب حفظ اللسان من لعن إنسانٍ بعينه أو دابة لتحريم ذلك.
(حديث ثابت بن الضحاك في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن المؤمن كقتله.
(حديث أبي الدرداء في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يكون اللعانون شفعاء و لا شهداء يوم القيامة.
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان و لا الفاحش و لا البذيء.
(حديث عمران ابن حصين في صحيح مسلم) قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأةٌ من الأنصار على ناقةٍ، فضجِرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة.
{تنبيه} : (يجوز لعن أصحاب المعاصي والكفار عموماً بدون تعيين أحدٍ بعينه.
قال تعالى: (أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ)[سورة: هود - الآية: 18]
(حديث علي في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله من لعن والديه و لعن الله من ذبح لغير الله و لعن الله من آوى محدثا و لعن الله من غير منار الأرض.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد.
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله آكل الربا و موكله و كاتبه و شاهديه وقال هم فيه سواء.
مسألة: هل يجوز لعن إنسانٍ بعينه؟
لا يجوز لعن إنسانٍ بعينه وإن كان غارقاً في المعاصي إلى الأذقان حتى لو بلغت ذنوبه عنان السماء لأنك لا تدري بم يختم له، فقد يُختم له بخير، وإنما الأعمال بالخواتيم، فلا يجوز لعن إنسان بعينه إلا من علمنا أنه مات على الكفر كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم.
(18)
كثرة المزاح:
يجب على المسلم إذا أراد إصلاح قلبه أن يتجنب كثرة المزاح لأن كثرة المزاح تؤدي إلى كثرة الضحك وكثرة الضحك تميت القلب بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس وكن قنعا تكن أشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(كن ورعاً تكن أعبد الناس) أي داوم عليه في جميع الحالات حتى يصير طبعاً لك فتكون أعبد الناس لدوام مراقبتك واشتغالك بأفضل العبادات بظاهرك وباطنك بإيثار حقك على حظك وهذا كمال العبودية ولهذا قال الحسن: ملاك الدين الورع وقد رجع ابن المبارك من خراسان إلى الشام في رد قلم استعاره منها وأبو يزيد إلى همدان لرد نملة وجدها في قرطم اشتراه وقال: غريبة عن وطنها وابن أدهم من القدس للبصرة لرد تمرة، فانظر إلى قوة ورع هؤلاء وتشبه بهم إن أردت السعادة
(وكن قنعا تكن أشكر الناس) لأن العبد إذا قنع بما أعطاه اللّه رضي بما قسم له وإذا رضي شكر فزاده اللّه من فضله جزاء لشكره وكلما زاد شكراً ازداد فضلاً {لئن شكرتم لأزيدنكم}
(وأحب للناس ما تحب لنفسك) من الخير (تكن مؤمناً) أي كامل الإيمان لإعراضك عن هواك وإن لم تحب لهم ما تحب لنفسك فأنت مؤمناً ناقص الإيمان لمتابعتك هواك
(وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً) أي كامل الإسلام فإن المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه
(وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) وفي رواية البيهقي بدله فإن في كثرة الضحك فساد لقلب وإذا فسد القلب فسد الجسد كله.
(تنبيه) الضحك المميت للقلب ينشأ من الفرح والبطر بالدنيا وللقلب حياة وموت فحياته بدوام الطاعة وموته بإجابة غير اللّه من النفس والهوى والشيطان، بتواتر أسقام المعاصي تموت الأجسام بأسقامها واقتصر من أسباب موته على كثرة الضحك وهو ينشأ عن جميعها لانتشائه من حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة بنص الخبر أوحى اللّه إلى داود ومن عصاني فقد مات ومن أسباب موت [ص 53] القلب الأشر والبطر والفرح وإذا مات لم يستجب له اللّه إذا دعاه.
(تنبيه) المأمور بالكف عن كثرة الضحك إنما هو أمثالنا أما من ذاق مشرب القوم من الأحباب فليس مراداً بهذا الخطاب، قال بعض العارفين: جلس ذو النون للوعظ والناس حوله يبكون وشاب يضحك فزجره، فأنشأ يقول: كلهم يعبدون اللّه من خوف النار * ويرون النجاة حظا جزيلا ليس لي في الجنان والنار رأي * أنا لا أبتغي بحبي بديلا فقيل له: فإن طردك فما تفعل؟ قال: فإذا لم أجد من الحب وصلا * رمت في النار منزلا ومقيلا ثم أزعجت أهلها ببكائي * بكرة في ضريعها وأصيلا معشر المشركين نوحوا عليّ * أنا عبد أحببت مولىً جليلا لم أكن في الذي ادّعيت صدوقاً * فجزائي منه العذاب الوبيلا وقال ابن عربي: خدمت امرأة من المخبآت العارفات تسمى فاطمة بنت المثنى القرطبي خدمتها وسنها فوق خمس وتسعين سنة وكنت أستحي أنظر إليها من حمرة خديها وحسن نغمتها وجمالها كأنّ عمرها دون عشرين سنة وكانت تضرب بالدف وتفرح وتقول اعتنى بي وجعلني من أوليائه واصطنعني لنفسه فكيف لا أفرح ومن أنا حتى يختارني على ابن جني.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس و أحسن إلى جارك تكن مؤمنا و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما و لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(اتق المحارم) أي احذر الوقوع في جميع ما حرم الله عليك
(تكن أعبد الناس) أي من أعبدهم لما أنه يلزم من ترك المحارم فعل الفرائض فباتقاء المحارم تبقى الصحيفة نقية من التبعات فالقليل من التطوع مع ذلك ينمو وتعظم بركته فيصير ذلك المتقي من أكابر العباد وقال الذهبي هنا والله تكسب العبرات فيريد أن يكون يسيراً بكل واجب فيقوم به وعارفاً بكل محرم فيجتنبه
(وارض) أي اقنع
(بما قسم الله لك) أي أعطاك وجعله حظك من الرزق
(تكن أغنى الناس) فإن من قنع استغنى ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس والقناعة غنى وعز بالله وضدها فقر وذل للغير ومن لم يقنع لم يشبع أبداً ففي القناعة العز والغنى والحرية وفي فقدها الذل والتعبد للغير تعس عبد الدنيا تعس عبد الدينار فيتعين على كل عاقل أن يعلم أن الرزق بالقسم والحظ لا بالعلم والعقل ولا فائدة للجد حكمة بالغة دل بها على قدرته وإجراء الأمور على مشيئته قال الحكماء: ولو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم ونظمه أبو تمام فقال: ينال الفتى من عيشه وهو جاهل * ويكدى الفتى في دهره وهو عالم ولو كانت الأقسام تجري على الحجا * هلكن إذن من جهلن البهائم ومن كلامهم كم رأيت أعرج في المعالي عرج
(وأحسن إلى جارك) بالقول والفعل والجار المجاور لك وما قرب من منزلك عرفاً
(تكن مؤمناً) أي كامل الإيمان فإذا لم تقدر على الإحسان إليه فكف عن أذاه وإن كان مؤذياً لك فيلزمك الصبر حتى يجعل الله لك فرجاً قال الراغب: والإحسان يقال للإنعام على الغير وللإحسان في فعله وذلك إذا علم علماً حسناً أو عمل عملاً حسناً وعليه قول علي كرم الله وجهه " الناس أبناء ما يحسنون أي منسوبون إلى ما يعلمون ويعملون من الأفعال الحسنة والإحسان أعم من الإنعام والعدل إذ العدل أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له
(وأحب) أي ارض
(للناس ما تحب لنفسك) من الخير
(تكن مسلماً) كامل الإسلام بأن تحب لهم حصول ما تحبه لنفسك من جهة لا يزاحمونك فيها فإن انتفت المحبة لنحو حقد أو غل أو حسد انتفى عنه كمال الإيمان وغاير في ما بين لفظي الإيمان والإسلام تفنناً إذ المراد بهما هنا واحد قال السدي لي ثلاثون سنة في الاستغفار عن قولي الحمد لله وذلك أنه وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجل فقال نجا حانوتك فقلت الحمد للّه فمذ قلتها فأنا نادم حيث أردت لنفسي خيراً دون المسلمين
(ولا تكثر الضحك) بفتح وكسر وهو كيفية يحصل منها انبساط في القلب مما يعجب الإنسان من السرور ويظهر ذلك في الوجه والإكثار منه مضر بالقلب منهي عنه شرعاً وهو من فعل السفهاء والأراذل مورث للأمراض النفسانية ولذا قال (فإن كثرة الضحك تميت القلب) أي تصيره مغموراً في الظلمات بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها شيئاً من مكروه وحياته وإشراقه مادة كل خير وموته وظلمته مادة كل شر وبحياته تكون قوته وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه ولهذا قال لقمان [ص 125] لابنه يا بني لا تكثر الضحك من غير عجب ولا تمشي من غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما أخرت وقال موسى للخضر: أوصني فقال: كن بساماً ولا تكن غضاباً وكن نفاعاً ولا تكن ضراراً وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران وفي صحف موسى عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجباً لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها وفي الحديث إيذان بالإذن في قليل الضحك لا سيما لمصلحته. أهـ
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن: فضيل بن عياض قال: ما يؤمنك أن تكون بارزت الله بعمل مقتك عليه، فاغلق دونك أبواب المغفرة وأنت تضحك، كيف ترى أن يكون حالك؟
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي علي الرازي، قال: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسما إلا يوم مات ابنه علي فقلت له في ذلك فقال: إن الله عز وجل أحب أمراً فأحببت ما أحب الله.
(ولهذا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك إنما كان يبتسم.
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى لهواته إنما كان يبتسم.
(حديث جرير ابن عبد الله في الصحيحين) قال ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن أسلمت إلا تبسم في وجهي.
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة.
(ومن الآثار الدالة على النهي عن كثرة المزاح ما يلي:
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن عمر بن عبد العزيز قال: اتقوا المزاح فإنها حمقة تورث ضغينة، وقال: إنما المزاح سباب إلا أن صاحبه يضحك.
(وقيل: إنما سمي مزاحا لأنه مزيح عن الحق.
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن إبراهيم النخعي قال: المزاح من سخف أو بطر.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال من مزح استخف به.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: اتقوا الله وإياي والمزاحة فإنها تورث الضغينة وتجر القبيحة تحدثوا بالقرآن وتجالسوا به فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن سعيد بن العاص رحمه الله قال لابنه يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الدنيء فيجترئ عليك.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن خالد بن صفوان رحمه الله قال: المزاح سباب النوكى (1)، وكان يقال لكل شئ بذر وبذر العداوة المزاح، قال وبلغني عن الحسن بن حيي رحمه الله قال المزاح استدراج من الشيطان واختداع من الهوى.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسين بن عبد الرحمن رحمه الله قال كان يقال المزاح مَسْلَبَةٌ للبهاءِ مَقْطَعَةٌ للصداقة.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي حاتم قال المزاح في غير طاعة الله مسلبة للبهاء مقطعه للصداقة يورث الضغن وينبت الغل، وإنما سمي المزاح مزاحا لأنه زاح عن الحق وكم من افتراق بين أخوين وهجران بين متآلفين كان أول ذلك المزاح.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وإن من المزاح ما يكون سببا لتهييج المراء والواجب على العاقل اجتنابه لأن المراء مذموم في الأحوال كلها ولا يخلو المماري من أن يفوته أحد رجلين في المراء إما رجل هو أعلم منه فكيف يجادل من هو دونه في العلم أو يكون ذلك أعلم منه فكيف يماري من هو أعلم منه.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
(1) النوكى: الحمقى.
المراء أخو الشنان كما أن المناقشة أخت العداوة والمراء قليل نفعه كثير شره ومنه يكون السباب ومن السباب يكون القتال ومن القتال يكون هراقة الدم وما مارى أحد أحدا إلا وقد غير المراء قلبيهما.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قال أبو حاتم رضى الله عنه المزاح إذا كان فيه إثم فهو يسود الوجه ويدمي القلب ويورث البغضاء ويحيى الضغينه وإذا كان من غير معصية يسلى الهم ويرقع الخله ويحيى النفوس ويذهب الحشمة فالواجب على العاقل أن يستعمل من المزاح ما ينسب بفعله إلى الحلاوة ولا ينوي به أذى أحد ولا سرور أحد بمساءة أحد.
(وقيل في منثور الحكم: المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب.
(وقال بعض الحكماء: من كثر مزاحه زالت هيبته، ومن كثر خلافه طابت غيبته.
(وقال بعض البلغاء: من قل عقله. كثر هزله.
(وذكر خالد بن صفوان المزاح فقال: يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل، ويفرغ عليه أحر من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك.
(وقال بعض الحكماء: خير المزاح لا ينال، وشره لا يقال، فنظمه السابوري في قصيدته الجامعة للآداب فقال وزاد:
شرُّ مُزاح المرءِ لا يقاُل
…
وخيرُه يا صاحِ لا ينُاُل
وقد يُقال كثرة المزاحِ
…
من الفتى تدعو إِلى التَّلاحي
إِن المزاحَ بدؤه حلاوه
…
لكنّما آخرُه عَداوَه
يَحقِد منه الرجلُ الشريفُ
…
ويجتري بسُخفه السَّخيفُ
(وما أحسن ما قال أبو نواس:
مُت بدآء الصمت خيرٌ
…
لك من دآءِ الكلام
إِنما السَّالم من أَل
…
جم فاه بلجام
ربما يستفتح المز
…
حُ مغاليق الحمام
والمنايا آكلاتٌ
…
شارباتٌ للأَنام
{تنبيه} : (يجوز للإنسان أن يمزح إن لم يكن كثيراً بشرط أن يكون مزحه صدقاً وقصداً بون إفراط فإن فيه إجماماً للقلوب وتفريجاً للكروب.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي حاتم قال: الواجب على العاقل أن يستميل قلوب الناس إليه بالمزاح وترك التعبس.
(قال أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح:
العاقل يتوخى بمزحه إحدى حالتين: إما إيناس المصاحبين، والتودد إلى المخاطبين، وهذا يكون بما أنس من جميل القول، وبسط من مستحسن الفعل كما قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزحك فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ السفهاء، وإن التقصير فيه يغض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين. وإما أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم، أو حدث من سأم، أو حدث به من هم وغم. فقد قيل: لابد للمصدور أن ينفث وأنشد أبو نواس:
أُروّح القلب ببعض الهزلِ
…
تجاهلاً منّي بغير جهلِ
أَمزح فيه مزحَ أَهل الفَضل
…
والمزحُ أَحياناً جِلاء العقلِ
(وأنشد أبو الفتح البستي:
أفِد طبعَك المكدودَ بالجِدّ راحةً
…
يَجِمَّ وعللّه بشيء من المزحِ
ولكن إِذا أَعطيتَه المزح فليكن
…
بمقدار ما تعطي الطَّعامَ من الملحِ
(وقال أبو تمام:
الجِدُّ شيمتُه وفيه فكاهةٌ
…
طوراً ولا جِدُّ لمن لم يلعب
(وعلى هاتين الحالتين كان مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه والعلماء والأئمة.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: إني لا أقول إلا حقاً.
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ النَّاسُ فِي سِجْنٍ مَا لَمْ يَتَمَازَحُوا.
ومَزَحَ الشَّعْبِيُّ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ يَا أَبَا عَمْرٍو أَتَمْزَحُ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُتْنَا مِنْ الْغَمِّ.
وكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يُدْعَبُ وَيَضْحَكُ حَتَّى يَسِيلَ لُعَابُهُ فَإِذَا أَرَدْته عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ كَانَتْ الثُّرَيَّا أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ ذَلِكَ. أهـ
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح أن سفيان سئل: المزاحُ هُجنَة؟ فقال: بل سنة لقوله عليه السلام إني لأمزح ولا أقول إلا الحق وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس. أهـ
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أنها كانت مع النبي في سفر، قالت: فسابَقْتُه فَسَبَقْتُه على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال هذه بتلك.
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن أن الخليل بن أحمد إنك قيل له قيل تمازح الناس فقال: الناس في سجن ما لم يتمازحوا.
(وهاك صورٌ من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم:
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني حاملك على ولد الناقة فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تلد الإبل إلا النوق.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا ذا الأذنين.
((حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ.
(وأبو عمير كنية لطفل وكان معه (نغير) وهو طائر صغير مثل العصفور هلك هذا النغير، فحزن عليه الصبي واغتم فكان عليه الصلاة والسلام يلاطفه قائلا (ماذا فعل النغير؟).
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الساسلة الصحيحة) قال: أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز قال: فولت تبكي فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز إن الله تعالى يقول " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً أَتْرَاباً "
{تنبيه} : (ومما يجب اجتنابه في المزح أن لا يأخذ متاع أخيه على سبيل المزاح، وكذلك يحرم عليه أن يروِّع أخيه على سبيل المزح، وكذلك يحرم الكذب في المزاح.
(حديث يزيد ابن سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً و لا جاداً و من أخذ عصا أخيه فليرُدَّها.
(حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحلُ لمسلمٍ أن يُروِّعَ مسلماً.
(كان أصحاب رسول الله يمزحون بحضرته صلى الله عليه وسلم:
كان أصحاب رسول الله يمزحون بحضرته صلى الله عليه وسلم وكذلك من بعدهم من التابعين والعلمآء والائمة. ونحن ذاكرون من مزحهم نبذة:
((حديث بكر بن عبد الله المزني الثابت في صحيح الأدب المفرد) قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَادَحُونَ بِالبِطِيخِ، فَإَِذا كَانَتْ الحَقَائِقَ كَانُوا هُم الرِّجَالَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ قَالَ فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ وَاللَّهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح أن النخعي سئل: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم والايمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي.
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن عمر بن الخطاب قال: إِني لَيعجبني أَن يكون الرّجل في أهله مثلَ الصبي فإِذا بُغي منه حاجة وُجِدَ رجلاً، ونظر عمر بن الخطاب إلى أعرابي يصلي صلاة خفيفة فلما قضاها قال: اللهم زوجني بالحور العين فقال عمر: أَسأت النقد وأعظمت الخطبة.
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن أبي بكرة أن أعرابيا وقف على عمر بن الخطاب فقال:
يا عمرَ الخير جُزيت الجنه
…
أُكسُ بُنياتي وأُمَّهُنَّه
وكن لنا من الزّمان جُنَّه
…
أُقسم بالله لَتفعلنَّه
فقال عمر: وإِن لم أَفعل يكون ماذا? فقال: إِذاً أَبا حفصٍ لأمضينَّه قال: فإِن مضيتَ يكون ماذا؟ فقال:
والله عنهنَّ لتُسأَلنه
…
يوم تكون الاعطيِات منَّه
وموقفُ المسؤول بينهنّه
…
إِما إِلى نارِ وإِمَّا جَنَّه
فبكى عمر حتى اخضَلَّت لحيتُه ثم قال لغلامه: يا غلام أَعطِه قميصى هذا لذلك اليوم لا لشعره ثم قال: والله لا أَملك غيره.
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن علّى بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لا بأس بالمفاكهة يخرج بها الرّجلٍ عن حدّ العُبوس.
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن نافع مولى ابن عمر قال: كان عبد الله بن عمر يمازح مولاةً له فيقول لها: خلقني خالقُ الكرام، وخلقك خالقُ اللئام، فتغضب وتصيح وتبكي ويضحك عبد الله بن عمر.
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن عبد الله بن رواحة أنه كان له جارية فاتهمته امرأَته أن يكون أصابها فقالت: إِنك الان جُنُبٌ منها، فأنكر ذلك فقالت: فإِن كنت صادقاً فاقرأ القرآن وقد عهدتَه لا يقرأُ القرآن وهو جُنُبٌ فقال:
شهدت بأَن دين الله حقٌ
…
وأَن النار مثوى الكافرينا
وأَن العرشَ فوق المآء طافٍ
…
وفوق العرش ربُّ العالمينا
وتحمله ثمانية شِدادٌ
…
ملائكة الإِله مسوَّمينا
(أورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن أن عبد الله بن رواحة كان مضطجعاً إلى جنب امرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت فخرجت فرأَته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشَّفرة ثم خرجت وفرغ فقام فلقيها تحمل الشَّفرة فقال: مَهيَم قالت: لو أَدركُتك حيث رأَيُتك لَوَجَأت بين كتفيك بهذه اُلشفرة قال: وأَين رأَيتِني? قالت: راَيتك عَلَى الجارية قال: ما رأيتني وقد نهانا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن يقرأَ أَحدُنا القرآن وهو جُنُبٌ قالت: فاقرأ فقال:
أَتانا رسول الله يتلو كتابَه
…
كما لاح مشهورٌ من الفجر ساطُع
أَتى بالهدى بعد العمى فقلوبُنا
…
به موُقِنَاتٌ أَن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
…
إِذا استَثَقلَت بالمشركين المضاجع
فقالت: آمنت بالله وكذّبت بصري، ثم غدا عَلَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَخبره فضحك حتى بدت نواجذُه.
(قال أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح:
وقد كان أبو هريرة مسترسلاً في مزحه، فحكى ابن قتيبة في المعارف أَن مروان ربما كان يستخلفه على المدينة فيركب حمارا قد شدّ ليه بردعة فيسير فيلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير، وربما أَتى الصبيانَ وهم يلعبون لعبة الأعراب فلا يشعرون حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه فيفزع الصبيان فيتفرقون: قال الماوردي: وهذا خروج عن القدر المستسمح به فيوشك أن يكون بهذا الفعل منه تأويل سائغ.
(وأورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح أَن ابن أبي عتيق وفد على الملك بن مروان فلقي حاجبه فسأله أَن يستأذن له عليه، فسأله الحاجب ما نزعه؟ فذكر ديناً قد مسّه، فاستأذن له، فأمر عبد الملك بإدخاله، فأدخله وعند رأس عبد الملك ورجليه جاريتان وضيئتان، فسلّم وجلس فقال له عبد الملك: ما حاجتك؟ قال: مالي حاجة إِليك قال: أَلم يذكر لي الحاجب أَنك شكوت إِليه ديناً عليك وسألتَه ذِكرَ ذلك لي؟ قال: ما فعلتُ وما علَّي دَين وإِني لأيسُر منك قال: انصرف راشداً فقام ودعا عبدُ الملك الحاجبَ فقال له: أَلم تذكر لي ما شكا إِليك ابن أبي عَتيق من الدَّين؟ قال: بلى قال: فإِنه أَنكر ذلك، فخرج إِليه الحاجب فقال: أَلم تَشكُ إِلَّي دَينك وذكرتَ أَنك خرجت إِلى أَمير المؤمنين فيه وسألتني ذكره؟ قال له: بلى قال: فما حملك عَلَى إِنكار ذلك عند أمير المؤمنين؟ قال ابن أبي عَتيق: دخلت عليه وقد جلس الشمس عند رأسه، والقمر عند رجليه ثم قال لي: كن سَأَلاً، والله ما كان الله ليرى هذا أَبداً، فدخل الحاجب عَلَى عبد الملك فأَخبره خبره فضحك ووهب الجاريتين له وقضى دَينَهَ ووصَلَه وكان سببَ الأنس بينه وبين عبد الملك.
(وأورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن عمرو بن دينار عن ابن أبي عتيق أنه مرَّ به رجل ومعه كلب فقال للرجل: ما اسمك؟ قال: وَثّاب قال: فما اسم كلبك؟ قال: عمرو فقال: واخِلافاه.
(وأورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن محمد بن يحيى بن حيان قال: قلت لامرأتي: أَنا وأَنتِ عَلَى قضآء عمر بن الخطاب قالت: وما قضآء عمر? قلت: قضآؤه إِذا أَصاب الرَّجلُ اُمرأَتَه عند كل طُهر فقد أَدّى حقّها قالت: أَنا أول من ردّ قضاء عمر.
(وفي رواية عنه عاتبت جدّتي جدّي في قلة الباه فقال لها: بيني وبينك قضآء عمر بن الخطاب قالت: وما قضآء عمر؟ قال قضى أن الرَّجل إِذا أتى امرأَتَه في كل طُهر مرةً فقد أَدّى لها حقّها قالت له: أفكل الناس ترك قضاء عمر بن الخطاب ولم يأخذ به غيري وغيرك؟
(وأورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح أن رجلاً سأل الشَّعبي عن المسح على اللحية فقال: خلّلها بأصابعك فقال: أَخاف أَلاّ تَبُلّها قال الشعبي: إِن خفت فانقعها من أَوَّل الليل.
(وسأله أخر: هل يجوز للمحرم أَن يَحُكّ بدنه؟ قال: نعم قال: مقدار كَم؟ قال: حتى يبدوَ العظم.
(وسئل عن أَكل لحم الشيطان فقال: نحن نرضى منه بالكفاف. وقال له رجل: ما اسم امرأَة إِبليس؟ فقال: ذاك نكاحٌ ما شهدناه.
(وأورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح عن ابن عياش قال: رأَيت عَلَى الاعمش فروةً مقلوبةً صوفها إلى خارج، فأصابنا مطر فمررنا على كلب فتنحى الاعمش وقال: لا يحسبنا شاةً.
(ووقع بين الأعمش وامرأته وحشة فسأل بعض أصحابه ويقال: إِنه أبو حنيفة أَن يُصلح بينهما فقال: هذا سيدُنا وشيخُنا أَبو محمد فلا يزهدنَّكِ فيه عَمشُ عَينَيه، وحُموشة ساقَيه، وضعف ركبتَيه، وقَزَل رجليه وجعل يصف فقال الأعمش: قم عنا قّبحك الله فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه.
(وأورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح أن رجلاً جاء إِلى أبي حنيفة فقال له: إِذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أَغتسل فإِلى القبلة أتوجّه أم إِلى غيرها؟ فقال له: الآفضل أَن يكوم وجهُك إِلى جهة ثيابك لئلا تُسرَق.
(وأورد أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح أن رجلاً أَقَّر عند القاضي شريح بشيء ثم ذهب لينكر فقال شريح: قد شهد عليك ابن أُخت خالتك.
{تنبيه} : (إِذا خرج المزح إِلى حدّ الخلاعة فهو هُجنَةٌ ومَذَمةٌ:
(قال أبو البركات الغزني رحمه الله في المراح في المزاح:
إِذا خرج المزح إِلى حدّ الخلاعة فهو هُجنَةٌ ومَذَمةٌ، ومما عُدّ منه ما حكي عن أبي معاوية الضرير وكان محدثا أَنه خرج يوما إِلى أَصحابه وهو يقول:
فإِذا المِعدة جاشت
…
فارمِها بالمِنجَنيقِ
بثلاثِ من نبيذٍ
…
ليس بالحُلوِ الرَّقيق
(أمَا ترى كيف طرق بخلاعته التهمة إِلى نفسه بهذا المزح بما لعله بريٌء من وبعيد عنه؟
(ومن مستحسن المزح ومستسمح الدُّعابة ما حكي عن الإمام القشيري أنه وقف علية شيخ من الأعراب فقال له: يا أَعرابي ممن أَنت? فقال: من بني عَقِيل فقال: من إِي عقيل? قال من بني خَفَاجة فقال القشيري:
رأَيتُ شيخاً من بني خَفَاجَه
فقال الأَعرابي: ما شأنه؟ فقال:
له إِذا جنَّ الظلامُ حاجَه
فقال الأَعرابي: ما هي؟ قال:
كحاجة الدّيك إِلى الدَّجاجَة
فأستغرب الأَعرابي وقال: قاتلك الله ما أَعرفَك بسَرائر القوم. فانظر كيف بلغ بهذا المزج غايته ولسانه وعرضه مصون.
(فالعاقل يربأ بنفسه عن سفساف الأمور وعن مخالطة السفلة ومزاحهم مطلقا، وكذلك عن مزاح من هو أكبر منه لما ذكرنا من الحقد وخرق الحرمة، ولا بأس به بين الإخوان بما لا أذى فيه ولا ضرر ولا غيبة ولا شين في عرض أو دين، قاصدا به حسن العشرة والتواضع للإِخوان والانبساط معهم ودفع الحشمة بينهم من غير استهتار أو إخلال بمروءة أو نحوه استنقاص بأَحد منهم، فقد قيل للخليل بن أحمد إنك تمازح الناس فقال: الناس في سجن ما لم يتمازحوا.
وفي الاقتداء بمن ذكر والاقتفاء بآثارهم أعظم بركة، وفي الخروج عن ذلك الحد أشد عنآء وأبلغ هلكة، وخير الأمور أوساطها.
(19)
الغضب:
يجب على المسلم أن يتخلى عن الغضب لأن الغضب يجعل الإنسان مفلوت الزمام مما يقوده إلى عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، والإنسان إذا كان غضبه يقوده لعب به الشيطان كما يلعب الصبيان بالكرة، وترك الغضب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني. قال لا تغضب. فردد مراراً قال: لا تغضب.
(حديث أبي الدرداء في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تغضب ولك الجنة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس الشديد بالصُرعة و إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
(حديث معاذ ابن أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظا و هو قادر على أن يُنْفِذَه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور ما شاء.
{تنبيه} : (أن كظم الغيظ يمكن اكتسابه بترويض النفس فلا ينبغي للإنسان أن يستوطئ العجز ولا أن يقول أنني جُبلت على ذلك فإنه من يتحرى الخير يُعطه ومن يتق الشر يُوَقَّه بنص السنة الصحيحة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.
مسألة: ما هي كيفية علاج الغضب؟
هناك عدة أدوية نافعةٌ بإذن الله تعالى لعلاج الغضب منها:
(1)
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم لقوله تعالى: (وَإِماّ يَنَزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[سورة: الأعراف - الآية: 200]
(حديث سليمان بن صرد في الصحيحين) قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبَّاً قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(2)
تغيير الحالة التي كان عليها الغضبان:
(حديث أبي ذرٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا غضب أحدكم و هو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب و إلا فليضطجع.
(3)
استحضار ما ورد في ثواب كظم الغيظ:
(حديث معاذ بن أنس الجُهَنِّي في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظا و هو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء.
(أخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي المتوكل أن أبا هريرة رضي الله عنه كانت له زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً فقال: لولا القصاص لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، اذهبي فأنت لله.
(4)
أن يسكت:
(حديث ابن عباس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا غضب أحدكم فليسكت.
(5)
أن يُروِّض نفسه على الحلم والأناة وكظم الغيظ فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتقِ الشر يُوَقَّه.
مسألة: كيف يكتسب الإنسان فضيلة كظم الغيظ حتى تصير من صفات؟
يكتسب الإنسان ذلك بشيئين:
(أحدهما: ترويض النفس على الخير، فإن النفس إذا روضتها على الخير اكتسبت هذا الخلق وصار من صفاتها فإنه من يتحر الخير يعطه بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يوقه.
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه
(والثاني الصدق: فإن الله تعالى إذا اطَّلع على قلبك ورأى منك الصدق أوصلك إلى ما تصبو إليه.
(حديث شداد بن الهادي في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن تصدق الله يصدقك.
{تنبيه} : (يستحب الغضب إذا انتهكت حرمات الله تعالى لأن ذلك من تعظيم حرمات الله تعالى:
قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ)[سورة: الحج - الآية: 30]
والغضب إذا انتهكت حرمات الله تعالى من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم.
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في الصحيحين) قال، قال رجل يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان فما رأيت رسول الله أشد غضباً من يومئذٍ فقال يا أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة.
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله بها.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح السيرة النبوية) قال: طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال:((أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده؛ لقد جئتكم بالذبح)).
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن غضب فاسترضي فلم يرض فهو حمار.
(20)
التكلم فيما لا يعنيه:
من أشدِّ آفات اللسان التكلم فيما لا يعنيه فإنه قد يهوي بصاحبه في الهوةِ السحيقة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قَالَ: اسْتُشْهِدَ رَجُلٌ مِنَّا يَومَ أُحدٍ فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنْ الجُوعِ فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُرَابَ عَنْ وَجْهِِهِ وَقَالَتْ هَنِيئَاً لَكَ يَا بُنَي الجَنَّةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا يُدْرِيِكِ لَعَلَهُ كَانَ يَتَكَلَمَ فِيمَا لَا يُعْنِيهِ وَيَمْنَعَ مَا لَا يَضُرُهُ.
((حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَ كَعْبَاً فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا مَرِيضٌ، فَخَرَجَ يَمْشِي حَتَى آتَاهُ فَلمَا دَخَلَ عَلَيهِ قَالَ أَبْشِرْ يَا كَعْبُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ هَنِيئَاً لَكَ الجَنَّةَ يَا كَعْبُ فَقَالَ: مَنْ هَذِه المُتَآلِيَةُ عَلَى اللهِ؟ قَالَ هِيَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ وَمَا يُدْرِيِكِ يَا أُمِّ كَعْب، لََعَلَ كَعْبَاً قَالَ مَا لَا يُعْنِيهِ أَو مَنَعَ مَا لَا يُغْنِيه.
((3) قل خيراً أو اصمت:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
(إنه أدب نبويٌ قولي للذين يهمون بالكلام أن يتريثوا ويتفكروا بكلامهم الذي يريدون أن يتكلموا به، فإن كان خيراً فنعم القول هو وليقله، وإن كان شراً فلينته عنه فهو خيرٌ له.
(قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وهذا من جوامع الكلم لأن القول كله إما خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فإذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يئول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت (1).
((4) فضل الصمت وقلة الكلام وكراهية كثرته:
مسألة: ما هي أهمية الصمت وقلة الكلام؟
ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بالصمت إلا فيما فيه منفعة لأن في الصمت النجاة بنص السنة الصحيحة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
((حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صمت نجا.
((حديث جابر بن سمرة الثابت في صحيح الترمذي) قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت قليل الضحك.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ.
(1). فتح الباري (10/ 461)
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار قال: اجتمعنا ذات يوم في مسجد فما منا أحد إلا تكلم، إلا إبراهيم بن أدهم فإنه ساكت، فقلت: لم لا تتكلم؟ فقال: الكلام يظهر حمق الأحمق، وعقل العاقل، فقلت: لا نتكلم إذا كان هكذا الكلام، فقال: إذا اغتممت بالسكوت فتذكر سلامتك من زلل اللسان.
(ولله درُ من قال:
أقلل كلامك واستعذ من شره
…
إن البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من غيه
…
حتى يكون كأنه مسجون
وكل فؤادك باللسان وقل له
…
إن الكلام عليكما موزون
(الآثار الواردة في الصمت وقلة الكلام:
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن مالك بن أنس قال: كل شيء ينتفع بفضله إلا الكلام فإن فضله يضر.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي الدرداء قال: لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين منصت واع أو متكلم عالم.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الفضيل بن عياض يقول شيئان يقسيان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الأحنف بن قيس قال: الصمت أمان من تحريف اللفظ وعصمة من زيغ المنطق وسلامة من فضول القول وهيبة لصاحبه.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الأحنف بن قيس قال: قال عمر بن الخطاب يا أحنف من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه.
(ولله درُّ من قال:
ما ذل ذو صمت وما من مكثر
…
إلا يزل وما يعاب صموت
إن كان منطق ناطق من فضة
…
فالصمت در زانه الياقوت
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن وهيب بن الورد أن شابا كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب ويحسن الاستماع ثم ينصرف من قبل أن يتكلم ففطن له عمر فقال له إنك تحضر مجلسنا وتحسن الاستماع ثم تنصرف من قبل أن تتكلم فقال الشاب إني أحضر فأتوقى وأتنقى وأصمت فأسلم.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن كعب قال العافية عشرة أجزاء تسعة منها في السكوت.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الأوزاعي قال: ما بلى أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من كثر كلامه كثر سقطه.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عبد الله بن عمرو: دع ما لست منه في شئ ولا تنطق فيما لا يعنيك واخزن لسانك كما تخزن ورقك.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن وهيب بن الورد رحمه الله قال كان يقال الحكمة عشر أجزاء فتسعة منها في الصمت والعاشرة عزلة الناس.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الأوزاعي قال قال سليمان بن داود صلى الله عليهما السلام إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن وهيب بن الورد رحمه الله قال: إن الرجل ليصمت فيجتمع إليه لبه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن محمد بن النضر الحارثي قال كان يقال كثرة الكلام تذهب بالوقار.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن محمد بن عبد الوهاب الكوفي قال: الصمت يجمع للرجل خصلتين السلامة في دينه والفهم عن صاحبه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عقيل بن مدرك أن رجلا قال لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه أوصني قال عليك بالصمت إلا في حق فإنك به تغلب الشيطان.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن كعب قال قلة المنطق حكم عظيم فعليكم بالصمت فإنه رعة حسنة وقلة وزر وخفة من الذنوب.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عبد الرحمن بن شريح قال لو أن عبدا اختار لنفسه ما اختار شيئا أفضل من الصمت.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي مسهر رحمه الله قال الصمت وعاء الأخيار.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عن شيخ من قريش قال قيل لبعض العلماء إنك تطيل الصمت فقال إني رأيت لساني سبعا عقورا أخاف أن أخلي عنه فيعقرني.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان الحارث بن محمد التميمي من قريش قال كان رجل يجلس إلى الشعبي فيطيل السكوت فقيل له ما يمنعك من الكلام فقال أَسْكُتُ فَأَسْلَم وَأَسْمَعُ َفَأعْلَمُ.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان سفيان قال بلغنا أن فتى كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيستمع فيحسن الاستماع ثم يقوم من قبل أن يتكلم قال ففطن إلى ذلك عمر رضي الله عنه فقال له أراك تحضر المجلس فتحسن الاستماع ثم تقوم من قبل أن تتكلم مع القوم ولا تدخل في حديثهم فعم ذاك قال له الفتى إني والله أحب أن أحضر فأستمع فأحسن الاستماع ثم أتنقى هو وأتوقى وسلم وأصمت لعلي أسلم قال يقول له عمر رضي الله عنه يرحمك الله وأينا يفعل هذا؟
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن خاقان بن عبد الله قال سمعت ابن المبارك وسئل عن قول لقمان لابنه إن كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب فقال عبد الله لو كان الكلام بطاعة الله من فضة فإن الصمت عن معصية الله من ذهب.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن إبراهيم رحمه الله قال يهلك الناس في خلتين فضول المال وفضول الكلام.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن سلمان رضي الله عنه قال: أكثر الناس ذنوبا يوم القيامة أكثرهم كلاما في معصية الله.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن أكثر الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضا في الباطل.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أنذركم فضول الكلام بحسب أحدكم ما بلغ حاجته.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عطاء بن أبي رباح قال: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه أو تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، قال تعالى: (وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ)[الانفطار 10، 11]،و قال تعالى:(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ* مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق 17، 18] أما يستحي أحدكم أنه لو نشرت عليه صحيفته التي أملى صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن علي رضي الله عنه قال لسان الإنسان قلم المَلَك وريقه مداده.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الأحنف بن قيس يقول قال الله عز وجل عن اليمين وعن الشمال قعيد فصاحب اليمين بكتب الخير وهو أمير على صاحب الشمال فإن أصاب العبد خطيئة قال أمسك فإن استغفر الله نهاه أن يكتبها وإن أبى إلا أن يصر كتبها.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن زيد بن علي رضي الله عنه قال إذا خرجت الكلمة من فم الإنسان نظر الملك فإن كان أراد شرا أمضاها وإن كان لم يرد شرا وإنما كانت فلته قال له صاحبه لا تعجل لعله أن يستغفر الله منها فإن استغفر لم تكتب وكتب له حسنات الاستغفار.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن قل يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان يكتبان عملك فأكثر ما شئت أو أقل.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الربيع بن خثيم قال: لا خير في الكلام إلا في تسع تهليل وتكبير وتسبيح وتحميد وسؤالك من الخير وتعوذك من الشر وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر وقراءتك للقرآن.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن إبراهيم التيمي قال المؤمن إذا أراد أن يتكلم نظر فإن كان كلامه له تكلم وإلا أمسك عنه والفاجر إنما لسانه رسلاً رسلا.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عن نعيم كاتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال قال عمر بن عبد العزيز إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله عنه قال من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع وإن وجد من يكفيه فإن في الاستماع سلامة وزيادة في العلم والمستمع شريك المتكلم في الكلام إلا من عصم الله ترمق وتزين وزيادة ونقصان.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن أحق ما طهر الرجل لسانه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أن أبا الدرداء رضي الله عنه رأى امرأة سليطة اللسان فقال لو كانت هذه خرساء كان خيرا لها.
{تنبيه} : (ينبغي للمسلم أن يكون منهجه في الكلام أن يكون إذا تكلم غنم وإذا سكت سلم.
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله امرءاً تكلم فغنم أو سكت فسلم.
قال ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: ما شيء أحوجُ إلى طولِ سجنٍ من لساني
[*] وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: أنصف أذنيك من فيك فإنما جُعلت لك أذنان وفمٌ واحد لتسمع أكثر مما تتكلم به.
(وجاء الترغيب في الإقلال من الكلام في أيما حديث، وذلك لأن كثرته يكون سبباً في الوقوع في الإثم، فلا يأمن المُكثر منه، من فلتات لسانه وزلاته، فمن أجل ذلك جاء الترغيب في الإقلال من الكلام، والنهي عن كثرته، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث المغيرة بن شعبة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ.
(قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
وقوله: (وكره لكم
…
قيل وقال) فهو الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم، قاله النووي (1).
(وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة أن الثرثارون من أبغض الناس إليه وأبعدهم منه مجلساً يوم القيامة.
((حديث جابر الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ (2) وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ الْمُتَكَبِّرُونَ.
*معنى الثرثارون: كثيري الكلام
*معنى المتشدقون: الذي يتشدَّقُ على الناس في الكلام ويبذو عليهم
(1). مسلم بشرح النووي. المجلد السادس (12/ 10)
(2)
. في اللسان: الثرثار المتشدق كثير الكلام
…
والثرثرة في الكلام: الكثرة والترديد
…
تقول رجلٌ ثرثار وامرأه ثرثارة، وقومٌ ثرثارون. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبغضكم إلي الثرثارون والمتفيهقون. أي هم الذين يكثرون الكلام تكلفاً وخروجاً عن الحق. (4/ 102) مادة (ثرر).
(قال أبو هريرة: لا خير في فضول الكلام. وقال عمر بن الخطاب: من كثُر كلامه كثُر سقطه
…
وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: لاخير في كثرة الكلام، واعتبر ذلك بالنساء والصبيان، أعمالهم أبداً يتكلمون ولا يصمتون ..
(قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ بَعْضُ قُضَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ عَزَلَهُ لِمَ عَزَلْتَنِي؟ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ كَلَامَكَ مَعَ الْخَصْمَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ.
وَتَكَلَّمَ رَبِيعَةُ يَوْمًا فَأَكْثَرَ الْكَلَامَ وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَإِلَى جَنْبِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَعْرَابِيُّ مَا تَعُدُّونَ الْبَلَاغَةَ؟ قَالَ: قِلَّةُ الْكَلَامِ.
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَعِيبُ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَيَقُولُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي النِّسَاءِ أَوْ الضُّعَفَاءِ.
وَقَالَ الْأَحْنَفُ: الْبَلَاغَةُ الْإِيجَازُ فِي اسْتِحْكَامِ الْحُجَّةِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَا يُكْتَفَى بِهِ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: لِرَجُلٍ كَثِيرٌ كَلَامُهُ: إنَّ الْبَلَاغَةَ لَيْسَتْ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ ، وَلَا بِخِفَّةِ اللِّسَانِ ، وَلَا بِكَثْرَةِ الْهَذَيَانِ ، وَلَكِنَّهُ إصَابَةُ الْمَعْنَى وَالْقَصْدُ إلَى الْحُجَّةِ. أهـ
(ولله درُ من قال:
إنَّمَا الْعَاقِلُ مَنْ أَلْجَمَ فَاهُ بِلِجَامِ: مُتْ بِدَاءِ الصَّمْتِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ دَاءِ الْكَلَامِ.
((5) الكلمة الطيبة صدقة:
(أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة أن الكلمة الطيبة صدقة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
(وربَّ كلمة طيبة أبعدت قائلها من النار، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة: (
((حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ.
((6) إذا حدث الرجل لأخيه بحديث ثم التفت فهي أمانة:
((حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ.
(هذا أدبٌ نبويٌ عظيم، حيث عدَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم التفات الرجل عند كلامه يميناً وشمالاً قائماً مقام إيداع السر وحفظه وعدم نقله. قال ابن رسلان: لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد وأنه قد خصه سره، كان الالتفات قائماً مقام: اكتم هذا عني، أي خذه عني واكتمه وهو عندك أمانه (1).
((7) تقديم الأكبر في الكلام:
((حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ـ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ ـ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صل صلى الله عليه وسلم «كَبِّرْ الْكُبْرَ» ـ قَالَ يَحْيَى: يَعْنِي لِيَلِيَ الْكَلَامَ الْأَكْبَرُ ـ فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «أَتَسْتَحِقُّونَ قَتِيلَكُمْ ـ أَوْ قَالَ صَاحِبَكُمْ ـ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرٌ لَمْ نَرَهُ قَالَ فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِهِ.
(1). عون المعبود. المجلد السابع (13148)
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ فَجَذَبَنِي رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْآخَرِ فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِي كَبِّرْ فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ.
((حديث أنس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يرحم صغيرنا و يوقر كبيرنا.
((حديث أبي موسى الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من إجلالِ الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم و حاملَ القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرامَ ذي السلطان المقسط.
((حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يجل كبيرنا و يرحم صغيرنا! ويعرف لعالمنا حقه.
((حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَمَرَنِي جِبْرِيْلُ أَنْ أُقَدِّمَ الأَكَابِرَ.
((حديث سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي.
(ولقد تطبّع أفراد المجتمع المسلم بذلك الخلق وتوارثوا توقير الكبير واحترامه وتقديره انقياداً لتعاليم دينهم، واتباعاً لسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، فكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من أشد الناس توقيراً لإخوانه ولمن هو أسن منه، فقد روى عنه المروزي أنه جاءه أبو همام راكباً على حماره، فأخذ له الإمام أحمد بالركاب. وقال المروزي: رأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ (1).
(1) الآداب الشرعية والمنح المرعية، مرجع سابق، جزء 1، ص 470.
(وذكر ابن الجوزي عن ابن سعيد الأشج أنه قال: ((حدثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فقال: لو كنت أسن مني بليلة ما تقدمتك)) (1)، فهذا خُلُقُهُم رحمهم الله فالأسن مقدم ولو كان الفارق ليلة فكيف بسنة أو سنوات؟! فذلك من باب أولى، وروى الحسن بن منصور قال: كنت مع يحيى وإسحاق بن راهويه يوماً نعود مريضاً فلما حاذينا الباب تأخر إسحاق، وقال ليحيى: تقدم أنت، قال: يا أبا زكريا أنت أكبر مني (2).
((8) عدم مقاطعة الحديث:
من الأدب عدم قطع حديث الناس، لأنهم قد يكونوا شغوفين بمتابعة الحديث، فإذا تكلم بعضهم وبتر كلامهم، فإن ذلك يشق عليهم ويوغر صدورهم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ.
الشاهد قوله: (فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث) أي: ولم يقطع حديثه، وذلك لأن الحق لمن كان بالمجلس لا لهذا السائل، فناسب أن لا يقطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثه حتى يقضيه.
(1) كتاب الحدائق في علم الحديث والزهديات، ابن الجوزي، تحقيق: مصطفى السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1408هـ، جزء 3، ص 105.
(2)
الآداب الشرعية والمنح المرعية، مرجع سابق، جزء 3، ص 269.
(ويستأنس أيضاً بقول ترجمان القرآن، ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن عباس لعكرمة: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين فإن أكثر فثلاث مرار ولا تملَّ الناس هذا القرآن. ولا ألفينك تأتي القوم وهو في حديثٍ من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه .. الحديث (1). فقد بين ابن عباس-رضي الله عنهما علة النهي عن قطع الحديث، وهو جلب الملالة والسآمة لهم، ثم أرشده بحسن الاستماع، وإذا طلبوا منك التحديث فحدثهم فإنه أدعى لقبول ما تقول حيئنذٍ.
((9) التأني في الكلام وعدم الإسراع فيه:
العجلة في الحديث مظنة عدم فهم الكلام على وجهه من لدن المستمع، ولذا كان كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا عجلة فيه يفهمه من جلس إليه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ.
((حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَتْ كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ.
((حديث جابر الثابت في صحيح أبي داود) قَالَ: كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْتِيلٌ أَوْ تَرْسِيلٌ.
((10) يكرر كلامه ثلاثاً تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم:
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا.
((11) خفض الصوت عند الكلام:
قال تعالى: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لقمان: 19].
قوله تعالى: {واغضض من صوتك} أدباً مع الناس ومع الله.
(أَنكَرَ الأصْوَاتِ): أي أفضعها وأبشعها {لصوت الحمير} .
فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة، لما اختص بذلك الحمار الذي قد علمت خسته وبلادته، قاله ابن سعدي (2). ولا شك أن رفع الصوت على الغير سوءٌ في الأدب، وعدم احترام للآخرين.
(قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية:
(1).رواه البخاري (6337)
(2)
. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (6/ 160)
قال الشيخ تقي الدين: من رفع صوته على غيره علم كل عاقل أنه قلة احترام له
…
وقال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيراً ما جعله الله للحمير (1).
((12) ألفاظ وكلمات تُجتنب:
تدور على ألسنة بعض المتكلمين عباراتٌ وألفاظٌ نهى الشرعٌ عنها، وقد لا يعلمون حكمها وهم الأكثر، وقد يُعلم حكمها ولكن تُقال نسياناً، وأشرهم الذي يتفوه بها عالماً عامداً. وفي هذا المقام لا يمكننا الإحاطة بهذه الألفاظ، ولكن حسبنا بذكر بعضها على سبيل الاختصار، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
مسألة: بعض الناس يقول: تصحيح الألفاظ غير مهم مع سلامة القلب؟
الجواب: إن أراد بتصحيح الألفاظ إجراءها على اللغة العربية، فهذا صحيح فإنه لا يهم- من جهة سلامة العقيدة- أن تكون الألفاظ غير جارية على اللغة العربية ما دام المعنى مفهوماً وسليماً. أما إذا أراد بتصحيح الألفاظ، ترك الألفاظ التي تدل على الكفر والشرك، فكلامه غير صحيح بل تصحيحها مهم، ولا يمكن أن نقول للإنسان أطلق لسانك في قول كل شيء ما دامت النية صحيحة بل نقول الكلمات مقيدة بما جاءت به الشريعة الإسلامية. قاله ابن عثيمين (2).
أ- الفاظ التكفير والتبديع والتفسيق:
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا.
(وقليلٌ ممن أعمى الله بصيرتهم ولغوا في أعراض الناس تكفيراً وتبديعاً وتفسيقاً، وكأن الله تعبدهم بذلك، والواحد منهم يُطلق عبارة التكفير أو التبديع أو التفسيق وهو منشرحٌ بها صدره، مع أن السلف من الصحابة ومن سار على هداهم من أئمة الإسلام «كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد» كانوا يتحرجون من ذلك كثيراً، وخصوصاً في التكفير، حيث لم يتلفظوا بشيء من ذلك إلا بعد أن قامت لديهم أدلة لا تقبل الشك، وانتفت في حق المعين الموانع، وقامت عليه الحجة،
((حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَةِ الوَدَاعِ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَغَتْ.
(1). الآداب الشرعية (2/ 26)
(2)
. فتاوي العقيدة (دار الجيل، مكتبة السنة) ط. الثانية 1414هـ (ص 730)
(قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
فَجَمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الدَّمِ وَالْعِرْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيغَارِ الصُّدُورِ، وَإِبْدَاءِ الشُّرُورِ، وَإِظْهَارِ الْبَذَاءِ، وَاكْتِسَابِ الأعداء، وَلَا يَبْقَى مَعَ هَذِهِ الأمور وَزْنٌ لمرموقٍ وَلَا مُرُوءَةٌ لِمَلْحُوظٍ ثُمَّ هُوَ بِهَا مَوْتُورٌ مَوْزُورٌ؛ وَلِأَجْلِهَا مَهْجُورٌ مَزْجُورٌ.
((حديث أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَمَنْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا فَكَانَ يَقُولُ لَا حَرَجَ لَا حَرَجَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَذَلِكَ الَّذِي حَرِجَ وَهَلَكَ.
(ومعنى اقترض: أي اقتطع، والمراد أنه نال من أخيه المسلم بالطعن فيه.
[*] (أورد أبو الشيخ الأصبهاني رحمه الله تعالى في التوبيخ والتنبيه عن المحاربي قال: قيل للربيع بن خثيم: مالك لا تذم الناس؟ قال: والله ما أنا عن نفسي براض، فأتفرغ من ذمها إلى ذم غيرها، إن الناس خافوا الله في ذنوب غيرهم، وأمنوه على ذنوبهم.
ب- قول الرجل هلك الناس:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ.
قوله: (فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) بالرفع: أي أشدهم هلاكاً، وبالفتح أي: جعلهم هالكين لا أنهم هلكوا حقيقة (1).
(قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
(1). انظر شرح صحيح مسلم. المجلد الثامن (16/ 150)
واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم لأنه لا يعلم سر الله في خلقه، قالوا: فأما من قال ذلك تحزناً لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس به، كما قال: لا أعرف من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً، هكذا فسره الإمام مالك وتابعه الناس عليه. وقال الخطابي: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم والله أعلم (1).
ت -الحلف بغير الله تعالى:
((حديث عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ.
(والحلف بغير الله تعالى كأن يقسم بأي شيء من مخلوقاته، فهو الخالق المتصرف في ملكه، فالناس والجن والشجر والجبال والسماء والأرض خلقه فله أن يقسم بما شاء منها. وأما الخلق فلا يقسموا بغير مليكهم وخالقهم.
(قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده (2).
(1). شرح مسلم. المجلد الثامن (16/ 150)
(2)
. فتح الباري (11/ 540)
والحلف من المخلوقين يكون بأحد حروف القسم الثلاثة مضافة إلى الله: الواو والباء والتاء، تقول: تالله، وبالله، و والله. أو الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته. قال البخاري: باب: الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته. ثم قال
…
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يبقى رجلٌ بين الجنة والنار فيقول يارب اصرف وجهي عن النار لا وعزتك لا أسألك غيرها (1). وقد يكون الحلف بإضافة شيء من مخلوقات الله إليه، كإضافة الكعبة والسماء والأرض إليه سبحانه وتعالى، كقولك: ورب الكعبة، ورب السماء ونحو ذلك، مع تنزيه الباري -جل وعلا- عن إضافة المخلوقات التي يستقبح ذكرها إليه، وإن كان هو خالقها، ولكن الأدب مع الله يقتضي ذلك، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المشهور:(والشر ليس إليك)(2). مع أنه خالق الخير والشر. وهناك ألفاظ سُمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تندرج تحت الأقسام الثلاثة السابقة: كقوله صلى الله عليه وسلم (وأيم الله) وقوله: (والذي نفسي بيده) وقوله: (لا ومقلب القلوب)(3).
(ومنه الحلف بالأمانة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا.
(ومن ذلك أيضاً الحلف بالنبي، وبالحياة، يقول: (وحياتك) أو (وحياة فلان) وغير ذلك من الحلف بغير الله.
ث- الحلف بالطلاق:
شاع عند بعض جهال الناس الحلف بالطلاق، فيقول: عليَّ الطلاق لا أفعلن كذا، أو عليَّ الطلاق ثلاثاً لا أفعله ونحو ذلك. وهذا الجاهل قد يتسبب في خراب بيته، وظلمه لأهله الذين لا ذنب لهم، والذنب ذنب الأحمق الذي أطلق لسانه بدون روية أو تبصر بعاقبة الأمور. وقد يكون المحلوف عليه بالطلاق أمراً ليس ذي بال، كحلف الرجل على الرجل لدخول بيته ونحو ذلك.
(والحلف بالطلاق اختلف أهل العلم في وقوعه عند الحنث فيه، فجمهورهم على أن الحانث فيمن حلف بالطلاق أنه يقع طلاقه، وطائفة من أهل العلم أجراه مجرى اليمين، فليزمه كفارة يمين عند الحنث.
(1). صحيح البخاري. كتاب الأيمان والنذور.
(2)
. رواه مسلم (771)، وأحمد (805)، والترمذي (3422)، والنسائي (897)، وأبو داود (760)، والدارمي (1314)
(3)
. البخاري (6627)، (6628)، (6629)
(قال ابن عثيمين في جواب له: أما أن يحلفوا بالطلاق مثل عليَّ الطلاق أن تفعل كذا، أو علي الطلاق ألا تفعل كذا، أو إن فعلت كذا فامرأتي طالق، أو إن لم تفعل فامرأتي طالق، وما أشبه ذلك من الصيغ فإن هذا خلاف ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال كثيرٌ من أهل العلم بل أكثر أهل العلم أنه إذا حنث في ذلك فإن الطلاق يلزمه وتطلق منه امرأته، وإن كان القول الراجح أن الطلاق إذا استعمل استعمال اليمين بأن كان القصد منه الحث على الشيء أو المنع منه أو التصديق أو التكذيب أو التوكيد، فإن حكمه حكم اليمين لقول الله تعالى: (يَأَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ)[التحريم 1، 2]
فجعل الله التحريم يميناً. ثم ذكر الحديث الآتي:
((حديث عمر الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
وهذا لم ينو الطلاق إنما نوى اليمين أو نوى معنى اليمين، فإذا حنث فإنه يجزأه كفارة يمين، هذا هو القول الراجح (1).
ج- قول الرجل للمنافق سيد أو ياسيدي:
((حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عز وجل.
(قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
قوله: (فإن يك سيداً) أي سيد قوم أو صاحب عبيد وإماء وأموال (فقد أسخطتم ربكم عزوجل) أي أغضبتموه لأنه يكون تعظيماً له وهو ممن لا يستحق التعظيم، فكيف إن لم يكن سيداً بأحد من المعاني فإنه يكون مع ذلك كذباً ونفاقاً
…
وقال ابن الأثير: لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن كان سيدكم وهو منافق، فحالكم دون حاله، والله لا يرضى لكم ذلك، قاله في عون المعبود (2).
(1). فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين (2/ 796)
(2)
. شرح سنن أبي داود. المجلد السابع (13/ 221) بتصرف يسير.
{تنبيه} : (درج كثيرٌ ممن يتكلم باللغة الإنجليزية من المسلمين على استخدام كلمة ( mister) في مخاطباتهم جرياً على عادة أهلها، والتي تعني سيد أو سيدي. والنهي جاء في حق المنافق، فمن باب أولى ينهى عن خطاب المسلم ومناداته للكافر بهذا اللفظ، فالعبرة بالمعاني والمقصود لا بالمباني، والله أعلم. قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: فصل: خطاب الكتابي بسيدي ومولاي. وأما أن يخاطب بسيدنا ومولانا ونحو ذلك فحرام قطعاً (1).
ح- سب الدهر:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قَالَ اللَّهُ عز وجل يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
(كانت من عادة الجاهلية أنهم اذا أصيبوا بنازلة أو مصيبة أن يسبوا الدهر، وبعض هذه الأمة -وهم قلة- ممن اتصف بصفات أهل الجهل، تجده يحاكيهم عند نزول المصائب. وفي الحديث نهيٌ عن سب الدهر؛ وذلك لأن سب الدهر هو سبٌ لخالق الدهر ومصرفه ومقلبه، فنهو عن سب الدهر لئلا يقعوا في سب خالقه (2).
مسألة: هل يقال هذا (زمان أقشر) أو (الزمن غدار) أو (يا خيبة الزمن الذي رأيتك فيه)؟
الجواب:
قال ابن عثيمين -حفظه الله- هذه العبارات التي ذكرت في السؤال تقع على وجهين:
الوجه الأول: أن تكون سباً وقدحاً في الزمن فهذا حرام. ولا يجوز، لأن ما حصل في الزمن فهو من الله عز وجل فمن سبّه فقد سبّ الله، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم يسبُّ الدهر وأنا الدهر. بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار.
والوجه الثاني: أن يقولها على سبيل الإخبار فهذا لا بأس به، ومنه قوله تعالى عن لوط، عليه الصلاة والسلام:{وقال هذا يومٌ عصيب} أي شديد، وكل الناس يقولون: هذا يومٌ شديد. وهذا يومٌ فيه كذا وكذا من الأمور وليس فيه شئ.
وأما قول: (هذا الزمن غدار) فهذا سبّ لأن الغدر صفة ذم ولا يجوز.
وأما قول: (يا خيبة اليوم الذي رأيتك فيه) إذا قصد يا خيبتي أنا، فهذا لا باس فيه، وليس سباً للدهر، وإن قصد الزمن أو اليوم فهذا سبه له فلا يجوز (3).
خ- قول: (حرام عليك) أو (حرام عليك أن تفعل كذا):
(1). (3/ 1322)
(2)
. انظر فتح الباري (8/ 438)، وشرح صحيح مسلم. المجلد الثامن (15/ 4)
(3)
. فتاوي العقيدة ـ (ص 614 - 615)
لا يجوز أن يوصف شيء بالتحريم إلا أن يكون شيئاً حرمه الله أو رسوله، وذلك أن وصف شيء غير محرم بالحرمةـ ولو مع سلامة النية ـ فيه تعدي على جناب الربوبية، وفيه إيهام بأن ذلك الشيء محرم وهو ليس كذلك. والأسلم للمرء في دينه أن يبتعد عن هذا اللفظ (1). ويُخشى على قائل ذلك أن يدخل في عموم قوله تعالى:(وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هََذَا حَلَالٌ وَهََذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)[النحل: 116].
قال الشوكاني: ومعناه أي: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قولٍ تنطق به ألسنتكم من غير حجة (2).
((13) لزوم الصدق ومجانبة الكذب:
[*] (عناصر لزوم الصدق ومجانبة الكذب:
(الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين:
(تعريف الصدق:
(مراتب الصدق:
(من أقوال السلف في الصدق:
(حث الشريعة على التحلي بالصدق:
(شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ):
(ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:
(صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق:
(مجالات الصدق:
(دواعي الصدق:
(علامات الصدق:
(أمور مهمة في الصدق وأهله:
(الصدق المذموم:
(الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق:
(الصدق في البيع والشراء:
(الكذب أضراره وعواقبه:
(تحريم الكذب في الرؤيا:
(عقوبة الكذب:
(تحذير السلف من الكذب:
(دواعي الكذب:
(تحريم الكذب في المزاح:
(لا تجمعن جوعا وكذبا:
(علامات الكذب:
(مواطن جواز الكذب:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين:
(1). انظر فتاوى الشيخ: محمد بن صالح العثيمين. إعداد: أشرف عبد المقصود. دار عالم الكتب. ط. الثانية 1412هـ (1/ 200 - 201)
(2)
. فتح القدير (3/ 227)
منزلة الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: والصدق له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهي نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ المنازل كلها، والطريق الأقوم الذي من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، هو روح الأعمال ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، وهو الباب الذي يدخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية على النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكن النبيين تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين. وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخص الله المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119] وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)[النساء:69].
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق، فقال تعالى:(وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)
[البقرة:177]
وهذا صريح في أن الصدق في الأعمال الظاهرة والباطنة وأنه هو الإيمان والإسلام. وأخبر سبحانه وتعالى أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذاب الله إلا صدقه، قال تعالى:(هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة:119].
وعقد البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الجامع الصحيح باباً بعنوان: باب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وما ينهى عن الكذب.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق
«وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين» «والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين» وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرْدَاه وَصَرَعَه، من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال وَمَحَكُ الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، «وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين» ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ومن مساكنهم في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين.
(وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين: وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]«فهم الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقا» ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده إحسانا منه وتوفيقا، ولهم مرتبة المعية مع الله فإن الله مع الصادقين ولهم منزلة القرب منه إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين.
(وأخبر تعالى أن من صدقه فهو خير له فقال: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد: 21]
(وأخبر تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم: من الإيمان والإسلام والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.
(وقسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24]
(والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، قال تعالى:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 34] فالذي جاء بالصدق: هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به: تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق و الصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق
فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل.
(وقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء: 80]
(وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]
(وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55] فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجه هو وأصحابه في تلك الغزوة وكذلك مدخله المدينة: كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب: أصابه معهم ما أصابهم «فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق»
(وكان بعض السلف إذا خرج من داره: رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك، يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه: بخروجه من مكة ودخوله المدينة، ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق «إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته» وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله: لا يعدو الصدق والكذب والله المستعان.
((وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصدق، ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه:{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: 50]
والمراد باللسان ههنا: الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وَعَبَرَ به عنه فإن اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا واللغة كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وقوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] وقوله: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]
((وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك فمن فسره بها أراد: ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي: فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق.
((وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.
((ومن علامات الصدق: طمأنينة القلب إليه، ومن علامات الكذب: حصول الريبة.
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الأحاديث الآتية:
(حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب البتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية وكذلك الكذب معه في الأعمال: بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم «فلذلك كانت الصديقية كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا» حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما وكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما: محقت بركة بيعهما.
(تعريف الصدق:
الصدق هو: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإذا طابق قولك ما في ضميرك والشيء الذي تخبر عنه فأنت صادق، والعكس بالعكس، فإذا انخرم شرط لم يكن صدقاً، بل إما أن يكون كذباً أو متردداً بينهما ـ يعني بين الصدق والكذب ـ كقول المنافق: محمد رسول الله، فهو من جهة المطابقة للمخبر عنه وهو النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فإنه رسول الله حقاً، لكن من جهة ما يعتقده المنافق في ضميره فهو كذاب، ويصح أن يقال كذب؛ لمخالفة قوله لضميره. وقد يستعمل الصدق والكذب في الاعتقاد وفي الفعل كما قال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم:[إنا قوم صدق في القتال] في الحرب، ومنه قوله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:105] عملنا بمقتضاها إذاً: هو قول الحق المطابق للواقع والحقيقة.
(مراتب الصدق:
والصدق على مراتب، والصادقون على مراتب، فالصدِّيق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الصديقية التي أشار الله إليها بقوله تعالى:(فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ)[النساء:69] وسمي أبو بكر الصديق صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم.
(من أقوال السلف في الصدق:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
(قال عبد الواحد بن زيد: الصدق الوفاء لله بالعمل.
(وقيل: موافقة السر النطق.
(وقيل: استواء السر والعلانية يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه:
(وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة.
(وقيل: كلمة الحق عند من تخافه وترجوه.
(وقال الجنيد: الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة، وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد يسبق إلى الذهن خلافه وأن الكاذب متلون لأن الكذب ألوان فهو يتلون بتلونه والصادق مستمر على حالة واحدة فإن الصدق واحد في نفسه وصاحبه لا يتلون ولا يتغير لكن مراد الشيخ أبي القاسم صحيح غير هذا فإن المعارضات والواردات التي ترد على الصادق لا ترد على الكاذب المرائي بل هو فارغ منها فإنه لا يرد عليه من قبل الحق موارد الصادقين على الكاذبين المرائين ولا يعارضهم الشيطان كما يعارض الصادقين فإنه لا أرب له في خربة لا شيء فيها وهذه الواردات توجب تقلب الصادق بحسب اختلافها وتنوعها فلا تراه إلا هاربا من مكان إلى مكان ومن عمل إلى عمل ومن حال إلى حال ومن سبب إلى سبب لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها ومكان وسبب: أن يقطعه عن مطلوبه فهو لا يساكن حالة ولا شيئا دون مطلوبه فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى الذي يفوق به الأغنياء والأحوال والأسباب تتقلب به وتقيمه وتقعده وتحركه وتسكنه حتى يجد فيها ما يعينه على مطلوبه وهذا عزيز فيها فقلبه في تقلب وحركة شديدة بحسب سعة مطلوبه وعظمته وهمته أعلى من أن يقف دون مطلبه على رسم أو حال أو يساكن شيئا غيره فهو كالمحب الصادق الذي همته التفتيش على محبوبه، وكذا حال الصادق في طلب العلم وحال الصادق في طلب الدنيا فكل صادق في طلب شيء لا يستقر له قرار ولا يدوم على حالة واحدة وأيضا: فإن الصادق مطلوبه رضا ربه وتنفيذ أوامره وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها ويستقل معها أين استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا ثم في عيادة مريض أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم إن أمكن إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع فهو في تفرق دائم لله وجمعية على الله لا يملكه رسم ولا عادة ولا وضع ولا يتقيد بقيد ولا إشارة ولا بمكان معين يصلى فيه لا يصلى في غيره وزي معين لا يلبس سواه وعبادة معينة لا يلتفت إلى غيرها مع فضل غيرها عليها أو هي أعلى من غيرها في الدرجة وبعد ما بينهما كبعد ما بين السماء والأرض فإن البلاء والآفات والرياء والتصنع وعبادة النفس وإيثار مرادها والاشارة إليها: كلها في هذه الأوضاع والرسوم والقيود التي
حبست أربابها عن السير إلى قلوبهم فضلا عن السير من قلوبهم إلى الله تعالى فإذا خرج أحدهم عن رسمه ووضعه وزيه وقيده وإشارته ولو إلى أفضل منه استهجن ذلك ورآه نقصا وسقوطا من أعين الناس وانحطاطا لرتبته عندهم وهو قد انحط وسقط من عين الله
وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده: أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه العامل على عمارة نفسه ومرتبته وهذا هو النفاق بعينه ولو كان عاملا على مراد الله منه وعلى الصدق مع الله: لأثقلته تلك القيود وحبسته تلك الرسوم ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه ولما بالى أي ثوب لبس ولا أي عمل عمل إذا كان على مراد الله من العبد فكلام أبي القاسم الجنيد حق كلام راسخ في الصدق عالم بتفاصيله وآفاته ومواضع اشتباهه بالكذب وأيضا «فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم» فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل «والرياء والكذب خفيف كالريشة» لا يجد له صاحبه ثقلا البتة فهو حامل له في أي موضع اتفق بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله.
(وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره.
(وقال بعضهم: الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف قال الله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] قلت: هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا: إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر: أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا.
(وقال سهل بن عبد الله: أول خيانة الصديقين: حديثهم مع أنفسهم.
(وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أضرب بسيفي في سبيل الله.
(وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطِّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من علامات الصديقين وفي هذا نظر لأن كراهته لاطلاع الناس على مساوىء عمله من جنس كراهته للضرب والمرض وسائر الآلام وهذا أمر جبلي طبيعي ولا يخرج صاحبه عن الصدق لا سيما إذا كان قدوة متبعا فإن كراهته لذلك من علامات صدقة لأن فيها مفسدتين: مفسدة ترك الاقتداء به واتباعه على الخير وتنفيذه ومفسدة اقتداء الجهال به فيها فكراهيته لاطلاعهم على مساوئ عمله: لا تنافي صدقه بل قد تكون من علامات صدقه نعم المنافي للصدق: أن لا يكون له مراد سوى عمارة حاله عندهم وسكناه في قلوبهم تعظيما له فلو كان مراده تنفيذا لأمر الله ونشرا لدينه وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الله: فهذا الصادق حقا والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها وأظن أن هذا هو مراد المحاسبي بقوله: ولا يكره اطلاع الناس على السيء من عمله فإنهم يريدون ذلك فضولا ودخولا فيما لا يعني فرضي الله عن أبي بكر الصديق حيث قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه فهذا وأمثاله يعدونه ويرونه من سيء الأعمال عند العوام والجهال.
(وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل: وما الفرض الدائم قال: الصدق.
(وقيل: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل.
(وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.
(وقيل: ما أملق تاجر صدوق:
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الأستاذ القشيري رحمه الله قال: الصدق عماد الأمر، وبه تمامه، وفيه نظامه، قال: وأقل الصدق استواء السر والعلانية.
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن " سهل " رحمه الله تعالى قال: " لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن ذي النون رحمه الله أنه قال: الصدق سيف الله، وما وضع على شيء إلا قطعه.
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الإمام العارف الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى قال: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه؛ ولا يحب إطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله؛ ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم؛ وليس هذا من إخلاص الصديقين!
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الجنيد رضي الله عنه قال: " الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة ". والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة! ".
(قال النووي رحمه الله تعالى:
قلت: معناه أن الصادق يدور مع الحق كيف كان؛ فإذا رأى الفضل الشرعي في أمر عمل به، وإن خالف ما كانت عليه عادته، وإذا عرض أهم منه في الشرع ولا يمكن الجمع بينهما، انتقل إلى الأفضل، ولا يزال هكذا، وربما كان في اليوم الواحد على مائة حال، أو ألف أو أكثر، على حسب تمكنه في المعارف وظهور الدقائق له واللطائف.
وأما المرائي: فيلزم حالة واحدة بحيث لو عرض له مهم يرجحه الشرع عليها في بعض الأحوال لم يأت بهذا المهم؛ بل يحافظ على حالته لأنه يرائي بعبادته وحاله المخلوقين، فيخاف من التغير ذهاب محبتهم إياه فيحافظ على بقائها!
«والصادق يريد بعبادته وجه الله تعالى، فحيث رجح الشرع حالًا صار إليه» ، ولا يعرج على المخلوقين.
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عاملوا الله عز وجل بالصدق في السر، فإن الرفيع من رفعه الله، وإذا أحب الله عبداً أسكن محبته في قلوب العباد.
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: ما تزين الناس بشيء أفضل من الصدق، والله عز وجل يسأل الصادقين عن صدقهم، منهم عيسى بن مريم عليه السلام، كيف بالكذابين المساكين، ثم بكى وقال: أتدرون في أي يوم يسأل الله عز وجل عيسى ابن مريم عليه السلام؟ يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين آدم فمن دونه، ثم قال: وكم من قبيح تكشفه القيامة غداً.
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الفضيل بن عياض يقول ما من مضغة أحب إلى الله من لسان صدوق وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أسعد بن عبيد الله المخزومي قال أمرني عبد الملك بن مروان أن أعلم بنيه الصدق كما أعلمهم القرآن.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن علي رضي الله عنه قال زين الحديث الصدق.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي حصين أن رجلا أتى ابن مسعود رضي الله عنه فقال علمني كلمات نوافع جوامع فقال تعبد الله وتشرك به شيئا وتزول مع القرآن أين ما زال ومن جاءك بالصدق من صغير أو كبير وإن كان بعيدا بغيضا فاقبله منه ومن أتاك يكذب من صغير أو كبير وإن كان حبيبا قريبا فاردده عليه.
(حث الشريعة على التحلي بالصدق:
وقد حثت الشريعة على التحلي بهذا الخلق العظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً ما أمر الله:(وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن مسعودٍ الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا و إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
((حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم و أوفوا إذا وعدتم و أدوا إذا ائتمنتم و احفظوا فروجكم و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الناس ذو القلب المخموم و اللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن. فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة: ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا.
إذاً: صاحب اللسان الصادق والقلب المخموم، السليم من الإثم والبغي والحسد هو خير الناس. وقد كان أحب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصدقه، وورد ذلك في صحيح البخاري: لما جاء وفد هوازن مسلمين فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم؛ لأن أموالهم وسبيهم قد أخذت من قبل المسلمين في المعركة، لكن القوم الكفار أسلموا بعد ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(معي من ترون وأحب الحديث إليَّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين، إما السبي وإما المال.) إلى آخر الحديث الذي فيه تنازل المسلمين عن السبي لصالح وفد هوازن الذين جاءوا مسلمين.
(شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ):
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119] الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا، هذه الآية قال الله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119] كانت بعد ذكر قصة الثلاثة الذي خلفت التوبة عليهم وأرجأ الله أمرهم امتحاناً لهم ولبقية المؤمنين، وجاء المنافقون من الأعراب يعتذرون ويكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا الله ورسوله فأرجأ الله التوبة عليهم وسموا بالمخلفين وكان مما أمر الله به في الآيات التي جاءت تعقيباً على تلك القصة:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].
(قال القرطبي رحمه الله تعالى: الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا حين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين.
قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: [قل ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف] هذا من فوائد الصدق.
وقوله تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119] اختلف فيهم: فقيل خطاب لمن آمن من أهل الكتاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119] أي: المؤمنين والصادقين قيل: خطاب لمن آمن من أهل الكتاب، وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين أن اتقوا مخالفة الله وكونوا مع الصادقين الذي خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين، وقيل: كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم، وقيل: هم الأنبياء، أي: كونوا معهم بالأعمال الصالحة فتدخلوا الجنة بسببها فتكونوا معهم أيضاً.
ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:
والحديث العظيم المشهور في الصدق الذي يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصدق ويوصيهم به: (فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً). والكذب -أيضاً- (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار). قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة). وهذا الحديث الذي فيه قوله: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة) عليكم بالصدق أي: الزموه، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق -يعني- في قوله وعمله ويبالغ ويجتهد حتى يكتب عند الله صديقاً، فهذا يعني أن الصدق لا يصل إليه الإنسان إلا بالمجاهدة، ولا يزال يصدق ويتحرى الصدق، يتعمد ويتحرى ويقصد الصدق، ولا يزال ديدنه وعادته حتى يصل إلى المرحلة العظيمة وهي أنه عند الله صديقاً، يكتب أي: يثبت عند الله. قال الإمام النووي معلقاً على الحديث: فيه فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير. (حتى يكتب عند الله صديقاً) فيه إشارة إلى حسن خاتمة هذا الرجل؛ لأنه قال: (ولا زال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) فإذا كتب عند الله صديقاً فهذه إشارة إلى حسن خاتمته، وإشارة إلى أن الصدق مأمول العواقب.
(ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:
والجولة الآن مع الأنبياء والصالحين في الصدق كما حكى الله تعالى عنهم. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً)[الإسراء:80]. وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يهب له لسان صدقٍ في الآخرين، فقال:(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)[الشعراء:84].
وبشر الله عباده بأن لهم قدم صدق عند ربهم، وأنه لهم مقعد صدق، فقال تعالى:(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[يونس:2] وقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر:54 - 55].
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وهذه خمسة أشياء: مدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، فأما مدخل الصدق ومخرج الصدق بأن يكون دخوله وخروجه حقاً شرعياً موافقاً للكتاب والسنة في أي أمر من الأمور، وهو ضد مخرج الكذب ومدخل الكذب الذي لا غاية له يوصل إليها، فمخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في غزوة بدر هو مخرج صدق، ومخرج الأعداء من كفار قريش إلى غزوة بدر هو مخرج كذب، ومدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مدخل صدق في الله وابتغاء مرضاة الله، هاجر وترك الوطن والأهل ابتغاء مرضاة الله؛ فاتصل به التأييد والظفر والنصر، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن لله ولا بالله، بل كان محاداً لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار. وفسر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ودخوله المدينة وهذا مثال على ذلك وليس هو كل مدخل الصدق ومخرج الصدق وإنما هو مثال عليه. والنبي عليه الصلاة والسلام مداخله ومخارجه كلها كانت مداخل صدق ومخارج صدق، لا يخرج من المدينة ويدخل بلداً، أو يدخل في أمرٍ أو يخرج من أمرٍ إلا لله وبالله، وما خرج أحدٌ من منزله ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدقٍ أو كذب، فمدخل كل واحد منا ومخرجه لا يعدو الصدق والكذب، كلنا الآن نغدو ونذهب، ندخل في أمر ونخرج من آخر، ندخل في مكان ونخرج من آخر، ولذلك الدعاء بأن يدخلنا الله مدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق هو في الحقيقة دعاء لله أن يسددنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، وأن يكون إقدامنا على الأمور وخروجنا من الأمور موافقاً للكتاب والسنة.
أما لسان الصدق الذي جاء في دعاء الخليل إبراهيم فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم صدقاً لا كذباً، وقد استجاب الله له فصار الناس يثنون على إبراهيم بعد موت إبراهيم بآلاف السنين، يثنون عليه ويذكرون سيرته ويتأسون به.
وأما قدم الصدق الذي وعد الله به المؤمنين فقد فسر بالجنة، وحقيقة القدم ما قدموه في الدنيا من الأعمال والإيمان، وما يقدمون عليه في الآخرة وهي الجنة التي هي جزاؤهم وهو مقعد الصدق (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر:54 - 55] أي: هي الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
((صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق:
(من صفات النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين:
كان من صفات النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين وساعده ذلك في دعوته لما قام يدعو الكفار، كما جاء في صحيح البخاري، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} . ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف:(يا صباحاه). فقالوا: من هذا، فاجتمعوا إليه، فقال:(أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي). قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال:(فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). قال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام. فنزلت:{تبت يدا أبي لهب وتب} .
صدق الرجل يساعد في نشر دعوته: «ما جربنا عليك كذبا» قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1 - 5]).
وكان من الأشياء التي استدلت بها خديجة على صدق النبي عليه الصلاة والسلام في بعثته وأن الله لم يتخل عنه أنه بعدما جاءه الملك في غار حراء وقال له: اقرأ فرجع خائفاً مضطرباً، فقالت له خديجة لما قال لها لقد خشيت على نفسي، قالت:«كلا فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» . إذاً: هذا الصدق منه صلى الله عليه وسلم كان معيناً له في دعوته، وكان من أدلة صدقه في بعثته وفيما أخبر به عن نبوته.
(يوسف الصديق عليه السلام:
ويوسف عليه السلام كان صادقاً؛ لذلك اعترف له الرجل الذي جاء يستفتيه فقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ)[يوسف:46] فأرسلوا أحد السجينين اللذين كانا مع يوسف إلى يوسف في السجن ليسأله لأنه قال لهم: أنا آتيكم بالجواب، ذهب إليه فقال:(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)[يوسف:46] وصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجربه من أحواله في مدة إقامته في السجن، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ [يوسف:46].
(أبو بكر الصديق مع الصدق:
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أما صاحبكم فقد غامر). فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال:(يغفر الله لك يا أبا بكر). ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر، فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي). مرتين، فما أوذي بعدها.
(أبو ذر مع الصدق:
ومن الصحابة المشهورين بالصدق أيضاً أبو ذر رضي الله تعالى عنه،
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر.
(كعب بن مالك وصدقه في حادثة تبوك:
وكذلك من الصحابة المشهورين بالصدق كعب بن مالك رضي الله عنه، قال حين تخلف عن تبوك:(والله ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحي: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[التوبة:95]) الحديث في البخاري. وفي البخاري أيضاً عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب بن مالك لما عمي قال: [سمعت كعب بن مالك يحدث فينا حين تخلف عن قصة تبوك فقال: والله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً أبداً] سنوات طويلة، وأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:117 - 119].
(مجالات الصدق:
وللصدق مجالات عديدة منها:
(أولاً: الصدق في الأقوال:
الصدق يكون في الأقوال كما قلنا سابقاً، وهو: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه ولا يتكلم إلا بالصدق. وصدق اللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وأن يتحرز من الكذب ومن المعاريض التي تجانس الكذب، وينبغي أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلب العبد منصرفاً عن الله منشغلاً عن الدنيا وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض في الصلاة في الاستفتاح فهو كاذب. ومن الأقوال التي ينبغي الحرص على الصدق فيها: الحلف والقسم، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق و من حلف له بالله فليرض و من لم يرض بالله فليس من الله.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: كلا، والله الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني).
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق و من حلف له بالله فليرض و من لم يرض بالله فليس من الله.
(اليمين على نية المستحلف:
فلا يجوز لك أن توري فيه، ولا تجوز التورية في القسم عند القاضي أو عند الشخص الذي تريد أن تقسم له إذا كان صاحب حق، فلا تنفعك توريتك في اليمين، وهي حرام والواجب أن تكون يمينك على ما يصدقك به صاحبك ويفهم من كلامك، فلو حلف أنه مثلاً لم يأخذ منه مالاً ونوى في نفسه أنه لم يأخذ منه مالاً في هذا المجلس فلا ينفعه ذلك ولا يجعل المال حلالاً له، يمينك على ما صدقك به صاحبك، والحقوق لا يجوز لك أبداً التورية فيها.
((حديث عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) وما أعظم هذا الحديث.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اليمين على نية المستحلف.
(ثانياً: الصدق في الأفعال:
ومن مجالات الصدقِ الصدق في الأفعال: وهو استواء الفعل على الأمر والمتابعة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وكما أمر، كاستواء الرأس على الجسد، وهو أن تصدق السريرة العلانية حتى لا تدل أعمالهم الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، والباطن بخلافه، فالمراءون أعمالهم الظاهرة بخلاف بواطنهم، فلذلك ليسوا بصادقين في أعمالهم، والأعمال منها ما يكون أعمال قلب ومنها ما يكون أعمال جوارح.
(والأمثلة في الصدق مع الله والإخلاص لله كثيرة ومنها: قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فقال بعضهم لبعض: إنه والله لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق الله فيه، توسلوا إلى الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد يذكر أرجى ما عمل في حياته لله وأصدق ما حصل منه لله حتى كان السبب في انفراجها ذلك الرجل الذي وفر أجرة الأجير وحفظها كأمانة ونماها له أيضاً حتى صارت وادياً من المال وجاء الأجير فصدقه في هذا المال المحفوظ عنده وأعطاه إياه وسلمه كاملاً بعد تنميته. هل أخذ أجرة على التنمية؟ بل هل التنمية واجبة عليه؟ لا. لكنه نماه مجاناً ولم يأخذ أجرة على التنمية ولم يذكر في الحديث أنه قال له: جزاك الله خيراً أو أثنى عليه، فاستاقه فلم يبقِ منه شيئاً، حتى ما قال: خذ نصفه أو خذ أرباحه وأعطني أجرتي فقط، أخذه فلم يبقِ منه شيئاً فكان الفرج بسبب الدعوة الأخيرة مع الدعوات السابقة.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسَدَّتْ عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبقُ قبلهما أهلا ولا مالا، فَنَاءَ بِي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سَنَة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أُجَرَاء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أَدِّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
{تنبيه} : (بعض الناس قد يصدقون في تعبيراتهم الفعلية وقد يكذبون، وقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود وذلك على سبيل المخادعة، فالمخادعة مثلما تكون بالقول تكون بالفعل أيضاً، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال.
من أمثلة الكذب في الأفعال ما فعله إخوة يوسف: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ)[يوسف:16] هذه بكاء كذب ليس ببكاء حقيقي ولا صحيح: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ)[يوسف:18] جعلوا في القميص دماً، ذبحوا شاة فصبغوها فجعلوا الدم في هذا القميص، ليقولوا: إن الذئب قد أكله، ولكن نبي الله يعقوب بفطنته وفراسته عرف أن هذا القميص مصبوغ بدم كذب، فليس فيه تشقيق ولا آثار مخالب ولا أنياب، فاستغرب من كلامهم واستعجب وقال:(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً)[يوسف:18]
ما أعجب هذا الذئب الذي يخلع القميص عن الولد ثم يأكل الولد وليس في القميص آثار مخالب ذلك الأسد أو أنياب الذئب ولذلك جاءوا على قميصه بدم كذب، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون بكاء كذب، إذاً: الكذب يكون في الأقوال ويكون في الأفعال وقالوا ـ كذباً ـ: (يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)[يوسف:17]
فجمعوا بين الكذب في القول والكذب في العمل. وكذلك فإن الأعمال التي يقوم بها المراءون ولو شيدوا مساجد وطبعوا كتباً وعملوا صدقات، إذا كانوا يقصدون الرياء فإنها أعمال كذب وليست بصدق. وقد يكون الكذب في الحركات التعبيرية، كإشارات اليد والعين، والحاجب والرأس، فإن كانت مطابقة للواقع فهي صدق وإن كانت مخالفة فهي كذب، فلو سئل إنسان مثلاً: هل أودع فلان عندك مالاً؟ فهز برأسه نافياً دون أن يتكلم وقد أودع صاحبه عنده المال فعلاً فإن هذه الحركة كذب.
(ثالثاً: الصدق في النية والإرادة:
ومن مجالات الصدق: الصدق في النية والإرادة كما ذكرنا المثال عليه سابقاً وهو الإخلاص في قصة أصحاب الغار الثلاثة. ولنعلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم وقارئ ومجاهد، لأنهم ما أرادوا وجه الله. كما في الحديث الآتي: (
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقالَ هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(أما الصادقون في النية والعمل، الذين يصدقون الله فإن الله يصدقهم ويصدقهم ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها سبحانه وتعالى، ومن الأمثلة التي وردت في السنة ما جاء في حديث شداد بن الهاد الآتي:
(حديث شداد بن الهاد رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال أهاجر معك فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا قالوا قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا قال قسمته لك قال ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال إن تصدق الله يصدقك فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم أهو هو قالوا نعم قال صدق الله فصدقه ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك.
(وكذلك الصدق يكون فيما يريد العبد أن يعزم عليه في المستقبل كما هو حال هذا الصحابي، فبعض الناس يقول: إن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأفعلن، هذه عزيمة لشيء في المستقبل، وقد تكون حقاً: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الأحزاب:23]
(وقد تكون كذباً: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ)[التوبة:75 - 77].
(وكذلك فإن الصدق يكون في الأحوال كلها وهذه رتبة الصديقين الذين يصدقون في الأقوال والأعمال والنيات والعزائم.
(دواعي الصدق:
الصدق له دواعٍ كثيرة منها ما يلي:
(أولاً: العقل السليم:
فإن العقل الصحيح يدفع إلى الصدق.
(ثانياً: الشرع المؤكد:
الفطرة التي فطر الله الناس عليها والعقول السليمة تحب الصدق وتميل إليه وتنفر من الكذب، والدين يرد فيصدق العقل الصحيح، فالدين لا شك أنه ورد باتباع الصدق وحظر الكذب، لكن الدين يزيد أشياء على الفطرة، والفطرة السليمة لا تعطي التفصيلات لكن تميل إلى الحق، فالعقل قد يقول بجواز الكذب إذا كان فيه مصلحة أو لدفع مضرة؛ لكن يأتي الدين فيقول: إن الكذب كله حرام لا يجوز، إلا في حال الضرورة والقلب مطمئن بالإيمان.
(ثالثاً المروءة:
فهي خلق مانع من الأخلاق المشينة كالكذب.
(رابعاً حب التعود على الصدق:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله.
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه.
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير.
(تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل [ص 570] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.
(ولله درُ من قال:
عود لسانك قول الصدق تحظ
…
به إن اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سلمت له
…
في الخير والشر فانظر كيف ترتاد
إذاً: الصدق عادة إذا كان الرجل لا زال يصدق ويتحرى الصدق يكون الصدق له في النهاية سجية وعادة ويكون سهلاً، أما في أول الأمر فيكون صعباً يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن النفس أمارة بالسوء، تقول: اكذب فالكذب فيه منفعة، اكذب فالكذب يرفع عنك المضرة ونحو ذلك، ولكن إذا جاهد العبد نفسه فإنه يصل إلى مرتبة الصدق.
(علامات الصدق:
للصدق علامات، منها ما يلي:
(أولاً: اطمئنان القلب له:
يحدثك الشخص أحياناً بحديث فترتاح إليه نفسك وتطمئن، كما أن من علامات الكذب حصول الريبة والشك، يخالج نفسك الشعور بأن هذا ليس بصحيح فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة كما في الحديث الآتي:
((حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة.
لو قال قائل: كيف نستدل على الصدق؟ نقول: من علامات الصدق: أن تطمئن نفسك للكلام، ومن علامات الكذب أن لا تطمئن نفسك للكلام، وهذه نفس المؤمن طبعاً، أما نفس الإنسان العاصي قد تطمئن للكذب وتشك في الصدق.
(ثانياً: كتمان المصائب والطاعات:
وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، فهو يصبر لله على الطاعة وعلى المكروه، ونحن ـ في موضوع الصدق ـ «لنا الظاهر وَنَكِلُ إلى الله السرائر» ، قد يخبرك أشخاص بأشياء وأنت لا تدري عن حقيقتها فلك ظاهر حالهم، فإن كان الذي يظهر لك من حاله الصدق فاقبل كلامه، وإن كان الذي يظهر لك منه الكذب والفسق والفجور فاتهمه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
وهذه مقولة عظيمة من عمر رضي الله عنه، انظر إلى حال الرجل من بني إسرائيل لما جاءه صديق له يستسلفه ألف دينار، قال صاحب المال: ائتني بالشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل لو هربت يكون بدلاً منك، ولو عجزت يسدد عنك، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، ظهر له من حال صاحبه الصدق، فدفعها إليه وحصلت القصة بعد ذلك، حيث ذهب الرجل وتاجر وعبر البحر وجاء الموعد المحدد ولم يجد سفينة ليرجع بها؛ ليعطي المال لصاحبه فما عنده حيلة، فأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها الألف دينار، ودعا الله عز وجل فقال: هذه حيلتي فأوصل هذه الأمانة ورمى الخشبة في البحر، وخرج صاحبه في الشاطئ الآخر على الموعد يتلمس هذا الرجل على الموضع المضروب بينهما ليأتي، لكنه لم يجد سفينة ولم يأتِ أحد ووجد خشبة تتهادى على الماء فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها فنشرها فإذا فيها الألف دينار والرسالة من صاحبه، فأدى الله الأمانة عن ذلك الرجل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن رجلا من بني إسرائيل سأل رجلا أن يسلفه ألف دينار ، فقال له: ائتني بشهداء أشهدهم عليك ، فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت. قال: فدفع إليه ألف دينار إلى أجل مسمى فخرج في البحر و قضى حاجته و جاء الأجل الذي أجل له ، فطلب مركبا فلم يجده فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار ، و كتب صحيفة إلى صاحبها ثم زجج موضعها ، ثم أتى بها البحر فقال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت من فلان ألف دينار فسألني شهودا و سألني كفيلا ، فقلت: كفى بالله كفيلا فرضي بك و قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بحقه فلم أجد و إني استودعتكها ، فرمى بها في البحر! فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا يقدم بماله فإذا هو بالخشبة التي فيها المال ،
فأخذها حطبا فلما كسرها وجد المال و الصحيفة فأخذها ، فلما قدم الرجل قال له: إني لم أجد مركبا يخرج ، فقال: إن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة ، فانصرف بالألف راشدا.
(أمور مهمة في الصدق وأهله:
(الاستدلال على الصدق من مظانه:
يستدل على الصدق من أهله ومظانه، كما حصل في قصة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبحث عن الحقيقة ويسأل ويتحرى .. يسأل من؟ (أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: وسل الجارية تصدقك، ـ بريرة جارية عند عائشة معروفة بالصدق والأمانة، تاريخها صدق وأمانة وهي ملازمة لعائشة، وتعرف سرها وتطلع في بيتها على الأمور الكثيرة ـ فقال النبي عليه الصلاة والسلام لبريرة، ولم يسأل الناس الآخرين البعيدين، الإنسان عندما يريد الصدق يتحرى الصدق من مظانه، هل رأيتِ من شيء يريبك؟ قالت: ما رأيت أمراً أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن ـ يعني الشاة ـ فتأكله).
(تصديق الحق
…
:
ومن الأمور المهمة أن نصدق الحق، لذلك تجد كثيراً من الأحاديث فيها صدقت .. صدقت .. صدقت، صدق فلان .. صدق فلان، وأعلى أنواع التصديق ما يصدق الله به عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيأتي الوحي تصديقاً لكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، كما حصل في خيبر، قال أبو هريرة والحديث في البخاري (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته وعجز عن الحركة، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر به، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فأذن، ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).
لو قال واحد: كيف يقاتل مع المسلمين؟ نقول: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وهذا له أمثلة كثيرة في الواقع، فتجد الرجل ينشر العلم ويطبع الكتب ويبني المساجد، ويفعل أشياء ينتفع بها المسلمون وهو فاجر، نقول: هذا لا يجعل فجوره صلاحاً إذا كانت نيته ليست لله لكن هذا مصداق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وقد صدق الله صحابة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن ضمن تلك الأمثلة ما روى البخاري رحمه الله عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:7 - 8] فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فدعاني، فحدثته بالذي سمعت فأرسل إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، وكذبني النبي صلى الله عليه وسلم وصدقهم بما ظهر من حلفهم، فأصابني غمٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي وقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك النبي صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
…
[المنافقون:1] .. الآيات وأرسل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها، قال: قد صدقك الله يا زيد) نزلت الآية تصديقاً للصحابي. ونحن نأخذ الحق ونصدقه ولو كان مصدره رجلاً كافراً، ولو كان مصدره الشيطان، إذا كان حقاً نصدق به ولا يمنعنا جرم الكافر أن نصدق كلامه إذا كان حقاً، وبعض أهل الكتاب كانوا يخبرون بأشياء من الصدق والنبي صلى الله عليه وسلم يصدقهم، مثل المرأتان اليهوديتان اللتان جاءتا إلى عائشة يخبرانها عن عذاب القبر، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فصدق كلام اليهوديتين بعذاب القبر.
من الأمثلة عن جابر رضي الله عنه قال: (لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر الذين ذهبوا إلى الحبشة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لما رجعوا: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قالت فتية منهم: بلى يا رسول! بينا نحن جلوس مرت بنا عجوزٌ من عجائز رهبانهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء فمرت بفتىً منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت العجوز التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدر ـ يعني يا غادر ـ إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف أمري وأمرك عنده غداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت .. صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟) حديث حسن حسنه الألباني في مختصر العلو. وكذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد صدق كلاماً قاله الشيطان لما وكل أبا هريرة بحفظ بيت المال وجاء الشيطان بهيئة رجل يحثو منه، فألقى أبو هريرة القبض عليه في أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة وفي النهاية قال له: إني أعلمك آية إذا قلتها قبل النوم حفظك الله لا يقربك شيطان، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
…
) [البقرة:255] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. أبو هريرة حريص على الخير، أطلق الرجل لأجل هذه الفائدة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: فذاك شيطان) إذاً: قد يصدق الكذوب، فإذا قال صدقاً فإننا نقبله ولا نقول: لا؛ لأنهم يكذبون أو فجرة لا نقبل منهم شيئاً ولا نصدقهم، بل نصدق ما قالوه إذا وافق الدين.
والنبي عليه الصلاة والسلام صدق أحد أحبار اليهود، قال:(يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر -صدقه بالضحك الذي هو كناية عن الرضا والإقرار بما قاله- ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]).
(الصدق المذموم:
هل هناك صدق مذموم؟ الجواب: نعم، من الصدق المذموم: الغيبة والنميمة والسعاية، ولو ذكره بما ليس فيه، لكان هذا بهتاناً، لكن لو ذكرته بما فيه وقلت أنا صادق .. فربما عذر المغتاب نفسه بأنه يقول حقاً لكن هذا بعيد عن الصواب ومخالف للأدب؛ لأنه ولو كان في الغيبة صادقاً فقد هتك ستراً كان صونه أولى، وجاهر من أسر وأخفى، وربما دعا المغتاب وهذه نكتة لطيفة يشير إليها الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين، يقول: فلان فيه كذا وفعل وفعل فهذا الرجل إذا كان مصراً على فسفه وأنت تأتي وتعلن ما فعل الرجل، ربما دعا المغتاب ذلك إلى إظهار ما كان يستره والمجاهرة بما كان يخفيه، يقول: مادام أن الأمر يفتضح بين الناس، سأبهى بالفسق وأعلن به ما دمت قد افتضحت، فهل الذي ذكره وأفشى أمره ساعده على الخير؟ لا. لم يفده إلا فساد أخلاقه بدون صلاح.
(صدق النمام:
وكذلك النمام والقتات، النمام يمكن أن يكون في نقل الكلام في غاية الأمانة لا يزيد ولا ينقص من الكلام، يذهب للشخص الآخر يقول: فلان قال عنك في المجلس الفلاني كذا وكذا وكذا، عابك وقال عنك كذا وكذا وكذا، ونقل الكلام بأمانة وبصدق ما كذب ولا افترى، فما حكم هذه النميمة ما حكم هذا الصدق في النقل؟ حرام، نميمة، النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم حديثهم وينقله. ما هو الفرق بين النمام والقتات؟ النمام عرفناه فمن هو القتات؟ النمام الذي يكون مع القوم فيسمع الكلام وينقله للإفساد، والقتات الذي يسمع إليهم وهم لا يعلمون فينقل خبرهم، أي: يتجسس عليهم ويسمع كلامهم وينقله ولا يكذب، ولا يزيد ولا ينقص، ينقل بدقة لكن لأجل الفساد، فهذا من المتجسسين وكلاهما لا يدخلان الجنة لأن الحديث جاء:(لا يدخل الجنة قتات) وكذلك: (لا يدخل الجنة نمام).
(صدق الوشاية:
أما السعاية فهي الوشاية: أن يشي بإنسان عند صاحب سلطان أو منصب لكي يوقع به، وهذه السعاية والوشاية هي شر الثلاثة؛ لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال، ووردت أمثلة وقصص لهذا فمما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس قال: استراح رجل إلى جليس له في السلطان، يعني: رجل تكلم مع رجل في المجلس فوقع في السلطان فاستراح ووثق بالذي أمامه فتكلم في السلطان ـ هذا الآخر كان غير ثقة ولا يحفظ الحديث ـ فذهب إلى السلطان وقال: فلان قال عنك كذا وكذا وكذا، فرفع ذلك عليه، فلما أوقف السلطان ذلك القائل فقال له: أنت الذي قلت عني كذا وكذا وكذا، فأنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه، فقال السلطان: بل فلان سمع ذلك منك هل ترضى به؟ قال: نعم. على أساس أنه صديق وصاحب، فكشف الستر عن الرجل، وكان قد خبأه عنده فقال: بلى أنت قلت ذلك لي، فسكت المرفوع عليه ساعة ثم أنشأ يقول:
أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً
…
فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي قلت
…
بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثم
إما أنك خائن أو آثم. وسعي بأحدهم إلى سلطان وكان السلطان عاقلاً فقال للساعي والواشي: أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا. قال: فكف عن الشر يكف عنك الشر.
(تصديق العرافين والكهان:
ومن التصديق المحرم تصديق العرافين والكهان وهذا أعظم الأشياء وأخطرها؛ لأنه يتعلق بالتوحيد، وهو يقدح فيه قدحاً بليغاً، بل إن الذي يصدق العرافين والكهان يكون مشركاً بالله العظيم؛ لأنه يعتقد أن هناك من الناس من دون الله من يعلم الغيب، والله يقول:(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)[النمل:65]
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد.
فلو ذهب رجل إلى الكاهن وقال انظر لي فلانة هذه التي أنا مقدم على زواجي منها، اكشف لي المستقبل، اقرأ الكف والفنجان، اضرب بالودع، انظر لي هل هي خير أو شر في المستقبل، إلى غير ذلك، وذهب الكاهن وادعى النظر ثم قال له: إنها خير لك في المستقبل فصدق السائل الكاهن فإذا صدقه فقد كفر ولا شك في ذلك. وكثير من الناس يأتون إلى الكهان لهذه الأسباب فيقعون في الشرك والعياذ بالله، وإن قال أنا أذهب وأجرب، آخذ كلامه وأجرب، فنقول: مجرد ذهابك إليه حرام وإن فعلت فإنك لا تكفر لكن لا تقبل لك صلاة الأربعين يوماً، هذه هي العقوبة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث صفية بنت أبي عُبيد الثابت في صحيح مسلم) عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة.
فالكهان قد يصدقون ويأتيهم خبر موثوق، ثقة ثقة فكيف ذلك؟
اسمع إلى الحديث الآتي:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ليسوا بشيء). قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كالسلسة على صفوان ـ قال علي: وقال غيره: صفوان، ينفذهم ذلك ـ فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق الآخر ـ ووصف سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى، نصبها بعضها فوق بعض ـ فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بها الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض ـ وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض ـ فتلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا، يكون كذا وكذا، فوجدنا حقا؟ للكلمة التي سمعت من السماء).
(معنى (إذا قضى الله الأمر في السماء): بأمر معين، بقبض روح فلان، بمرض فلان، بشفاء فلان، بولد فلان وولادة فلان ونحو ذلك:
((ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسة على صفوان) مثل جر سلسلة على الصخر، فكذلك صوت أجنحة الملائكة الخاضعة لأوامر الله النازلة إليهم والتي لابد لهم من تنفيذها: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، (فيسمعها مسترقو السمع: الجن يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء يسترقون السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض.
(فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه: فأحرقه وما معه من الخبر، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيصل الخبر إلى الكاهن ويكون هذا فعلاً خبر ثقة صحيح مؤكد؛ لأنه مصدره من السماء عن طريق هؤلاء الجن المسترقين، لكن هذا الكاهن يعمل هذا الخبر الواحد الصحيح وسيلة لكي يدخل الناس في الشرك ويوقعهم في الشرك والعياذ بالله
- فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء. أي: الكاهن يقول: سوف يحدث كذا يوم كذا، ويحدث كذا يوم كذا، وواحد من هذه الكذبات الكثيرة صدق، ومشكلة الناس أنهم لا يتذكرون إلا الصدق، وأما كذبات الكاهن الأخرى فلا يتذكرونها، يقولون: فعلاً فلان قال لنا يوم كذا سيحدث كذا وحدث فعلاً، هذا رجل مجرب فعلاً يعلم ما في الغيب فاذهبوا إليه. والله عز وجل قادر على أن يحرق الجن مسترقي السمع قبل أن يصلوا إلى السماء أصلاً، لكن الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الحدث فتنة ليرى من يثبت على الدين والتوحيد ومن لا يثبت.
تصديق أمراء السوء:
ومن التصديق المحرم تصديق أمراء السوء، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض ومن غشي أبوابهم أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض.
فالحاصل أن الصدق نافع جداً في أشياء كثيرة: فهو ينفع الداعية إلى الله عز وجل؛ لأن الناس يتأثرون بالصادق ويظهر صدق الداعية في وجهه وصوته، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى أناس لا يعرفونه فيقولون: والله ما هو بوجه كذاب ولا صوت كذاب، ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعية وصوته يؤثر على المخاطب ويحمله على قبول القول واحترام ما يصدر من الداعية لأن الكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب، إلا إذا كان أعمى القلب، ومهما يكن من أمر فإن الصدق ضروري لكل مسلم.
(الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق:
وكذلك من الأمور المهمة في التربية: تربية الأولاد على الصدق، لابد أن يتربى المسلمون جميعاً على الصدق، لكن من الأشياء المهمة تربية الأولاد على الصدق، فالإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله بن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت ها تعال أعطيك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أردت أن تعطيه قالت أعطيه تمرا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة).
(فهذه الحركة التي تفعلها بعض الأمهات تقبض يدها وتقول للولد: تعال أعطيك، لو كانت يدها فارغة فهي كاذبة، وتكتب عليها كذبة،
فانظر كيف يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم نشأة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو تجاوز الآباء والأمهات عن هذه الأمور وقالوا: هذه توافه وهينة؛ فإن الأطفال سيكبرون وهم يعتبرون الكذب هيناً وهو عند الله عظيم. أما الكذب فلا شك أنه جماع كل شر، وقبل أن ندخل في موضوع الكذب إذا كان الوقت سيسعفنا في ذلك، فإن هناك بعض الأمور السريعة عن الصدق وهي:
(الصدق في البيع والشراء:
من المجالات المهم فيها الصدق: البيع والشراء. وما أكثر الكذب ـ الآن ـ في البيع والشراء؛ فإن الصدق في البيع والشراء سبب للبركة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).
والآن الناس يغشون في الحراج وفي أسواق السيارات وغيرها، ولذلك كثير منهم لا بركة في مكاسبهم، وخصوصاً الذين يشتغلون في معارض السيارات من هؤلاء الدلالين وغيرهم، يقولون:(سكر في مويه)(ملح في مويه) و (كومة حديد) وسيارة لا تفتح ولا تغلق، لا تمشي إلى الخلف ولا إلى الأمام، ثم يقولون: برئت الذمة، وهم يعلمون الخلل الذي فيه، فهذا حرام، ولو رضي المشتري فهو حرام. ونحن في هذا الزمان وهو آخر الزمان، أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن الكذب سيفشو فيه، والصدق سيقل، وأن الصادقين سيضطهدون، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.
في أمر عامة الناس، وكل أهل البلد، يتكلم في أمرهم الرجل التافه، فما أشبه زماننا هذا بما أخبر به صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح.
إذاً: هذا عصر يفشو فيه الكذب ويقل الصدق، ولذلك المؤمنون يتحرون الصدق ولا يدفعهم ألم الغربة إلى أن يكونوا مع الكذابين ولو كثر الكذب، ولقد أصبح الكذب ـ الآن ـ من أهون الأشياء عند الناس، تجد السنترال في الشركة أو الذي يرد على الهاتف في البيت يكذب، فلان موجود؟ لا. غير موجود، ويحلف على هذه الأشياء، فنسأل الله السلامة والعافية.
(الكذب أضراره وعواقبه:
الكذب جماع كل شر، وأصل كل ذم وما ذاك إلا لسوء عواقبه وخبث نتائجه
وما شيء إذا فكرت فيه
…
بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير
…
فيه وأبعد بالبهاء عن الرجال
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحارب الكذب محاربة شديدة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. (
((حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا و إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
(هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يبين فيه أن الصدق هو رأس كل خلق حسن، وهو الذي يهدي صاحبه إلى كل بر، وإلى كل توفيق، وإذا وفق للبر فلا شك أن طريق البر هو طريق الجنة، وكذلك الكذب هو رأس الخطايا وهو بدايتها وهو الذي يهدي إلى كل فجور، والفجور لا شك أنه طريق النار.
((حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفرى الفِرى أن يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا.
((حديث عائشة الثابت في صحيح الجامع) قالت: كان أبغض الخلق إليه الكذب.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان.
((حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربعٌ من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان و إذا حدث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر.
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا ائتمن فلا يخن و إذا وعد فلا يخلف و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم و احفظوا فروجكم.
(تحريم الكذب في الرؤيا:
((حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تحلَّم بحُلمٍ لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون صُبَّ في أُذنيه الآنكُ يوم القيامة، ومن صور صورةً عُذِّب وكُلِّفَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
(عقوبة الكذب:
وعقوبة الكذاب شديدة بعد الموت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا الصادقة التي رآها، وأخبر عنها لما سأل الملكين فقالا:(أما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ويعملون به مثل ذلك، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) فهذه عقوبته. وتأمل الحديث الآتي: (
((حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رسول اًلله صلى الله عليه وسلم يعني ـ مما يكثر أن يقول لأصحابه: (هل رأى أحد منكم من رؤيا). قال: فيقصُّ عليه من شاء الله أن يقصَّ، وإنه قال ذات غداة: (إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به مرَّة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلُّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقَّي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه - قال: وربما قال أبو رجاء: فيشقُّ - قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل مل فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التنُّور - قال: وأحسب أنه كان يقول - فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطَّلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول - أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة، فإذا عنده نار يحشُّها ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قطُّ، قال: قلت لهما: ما هذا ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى
روضة عظيمة، لم أر روضة قطُّ أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنيَّة بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها، فتلقَّانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صعداً، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله، قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه، يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنُّور، فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة، الذي عند النار يحشُّها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة). قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطراً منهم حسن وشطراً منهم قبيح، فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيِّئاً، تجاوز الله عنهم).
(قال الحسن البصري عن هذه النوعية: [خرج عندنا رجل في البصرة فقال: لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها] هو الذي كذبها يقول: ما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها. فهؤلاء الذين يروجون الإشاعات، ويختلقون الأخبار، ويستغلون الوسائل المختلفة لنشرها؛ فتعم المجتمع لأنها تسمع بجميع الوسائل المسموعة، لا شك أن عذابهم يوم البرزخ أليم، وعذابهم يوم القيامة أشد ألماً وأنكى وأخزى، ولا يقول الناس: هؤلاء أعداء الله ينشرون الأكاذيب ويخونون الأمين ويزعمون أن فلاناً صادق وهو خائن، ويروجون الإشاعات، ويغيرون الواقع، ويتهمون الأبرياء، والناس يروج عليهم هذا الكذب؛ لأنهم ليس عندهم هذه الوسائل التي أمامهم، نقول: رويداً .. سيأتي موعدهم عند الله، فإن الله عز وجل لا يضيع عنده حق وستكون عقوبة هؤلاء أليمة. الواحد قبل مجيء هذه الوسائل الحديثة التي تنشر الأخبار وتذيعها كان يكذب، وتنتشر الكذبة في الحي أو في البلد؛ لكن الآن عبر هذه الوسائل صار الكذب ينتشر في أقطار الأرض، فكيف يكون العذاب؟ أشد وأنكى.
(تحذير السلف من الكذب:
ولما علم الصالحون خطورة الكذب وأنه ثلث النفاق، وأنه يهدي إلى الفجور؛ خافوه على أنفسهم. عندما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر قال:[إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني زوجته]. وكان الأئمة يستدلون بحركات الناس وأفعالهم وكلامهم على صدقهم، والبخاري لما خرج يطلب الحديث من رجل فرآه يشير إلى دابته برداء كأن فيه شعيراً وليس فيه شيء رجع وقال:«لا آخذ الحديث عمن يكذب على البهائم» .
وقال الأحنف بن قيس: ما كذبت من يوم أسلمت إلا مرة واحدة. وكان السلف يدققون فيه جداً، لقي أحمد رحمه الله بعض أصحابه فقال: كيف حال أولادك؟ فقال الرجل: يقبلون يديك، قال الإمام أحمد: لا تكذب.
(قال بعض السلف: «من استحلى رضاع الكذب عسر عليه الفطام» .
(وقال بعضهم لولده: يا بني! احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئاً لم يصبر عنه.
(وقال الأصمعي: قيل لكذاب: ما يحملك على الكذب؟ قال: أما إنك لو تغرغرت بمائه ما نسيت حلاوته. وقيل للكذاب هل صدقت قط؟ فقال: أخاف أن أقول لا فأصدق.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن رحمه الله قال يعد من النفاق اختلاف القول والعمل واختلاف السر والعلانية والمدخل والمخرج وأصل النفاق والذي بني عليه النفاق الكذب.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر رضي الله عنه قال أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم اسما فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقا فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في خطبته ليس فيما دون الصدق من الحديث خير من يكذب يفجر ومن يفجر يهلك.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن مالك بن دينار رحمه الله يقول الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن يزيد بن ميسرة الكذب يسقي باب كل شر كما يسقي الماء أصول الشجر.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تجد المؤمن كذابا.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تجد المؤمن كذابا.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن قال قال لقمان عليه السلام لابنه إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه.
(دواعي الكذب:
والكذب له دواع كثيرة منها ما يلي:
أن يجلب لنفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه ضرراً، أو أن يقول: الناس لا يقبلون حديثي ويقبلون عليّ إلا إذا كذبت، ولأني لا أجد من الأخبار الصحيحة ما أطرفهم به ويستظرفون به حديثي، فيستحل الكذب ويأتي بعجائب وغرائب من أجل أن يضحك الناس ويجمعهم حوله. وقد يكون الكذب من أجل التشفي بالخصم فيكذب عليه لأجل تشويه سمعته مثلاً وهكذا. وهذا الكذب خلق ذميم من اعتاده صعب عليه جداً أن يتخلص منه، لأن العادة طبع ثانٍ، إنسان فيه طبع يولد من بطن أمه فيه، والعادة التي يتعود عليها الإنسان طبع ثانٍ ويصعب جداً تغيير الطباع.
(تحريم الكذب في المزاح:
وبعض الناس يستسهلون الكذب في المزاح ويحسبون أنه مجال للهو، ويختلقون الأخبار من أجله، والإسلام أباح الترويح عن القلوب لكن ليس بالكذب فإن الكذب في المزاح محرم بتص السنة الصحيحة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: إني لا أقول إلا حقاً.
((حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويلٌ للذي يُحَدِّثُ فيكذبُ ليضحك به القوم ويلٌ له ويلٌ له.
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
(والشاهد: أن الناس يطلقون الأعنة لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك ولا يحسون حرجاً في إدارة الحديث المفترى المكذوب، ليتندر بالخصوم ويسخر منهم أو بخلق الله، وهذا اللهو بالكذب حرام ولا شك فيه، فقد يلجأ الإنسان للكذب للتملص من خطأ وقع فيه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من شر إلى شر أشد منه، فالواجب أن يعترف بخطئه فلعل صدقه ينجيه ويكون سبباً في مسح هفوته، ومما يروى عن الحجاج هذا الظالم الباغي الفاجر أنه كان إذا صدقه الخصم عفا عنه.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لا يبلغ رجل حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محق والكذب في المزاح.
(لا تجمعن جوعا وكذبا:
يأتيك في البيت تريد أن تضيفه فيقول: لا أشتهي ولا أريد، وهو يشتهي لكن يعتبر أنها من الحرج أو شيء من هذا القبيل فيكون قد وقع في الكذب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(وهذه حال كثير من الناس إما أن يقول لا أريد لكن يقول لا أشتهي وهو يشتهي فهذا من الكذب. هذه بعض الأمثلة التي تقع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصادقين، وأن يباعد بيننا وبين الكذب، وأن يحفظ ألسنتنا وقلوبنا منه، إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
(علامات الكذب:
وكذلك فإن للكذب علامات وأمارات كما قلنا في الصدق، فمن علامات الكذاب ما يلي: (أولاً: أنك إذا لقنته حديثاً تلقنه ولم يكن بينه وبين ما حكيته فرق عنده، وأخذ مباشرة أي شيء تقوله.
ثانياً: أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع عنه.
ثالثاً: إنك إذا رددت عليه قوله، حصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين، إذا رددت عليه أبلس، أما الصادق إذا رددت عليه قوله ثبت عليه.
رابعاً: وكذلك ما يظهر عليه من الريبة والتخبط في الكلام؛ لأن هذا لا يمكن أن يدفعه عن نفسه، كما قالوا: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.
(ولله درُ من قال:
حسب الكذوب من البلية
…
بعض ما يحكى عليه
فإذا سمعت بكذبة
…
من غيره نسبت إليه
من أضرار الكذب أن الكذاب ينسب إليه حتى الأشياء التي لم يكذب فيها، فيكذب على الكذاب، ولو تحرى الصدق يبقى متهماً، إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان صادقاً، ومن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ ولذلك فإن الكذاب يكون في منزلة وضيعة بين الناس.
(مواطن جواز الكذب:
مسألة: هل هناك أمور يجوز فيها الكذب؟
الجواب: نعم يجوز الكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أم كلثوم بنت عقبة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا.
زاد مسلم (ولم أسمعه يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها)
((حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس.
{تنبيه} : (النبي عليه الصلاة والسلام قد استخدم التورية، ولذلك نقول: الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قد استخدم التورية فسئل عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير.
ومن الأشياء التي يجوز الكذب فيها: بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً، أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذباً ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا. كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية فقالت: اطلبوه في المسجد، وهذا من المعاريض. وقال إسحاق بن هانئ: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي أحد طلبته ومهنا طالب آخر، فدق داق الباب فقال: المروذي هنا؟ فكأن المروذي كره أن يعلم موضعه، فوضع مهنا إصبعه في راحته وقال: ليس المروذي هاهنا، والطارق يسمع، وما يصنع المروذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر.
(أما أهل الكتاب فإنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فإذا وافق ما ورد عنهم الكتاب والسنة أقررنا وإذا خالف الكتاب والسنة رفضناه، إذاً لا نوافق ولا نخالف ولا نصدق ولا نكذب، لأنه إما أن يكون حقاً فنكذب به أو باطلاً فنصدق به، فنكون قد وقعنا في محذور.
((14) جواز المعاريض والتورية بشروطها:
(معنى التورية:
مسألة: ما معنى التورية؟
(التورية لغةً: هي إخفاء الشيء.
قال الله عَزَّ و جَلَّ: {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة / 31]
و قال عَزَّ من قائل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} الأعراف / 26.
(التورية اصطلاحا: فهو أن يقول القائل كلاماً يظهر منه معنى يفهمه السامع ولكن القائل يريد معنى آخر يحتمله الكلام، كأن يقول له ليس معي درهم في جيبي فيُفهم منه أنّه ليس معه أي مال أبداً، ويكون مراده أنه لا يملك درهماً لكن يملك ديناراً مثلاً، ويسمى هذا الكلام تعريضاً أو تورية.
(حكم التورية:
مسألة: ما حكم التورية؟.
تُعد التورية من الحلول الشرعية لتَجَنُّب حالات الحرج التي قد يقع الإنسان فيها عندما يسأله أحدٌ عن أمرٍ وهو لا يريد إخباره بالواقع من جهة، ولا يريد أن يكذب عليه من جهة أخرى.
وتصح التورية من القائل إذا دعت الحاجة أو المصلحة الشرعية لها، ولا ينبغي أن يكثر منها بحيث تكون ديدناً له، ولا أن يستعملها لأخذ باطل أو دفع حق.
(والتورية جائزة بشرطين: الأول: أن يكون اللفظ محتملاً لها.
والثاني: ألا تكون ظلماً. فلو قال رجل: أنا لا أنام إلا على وتد. والوتد عود يوضع في الجدار ويعلق عليه المتاع. وقال الرجل: أنا أريد بالوتد الجبل، فهذه تورية صحيحة، لأن اللفظ يحتملها وليس فيها ظلمٌ لأحد.
وكذلك لو أن رجلاً قال: والله لا أنام إلا تحت السقف. ثم نام فوق السقف وقال: أردت بالسقف السماء. فهذا صحيح، فقد سميت السماء سقفاً في قوله سبحانه:(وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً)[الأنبياء /32]
(حديث عمران ابن حُصين في صحيح الأدب المفرد موقوفاً) قال إن في المعاريض لمندوحةٌ عن الكذب.
معنى مندوحة: سعة
[*] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما يسرني بمعاريض الكلام حُمُرُ النعم.
[*] وقال بعض السلف: كان لهم كلامٌ يدرؤون به عن أنفسهم العقوبة، فقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم طليعةً للمشركين وهو في نفرٍ من أصحابه فقال المشركون ممن أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحن من ماء. فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: أحياء اليمن كثيرةٌ لعلهم منهم وانصرفوا.
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (من ماء) قوله قال تعالى: (خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ)[الطارق / 6]
(قال النووي رحمه الله:
قال العلماء: فإن دعَت إلى ذلك مصلحة شرعيَّة راجحة على خداع المخاطب، أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب: فلا بأس بالتعريض، فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة: فهو مكروه وليس بحرام، فإن توصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراماً، وهذا ضابط الباب.
" الأذكار "(ص 380).
وذهب بعض العلماء إلى تحريم التعريض لغير حاجة أو مصلحة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. انظر الاختيارات ص 563.
وهناك حالات أرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى استخدام التورية، فعلى سبيل المثال:
إذا أحدث الرجل في صلاة الجماعة فماذا يفعل في هذا الموقف المحرج؟.
الجواب: عليه أن يأخذ بأنفه فيضع يده عليه ثم يخرج.
والدليل:
((حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ.
قال الطيبي: أمر بالأخذ ليخيل أنه مرعوف (والرعاف هو النزيف من الأنف)، وليس هذا من الكذب، بل من المعاريض بالفعل، ورُخِّص له في ذلك لئلا يسوِّل له الشيطان عدم المضي استحياء من الناس ا. هـ " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح "(3/ 18).
وهذا من التورية الجائزة والإيهام المحمود رفعاً للحرج عنه، فيظن من يراه خارجاً بأنه أصيب برعاف في أنفه
…
وكذلك إذا واجه المرء المسلم ظروفاً صعبة محرجة يحتاج فيها أن يتكلم بخلاف الحقيقة لينقذ نفسه، أو ينقذ معصوماً، أو يخرج من حرج عظيم، أو يتخلص من موقف عصيب.
فهناك طريقة شرعية ومخرجٌ مباح يستطيع أن يستخدمه عند الحاجة ألا وهو " التورية " أو " المعاريض "، وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه " باب المعاريض مندوحة عن الكذب " - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب (116) -.
(وفيما يلي التوضيح بأمثلة من المعاريض التي استخدمها السلف والأئمة أوردها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه " إغاثة اللهفان ":
(ذُكر عن حماد رحمه الله أنه إذا أتاه من لا يريد الجلوس معه قال متوجعاً: ضرسي، ضرسي، فيتركه الثقيل الذي ليس بصحبته خير.
(وأحضر سفيان الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي فاستحسنه، فأراد الخروج فقال الخليفة لا بد أن تجلس فحلف الثوري على أنه يعود فخرج وترك نعله عند الباب، وبعد قليل عاد فأخذ نعله وانصرف فسأل عنه الخليفة فقيل له إنه حلف أن يعود فعاد وأخذ نعله.
(أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن هانئ قال: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي ومهنى فدق داق الباب وقال المروذي ها هنا فكان المروذي كره أن يعلم موضعه فوضع مهنى أصبعه في راحته وقال ليس المروذي ها هنا وما يصنع المروذي ها هنا فضحك أحمد ولم ينكر.
(ومن أمثلة التورية أيضاً:
لو سألك شخص هل رأيت فلاناً وأنت تخشى لو أخبرته أن يبطش به فتقول ما رأيته وأنت تقصد أنك لم تقطع رئته وهذا صحيح في اللغة العربية أو تنفي رؤيته وتقصد بقلبك زماناً أو مكاناً معيناً لم تره فيه، وكذلك لو استحلفك أن لا تكلم فلاناً: فقلت: والله لن أكلمه، وأنت تعني أي لا أجرحه لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح. وكذلك لو أرغم شخص على الكفر وقيل له اكفر بالله، فيجوز أن يقول كفرت باللاهي. يعني اللاعب. إغاثة اللهفان: ابن القيم 1/ 381 وما بعدها 2/ 106 - 107، وانظر بحثاً في المعاريض في الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 14.
{تنبيه} : (لا يستخدم المسلم التورية إلا في حالات الحرج البالغ وذلك لأمور منها:
1 -
أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب.
2 -
فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضاً لأن الواحد منهم سيشك في كلام أخيه هل هو على ظاهره أم لا؟.
3 -
أن المستمع إذا اطلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ولم يدرك تورية المتكلم يكون الموري عنده كذاباً وهذا مخالف لاستبراء العرض المأمور به شرعاً.
4 -
أنه سبيل لدخول العجب في نفس صاحب التورية لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين.
(حكم من استخدم التورية للظلم والعياذ بالله:
إذا استخدمت التورية للظلم فلا تجوز، كمن أخذ حقاً من إنسان ثم ذهب إلى القاضي، ولم تكن للمظلوم بيّنة فطلب القاضي من آخذ الحق أن يحلف أن ليس له عندك شيء، فحلف وقال: والله ما له عندي شيء، فحكم له القاضي، ثم كلمه بعض الناس في ذلك وعرفه أن هذه يمين غموس تغمس صاحبها في النار، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
((حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ (1).
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ.
فإذا قال هذا الحالف: أنا ما أردت النفي، وإنما أردت الإثبات. ونيتي في كلمة "ما له" أن (ما) اسم موصول أي: والله الذي له عندي شيء. فهذا وإن كان اللفظ يحتمله إلا أنه ظلم فلا يجوز، فإن اليمين على نية المستحلف بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اليمين على نية المستحلف.
ولو أن رجلاً اتهمت زوجته بالخيانة وهي بريئة منها فحلف وقال: والله إنها أختي وقال: أردت أنها أختي في الإسلام. فهذا تعريض صحيح لأنه أخته في الإسلام، وهي مظلومة.
((15) أن يطابق قوله عمله:
(1). سميت بذلك: لأنها تغمس صاحبها في الإثم والنار. الفتح (11/ 564)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ){الصف/3،2}
((حديث أسامة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلقُ أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ويحك، مالك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
((حديث جندب ابن عبد الله الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل العالم الذي يعلم الناس الخير و ينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس و يحرق نفسه.
((حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون و يقرءون كتاب الله و لا يعملون به.
((حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهمت الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أَقْمَاعُ الْقَوْلِ: هُمْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يَفْهَمُونَهُ.
((حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
(يُرِيدُ بِالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَا يَمْلِكُ الْمُتَزَيِّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الصُّلَحَاءِ، فَهُوَ بِرِيَائِهِ مَحْرُومُ الاجْرِ، مَذْمُومُ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْجَرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى رِيَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَيُحْمَدَ بِهِ.