الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انعقاد البيع بالمعاطاة
.
والمعاطاة المناولة من عطى يعطي إذا تناول مفاعلة من العطاء، وهو أن يتفاوضا من غير عقد، أي بتسليم وتسلم، ولا يوجد لفظ، أو يوجد لفظ من أحدهما دون الآخر لكن استعملها الفقهاء في مناولة خاصة1.
والمشهور من مذهبنا أنه لا تصح المعاطاة في البيع لا في قليل ولا كثير، وبهذا قطع المصنف والجمهور، وهناك وجه مشهور عن ابن شريح أنه يصح البيع بالمعاطاة فيما يعده الناس بيعا؛ لأن الله تعالى أحل البيع، ولم يثبت في الشرع لفظ له، فوجب الرجوع إلى العرف، ولفظة البيع مشهورة، وقد اشتهرت الأحاديث بالبيع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم في زمنه وبعده، ولم يثبت في شيء منها مع كثرتها اشتراط الإيجاب والقبول2.
وقد جرت العادة بين الناس بصحة بيع المحقرات، وأما النفيس فلا بد فيه من الإيجاب والقبول، ومعرفة المحقر والنفيس من الأشياء مرجعه العرف الجاري، فما عده من الحقرات صح فيه البيع، وإلا فلا. وهذا هو المشهور تفريعًا على صحة المعاطاة.
وحكى الرافعي وجهًا، أن المحقر دون نصاب السرقة، وهذا شاذ ضعيف، بل الصواب أنه لا يختص بذلك، بل يتجاوز إلى ما بعده أهل العرف بيعًا3.
قال شارح المنهاج: وقيل ينعقد بها في المحقر، أي ينعقد البيع بالمعاطاة في الأشياء التي تكون قيمتها زهيدة لا يأبه بها كرغيف خبز، وحزمة بقل،
1 المصباح المنير "ج2 ص497".
2 للجموع شرح المهذب "ج9 ص172".
3 المرجع السابق "ج9 ص173".
والبقل كل نبات اخضرت له الأرض، وقيل: في كل ما يعد فيه بيعا بخلاف غيره كالدواب والعقار، واختاره المصنف في الروضة وغيرها.
ويتحصل من ذلك أن بيع المعاطاة فيه ثلاثة آراء:
الأول: أنه غير صحيح لحديث ابن ماجه، وغيره:"إنما البيع عن تراض"، والرضا خفي، فاعتبر ما يدل عليه من اللفظ، ومثل اللفظ الكتابة والإشارة، فلا ينعقد البيع من غير إيجاب، وقبول لا فرق في ذلك بين المحقرات كالخبز، واللحم وقليل الفواكه وغيرها كالعقارات والسيارات، والدواب؛ لأن البيع اسم للإيجاب والقبول، لا مجرد فعل بتسليم وتسلم.
الثاني: ينعقد في المحقرات مثل الخبز والبقل واللبن، والفاكهة وسائر الاحتياجات اليومية المتكررة.
الثالث: ينعقد في كل ما يعد فيه بيعا أي أن كل ما اعتاده الناس، وتعاملوا فيه وصححوا بيعه من غير إيجاب، وقبول فهو صحيح؛ لأن العرف أصل من أصول الشرع.
حكم المأخوذ بالمعاطاة:
وعلى القول المشهور بعدم صحة بين المعاطاة مطلقًا، فإن المأخوذ بها فيه ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
وهو أصحها، أنه يأخذ حكم المقبوض ببيع فاسد، فيطالب كل واحد منهما الآخر برد ما أخذه إن كان باقيًا، أو بدله إن كان تالفا، فإن كان الثمن الذي قبضه البائع مثل القيمة، فالغزالي في الإحياء يقول: هذا مستحق ظفر بمثل حقه، والمالك راض فله تملكه لا محالة، وظاهر كلام المتولى، وغيره أنه يجب رده مطلقا.
الوجه الثاني:
أن هذا إباحة لازمة لا يجوز الرجوع فيها، وهو وجه ضعيف؛ لأنه لو كان إباحة لكان له الرجوع، كما لو أباح كل واحد منهما لصاحبه طعامه، وأكل ِأحدهما ولم يأكل الآخر، فإن للآكل أن يرجع عن الإباحة، ويسترد طعامه بلا خلاف.
أما هنا فلو أتلف أحدهما ما آخذه، وبقي مع الآخر ما أخذه لم يكن لمن تلف في يده أن يسترد الباقي في يد صاحبه من غير أن يغرم له مذل ما تلف عنده، وهذا معناه أنه ليس من الإباحة في شيء.
الوجه الثالث: أن العوضين يستردان، فإن تلفا فلا مطالبة لأحدهما، ويسقط عنهما الضمان، ويتراد منهما بالتراضي، وهذا القول مردود على صاحبه؛ لأنه لا يرى ذلك في سائر العقود الفاسدة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن إسقاط الحقوق طريقة اللفظ، كالعفو عن القصاص والإبراء من عن الديون، فإن أقمنا التراضي مقام اللفظ في الإسقاط، وجب أن نقيمه في انعقاد العقد.
وهذا الخلاف المذكور في المعاطاة في البيع يجري في الإجارة، والرهن، والهبة ونحوها، أما صدقة التطوع والهدية، فعلى القول بصحة بيع المعاطاة، فهما أولى بذلك من البيع، وعلى القول بعدم الصحة، فالأصح عند جمهور فقهاء المذهب أنه لا يشترط فيهما الفظ، وحجتهم في ذلك، أن الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذها، ولا لفظ هناك، وعلى هذا جرى الناس في جميع الأمصار، فقد كانوا يبعثون الهدايا على أيدي الصبيان الذين لا عبارة لهم.
اعتراض وجوابه:
فإن قيل بأن هذا من قبيل الإباحة، ولا يسمى هدية، ولا تمليكا أجيب عن ذلك بأنه لو كان باحة ما تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم أن ما قبله النبي صلى الله وعليه وسلم من الهدايا، كان يتصرف فيه، ويملكه غيره.
ويمكن أن يحمل كلام من اعتبر الإيجاب، والقبول على الأمر المشعر بالرضا دون اللفظ، والإشعار بالرضا يكون لفظا ويكون فعلا، فالعبرة بالرضا في كل ما تقدم، والتسليم والتسلم دليل على الرضا، وقد قالوا: العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ.