المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ اللقيط وأحكامه

المبحث الثاني:‌

‌ اللقيط وأحكامه

.

معنى اللقيط:

اللقيط فعيل بمعنى مفعول وهو الملقوط، ويطلق على الطفل المنبوذ، والمطروح المرمي به من نبذت الشيء رميته، ومنه قوله تعالى:{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} 1 ومنه سمي النبيذ؛ لأنه يطرح فيه الماء، ويسمى ملقوطا باعتبار أنه يلقط، ويسمى دعيا أيضا، على أن تسميته لقيطا أو منبوذا قبل الأخذ حقيقة لغوية، وبعدها مجاز بناء على زوال الحقيقة بزوال المعنى المشتق منه، أو باعتبار ما كان عليه.

ومعناه شرعا: طفل نبذ بنحو شارع لا يعرف له مدع، وذكر الطفل للغالب إذ الأصح أن المميز، والبالغ المجنون يلتقطان لاحتياجهما إلى التعهد، وهو صريح في أن المميز لا يسمى طفلًا بل يقال للطفل بعد التمييز صبي وجزور، ويافع ومراهق وبالغ، وأما البالغ الرشيد فلا يجوز التقاطه لاستغنائه عن الحفظ والرعاية.

حكم التقاط المنبوذ:

حكمه فرض كفاية إن علم به أشخاص متعددون، فإن لم يعلم به إلا واحد لزمه أخذه، ويكون فرض عين وإنما كان فرض كفاية، أو فرض عين حفظا للنفس المحترمة عن الهلاك؛ لأن اللقيط أدمي محترم، فوجب حفظه كالمضطر إلى طعام غيره بل أولى؛ لأن البالغ العاقل ربما احتال لنفسه.

1 من الآية "187" من سورة آل عمران.

ص: 139

وفارق اللقطة حيث لا يجب التقاطها بأن المغلب عليها الاكتساب، والنفس تميل إليه، فاستغنى بذلك عن الواجب.

والدليل على وجوب أخذ اللقيط قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 1؛ ولأن فيه إحياء نفس، فكان واجبا كإطعام المضطر وإنجائه من الغرق، وقوله تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 2، وقوله تعالى:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3.

أركان اللقيط ثلاثة:

1-

التقاط وهو أخذ المنبوذ.

2-

لقيط وهو الصغير المنبوذ.

3-

ملتقط، وهو من تثبت له ولاية الالتقاط.

حكم الإشهاد على اللقيط وحكمته:

إذا أخذ الملتقط اللقيط وجب الإشهاد عليه، وإن كان من أخذه ظاهر العدالة خوفا من أن يسترقه، ويضيع نسبه المبني على الاحتياط له أكثر من المال، ويجب كذلك الإشهاد على مال المنبوذ بطريق التبعية، فإن ترك الإشهاد، فلا يثبت له عليه ولاية الحضانة، وذلك؛ لأن ترك الإشهاد يعد فسقا.

ومحل وجوبه ما لم يسلمه له الحاكم، فإن سلمه له سن الإشهاد في هذه الحالة، وذلك؛ لأن تسليم الحاكم فيه معنى الإشهاد.

1 من الآية "2" من سورة المائدة.

2 من الآية "22" من سورة المائدة.

3 من الآية "77" من سورة الحج.

ص: 140

أسباب نبذ اللقيط:

ترجع أسباب نبذ اللقيط في الغالب لواحد من أمرين إما لكونه من فاحشة خوفا من العار، أو للعجز عن مؤنته، فإن فقد النبذ رد إلى القاضي لقيامه مقام كافله، فيسلمه إلى من يقوم به، كما يقوم بحفظ مال الغائبين، أو وجد له كافل ولو ملتقطا رد إليه.

شروط الملتقط:

قلنا: إن الملتقط هو من تثبت له ولاية الالتقاط، وولاية الالتقاط هي حضانة اللقيط، وإنما تثبت هذه الولاية، لمكلف، غني أو فقير ذكر أو أنثى، مسلم، إن كان اللقيط محكوما بإسلامه، وإلا فللكافر التقاط غير المسلم؛ لأنه من أهل الولاية عليه، فيجوز التقاط اليهودي للنصراني، وعكسه كالتوراث، خلافا للأذرعي، عدل؛ لأنها ولاية على الغير، فاعتبر فيها الأوصاف المذكورة كولاية القضاء، فإن كان مستور العدالة نصب الحاكم عليه من يراقبه خفية؛ لئلا يتأذى الملتقط بمراقبته من قبل الحاكم، فإذا وثق به صار كمعلوم العدالة، وأن يكون رشيدا بصيرا خاليا من نحو برص إذا كان الملتقط يتعاهده بنفسه كما في الحضانة.

فإن التقطه إثنان وكان أحدهما عدلا، والآخر مستور العدالة، فإنه يقدم العدل على مستور الحال، ولا تفتقر ولاية الالتقاط إلى إذن الحاكم لكن يستحب دفعه إليه نعم لو وجده، فأعطاه غيره لم يجز حتى يدفعه إلى الحاكم.

وعلى ذلك، فيشترط في الملتقط أن يكون مسلما رشيدا عدلا بصيرا خاليا من برص، ونحوه.

ص: 141

محترزات الشروط السابقة:

فخرج بالمكلف الصبي والمجنون لعدم أهلية الصبي والمجنون، وبالعدل الفاسق، وبالرشيد المحجور عليه بسفه، وبالمسلم الكافر لعدم ولاية الكافر على المسلم؛ ولأنه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه، ولا بد أن يكون أهلا للترك في يده، فإن كان ليس أهلا انتزع الحاكم للقيط ممن ليس أهلا للولاية.

من يكون أحق باللقيط عند التنازع:

إذا تنازع اثنان على أخذ اللقيط بأن كان كل منهما يريد أخذه، وهما من أهل الكفالة، فالحاكم هو الذي يتولى تدبير أمره، فله أن يعطيه لواحد منهما، أو يجعله عند غيرهما بما يرى فيه المصلحة إذ لا حق لهما قبل أخذه، فلزمه رعاية الأحظ له.

وإن سبق إليه واحد، فالتقطه منع الآخر من مزاحمته لخبر:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به". أما إذا لم يلتقطه، فلا أحقية له فيه، وإن وقف عند رأسه.

وإن التقطاه معا في زمن واحد، وهما أهل لالتقاطه وتشاحا أقرع بينهما عند التساوي، فمن خرجت عليه القرعة أقر في يده.

وقيل: لا نقرع بينهما، بل يجتهد الحاكم، فيقره في يد من هو أحظ له، والمنصوص الأول لقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 1؛ ولأنه لا يمكن أن يجعل بينهما مهايأة؛ لأنه تختلف عليه الأخلاق والأغذية، فيتضرر ولا يمكن أن يقدم أحدها؛ لأنهما متساويان في سبب استحقاق، ولا يمكن أن يسلم لغيرهما؛ لأنه قد ثبت لهما حق الالتقاط، فلا

1 من الآية "44" من سورة آل عمران.

ص: 142

يجوز إخراجه عنهما، فأقرع بينهما لذلك.

ولا يخير المميز في اختيار أحدهما لعدم ميله إليهما طبعًا، كما يخير بين أبويه؛ لأنه إنما يخبر بين أبويه اعتمادا على الميل الناشيء عن الولادة، وهو ينعدم هنا. ووضح أنه إن كان أحدهما غنيا، فهو أولى به؛ لأنه قد يواسيه بماله، ولو تفاوتا في الغنى لم يقدم أغناهما نعم لو كان أحدهما بخيلا، والآخر جوادا، فالقياس تقديم الغني الجواد؛ لأن حظ اللقيط عنده أكثر، وظاهر أنه يقدم الغني البخيل على الفقير، وفي قول الغني والفقير يستويان؛ لأن نفقة اللقيط لا تجب على ملتقطه.

ويقدم عدل باطنا بكونه مزكى عند حاكم على عدل ظاهرا بأن لم يعلم فسقه، ولم يعلم تزكيته عند حاكم، وهذا هو الذي يطلق عليه مستور الحال احتياطا

للقيط.

ولا يقدم مسلم على كافر إذا كان اللقيط محكومًا عليه بالكفر، وكذلك المرأة لا تقدم على الرجل، وإن كانت أصبر على التربية منه، وهي لذلك مقدمة في الحضانة إلا إذا كانت مرضعة، واللقيط رضيع، وإلا إذا كانت خالية لا زوج لها، فإنها تقدم على المتزوجة.

ويقدم البصير على الأعمى، والسليم على من به مرض مثل الجزام والبرص.

حكم نقل اللقيط:

اللقيط إما أن يكون ملتقطًا من الحضر أو البادية، فإن كان التقاطه من الحضر، فأراد أن ينقله إلى البادية لم يقر في يده لوجهين:

ص: 143

أحدهما: أن مقامه في الحضر أصلح له في دينه، ودنياه، وأرفه له.

الثاني: أنه إذا وجد في الحضر، فالظاهر أنه ولد فيه، فبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه، وظهور أهله واعترافهم به، فإن أراد النقلة به إلى بلد الحضر، ففيه وجهان:

الأول: أنه يقر في يده؛ لأن ولايته ثابتة، والبلد الثاني كالبلد الأول في الرفاهية، فيقر في يده كما لو انتقل من أحد أقسام البلد إلى قسم آخر، وفارق المنتقل به من البادية؛ لأنه يضر به.

الثاني: لا يقر في يده؛ لأن بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه، فلم يقر في يد المنتقل عنه قياسا على المنتقل إلى البادية.

وإن التقطه من البادية، فله النقلة به إلى الحضر؛ لأنه ينقله من أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية، والدعة، والدين.

وخلاصة القول أنه يجوز للملتقط نقل اللقيط من بلد إلى آخر، سواء كانت وطن الملتقط، أو لا سافر إليها لنقله، أو لا بشرط انتفاء المحذور الذي سبق ذكره، وهو ضياع علم، وصنعة، ودين ولا فرق بين مسافة القصر، أو دونها لكن يشترط تواصل الأخبار، وأمن الطريق وإلا امتنع، ولو لدون مسافة القصر.

وإن التقطه غريب، فالأصح أن له نقله إلى بلده إذا أمن الطريق، وتواصلت الأخبار.

وقيل: بالمنع لضياع النسب، وهذا في غريب مختبر عرفت أمانته، فإن التقطه غريب مجهول الحال لم يقر على انتقاله قطعا، وحيث منع من

ص: 144

السفر به، ونقله إلى مكان آخر نزع من يده؛ لئلا يسافر به بغتة.

وإن وجده البدوي في بادية أقر بيده، وإن كان أهل حلته ينتقلون؛ لأنها في حقه كبلدة، أو قرية.

وإن كانوا ينتقلون للنجعة والانتقال في طلب المرعى لم يقر؛ لأن فيه تضييعا لنسبه، والأصح أنه يقر على التقاطه؛ لأن أطراف البادية من البلدة، ويعلم من ذلك أن نقله من بلدة أو قرية، أو بادية لمثلها، ولأعلى منها يجوز لا لدونها.

وإن جواز النقل من مكان إلى آخر مشروط بأمن الطريق والمقصد، وتواصل الأخبار، واختبار أمانة الملتقط.

نفقة اللقيط:

أما نفقة اللقيط، ومؤنة حضانته، فليست على الملتقط بل يصرف عليه من المال العام المخصص للوقف على اللقطاء، أو من المال الموصى به لهم، أو يصرف عليه من ماله الخاص الذي اختص به كثياب ملفوفة عليه، أو ملبوسة أو مفروضة تحته، أو مغطى بها أو دابة مشدودة في وسطه، أو عنانها بيده أو راكبا عليها، وما في جيبه من دراهم وغيرها كذهب، وحلي في مهده1 الذي هو فيه، ودنانير منثورة فوقه أو منثورة تحته؛ لأن له يدا واختصاصا كالبالغ، والأصل الحرية ولم يعرف غيرها.

والخلاصة في الإنفاق على اللقيط أن الإنفاق عليه يكون من المال العام، أو الخاص، والأوجه عند بعض المتأخرين تقديم المال الخاص على العام، فلا

1 المهد: هو السرير الذي يكون للطفل.

ص: 145

ينفق من المال العام إلا عند فقد الخاص.

حكم ملكية اللقيط للمكان الذي وجد فيه:

فإن وجد اللقيط في دار أو حانوت1، ولا يعلم لهامستحق، وليس فيها غيره، فهذه الدار، أو هذا الحانوت له لليد، ولا مزاحم وإن وجد فيها غيره كلقيطين فهي لهما كما لو كانا على دابة أما لو ركبها أحدهما، ومسك الآخر زمامها، فهي للراكب فقط لتمام الاستيلاء.

وقيل: تكون الدابة بينهما، فتكون ملكا لهما، والمذهب الصحيح أن اليد للراكب.

ولو كان اللقيط على الأرض، وزمام الدابة بيده أو مربوطة به فيه له، وكل ما على الدابة التي حكم له بها، فهو له أيضا.

وجود اللقيط في بستان:

إذا وجد اللقيط ببستان، فلا يحكم له به كما رجحه بعض المتأخرين بخلاف الدار؛ لأن سكناها تصرف والحصول في البستان ليس تصرفا، ولا سكنى ويفهم من هذا التعليل أن البستان إذا كان يسكن عادة، يكون الدار لكن المراد بالبستان المزرعة التي لم تجر العادة بسكناها.

ويكون ما ذكره مملوكا للقيط إذا كان اللقيط له صلاحية التصرف فيه، ودفع المنازع له، ويتردد النظر فيما لو وجد على عتبة الدار؛ لأنه لا يسمى فيها إن كان بابها مقفولا، بخلاف وجوده بسطحها الذي لا مصعد له منها

1 الحانوت: الدكان.

ص: 146

فلا يملكها؛ لأنه لا يسمى فيها عرفا.

ولا يحكم للقيط بمال مدفون في الأرض التي وجد فيها، ولو كان تحته ذلك الدفين؛ لأن الكبير العاقل لو كان جالسا على أرض تحتها دفين لم يحكم له به، وحكم هذا المال إن كان من دفين الجاهلية فهو ركاز، وإلا فلقطة ولكن إذا حكم بأن المكان له، فيكون الدفين في هذه الحالة له مع المكان، ولو وجد خيط متصل به بأن يكون مربوطا بعض بدنه، أو ثيابه وجب الجزم بأنه يقضى به، وأيضا إذا وجد بالقرب منه ثياب، وأمتعة أو دابة فتكون له إلا أن يده لا تثبت لا على ما اتصل به بخلاف الموجود بقرب المكان، فإنه يحكم له بملكيته له؛ لأن له رعاية.

وإذا لم يعرف للقيط مال عام ولا خاص، فالأظهر أنه ينفق عليه من بيت المال من سهم المصالح بلا رجوع؛ لأن عمر رضي الله تعالى عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، فأجمعوا على أنها في بيت المال.

ومقابل الأظهر القول بالمنع من الصرف عليه من بيت المال، بل نقترض عليه من بيت المال، أو غيره لجواز أن يظهر له المال، فإذا لم يكن في بيت الماء شيء، أو كان ثم ما هو أهم منه، أو منع من كان متوليا على بيت المال ظلما أن يأخذ منه للإنفاق على اللقيط اقترض الحاكم عليه إن رآه، وإلا قام مياسير المسلمين بكفايته وجوبا على جهة القرض، وفي قول تجب عليهم نفقته لعجزه. فإن منعوا كلهم قاتلهم الإمام.

والفرق بين كونها على المياسير قرضا، أو في بيت المال مجانا بأن بيت المال وضع للإنفاق على المحتاجين، فلهم فيه حق مؤكد دون مال المياسير، وفي حالة إلزام المياسير بالنفقة على اللقيط، فيجب على الإمام أن يلزم بها

ص: 147

مياسير بلده، فإن شق ذلك عليه، فعلى من يراه منهم، فإن استووا في نظره تخير، وهذا كله إذا لم يبلغ اللقيط، فإن بلغ الحلم فتكون النفقة عليه من سهم الفقراء، أو المساكين أو الغارمين المنوط به حفظ مال اللقيط.

والأصح أن الملتقط له أن يستقل بحفظ مال اللقيط؛ لأنه مستقل بحفظ المالك لهذا المال، وهو اللقيط فيكون له حفظ مال اللقيط من باب أولى، وقيده الأذرعي بما إذا كان الملتقط لهذا الغلام عدلا يجوز إيداع مال اليتيم عنده.

والثاني: يحتاج الملتقط للاستقلال بحفظ مال اللقيط إلى إذن القاضي.

وعلى القول الأول الذي يحوز للملتقط الاستقلال بحفظ مال اللقيط، فإنه إذا نازعه فيه منازع، فليس له مخاصمته إلا بولاية من الحاكم، وأيضا يجوز للقاضي نزعة منه، وتسليمه لأمين غيره يباشر الإنفاق عليه بالمعروف اللائق به، أو يسلمه للملتقط يوما بيوم.

وسواء قلنا بجواز أن يستقل الملتقط بحفظ المال، أو قلنا: لا يحفظ إلا بإذن القاضي، فإنه لا يجوز له الإنفاق عليه إلا بإذن القاضي؛ لأن ولاية التصرف في المال لا تثبت إلا لأصل، أو وصي أو حاكم أو أمينه.

فإن أنفق بغير إذنه كان ضامنا إن أمكن له مراجعة الحاكم أو القاضي، فإن لم يمكن له ذلك أنفق وأشهد وجوبا، وليس الإشهاد في كل مرة لما فيه الحرج، والمشقة الظاهرة فكان الأوجه عدم تكليفه بذلك في كل مرة، بل يشهد فقط عند الانفاق في أول الأمر، وعلى ذلك فلا يكون عليه الضمان.

الحكم على اللقيط بالإسلام أو الكفر:

يكون الحكم بإسلام اللقيط، أو بكفره مرتبطا بتبعيته للدار، فإذا وجد

ص: 148

بدار الإسلام، أو بدار علم كونها مسكنا للمسلمين، أو كان في دار الإسلام أهل ذمة، أو معاهدون أو وجد اللقيط بدار فتحها المسلمون، وأقروها بيد كفار صلحا قبل ملكها أو وجد بدار ملكها المسلمون من الكفار عنوة، وأقروها بيدهم في مقابل دفعهم الجزية للمسلمين، أو وجد بدار فيها مسلم يمكن أن يولد له هذا اللقيط، ففي هذه الصور كلها يحكم على هذا اللقيط بالإسلام لما ورد في مسند الإمام أحمد، والدارقطني:"الإسلام يعلو ولا يعلى عليه".

أما إذا لم يكن ثم مسلم يمكن كونه منه فهو كافر، واكتفي هنا بالمجتاز تغليا لحرمة دارنا، وإن وجد بدار الإسلام، ولا مشرك فيا كالحرم، فهو مسلم ظاهرا وباطنا.

وإن وجد اللقيط بدار الكفر، وهي دار الحرب، فكافر إن لم يسكنها مسلم إذ لا مسلم يحتمل إلحاقه به، فإن كانت البقعة التي وجد فيها اللقيط بها طوائف متنوعة، أو مللا مختلفة حكم بانتسابه إلى الملة التي هي أقرب إلى الإسلام.

وإن سكنها مسلم كأسير منتشر في البلد أي غير محبوس في مكان مطمور، أو سكنها تاجر، فاللقيط مسلم تغليبا للإسلام، فإن أنكره ذلك المسلم، فإنكاره مقبول في نفي النسب دون إسلامه، وقيل: يكون اللقيط كافرا تغليبا لدار الكفر، فإن كان الأسير محبوسا في مكان مطمور، فلا أثر له ولا يحكم بإسلام اللقيط إذا لم يكن في المحبوسين امرأة.

وحاصل ذلك أنه يحكم بإسلام اللقيط، حيث أمكن كونه من المسلم بأن يكون المسلم المجتاز، أو التاجر قد وجد بدار الكفر وقت العلوق بهذا اللقيط أما لو طرقها مسلم، ثم بعد شهر مثلا وجد بها منبوذ لا يحكم بإسلامه لاستحالة كونه منه.

ص: 149

وإذا وجد اللقيط ببرية، فهو مسلم إذا كانت البرية تابعة لدارنا، أو لا يد لأحد عليها، أما برية دار الحرب التي لا يطرقها مسلم، فهو غير مسلم.

وولد الذمية من الزنا بمسلم يكون مسلما؛ لأن هذا مقطوع النسب عنه.

إذا حكم بإسلام اللقيط تبعا للدار، ثم ادعى نسبه ذمي ومن في حكمه:

ذكر العلماء أن من حكم بإسلامه بالدار من اللقطاء، فهو مسلم تبعا للدار، ولكنها تبعية ضعيفة بمعنى أنه لو ادعاه ذمي، وأقام بينة على دعواه بنسبه لحقه، ومثله في ذلك المعاهد والمستأمن؛ لأنه كالمسلم في النسب، فيكون تابعا له في الكفر، وارتفع ما ظنناه من إسلامه؛ لأن الدار حكم باليد، والبينة أقوى من اليد المجردة، وتصور علوقه من مسلم بوطء شبهة أمر نادر لا يعول عليه مع البينة.

ولكن ما هي البينة؟

البينة هي أن يشهد عدلان بلحوق نسبه بالذمي، أو يلحقه القائف به؛ لأن إلحاق القائف حكم، وهو كالبينة بل أقوى، فإن كانت البينة أربع من النسوة، فالحكم في هذه الصورة أن يقال: إنه إن ثبت بهن النسب تبعه في الكفر، وإلا فلا.

فإن اقتصر على الدعوى بأن اللقيط ابنه، فالمذهب أنه لا يتبعه في الكفر، وإن لحقه في النسب؛ لأنا حكمنا بإسلامه، فلا نغيره بمجرد دعوى كافر، ويجوز كونه ولده من مسلمة بوطء شبهة.

والطريق الثاني: فيه قولان: ثانيهما يتبعه في الكفر كالنسب.

ومحل الخلاف ما إذا استلحقه قبل أن يصدر منه صلاة، أو صوم، فإن

ص: 150

صدر منه ذلك لم يغير عن حكم الإسلام قطعا، وسواء قلنا بتبعيته في الكفر، أو لا فإنه يحال بينهما كما يحال بين أبوي مميز، وصف الإسلام ولدهما المسلم، وتكون الحيولة بينهما واجبة، إن قلنا بعدم تبعيته لهما في الكفر، لكن يستحب تسليمه لمسلم، فإذا بلغ ووصف الكفر، فإن قلنا بالتبعية، فإنه يقر على ما هو عليه لكنه يهدد لعله يسلم، وإلا ففي تقريره ما سبق من الخلاف.

وهناك غير تبعية الدار جهتان يحكم بإسلام الصبي بوجود واحدة منهما.

إحداهما: الولادة: فإذا كان أحد أبويه مسلما وقت العلوق، فهو مسلم ذكرا كان أو أنثى أو خنثى، وهذا بالإجماع تغليبا للإسلام فلو ارتد أحدهما بعد العلوق فلا يضر.

فإن بلغ الصبي المسلم بالتبعية، ووصف كفرا بأن أعرب به عن نفسه، فمرتد؛ لأنه مسلم ظاهرا أو باطنا، وهذا إن كانت التبعية لأحد أبويه.

ولو علق بين كافرين، ثم أسلم أحدهما قبل بلوغه حكم بإسلامه حالا سواء أسلم أحدهما قبل وضعه، أو بعده وسواء قبل تمييزه أو بعده، وقبل البلوغ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1.

وفي معنى الأبوين الأجداد والجداد، وإن لم يكونوا وارثين وكان الأقرب حيا، وليس معنى هذا أن يحكم بإسلام جميع الأطفال بإسلام أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام، لأن مرادنا في وجد يعرف النسب إليه بحيث يحصل بينهما التوارث.

ولو سباه ذمي أو مستأمن، وحمله إلى دار الإسلام لم يحكم بإسلامه في

1 من الآية "21" من سورة الطور.

ص: 151

الأصح؛ لأن كونه من أهل دار الإسلام لم يؤثر فيه، ولا في أولاده فكيف يؤثر في سبيه؛ ولأن تبعية الدار إنما تؤثر في حق من لا يعرف حاله، ولا نسبه، فيكون على دين سابيه.

والثاني: يحكم بإسلامه تبعا للدار.

ولو سباه مسلم، وذمي حكم بإسلامه تغليبا لحكم الإسلام، ولو سباه ذمي وباعه لمسلم، أو المسلم الذي سباه مع أحد أبويه في جيش واحد، ولو دون أبويه من مسلم لم يتبع المشتري لفوات وقت التبعية؛ لأنهما إنما تثبت ابتداء.

هل يصح إسلام الصبي المميز؟

إذا أسلم الصبي المميز المستقل عن أبويه، ولم يدخل في سبي مسلم، فهل يصح إسلامه في ذلك الحكم خلاف:

الأول: وهو الصحيح المنصوص في القديم والجديد أنه لا يصح؛ لأنه غير مكلف، فأشبه غير المميز والمجنون، وهما لا يصح إسلامها اتفاقا؛ ولأن نطقه بالشهادتين إما خبر وإما إنشاء، فإن كان خبرا فخبره غير مقبول، وإن كان إنشاء فهو كعقوده وهي باطلة.

والثاني: يصح إسلامه حتى يرث من قريبة المسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا عليا رضي الله تعالى عنه إلى الإسلام قبل بلوغه فأجابه؛ ولأنه لا يلزم من كونه غير مكلف به أنه لا يصح منه كالصلاة، والصوم، وسائر العبادات.

وأجاب الأول عن قصة علي رضي الله عنه بأنه كان بالغًا عند إسلامه، كما نقله القاضي أبو الطيب، عن الإمام أحمد رضي الله عنه، فعلى تقدير ثبوته فلا كلام، وعلى عدم تقديره فقد ذكر البيهقي في المعرفة أن الأحكام إنما

ص: 152

صارت معلقة بالبلوغ بعد الهجرة، وهو صحيح؛ لأن الأحكام إنما أنيطت بخمس عشرة سنة في عام الخندق، فقد تكون منوطة قبل ذلك سن التمييز والقياس على الصلاة، ونحوها لا يصح؛ لأن الإسلام لا يتنفل به، وعلى هذا يحال بينه، وبين أبويه الكافرين؛ لئلا يفتنوه وهذه الحيلولة مستحبة على الصحيح، فيتلطف بوالديه ليأخذ منهما، فإن أبيا فلا حيلولة.

وقيل: إنها واجبة احتياطا للإسلام، ولا نمنعه من الصلاة والصوم، وغيرهما من العبادات كما قال الزركشي أخذا من كلام الشافعي: ويدخل بإسلامه الجنة إذا أمره على قلبه، كما لو أظهره، ويعبر عنه بصحة إسلامه باطنا لا ظاهرًا.

فإن بلغ ثم وصف الكفر هدده وطولب بالإسلام، فإن أصبر رد إليهما، واحترز بالمميز عن غيره من صبي ومجنون، فلا يصح إسلامهما قطعا، وأنه يصح إسلام المكلف بالنطق من القادر عليه، والإشارة من العاجز عن النطق قطعا، وكالمكلف المتعدي بكفره.

إذا مات أطفال الكفار، ولم يتلفظوا بالإسلام فهل يدخلون الجنة:

في دخولهم الجنة خلاف والأصح أنهم يدخلون الجنة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، فحكمهم حكم الكفار في الدنيا، فلا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين، وحكمهم حكم المسلمين في الآخرة.

حكم استلحاق اللقيط:

إذا استلحق شخص لقيطا حكم بإسلامه، فإن كان ذلك الشخص الذي استلحقه مسلما لحقه بالشروط المذكورة في الإقرار؛ لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه على غيره، فأشبه ما لو أقر له بمال، ويسن للقاضي أن يقول للملتقط من

ص: 153

أين هو ولدك من زوجتك، أو شبهة، فإنه قد يتوهم أن الالتقاط يفيد النسب بل ينبغي وجوبه، إذا كان المستلحق ممن يجهل ذلك احتياطا للنسب.

واشتراط الإسلام المستلحق، إنما يكون في لقيط محكوم بإسلامه، فإن استلحقه كافر لحقه، ولكن لا يتبعه في الكفر.

ص: 154