الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم اللقطة:
اللقطة مشروعة والأصل في مشروعيتها الآيات الآمرة بالبر والإحسان إذ في التقاطها، وأخذها للحفظ، والرد على مالكها إحسان وبر، ومنها قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 1.
وأما دليل مشروعيتها من السنة، فمنها ما رواه زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن لقطة الذهب والورق، فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها وعرفها ستة، فإن لم تعرفها فاستبقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها، وساءقها ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها، وسأله عن الشاة، فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك، أو للذئب2. رواه الشيخان وله طرق وألفاظ، والوكاء هو الذي تشد به اللقطة، والعفاص: هو الوعاء الذي تكون فيه. وأجمع المسلمون على جواز الالتقاط في الجملة.
.
1 من الآية "2" من سورة المائدة.
2 رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه من طريقة، وهو متفق عليه من طرق بألفاظ "التلخيص الحبير ج3 ص73".
ولكن هل يكون الالتقاط مستحبا، أو واجبا أو كيف الحال؟
في الجواب عن هذا التساؤل تفصيل: فيكون مستحبا بشروط نذكرها فيما يلي:
1-
أن يكون الملتقط حرًّا رشيدا؛ لأن اللقطة فيها معنى الولاية، وغير الحر الرشيد ليس من أهل الولاية.
2-
أن يأمن على نفسه عدم الخيانة منها، فإن كان لا يأمن على نفسه، فلا يصح التقاطه دفعا للخيانة عن نفسه.
3-
أن تكون اللقطة يمكن تعريفها، كالذهب والفضة والجواهر، والثياب وغير ذلك.
4-
أن لا يكون الموضع الذي وجدها فيه مملوكا، ولا دار شرك؛ لأن الموجود في المكان المملوك ليس لقطة، بل مملوك لمالك الموضع في الغالب، والموجود في دار الشرك غنيمة.
5-
أن لا يكون ذلك في البلد الحرام بمكة؛ لأن لقطة مكة لا يجوز التقاطها للتملك، وإنما يلتقط للحفظ على مالكها، وسيأتي تفصيل ذلك.
6-
أن يأمن عليها لأمانة أهل المكان الذي وجدها فيه.
فإذا اجتمعت هذه الشروط، فالالتقاط للتملك جائز أي مستحب لما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة، فقال: "ما كان منها في طريق مئتاء، فعرفها حولا فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك، وما كان منها في خراب، ففيها وفي الركاز الخمس.
وقيل: له أن يلتقطها للحفظ على صاحبها لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، ولما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القايمة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"1.
وإن كانت في موضع لا يأمن عليها، فهل يلزمه أخذها؟
فيه خلاف ينحصر في قولين:
الأول: يجب، لقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2 أي يلزم بعضهم حفظ مال بعض، كما أن ولي مال اليتيم يلزمه حفظ مال اليتيم.
الثاني: لا يلزمه الالتقاط بل يستحب وهو الصحيح؛ لأن الالتقاط أمانة ابتداء اكتساب انتهاء، ولا يجب كل منهما، فإن تعين للأخذ، وخاف الضياع، فينبغي الوجوب حينئذ، ولكن إذا قلنا بوجوب التقاط اللقطة، فلم يأخذها حتى تلفت لم يضمنها؛ لأن المال لم يحصل في يده كما لو رأى مال شخص يغرق، أو يحترق وأمكنه إنقاذه فلم يفعل، فلا يلزمه الضمان.
هنا إذا كانت اللقطة في موات أو طريق، أو مسجد أو رباط، أو مدرسة ونحوهما من محال اللقطة.
لقطة الحرم: أما لقطة الحرم فلا يجوز له أن يأخذها للتملك، بل يأخذها للحفظ على صاحبها.
وقيل: بجواز التقاطها للتملك؛ لأنها أرض مباحة فجاز أخذ لقطتها للتملك كغير الحرم.
1 متفق عليه "رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين للإمام النووي تحقيق مصطفى محمد عمارة 126.
2 من الآية "71" من سورة التوبة.
والمذهب الأول لما رواه ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام إلى يوم القيامة لم يحل لأحد قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، ولم يحل إلا ساعة من نهار، وهو حرام إلى يوم القيامة لا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف، فمن التقط فيلزمه المقام للتعريف بمكة، فإن كان لا يمكنه المقام بها دفع اللقطة إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح.
ويؤخذ من الشرط الثاني، وهو أن الملتقط ممن يأمن على نفسه عدم الخيانة، أنه إذا كان لا يثق بنفسه، فالأولى أن لا يأخذها وهو كذلك، وذلك خشية الخيانة فيها في المستقبل، فإن علمها حرم.
وقيل: يجوز لغير الواثق بأمانة نفسه ترك الالتقاط مع كونه خلاف الأولى، وقال أحمد رضي الله عنه: الأفضل ترك الالتقاط، وروى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر وبه قال جابر، وابن زيد والربيع بن خيثم، وعطاء ومر شريح بدرهم، فلم يعرض له.
لقطة الفاسق:
أما الفاسق فيكره له الالتقاط لئلا تدعوه نفسه إلى الخيانة، فإذا التقط للتملك صح مع الكراهة وهذا هو المذهب، وإن التقط للحفظ حرمت اللقطة، ومن أخذها منه فهو اللاقط.
والأظهر أن تنزع اللقطة من الفاسق، وتوضع عند عدل.
وقيل: لا تنزع ولكن يضم إليه عدل ليكون مشرفا عليه.
لقطة الكافر والمرتد:
وكذلك الكافر والمرتد يصح التقاطهما؛ لأن الإسلام ليس شرطا في
صحة اللقطة، فيصح اللقط منه ولو في دار الإسلام، وهذا في الكافر المعصوم لكن المعتمد أن المرتد لا يتملك بعد التعريف؛ لأن ملكه موقوف.
حكم الإشهاد على اللقطة:
المذهب أن الإشهاد على اللقطة لا يجب بل هو مندوب سواء أكان الالتقاط للتملك، أم للحفظ نظرا لما في اللقطة من معنى الاكتساب، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في خبر أبي داود:"من التقط، فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب"، فالأمر فيه محمول على الندب.
ويرى البعض أنه يفرق بين اللقطة واللقيط، فلا يجب على اللقطة؛ لأن فيها اكتساب مال واكتساب المال لا يجب الإشهاد عليه كالبيع، ويجب على اللقيط؛ لأنه يحفظ به النسب، فوجب الإشهاد عليه كالنكاح.
ولكن إذا أشهد عليها، فهل يذكر في الإشهاد صفات اللقطة، أو يسكت عنها؟ فيه وجهان: أصحهما عند البغوي أن يسكت عن ذكر صفاتها لئلا يتوصل إليها كاذب، وقال الشافعي: يذكر بعضها ليكون في الإشهاد فائدة، وهذا ما صححه النووي في الروضة.
وعلى ذلك فيسن له مع الإشهاد تعريف شيء من اللقطة للشهود، فإن استوعب الصفات للشهود كره، ولا يضمنها بخلاف ما لو استوعبها في التعريف، فإنه يضمنها.
والفرق أن الشهود محصورون، ولا تهمة فيهم بخلافه في التعريف، فربما يعتمد الكاتب الصفات التي يذكرها، فإن حصل ذلك كان ضامنا.
لقطة المحجور عليه:
وإن وجد المحجور عليه لسفه أو جنون، أو صغر شيئا صح التقاطه؛ لأنه كسب بفعل فصح من المحجور عليه كالاصطيادو على الناظر في أمره أن ينتزعها منه، ويعرفها؛ لأن اللقطة في مدة التعريف أمانة، والمحجور عليه ليس من أهل الأمانة، وإذا نزع الولي اللقطة من يد المجور عليه، وعرفها فلا تؤخذ مؤنة التعريف من مال الجور عليه، بل يراجع الحاكم ليقترض عليه، أو يبيع جزءا منها، وبعد تعريفها إن لم يظهر مالكها يتملكها الولي للصبي، ونحوه إن رأي المصلحة في ذلك، وإلا حفظها أو سلمها القاضي.
ولكن متى يجوز للولي أن يتملك اللقطة للصبي؟ يجوز له التملك إن كان يصح له الاقتراض عليه؛ لأن التملك بالالتقاط كالتملك بالاقتراض في ضمان البديل.
أما إذا قصر الولي في انتزاعها من المحجور عليه حتى تلفت ضمنها سواء كان التلف بإتلاف الصبي، أو غيره حتى ولو كان ذلك الولي هو الحاكم، وإذا لم يقصر في انتزاعها منه، ثم تلفت فلا ضمان على أحد.
حكم معرفة أوصاف اللقطة عند أخذها:
إذا أخذ الملتقط، فإن كانت بنية الحفظ وجب عليه أن يعرف أوصافها عقب أخذها مباشرة، وهذا ما قاله ابن الرفعة، لكن كلام الجمهور يوحي أن معرفة هذه الأوصاف عقب الأخذ مستحب، وهو ما قاله الأذرعي وغيره، وهو المعتمد.
أما إذا أخذها بنية التملك بعد تعريفها كما سيأتي، فيجب أن يعرف هذه
الأوصاف، ليعرف ما يدخل في ضمانه.
ولكن ما هي الأوصاف التي يجب، أو يسن معرفتها عقد الأخذ؟ أما عن الأوصاف التي يجب، أو يسن معرفتها عقب أخذ اللقطة فيه أربعة إجمالًا ثمانية تفصيلًا، أما الأربعة فهي أن يعرف عفاصها، وركاءها، وجنسها وقدرها. والقدر يدخل تحته العدد في المعدود، والوزن في الموزون والكيل في المكيل، والذرع في المذروع، والجنس يشمل: صنفها وصفتها من صحة وتكسير ونحوهما، ومن هنا فإنه يراد بالجنس ما يشمل الصنف والصفة، ويراد بالقدر ما يشمل العد والوزن، والكيل، والذرع.
والعفاص هو الوعاء الذي تكون فيه اللقطة، والوكاء هو ما تشد به، وقيل: العفاص هو السدادة، ويطلق على الوعاء مجازا، والجمهور على أن العفاص هو الوعاء، وباقي الصفات معروفة.
أما معرفة العفاص والوكاء، فلما روى زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة، فقال:"اعرف عفاصها ووكاءها، وعرفها سنة، فإن جاء من يعرفها، وإلا فاخلطها بمالك".
وأما العدد فلما روى البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت بها النبي صلى الله وسلم، فقال: "عرفها فعرفتها حولا، ثم أتيته فقال: عرفها حولا، فعرفتها حولا، ثم أتيته فقال: عرفها فعرفتها حولا، ثم أتيته الرابعة، فقال: اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" 1.
1 متفق عليه من حديث أبي والسياق لمسلم "التلخيص ج2 ص75".
فنص على العفاص والوكاء والعدد، وباقي الصفات بالقياس؛ لأنها صفات تتميز بها اللقطة، فأشبهت المنصوص عليه.
وإنما طلب من الملتقط أن يعرف هذه الأشياء حتى لا تختلط اللقطة بماله، ويعرف بها صدق من يدعيها.
حكم تعريف اللقطة:
تعريف اللقطة يختلف حكمه، فهو تارة يكون واجبا وتارة أخرى يكون مندوبا، وذلك بحسب إرادته ونيته عند الالتقاط، فإن كان قد التقط للحفظ دون التملك لم يلزمه التعريف؛ لأن التعريف للتملك وهو لم ينو التملك، فلا يكون واجبا بل هو مستحب، وإن نوى التملك كان التعريف واجبًا.
ولكن المعتمد في المذهب أن التعريف واجب مطلقا، سواء كان للحفظ أو التملك، قال النووي: وهو الأقوى والمختار.
وإذا نوى التملك، فلا يتملك إلا بعد تعريف اللقطة سنة لحديث زيد بن خالد الجهني، فإنه صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن لقطة الذهب، والورق1، فقال:"اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة"، فدل ذلك على أن التعريف مدته سنة، فإن لم يظهر مالكها، فله أن يتملك اللقطة إن أراد.
حكمة التعريف سنة:
والحكمة في اعتبار السنة أن القوافل لا تتأخر فيها غالبا؛ ولأنه لو لم يعرف سنة لضاعت الأموال على أربابها، ولو جعل التعريف أبدا لامتنع الناس من التقاطها، فكان في اعتبار العام مراعاة مصلحة الفريقين معا.
1 الورق هي الفضة.
أهم المسائل المتعلقة بتعريف اللقطة:
1-
لو مات الملتقط في أثناء السنة بنى مورثه على ما مضى، كما بحث الزركشي.
2-
ولو التقطها اثنان عرفها كل واحد نصف سنة، بأن يعرفها أحدهما يوما ثم الآخر يوما، ثم جمعة وجمعة ثم شهرا وشهرا؛ لأنها لقطة واحد والتعريف من كل منهما لكلها لا لنصفها؛ لأنها إنما تقسم بينهما عند التملك، وهذا هو الأشبه كما قاله السبكي، ولكن خالف في ذلك ابن الرفعة، فقال: يعرف كل واحد منهما سنة؛ لأنه ملتقط لنصفها، وهو كلقطة كاملة.
اللقطة التي يجب تعريفها:
إن كانت اللقطة مما لا يطلب كالثمرة، واللقمة لم تعرف لما روى أنس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تمرة في الطريق مطروحة، فقال:"لولا أن أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها".
وإن كانت مما يطلب إلا أنه قليل، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يعرف القليل والكثير سنة، وهو ظاهر النص لعموم الأخبار.
الثاني: لا يعرف الدينار، لما روى أن عليا كرم الله وجهه، وجد دينارا فعرفه ثلاثا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"كله أو شأنك به".
والثالث: يعرف ما يقطع في السارق، ولا يعرف ما دوته؛ لأنه تافه، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:"ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه".
هل التعريف واجب على التوالي، أم يكفي تعريف سنة متفرقة؟ فيه وجهان.
أحدهما: أنه واجب على التوالي فمتى بدأ فيه، فلا يجوز قطعة فإن قطعة استأنفه من جديد؛ لأنه إذا قطع لم يظهر أمر اللقطة، ولم يظهر طالبها.
والثاني: يجوز له قطع التعريف؛ لأن اسم السنة يقع عليها، ولهذا لو نذر صوم سنة جاز أن يصوم سنة متفرقة.
الأوقات والمواطن التي تعرف فيها اللقطة:
يجب أن يكون تعريف اللقطة في أوقات اجتماع الناس، كأوقات الصلوات وغيرها، وفي المواضع التي يجتمع الناس فيها كالأسواق، وأبواب المساجد عند خروج الناس من الجماعات؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك، ويكثر من التعريف في المواضع الذي وجدها فيه؛ لأن من ضاع منه شيء يطلبه في الموضع الذي ضاع فيه، وعلم من قوله: على أبواب المساجد أنه لا يعرف فيها لما روى جابر قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ينشد ضالة في المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا وجدت"، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم، قال له:"أنت الفاقد، وغيرك الواجد"، وذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكره أن ترفع فيه الأصوات.
فإن عرفها في المسجد، فيحرم التعريف إن شوش وإلا كره له ذلك، وبهذا يمكن الجمع بين قول من قال: إنه يكره التعريف في المساجد، وقول من قال بأنه يحرم التعريف فيها إلا أنه لا يكره أن يسأل بعض من فيها من غير صورة تعريف، وشملت المساجد مسجد المدينة الشريفة، والمسجد الأقصى.
وأما المسجد الحرام، فيجوز التعريف فيه؛ لأنه مجمع الناس بخلاف سائر المساجد وهذا أصح الوجهين، ومقتضاه التحريم في بقية المساجد إلا أن النووي في شرح المهذب نقل كراهة التعريف في المسجد الحرام.
مدة التعريف وكيفيته:
قلنا: إن الملتقط إذا أراد تملك اللقطة عرفها، ويكون التعريف على العادة زمانا ومكانا أي في الزمان، والمكان المعتاد للتعريفن فالزمان سنة من وقت التعريف، وليس من وقت الالتقاط، ولا يجب استعياب السنة بالتعريف، بل يعرف أولا كل يوم مرتين طرفي النهار لا ليلا، ولا وقت القيلولة، ثم يعرف بعد ذلك كل أسبوع مرة أو مرتين، وعلى كل حال فإن مراتب التعريف أربعة:
المرتبة الأولى: أن يعرف كل يوم مرتين طرفي النهار أسبوعًا.
المرتبة الثانية: أن يعرف كل يوم طرفة أسبوعيا أو أسبوعين.
المرتبة الثالثة: أن يعرف كل أسبوع مرة، أو مرتين إلى أن تتم سبعة أسابيع.
المرتبة الرابعة: أن يعرف كل شهر مرة أو مرتين إلى آخر السنة، وهذا هو المشهور.
وقيل: إنه يعرف كل مدة من هذه المدد ثلاثة أشهر، فيعرف كل يوم مرتين طرفيه ثلاثة أشهر، ثم يعرف كل يوم طرفه مرة ثلاثة أشهر، ثم يعرف كل أسبوع مرة ثلاثة أشهر، ثم كل شهر مرة ثلاثة أشهر، وهو ضعيف.
وقيل: أن ما ذكروه ليس متعينا، والضابط المعتمد أن يكون التعريف بحيث لا يكون التعريف الثاني تكرارًا للأول بأن ينسب بعض مرات التعريف إلى بعض.
وإنما جعل التعريف في الأزمنة الأولى أكثر، لأن تطلب المالك فيها أكثر، وإنما كان في كل يوم مرتين طرفي النهار؛ لأنهما وقت اجتماع الناس، ولذلك
قال: لا ليلا ولا وقت القيلولة؛ لأنهما ليسا من أوقات الاجتماع، بل من أوقات النوم والراحة غالبا.
وإذا كان التعريف متفرقا، فهل يكفي ذلك في التعريف؟ الأصح أن ذلك يكفي؛ لأنه عرف سنة وصحح هذا الرأي الإمام النووي في الروضة، وقيل: لا يكفي سنة مفرقة، كأن يعرف شهرا ويترك شهرا وهكذا؛ لأنه لا يظهر فيه فائدة التعريف، والأصح أنه لا تجب المبادرة في التعريف كما أفاده العطف، ثم حيث قال: ويعرف جنسها وصفتها، وقدرها وعفاصها ووكاءها، ثم يعرفها في الأشواق إلى آخره.
وكيفية التعريف أن يقول: من ضاع منه شيء أو من ضاع منه دنانير، ولا يزيد عليها؛ لأنه قد يعتمدها الكاتب فيدعيها، فإن ذكر النوع والقدر، والعفاص والوكاء ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأن مجرد ذكر الصفة لا يوجب الدفع.
والثاني: يضمن؛ لأنه لا يؤمن أن يحفظ ذلك رجل، ثم يرافعه إلى الحكم يوجب الدفع بذكر الصفة.
هل يلتزم الملتقط بمؤنة التعريف إن كان للتعريف مؤنة؟
الحكم في ذلك يتوقف على قصد الملتقط ونيته، فإن كان قد أخذ اللقطة لحفظها على مالكها، أو أطلق بأن لم يقصد حفظها، ولا تملكها فلا يلتزم بمئونة تعريفها، وهذا إذا قلنا بوجوب التعريف، وإنما كانت مؤنة التعريف على المالك دون الملتقط في هذه الصورة؛ لأن الحفظ للمالك.
وعلى القاضي أن يرتبها من بيت المال إن كان في بيت المال سعة، ويكون ما دفعه بيت المال قرضًا على صاحب اللقطة، وقيل: يتبرع بها بيت المال، فإن
لم يكن في بيت المال سعة أمر الحاكم الملتقط أن يقترض، وإذا أمره بالاقتراض، فلا فرق بين أن يكون من اللاقط أو غيره، وفي معنى ذلك أن يأمره بصرفها؛ ليرجع بها على المالك، أو يبيع جزءًا منها إن رأى في ذلك المصلحة للمالك، فإن كانت مؤنة التعريف بقدر قيمة اللقطة بيعت بنقد، ثم يحفظ النقد لعدم احتياجه إلى مؤنة، وبهذا قال ابن عبد السلام.
وعلى القول بعد وجوب التعريف عليه: إن عرفها فهو متبرع إن كان غير محجور عليه، فإن كان محجورًا عليه لصغر أو سفه، أو نحوهما فلا يجوز للولي أن يتبرع بها من مال المحجور عليه، بل يرفع الأمر إلى القاضي.
أما إن أخذها ليتملكها، أو يختص بها ولو بعد لقطها للحفظ، أو كان لقطها لها للخيانة، فمؤنة التعريف عليه ما لم يعدل إلى قصد الأمانة والحفظ، فإن عدل فلا مؤنة عليه، وهذا في غير المحجور عليه، أما المحجور عليه فلا مؤنة عليه في ماله بل يراجع وليه الحاكم ليبيع جزءا منها، أو يقترض عليه كما سبق.
وقيل: إن لم يتملك بالفعل بأن ظهر مالكها، فالمؤنة على المالك لعود فائدة التعريف إليه.
والمراد بالتملك عدم الأخذ للحفظ، فإن أخذها للحفظ فلا مؤنة عليه، وإن قد التملك، فمؤنة التعريف عليه سواء تملك بعد ذلك أو لا؛ لأن المدار على قصد التملك، وإن لم يتملك بالفعل.
الفرق بين اللقطة، وبين الضوال:
هناك فرق بين اللقطة والضوال لوجود اختلاف بينهما في الجنس والحكم، فالضوال تكون من الحيوان؛ لأنه يضل بنفسه، واللقطة في غير
الحيوان سميت بذلك لالتقاط واجدها لها.
وهذه اللقطة إن كانت مما لا يبقى كالطعام الرطب، أو ما لا يبقى كالشواء والطبيخ والخيار والبطيخ، فهو مخير بين أن يأكله ويغرم البدل، وبن أن يبيعه ويحفظ الثمن.
وخرج المزني قولا آخر: وهو أنه يلزمه البيع، ولا يجوز له الأكل والمذهب الأول؛ لأنه معرض للهلاك فخير بين البيع، والأكل وإن كانت مما لا يبقى، ولكن يمكن التوصل إلى حفظها كالرطب والعنب، فإن كان الأنفع لصاحبها أن تباع، بيعت، وإن كان الأنفع أن تجفف جففت، وإن احتاج إلى مؤنة في تجفيفه، ولم يوجد من يتطوع بها، باع بعضها وأنفق عليها.
وإن كانت اللقطة مما يبقى كالدراهم، والدنانير والثياب والحلي، والقماش، فهذه اللقطة هي التي تعرف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن لقطة الذهب، والرق، قال:"اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه.."1.
وإن وجد مالا مدفوعا، فضربان: جاهلي أو إسلامي، فإن كان إسلاميا، فلقطة أيضا وهي على ما ذكرنا، وإن كان جاهليا في ركاز يملكه واجده، وعليه إخراج خمسة في مصرف الزكوات لحديث:"وفي الركاز الخمس"2.
وإن كانت اللقطة بمكة، فمذهب الشافي رضي الله عنه أنه ليس
1 الحديث متفق عليه من طرق بألفاظ والسائل قيل: هو خالد الراوي، وقيل: بلال، وقيل: عمير والد مالك.. وقيل: سعيد الجهني والد عقبة "التلخيص ج3 ص73".
2 حديث: "وفي الركاز الخمس، وفي المعدن الصدقة"، لم أجده هكذا ولكن اتفقا على الجملة الأولى من حديث أبي هريرة، وله طرق "التلخيص الحبير" ج2 ص181، 182".
لواجدها أن يتملكها، وعليه أن أخذها أن يقيم على تعريفها أبدا بخلاف سائر البلاد.
وقال بعض أصحابنا: مكة وغيرها سواء في اللقطة استدلا لا بعموم الخبر، وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن أبي إبراهيم حرم مكة، فلا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد" 1، أي لمعرف يقيم على تعريفها ولا يتملكها؛ ولأن مكة لما باينت غيرها في تحريم صيدها، وشجرها تغليظا لحرمتها باينت غيرها في تلك اللقطة.
فأما عرفة ومصلى إبراهيم عليه السلام، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه من الحل فتحل لقطته قياسا على جميع الحل.
والثاني: أنه كالحرام لا تحل لقطته إلا لمنشد؛ لأن ذلك مجمع الحاج.
فروع:
الفرع الأول: إذا وجد شيئا لا قيمة له كزبيبة ونحوها فلا يعرف، ولواجده الاستبداد به، والتصرف فيه، وإن وجد شيئا له قيمة، وهو قليل: فالأصح أنه لا يعرف سنة، بل يعرف زمنا يظن أن فاقد يعرض عنه غالبًا.
وضابط القليل، ما يغلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه، ولا يطول طلبه له غالبا، فهذا لا يعرف بل ويستقل به واجده، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلا يعرف زبيبة فضربه بالدرة، وقال: إن من الورع ما يمقت الله عليه.
الفرع الثاني: إذا ضاعت اللقيطة من ملتقطها بغير تفريط، فلا
1 متفق عليه من حديث ابن عباس.. والمنشد كما قال الشافعي: هو الواجد، والناشد المالك أي لا تحل إلا لمعرف يعرفها ولا يتملكها "التلخيص الحبير ج3 ص76".
ضمان عليه؛ لأنها في يده فأشبهت الوديعة، فإن التقطها آخر فعرف أنها ضاعت من الأول، فعليه ردها إليه؛ لأنه قد ثبت له حق التملك، وولاية التعريف والحفظ، فلا يزول ذلك بالضياع، فإن لم يعلم الثاني بالحل حتى عرفها حولا ملكها؛ لأن سبب الملك وجد منه من غير عدوان.
فثبت الملك به كالأول، ولا يملك الأول انتزاعها؛ لأن الملك مقدم على حق التملك، وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني، وليس له مطالبة الأول؛ لأنه لم يفرط.
وإن علم الثاني بالأول فردها إليه، فأبى أن يأخذها بل قال: عرفها أنت فعرفها مكلها أيضا؛ لأن الأول ترك حقه فسقط، وإن قال: عرفها وتكون بيننا ففعل صح أيضا، وكانت بينهما؛ لأنه أسقط حقه من نصفها ووكله في الباقي، وإن قصد الثاني بالتعريف تملكها لنفسه دون الأول احتمل أن يملكها؛ لأن سبب الملك وجد منه، فملكها كما لو أذن له الأول في تعريفها لنفسه، واحتمل أن لا يملكها؛ لأن ولاية التعريف للأول أشبه ما لو غصبها من الملتقط غاصب فعرفها، وكذلك الحكم إذا علم الثاني بالأول، فعرفها ولم يعلمه بها، ويشبه هذا المحتجر في الموات إذا سبق غيره إلى ما حجره، فأحياه بغير إذنه فأما إذا غصبها غاصب من الملتقط، فعرفها لم يمكلها وجها واحدا؛ لأنه معتد بأخذها ولم يوجد منه سبب تملكها، فإن الالتقاط من جملة السبب، ولم يوجد منه، ويفارق هذا ما إذا التقطها ثان، فإنه وجد منه الالتقاط والتعريف.
الفرع الثالث: إذا أخذ الملتقط اللقطة بقصد الخيانة فيها صار ضامنا، فلو عرف اللقطة بعد ذلك، وأراد التملك بعده لم يكن له ذلك على المذهب،
ولو قصد الأمانة أولا، ثم قصد الخيانة ولم يعرفها، فالأصح أنه لا يصبر ضامنا بمجرد قصد الخيانة كالمودع.
الفرع الرابع: إذا التقطها اثنان فعرفاها حولا ملكاها جميعا، وإن قلنا بوقوف الملك على الاختيار، فاختار أحدهما دون الآخر، ملك المختار نصفها دون الآخر، وإن رأياها معا فبادر أحدهما وأخذها، أو رآها أحدهما،
فاعلم بها صاحبه، فأخذها فهي لآخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ لا بالرؤية كالاصطياد.
وإن قال أحدهما لصاحبه: هاتها فأخذها، نظرت، فإن أخذها لنفسه، فهي له دون الآخر، وإن أخذها للآمر فهي له كما لو وكله في الاصطياد له.
كيفية تملك اللقطة:
إذا عرف الملتقط اللقطة التعريف المعتد به سنة، أو دونها فيما يكفي فيه، ثم لم يجد صاحبها بعد تعريفها كان له أن يتملكها الضمان لها، ويكون التملك بلفظ يفيد أنه اختار تملكها من المالك، أو وليه أو وارثه لو مات، فيقول: تملكت اللقطة، وذلك إن كانت اللقطة مالا متمولا أي له قيمة مالية أما إن كانت من غير المتمول كالاختصاص، فيقول: نقلت الاختصاص إلى نفسي، وذلك لما روى زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها، فجعله إلى اختياره؛ ولأنها تملك ببدل فاعتبر فيها اختيار التملك كالتملك بشراء، ونحوه، وإذا تملكها الملتقط بعد التعريف، ولم يظهر لها مالك، فلا شيء عليه في انفاقها؛ لأنها من اكتسابه، ولا مطالبة عليه في الدار الآخرة إن كان قد عزم على ردها إن بان مالكها، فإن تملكها ولم يعزم على ردها طولب بها في الدار الآخرة.
الوجه الثاني: أن اللقطة تدخل في مكله بالتعريف لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن جاء صاحبها، وإلا فهي لك" 1؛ ولأنها كسب مال بفعل فلم يعتبر فيها اختيار التملك كالصيد.
وحكى فيه وجه آخر، وهو أنه تكفي نية التملك الحاضرة بعد التعريف وعند التملك، فلا تكفي النية عند الأخذ قطعا.
وقيل: إن اللقطة تملك بمضي السنة بعد التعريف، ويكتفي بقصده عند الأخذ التملك، وهذا الوجه لا يتأتى في صورة ما إذا التقط للحفظ دائما، وقلنا بوجوب التعريف عليه، وعرف سنة ثم بدا له التملك، وهذا ما صرح به الإمام الغزالي في البسيط، فإن لم يجب التعريف عليه فعرف ثم بدا له أن يتملك وقصده، فلا يعتد بهذا التعريف بل يلزمه فيهما استئناف سنة أخرى.
ومن هذا يعلم أن التعريف قد يمتد إلى سنتين، والذي يترجح في نظري عدم وجوب التعريف سنة أخرى، بل يتملك من أراد بعد التعريف الأول.
حكم دفع اللقطة لمن يدعيها: إذا جاء من يدعي اللقطة، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال: أن يدعيها بلا وصف ولا بينة، أو يكون بوصف أو يكون ببينة، وفيما يلي حكم كل حالة من هذه الأحوال الثلاثة.
1 رواه أحمد وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده "التلخيص الحبير ج3 ص76".
الحالة الأولى: إذا ادعاها بلا وصف ولا بينة، فلا يدفعها الملتقط بهذا المدعي إلا أن يعلم أنها له، فيلزمه دفعها له.
الحالة الثانية: أن يدعيها بالوصف، وفي هذه الحالة إن ظن اللاقط صدقة جاز دفعها له عملا بظنه، ولا يلزمه الدفع؛ لأنه مال للغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة، بل يسن له الدفع عملا بغالب ظنه.
الحالة الثالثة: أن تكون له بينة وقد دفعها لآخر بالوصف، فإن أقام البينة على أنها له قضى بالبينة، وحولت له عملا بالبينة؛ لأنها حجة توجب الدفع، فقدمت على الوصف.
وهذا إن كانت اللقطة باقية، فإن تلفت عند الواصف، فللمالك تضمين الملتقط أو الواصف، أما تضمين الملتقط؛ فلأنه دفع ماله للغير بغير حق، وأما تضمين الآخذ، فإنه أخذ ماله بغير حق.
فإن ضمن الآخذ لها بالوصف لم يرجع على الملتقط؛ لأن الضمان إن كان مستحقا عليه، فقد دفع ما وجب عليه، فلا يكون له حق الرجوع، وإن كان مظلوما، فكيف يرجع على غير من ظلمه؟
وإن ضمن الملتقط، فإما أن يكون قد أقر للآخذ بالملك أولا.
فإن كان الملتقط لم يقر له بالملك رجع على الآخذ بما عرفه بأن قال له: يغلب على ظني الرجوع، وإن كان قد أقر له بالملك بأن قال للآخذ: هي لك لم يرجع عليه مؤاخذة له.
كيفية رد اللقطة عند ظهور المالك: إذا ظهر المالك، فإما أن تكون اللقطة باقية بعينها دون زيادة، أو نقصان وإما أن تكون تالفة، وإما أن يتفقا على رد عينها أو بدلها، وإما أن يختلفا.
فإذا كانت اللقطة باقية بحالها بلا زيادة ولا نقصان، ولم يتعلق بها حق يمنع بيعها وتفقا على رد عينها، أو بدلها فالأمر ظاهر جلي؛ لأنه رد ما اتفقا عليه فإذا رد البدل تمثل ذلك في رد المثلي إن كان مثليا، أو القيمة في المتقوم بزيادتها المتصلة، وكذا المنفصلة كالحمل الحادث بشرط أن تكون حدثت قبل التملك؛ لأنها تابعة للقطة، وهي باقية على ملكه.
مؤنة الرد:
ومؤنة الرد إن كانت له مؤنة على المالك إن كان الرد قبل التملك، وعلى الملتقط إن كان بعده:
وإن تنازعا في أداء عينها، أو بدلها بأن يكون المالك قد طلب عينها، وأراد الملتقط العدول إلى بدلها، أجيب المالك في الأصح؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، فلا يجبر على قبول البدل وهو المعتمد.
وإن تلفت اللقطة بعد تملكها، تعين البدل وكذلك يتعين البدل إن كانت باقية بحالها، ولكن تعلق بها حق يمنع بيعها كرهن مثلا، أما إن كان الملتقط قد باعها بشرط الخيار له أو لهما، ثم ظهر المالك قبل انقضاء مدة الخيار انفسخ العقد من تلقاء نفسه، وإن لم يفسخه وفي حالة تلفها، أو تعلق حق بها يمنع بيعها، فيغرم الملتقط مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها إن كانت متقومة يوم التملك لها؛ لأنه وقت دخولها في ضمانه.
ولكن متى يكون ضامنًا؟
أما من حيث الضمان في حالة التلف، فإن كان التلف قبل التملك، فلا ضمان عليه إذا كان تلفها من غير تفريط؛ لأنه يحفظها لمالكها، فإن كان التلف بعد التملك وجب عليه بدلها، فيكون عليه الضمان في مثلها إن كانت
مثلية أو قيمتها إن كانت متقومة.
وقال الكرابيسي: لا يلزمه ردها ولا ضمان بدلها؛ لأنه مال لا يعرف له مالك، فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدله كالركاز.
والراجح الأول، وهو أنه يلزمه الضمان لما روى أبو سعيد الخدري "أن عليا كرم الله وجهه، وجد دينارا فجاء صاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أده، قال علي: قد أكلته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا جاءنا شيء أديناه".
ولأن البدل يخالف الركاز، فإن الركاز مال لكافر لا حرمة له، وهذا مال مسلم ولهذا لا يلزمه تعريف الركاز، ويلزمه تعريف اللقطة.
نقصان اللقطة بعيب: وإن نقصت بعيب حادث بعد التملك، فللمالك أخذها مع الأرش1 في الأصح؛ لأن الكل مضمون فكذلك البعض، فيضمن الملتقط الأرش كما يضمنها كلها بالتلف، وللمالك العدول إلى بدلها سليمة، ولو أراد اللاقط الرد بالأرش، وأراد المالك العدول إلى البدل أجيب اللاقط.
أنواع اللقطة: اللقطة أنواع؛ لأنها إما أن تكون حيوانا أو غيره، فإن كانت حيوانا غير آدمي، فإما أن توجد في صحراء أو عمران، وإن كانت غير حيوان. فإما أن تكون مأكولة أو غير مأكولة، وهذه هي الأنواع الأربعة:
النوع الأول: لقطة الحيوان في الصحراء:
فإن وجد في صحراء، فهو على ضربين:
الأول: أن يكون مما يمتنع بنفسه، بأن كان مما يصل إلى الماء
1 الأرش: قيمة نقصان العين، أو هو الفرق بين قيمة الشيء سليما، ومعيبا "المصباح ج1 ص18".
والرعي بنفسه، ويدفع عن نفسه صغار السباع إما لقوة جسمه كالإبل، والبقر والخيل والحمير، وإما لبعد أثره كالغزال والأرنب والطير، فهذه الأنواع لا يجوز لواجدها أن يتعرض لأخذها إذا لم يعرف مالكها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الإبل:"مالك ولها معها حذاؤها"، أي خفها الذي يقيها العثرات، وتعتمد عليه في السعي إلى المرعى بدون أن يتجشم أحد تقديم الطعام إليها، ومعها سقاؤها إشارة إلى طول عنقها، فتمد عنقها إلى الماء، فلا يحتاج إلى من يقدمه لها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها"؛ ولأنها تحفظ أنفسها، فلم يكن لصاحبها حظ من أخذها، فإن أخذها لم يخل ذلك من أحد أمرين:
الأمر الأول: أن يأخذها لقطة ليتملكها إن لم يأت صاحبها، فهذا متعد وعليه ضمانها، فإن أرسلها لم يسقط الضمان، أما إذا لم يرسلها ودفعها إلى مالكها سقط عنه ضمانها بأدائها إلى مستحقها، فإن دفعها إلى الحاكم ففي سقوط الضمان وجهان:
الأول: يسقط؛ لأن الحاكم نائب عمن غاب.
الثاني: لا يسقط؛ لأنها قد تكون لحاضر لا ولاية للحاكم عليه.
الأمر الثاني: أن لا يأخذها لقطة بل يأخذها حفظا لها على مالكها، فإن كان عارفا لمالكها لم يضمن ويده أمانة حتى تصل إلى المالك، وإن كان غير عارف للمالك، ففي وجوب الضمان وجهان:
الأول: لا يضمن الحيوان الملتقط ليرده على مالكه عند التعرف عليه؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى.
الوجه الثاني: عليه الضمان؛ لأنه لا ولاية له على غائب، إلا إذا كان
واليا كالإمام أو الحاكم فلا ضمان عليه، فقد روى أن عمر رضي الله عنه كانت له حظيرة يحظر فيها ضوال المسلمين.
الضرب الثاني:
أن يكون الحيوان لا يدفع عن نفسه، ويعجز عن الوصول إلى الماء، والرعي كالغنم والدجاج، فهذا له أن يأخذه، ويأكله في الحال من غير تعريف، غنيا كان أو فقيرا وعليه غرمه لمالكه إذا وجد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة.
وقال مالك وداود: هو غير مضمون عليه، فله أن يأكله أكل إباحة ولا غرم عليه في استهلاكه، استدلالًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"هي لك أو لأخيك، أو للذئب"، ومعلوم أن ما استهلكه الذئب هدر لا يضمن.
والأول هو الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"؛ ولأنها لقطة يلزمه ردها مع بقائها، فوجب أن يلزمه غرمها عند استهلاكها قياسا على اللقطة في الأموال؛ ولأنها ضالة فوجب أن تضمن بالاستهلاك كالإبل ونحوها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "هي لك أو لأخيك، أو للذئب"، فلا دليل فيه على سقوط الضمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نبه بذلك على إباحة الأخذ، وجواز الأكل دون الغرم.
وإذا ثبت جواز أخذ الشاة، وما لا يدفع عن نفسه مع إباحة أكله، ووجوب غرمه، فيجوز له أخذ صغار الإبل والبقر؛ لأنها لا تمنع عن أنفسها كالغنم.
النوع الثاني: أن توجد لقطة الحيوان في العمران، قرية أو بلد أو مصر، أو موضع قريب منها، وفي ذلك خلاف بين الأصحاب على قولين:
الأول: وهو حكاية عن الشافعي في الأم أنه إذا وجدها في البلد، أو
المصر، فهي لقطة له أخذها، وعليه تعريفها حولا إن كانت من الغنم، ولا يتعرض للإبل، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"ضالة المؤمن حرق النار".
القول الثاني: أنها لقطة فيأخذ الغنم، والإبل جميعا، ويعرفها كسائر اللقطة حولا كاملا؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الإبل:"معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء، وتأكل الشجر"، يختص بالبادية التي يكون فيها الماء، والشجر دون المصر، وهي تمنع صغار السباع عن أنفسها في البادية، ولا يقدر على منع الناس في المصر، والشاة تؤكل في البادية؛ لأن الذئب يأكلها، وهو لا يأكلها في المصر، فاختلف معناهما في البادية والمصر، فكان اختلاف حكمهما تبعا لذلك.
وفرق الأول بأنه إنما منع التقاط الحيوان الممتنع في الصحراء دون البلد، أو المصر بأنه في العمران يضيع بامتداد اليد الخائنة إليه بخلاف المفازة، فإن طروق الناس بها لا يعم.
ويتفرع على ذلك أنه لو وجد الحيوان الممتنع زمن نهب، وفساد جاز التقاطه للتملك قطعا في المفازة، والعمران على حد سواء.
النوع الثالث: لقطة ما لا يؤكل كالنقود ونحوها، فهذا الذي تقدم من اشتراط التعريف عند تملكها.
النوع الرابع: أن تكون اللقطة مما يؤكل، وهذه لها أحوال:
الأول: أن تكون مما يفسد في الحال كالأطعمة والشواء، والبطيخ والرطب الذي لا يتتمر والبقول، فالواجد فيها بالخيار بين أن يأكلها ويغرم قيمتها، وبين أن يبيع ويأخذ الثمن، وهذا هو الصحيح، فإن أكل غرم قيمتها وعرف اللقطة سنة، ثم يتصرف فيها؛ لأن القيمة قائمة مقام اللقطة، ولو لم
بقدر على البيع فلا خلاف في جواز الأكل، وهل يجب إفراز القيمة؟ فيه خلاف.
والأظهر كما قال الرافعي: لا يجب؛ لأن ما في الذمة لا يخشى هلاكه، فإذا أفرز صار أمانة في يده.
الثانية: أن تكون اللقطة مما لا يفسد، وقبل العلاج كالرطب الذي يتتمر، والعنب الذي يكون زبيبا، واللبن الذي يصنع من الجبن ونحوها، روعيى في ذلك مصلحة المالك، فإن كانت المصلحة في البيع باعه، وإن كان في التجفيف جففه، ثم إن تبرع الواجد بتجفيفه فذاك، وإلا باع بعضه وأنفقه عليه؛ لأنه المصلحة في حق المالك، وهذا بخلاف الحيوان حيث يباع كله؛ لأن النفقه في الحيوان تتكرر، فتؤدي إلى أن تأكل اللقطة نفسها.
خصال اللقطة:
1-
لقطة الحيوان إن أخذها من مفازة، وهي الصحراء، فيتخير الملتقط بين خصال ثلاثة في غير الممتنع، وهي:
الأولى: أن يعرفها، ثم يتملكها بعد التعريف.
الثانية: أن يبيع اللقطة بشرط الرجوع إلى الحاكم إن وجد، فإن لم يوجد باعها بنفسه، ويحفظ ثمنها، ويعرف اللقطة المبيعة دون الثمن، فإذا لم يظهر مالك اللقطة تملك الثمن.
الثالثة: أن يأكلها إن رغب في أكلها، ويغرم القيمة إن ظهر مالكها، وهذا مجمع عليه، فإن امتنع من الأكل حتى حضر به من الصحراء إلى العمران امتنع تملكها قبل التعريف.
وجوز الماوردي فيه خصلة رابعة وهي، أن يمتلك حالا، ويبقيه حيا
لينتفع بدره أو نسله.
ولكن أي الخصال أولى؟ أما بالنسبة لأن الخصال أولى، فإن الخصلة الأولى أولى من الثانية، والثانية أولى من الثالثة لما فيها من تعجيل الاستباحة قبل التعريف.
ثانيا: لقطة الحيوان إن أخذها من العمران فله فيها خصلتان: الأولى والثانية دون الثالثة، وهو الأظهر.
وقيل: له الخصلة الثالثة في العمران كالمفازة، وهذا الرأي مدفوع بأنه قد لا يجد فيها من يشتري اللقطة بخلاف العمران، ويشق النقل إليه.
هذا إن استوت الخصال في الأحظية، أو عدمها وإلا وجب فعل الأحظ للمالك.
فروع على ما سبق:
الفرع الأول: إذا كان الحيوان الملتقط غير مأكول كالجحش، ففيه الخصلة الأولى والثانية، ولا يجوز تملكه في الحال في الأصح، وإذا أمسك الملتقط الحيوان، وتبرع بالإنفاق عليه فذاك، وإن أراد الرجوع، فلا ينفق إلا بإذن الحاكم، فإن لم يجده أشهد، فإذا لم يشهد فلا يرجع بالنفقة على المالك، وإن نوى الرجوع عليه إلا إذا فقد الشهود، فله أن يرجع إذا نواه.
الفرع الثاني: يجوز التقاط السنابل للتملك إن أعرض مالكها عنها، أو علم رضاه ولو كانت في مال زكوي، فلا زكاة على المالك فيها؛ لأنها لما كانت في محل الإعراض من المالك جعلت كذلك من المستحقين تبعا.
الفرع الثاني: لقطة غير الحيوان: فإن كانت طعاما يسرع فساده كهريسة، ورطب لا يتتمر فله فيه خصلتان:
الأولى: بيعه استقلالا إن لم يجد حاكما، وبإذنه وجده وجوبا إن لم يخف منه عليه وإلا استقل، ثم يعرفه بعد بيعه ليتملك ثمنه بعد التعريف، فإن التعبير بثم يقتضي تأخر التملك عن التعريف.
الخصلة الثانية: تملكه في الحال وأكله، وغرم قيمته مطلقا أي سواء وجده في مفازة، أو عمران وسواء أكان في زمن أمن أم غيره.
وقيل: إن وجده في عمران وجب البيع، وامتنع الأكل.
وينبغي أن يلاحظ أن التعريف بعد الأكل يكون واجبا في العمران، دون المفازة؛ لأنه في المفازة لا فائدة فيه غالبا.
الفرع الرابع: إذا كانت اللقطة مما يمكن بقاؤه بعلاج كرطب يتجفف، فإن كانت الغبطة في بيعه باعه، أو في تجفيفه جففه أو استوى الأمران، وتبرع الواجد به جففه، وإلا بيع بعضه لتجفيف الباقي حفظا له بخلاف الحيوان حيث يجوز بيع كله؛ لأن النفقه تأكله.
والمراد بالعمران، الشارع والمسجد؛ لأنهما من الموات محال اللقطة، ويفهم مما سبق أن الالتقاط إن كان من مضيعة، فهو بالخيار بين الخصال الثلاث التي ذكرناها، والأولى أن يمسكها ويعرفها، ثم يليها البيع والحفظ، وخصلة الأكل متأخرة في الفضيلة، ولقائل أن يقول:فيما يمكن تجفيفه أنه يجب مراعاة لمصلحة المالك، فهلا كان هنا كذلك؟
وإن كان الالتقاط في العمران تخير بين خصلتين فقط على الصحيح، وهما: الإمساك والبيع، ولا يأكل لإمكان البيع.
ضمان اللقطة:
عرفنا أن أخذ اللقطة إما أن يأخذها للحفظ أو للتملك، فإن أخذها
للحفظ أبدا، فهي أمانة فهي يده وزوائدها من نحو در ونسل أمانة أيضا، ويجري فيها ما في أصلها من تجفيف ما يسرع فساده وغير ذلك، فلا يضمنها وإذا كانت اللقطة إن أخذها للحفظ أمانة، فإنها لا تضمن إلا بالتقصير أو التعدي، فإن دفعها إلى القاضي لزمه القبول سواء أكان قد أخذها للحفظ، أم للتملك، وأما تعريفها إن أخذها للحفظ أبدا، فلا يجب عليه؛ لأن التعريف إنما يجب لتحقيق شرط التملك، وهذا عند أكثر الفقهاء.
وقال بعضهم: يجب التعريف ولو كان للحفظ أبدا، وهذا ما صححه الإمام الغزالي؛ لئلا يكون كتمانًا مفوتا للحق على صاحبه، قال في الروضة: وهذا أقوى وهو المختار.
وقال في شرح مسلم: إنه الأصح.
ومن ذلك يعلم أن التعريف في الأخذ للتملك واجب قطعًا، ويكون واجبا أيضا إن أخذ لا بقصد شيء، أو بقصد شيء ونسيه، أو بقصد واحد لا بعينه، ففي هذه الصور كلها يلزمه التعريف.
فلو أخذها للحفظ أبدا، ثم قصد بعد ذلك خيانة لم يصر ضامنا بمجرد القصد في الأصح، فإن فعل صار ضامنًا بلا خلاف، بشرط أن يعلم ذلك القصد منه يقينا، ولم ينسه وإلا فلا ضمان، وإذا أخذ اللقطة خيانة، فليس له أن يعرف، ويتملك على المذهب ما دام مصرا عليه بل، ويأخذها الحاكم منه قهرا عليه، فلو عاد إلى الأمانة، ولو بعد أخذ الحاكم أو الخيانة فيها بالفعل ليعرف، ويتملك جاز ويخرج عن الضمان خلافا لبعضهم، كما لو سلمها للحاكم.
والتعريف الممنوع على من أخذ للخيانة ما كان لأجل أن يتملك، فإن كان لأجل أن يعرف صاحبها؛ ليدفعها له فلا مانع.
وإن أخذها ليعرف، ويتملك بعد التعريف، فإن تملكها فهو ضامن، فإن
دفعها إلى القاضي سقط عنه الضمان.
والدفع إلى القاضي الذي يبرأ به محله في قاض أمين، وإلا فلا يسقط الضمان بالدفع إلى القاضي، ولا يلزم القاضي غير الأمين القبول.
ولو وجد لقطة في بيته، فعليه التعريف لمن يدخله.
من يحل له أكل اللقطة:
قال الشافعي رضي الله عنه: ويأكل اللقطة الغني والفقير، ومن تحل له الصدقة، وتحرم عليه وذلك بعد تعريفها حولا، والدليل عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها"، وهو يقتضي التسوية بين الغني والفقير.
وقال أبو حنيفة: يجوز له ذلك إن كان فقيرا، ولا يجوز إن كان غنيا أن يتملكها، ويكون مخيرا بين أمرين، إما أن تكون في يده أمانة لصاحبها أبدا كالوديعة، وإما أن يتصدق بها، فإن جاء صاحبها، وأمضى صدقته فله ثوابها، ولا غرم على الواجد، وإن لم يمض الصدقة فثوابها للواجد، وعليه غرمها استدلالًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها".
والأول هو الصحيح، فقد ثبت أن أبي بن كعب وجد صرة فيها ثمانون دينارا، أو مائة دينار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها حولا، ثم قال له:"فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها".
وهذا دليل على أن الغني والفقير في ذلك سواء، فإن أبي بن كعب من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم، ولو لم يكن موسرا لصار بعشرين دينار منها موسرا على قول أبي حنيفة، فدل على أن الفقر غير معتبر فيها، وأن الغني لا يمنع منها.
وروي عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب، وجد دينارا، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يعرف به ثلاثا، فعرفه فلم يجد من يعرفه، فرجع به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:"كله" حتى إذا أكله جاء صاحب الدينار يتعرفه، فقال علي رضي الله عنه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكله، فانطلق صاحب الدينار، وكان يهوديا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي:"إذا جاءنا شيء أديناه إليك".
والإمام علي رضي الله عنه ممن يحرم عليهم الصدقة؛ لأنه من بني هاشم، فلو كانت اللقيطة تستباح بالفقر دون الغنى لحظرها عليه.
هل الذمي ممنوع من جواز أخذ اللقطة لتعريفها، وتملكها؟ المذهب أنه لا فرق بين المسلم والذمي في أخذها للتعريف، والتملك بعد الحول؛ لأنها كسب يستوي فيه المسلم والذمي.
وقال بعض الأصحاب: إن الذمي لا حق له فيها، وهو ممنوع من أخذها وتملكها؛ لأنه ليس من أهل التعريف لعدم ولايته على المسلم، ولا ممن يملك مرافق دار الإسلام كإحياء الموات.
وقال أحمد: يصح للذمي أخذ اللقطة مع عدم الأمانة، فإذا التقطها الذمي، وعرفها حولا ملكها كالمسلم، وإن علمها الحاكم أو السلطان أقرها في يده، وضم إليه مشرفا عدلا يشرف عليه ويعرفها، قالوا: لأننا لا نأمن الكافر على تعريفها، ولا نأمنه أن يخل في التعريف بشيء من الواجب عليه فيه، ويحتمل عندهم أن تنزع من يد الذمي، وتوضع في يد عدل؛ لأنه غير مأمون عليها.