المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الوقف وما يتعلق به من أحكام - فقه المعاملات

[عبد العزيز محمد عزام]

الفصل: ‌ الوقف وما يتعلق به من أحكام

الفصل السابع:‌

‌ الوقف وما يتعلق به من أحكام

.

تعريف الوقف لغةً وشرعًا:

الوقف لغةً: الحبس ويرادفه التحبيس والتسبيل، فيقال: وقفت كذا: حبسته ولا يقال: أوقفته إلا في لغة رديئة، وهو عكس حبس فإن الفصيح أحبس، وأما حبس فلغة رديئة، وجمعه وقوف وأوقاف.

وشرعًا: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود.

ومن هذا التعريف يظهر أن المال الذي يصح وقفه يشترط فيه أن يكون عينًا معينة مملوكة، وليس المراد بالمال عين الدراهم والدنانير؛ لأنها تنعدم بصرفها، فلا يبقى لها عين، ولا وجود وشرط المال الموقوف بقاء عينه مع الانتفاع به، فإذا كان الانتفاع به يؤدي إلى ذهاب عينه كالطعام، فلا يصح وقفه؛ لأن الوقف للدوام والاستمرار أبدًا، وهذه العين التي يصح وقفها، إذا وقفها فقد انقطع التصرف في رقبتها، فلا تباع ولا ترهن.

وقوله: "على مصرف مباح موجود" يخرج به منقطع الأول، وذلك كقوله: وقفت أموالي على من سيولد لي ثم الفقراء، فلا يصح هذا الوقف؛ لأن الدرجة الأولى باطلة، وما بعدها فرعها، فأشبه ذلك تسيب السوائب التي هي أوقاف الجاهلية.

أدلة مشروعية الوقف وحكمه:

الوقف مشروع بالكتاب والسنة.

ص: 208

أما الكتاب، فقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} 1، فإن أبا طلحة لما سمعها رغب في وقف ببرحاء أحب أمواله إليه، وبرحاء بفتح الباء وكسرها اسم لماء، أو موضع بالمدينة، وقال الزمخشري في الفائق: إن برحاء على وزن فعلاء من البراح، وهي الأرض الظاهرة، وقال الشوبري: هي حديقة مشهورة وتبعه الأجهوري.

وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} 2.

وأما السنة، فقوله صلى الله عليه وسلم في خبر مسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"3.

والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف، فإن غيره من الصدقات ليست جارية، بل يملك المتصدق عليها أعيانها، ومنافعها ناجزا وأما الوصية بالمنفعة، وإن شملها الحديث فهي نادرة، فحمل الصدقة في الحديث على الوقف أولى.

وقد ذكر الشيخ البجيرمي في حاشيته أنه لا مانع من حمل الصدقة الجارية على بقية العشرة التي ذكروا أنها لا تنقطع بموت ابن آدم، وقد نظمها الجلال السيوطي بقوله:

إذا مات ابن آدم ليس يجري

عليه من خصال غير عشر

علوم بثها ودعاء نجل

وغرس النخل والصدقات تجري

وراثة مصحف ورباط ثغر

وحفر البئر أو إجراء نهر

وبيت الغريب بناء يأوي

إليه أو بناء محل ذكر

وتعليم لقرآن كريم

فخذها من أحاديث بحصر

1 من الآية "92" من سورة آل عمران.

2 من الآية "272" من سورة البقرة.

3 رواه ابن ماجه وابن حبان من طريق أبي قتادة ك "خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده""التلخيص الحبير ج3 ص68".

ص: 209

وأما حكمه فهو من الأمور المندوب إليها، والمندوب هو ما يدعى إليه شرعًا للتقرب إلى الله تعالى من فعل الخير من غير وجوب.

وقد ثبت أن رسول الله قد حث أصحابه على الوقف وندبهم إليه، ورغبهم في الخير والبر المعروف، ومن ذلك ما ورد في الصحيحين أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يتقرب بها إلى الله تعالى، فقال له النبي:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت"، وفي رواية أنه قال له:"احبس الأصل وسبل الثمرة"1.

والحبس ضد الإطلاق والتخلية أي جعل الأصل محبوسا، فلا يباع ولا يوهب وسبل الثمرة معناه أن يجعل لها سبيلا أي طريقا لمصرفها، وذلك؛ لأن السبيل هو الطريق.

وقد استجاب عمر رضي الله عنه إلى ما ندبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصدق بها عمر على ألا يباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث قال جابر رضي الله عنه: وما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف.

أركان الوقف:

للوقف أركان أربعة وهي: واقف، وموقوف، وموقوف عليه، وصيغة.

الركن الأول: الواقف: ويشترط فيه أن يكون أهلًا للتبرع بأن يكون بالغا عاقلا مختارا، فمن كان مستوفيا لهذه الشوط صح وقفه، ولو كان كافرا وإنما يصح وقف الكافر؛ لأن الوقف ليس قربة محضة أي خالصة بخلاف

1 وراه الشافعي في القديم عن رجل عن ابن عوف بن نافع، وهو متفق عليه من حديث، وله طريق غيره "التلخيص الحبير ج3 ص67".

ص: 210

النذر، فلا يصح من الكافر؛ لأنه مما يتقرب به إلى الله تعالى.

فلا يصح وقف الصبي أو المجنون، أو المجور عليه بسفه أو فلس، ولو بمباشرة الولي، ولا يصح من مكره؛ لأنه في حالة الإكراه ليس صحيح العبارة، ولا أهلا للتبرع بسبب الإكراه.

والمراد بهذا الشرط أن يكون الواقف أهلًا للتبرع حال الحياة.

ولهذا فإن السفيه لا يصح وقفه وتصح وصيته؛ لأنه أهل للتبرع بعد الموت، فلو قال: وقفت داري على الفقراء بعد موتي صح الوقف؛ لأنه وقف في صورة وصية، والوصية تصح منه؛ لأنها لا تنفذ إلا بعد الموت.

الركن الثاني: الموقوف: ويشترط فيه أن يكون عينا معينة مملوكة ملكا يقبل النقل، وتفيد دون فواتها نفعا مباحا مقصودا.

فخرج بالعين المنفعة والوقف الملتزم في الذمة إذ لا يصح إلا وقف الأعيان، ولو مغصوبة أو غير مرئية؛ لأن العين المغصوبة مملوكا له كما يصح وقف الأعمى؛ لأنه لا يشترط في صحة الوقف رؤية العين الموقوفة.

وخرج بالمملوكة ما لا يملك كالأموال المباحة، ومنها القناطر والمدارس، وشواطيء الأنهار والبحار.

ومع هذا فيصح للإمام وقف شيء من أرض بيت المال على جهة من الجهات، أو شخص عين من الأشخاص. بشروط ظهور المصلحة في ذلك إذ تصرفه منوط بها كولي اليتيم، فلو رأى الإمام تمليك ذلك لهم جاز.

وخرج بقبول النقل ما لا يجوز، ولا يصح نقله من المنافع وذلك كمنفعة لا تجوز شرعا كآلة اللهو؛ لأن آلة اللهو منفعتها محرمة، ومن ثم فلا تملك.

وخرج بقوله: وتفيد دون فواتها نفعا مباحا مقصودا ما يصح الانتفاع به مع ذهاب عينه كالطعام، فإن منفعة الطعام في استهلاكه ويشترط النفع في

ص: 211

العين الموقوفة ولو كان في المال كمن وقف دارا صالحة للسكن، وكمن أجر أرضا ثم وقفها، وهذه حيلة لمن يريده إبقاءه منفعة الشيء الموقوف لنفسه مدة بعد وقفه.

وضابط المنفعة المقصودة أن كل ما يصح استئجاره على شرط ثبوت حق الملك في الرقبة يصح وقفه.

بعض المسائل المتفرعة على هذا الركن:

1-

لا يصح وقف كل ذي ريح طيب كالورود، والرياحين، وذلك إذا كان غير منزرع، فإن كان مزروعا صح وقفه للشم لبقائه مدة سواء ما تؤخذ ثمرته، أو جزه مرة واحدة أو مرة بعد مرة، وكذلك يصح وقف المشموم الدائم المنافع كالعنبر والمسك، فإن كان الانتفاع به يؤدي إلى استهلاكه كالبخور، فلا يصح وقفه وإلحاق العود بالعنبر محمول على عود ينتفع به.

2-

ولا يصح وقف المنافع كالعين المستأجرة؛ لأن المنفعة ليست بعين؛ لأن الوقف يستدعي أصلًا تستحق منفعته على الدوام، وكذلك لا يصح وقف العين الموصي له بمنفعتها لما ذكرناه.

3-

ولا يصح وقف المشاع إن جهل قدر حصته أو صفته؛ لأن عمر وقف مائة سهم من خبير مشاعا، ولو كان المشاع الموقوف مسجدا وجب قسمته من غيره، وهذه الصورة مستثناه من منع قسمة الوقف المطلق للضرورة، ولا فرق بين أن يكون الموقوف مسجدًا هو الأقل أو الأكثر.

4-

ويصح وقف العقار بالإجماع، وهو ما يقابل المنقول، فيشمل الأرض والبناء كما يصح وقف المنقول للخبر الصحيح فيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما خالد فأنتم تظلمون خالدا"، فإنه احتبس أدراعه واعتده"1 والعتاد"

1 حديث: "وأما خالد فإنه قد احتبس أدرعه، واعتده في سبيل الله" متفق عليه من حديث أبي هريرة "التلخيص ج3 ص68".

ص: 212

عدة المحارب من سلاح وغيرهن واتفقت الأمة في جميع الأعصار على وقف الحصر والقناديل، والزلالي للمساجد من غير نكير، والزلالي نوع من السجاد.

أما لو كان له بناء، أو غرس في أرض مستأجرة أو مستعارة، أو موصى له بمنفعتها فوقف البناء، أو الغراس الذي له على ملك الأرض، فالأصح جوازه سواء أكان الوقف قبل انقضاء المدة أم بعدها، أو بعد رجوع المعير؛ لأن كلا منهما مملوك يمكن الانتفاع به في الجملة مع بقاء عينه، ويكفي دوام الوقف إلى القلع مدة الإجارة، أو رجوع المعير ومقابل الأصح المنع؛ لأنه معرض للقطع، فكأنه وقف ما لا ينتفع به.

ويجاب عن ذلك بأنه يكفي دوامه إلى القلع بعد مدة الإجارة، فلو قلع ذلك وبقي منتفعًا به فهو وقف كما كان، وإن لم يبق فهو ملك الموقوف عليه في وجه.

والوجه الآخر يرجع للواقف والأصح الأول، وقال الأسنوي: الصحيح غيرهما وهو شراء عقار أو جزء من عقار، وقال الأذرعي: الأقرب أن يقال: بأن يباع ويشترى بثمنه من جنسه ما يوقف مكانه إن أمكن ذلك، فإن لم يمكن رجع البناء أو الغراس إلى الموقوف عليه، أو الواقف.

5-

يصح وقف المنقولات في الأرض المغصوبة خلافا للسبكي، وابن الرفعة كالخزائن والموضوعة في المساجد، ولو بغير حق لإمكان الانتفاع بها خارج الأرض المذكورة، وبذلك فارقت البناء حيث إنه لا يصح وقفه في الأرض المغصوبة، وأيضا لا يصح وقف ما في سواحل الأنهار؛ لأنها غير مملوكة والوقف يشترط فيه أن يكون مملوكا.

ص: 213

الركن الثالث: الموقوف عليه:

وينقسم إلى قسمين: معين وغير معين:

القسم الأول: أن يكون الموقوف عليه معينًا: بأن كان واحدا أو اثنين أو جمعا معينا، ويشترط فيه إمكان تملكه في حال الوقف عليه بأن يوجد في الخارج متأهلا للملك؛ لأن الوقف تمليك المنفعة، فلا يصح الوقف على معدوم كما لو وقف على مسجد سيبني، أو على ولده ولا ولد له، أو على فقراء أولاده، وليس فيهم فقير، فإن كان في أولاده فقير وغني صح الوقف، ويعطى منه أيضا من افتقر منهم بعد ذلك، أو وقف على القراءة، على رأس قبره أو قبر أبيه الحي فلا يصح الوقف لانتفاء شرط وجود الموقوف عليه في الخارج حين الوقف، وهو أهل للتملك.

أهم الصور المتعلقة بهذا الشرط:

1-

الوقف على الجنين: لا يصح الوقف على الجنين؛ لأن الوقف تمليك في الحال والجنين لا يصح تملكه سواء أكان مقصودا أم تابعا، حتى لو كان له أولاد ولو جنين عند الوقف لم يدخل في الحال إذ لا يسمى ولدا، وإنما يدخل معهم إذا انفصل ما لم يكن الواقف قد سمى الموجودين، أو ذكر عددهم فلا يدخل كما قاله الأذرعي.

وإذا كان الوقف على الجنين لا يصح لعدم صحة تملكه، فلا يصح على الميت من باب أولى؛ لأنه لا يملك.

2-

الوقف على البهيمة: أما الوقف على البهيمة فهو غير صحيح،

ص: 214

فلو أطلق الوقف على بهيمة لغا الوقف لاستحالة ملكها، وقد يقال: إن الوقف على البهيمة يكون وقفا على مالكها، وهذا القول غير صحيح؛ لأن البهيمة مملوكه، فكيف تكون أهلًا للتملك؟

وخرج بالبهيمة المملوكة غيرها: كالتي ترابط في سبيل الله في الثغور ونحوها، فيصح الوقف على علفها.

3-

الوقف على الطيور والوحوش المباحة: أما المباح من الطيور والوحوش، فلا يصح الوقف عليه جزما، ويستثنى من ذلك حمام مكة، فيصح الوقف عليه.

4-

وقف الشخص على نفسه: لا يصح وقف الشخص على نفسه لتعذر تمليك الإنسان ملكه لنفسه؛ لأنه حاصل وتحصيل الحاصل محال، وفي قول يصح ذلك؛ لأن استحقاق الشيء وقفا غير استحقاقه ملكًا، وعلى القول بعدم الصحة، فإنه لوقف على الفقراء وشرط أن يأخذ معهم ربع الوقف، فلا يصح لفساد الشرط، وقول عثمان رضي الله عنه في وقفه بئر رومة: دلوي فيها كدلاء المسلمين ليس على سبيل الشرط، بل إخبار بأن للواقف أن ينتفع بوقفه العام كالصلاة بمسجد وقفه، فإن وقف على نفسه، وحكم به حكم حاكم نفذ حكمه ولم ينقض؛ لأنها مسألة اجتهادية.

يستثنى من صحة الوقف على النفس صور نذكر منها ما يلي:

1-

أما لو وقف على العلماء، وكان متصفا بصفتهم بأن كان واحدا منهم أو إذا وقف على الفقراء ثم افتقر، أو إذا وقف على المسلمين كتبا للقراءة ونحوها، أو قدرا للطبخ فيه أو كيزانا للشرب بها، ونحو ذلك، فيجوز له الانتفاع بالوقف في هذه الأمور كلها؛ لأنه لم يقصد نفسه بالوقف

ص: 215

وإنما جماعة موصوفة بصفة معينة، فيدخل مع هذه الجماعة إن كان واحدا منها.

2-

ومنها ما لو شرط النظر لنفسه بأحرة المثل؛ لأن استحقاقه لها من جهة الوقف، فإن شرط النظر بأكثر من أجرة المثل لم يصح الوقف؛ لأنه وقف على نفسه من الوقف بمقدار ما زاد عن أجرة المثل.

3-

ومنها أن يؤجر ملكه مدة يظن أن لا يعيش فوقها منجمة، ثم يقفه بعدها فإنه يصح الوقف ويتصرف هو في الأجرة، وله أن يستأجره بعد الوقف من المستأجر لينفرد باليد، ويأمن خطر الدين على المستأجر، وهذا هو الأحوط.

4-

ومنها أن يرفع الوقف الذي وقفه على نفسه إلى حاكم يرى صحته، فإنه يصح ولا ينقض حكمه.

5-

ومنها أن يقف وقفا ليحج عنه منه، فإنه يصح وليس هذا من وقف الشخص على نفسه؛ لأنه لا يملك شيئا من غلته، فإن ارتد لم يجز صرفه في الحج، وإنما يصرف إلى الفقراء، فإن عاد إلى الإسلام أعيد الوقف إلى الحج عنه، أما لو وقف على الجهاد وارتد الواقف، فالوقف صحيح؛ لأن الجهاد يصح عن المرتد بخلاف الحج.

القسم الثاني: أن يكون الموقوف عليه غير معين: بأن كان جهة من جهات البر، كالوقف على طلبة العلم أو الفقراء، أو عمارة المساجد والمستشفيات، فإن وقف مسلم أو ذمي على جهة معصية كعمارة الكنائس، ونحوها من متعبدات الكفار أو فرشها وقناديلها، أو خدامها أو كتب التوارة والإنجيل، أو السلاح لقطاع الطريق، فالوقف في هذه الصور كلها باطل؛ لأنه

ص: 216

إعانة على معصية والوقف مشرع للتقرب فهما متضادان سواء في ذلك إنشاء الكنائس، أو ترميمها لاتفاقهم على أن الوقف على الكنائس باطل، وإن كانت قديمة قبل البعثة.

ومع القول بالبطلان، فلو وقف الذمي على الكنائس، فليس لنا أن نتعرض لهم أو نبطل شيئا وقفوه على هذه الجهة؛ لأننا لا نمنعهم من إظهار شعائرهم الدينية، فإن ترافعوا إلينا أبطلناه، وإن أنفده حاكمهم وهذا بالنسبة للوقف على الكنائس المستجدة.

أما ما وقفوه على كنائسهم القديمة قبل البعثة، فلا نبطله وإن ترافعوا إلينا بل نقره حيث إننا نقرها، وهذا بالنسبة لكنائس العبادة وعمارتها.

أما عمارة الكنائس التي تعد لنزول المارة، فيصح الوقف عليها، وكذلك الموقوفة على قوم يسكنونها، ولو من أهل الذمة؛ لأنه يصح وقف المسلم على الذمي كما يجوز التصدق عليه سواء كان معينا واحدا، أو متعددا إلا إذا ظهر في تعيينه قصد معصية كالواقف على خادم كنيسة للتعبد، ففي هذه الحالة يلغو الوقف كما لوقف على ترميمها، أو وقودها أو فرشها.

الركن الرابع: الصيغة:

ويشرتط فيها أن تكون بلفظ يشعر بالمراد من قادر على النطق به وذلك؛ لأن الملك في الوقف يتوقف انتقاله للموقوف عليه على القبول.

فإن بنى مسجدا في ملكه وصلى فيه، أو أذن للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفا بهذا الفعل بلا لا بد من لفظ الوقف، أو ما اشتق منه بأن يقول: وقفت هذا البناء ليكون مسجدا للصلاة، وأداء الشعائر الدينية لله تعالى؛ لأن الوقف إزالة ملك على وجه القربة، فلم يصح من غير لفظ مع القدرة عليه.

ص: 217

وفي معنى اللفظ إشارة الأخرس المفهمة وكتابته بل وكتابة القادر على النطق مع نيته، أما إذا قال بعد أن انتهى من بنائه: أذنت في الاعتكاف فيه، فإنه يصير بذلك مسجدا؛ لأن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد بخلاف الصلاة، أما إذا كان هذا البناء في موات، ونوى أن يكون مسجدا، فإنه يصير مسجدا دون حاجة إلى لفظ الوقف؛ لأن الفعل مع النية مغنيان هنا عن القول، ومن أخذ من الناس أموالًا ليبني بها نحو مدرسة، أو رباط أو بئر، فحكمه حكم من بنى في موات.

والفرق بينهما أن الموات لم يدخل في ملك من أحياه مسجدا، فلم يحتج إلى اللفظ وإنما احتيج إلى اللفظ لإخراج ما كان ملكه، ودخل في ملكه.

وينقسم لفظ الوقف إلى صريح وكناية:

فاللفظ الصريح، ما كان بلفظ الوقف، وما اشتق منه فالأول كأن يقول: وقفت هذا العقار على الفقراء، أو لينفق منه على المجاهدين، أو على فرش المساجد والثاني أن يقول: أرضي موقوفة على العلماء أو على طلبة العلم، فإن لم يذكر الموقوف عليه في صيغة الوقف لم يصح الوقف.

وإنما كان لفظ الوقف، وما اشتق منه من الألفاظ الصريحة لاشتهاره في الوقف لغة وعرفا، ولا فرق بين الفعل وما اشتق منه في ذلك.

وأما التحبيس والتسهيل، فالأصح أنهما صريحان وكذلك ما اشتق منهما لتكررهما شرعا، واشتهارهما عرفا في الوقف، فثبت لهما عرف الشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه:"احبس الأصل وسبل الثمرة".

ومقابل الأصح أنهما من ألفاظ الكناية؛ لأنهما لم يشتهوا اشتهار الوقف.

والثالث: أن التسبيل فقط كناية؛ لأنه من السبيل وهو مبهم.

ص: 218

وأما الوقف بلفظ الكناية، فهو أن يكون الوقف بلفظ يحتمل الوقف وغيره كلفظ الصدقة؛ لأنه مشترك بين الوقف والصدقة، فإذا كان الوقف لفظ الكناية، فلا يصح به إلا إذا اقترنت به نية الواقف، ويقترن مع لفظ الصدقة لفظ من الألفاظ الخمسة، وهي وقفت وحبست وأسبلت وحرمت وأبدت، فيقول: تصدقت به صدقة موقوفة أو محبوسة، أو مسبلة أو مؤبدة، أو محرمة على كذا، أو يقترن بها حكم الوقف، أن يقول: تصدقت بها صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث.

وعلى ذلك فإن الوقف بلفظ الكناية يلزم لصحة الواقف به، إما نية الواقف أو لفظ من الألفاظ الخمسة المشار إليها أو حكم الوقف، واللفظ الصريح لا يحتاج إلى شيء من ذلك، ولكن هل يشترط القبول في الوقف؟ الأصح أنه يشترط قبول الموقوف عليه إن كان أهلًا للقبول بأن كان الواقف على معين واحدا أو أكثر في الأصح، فإن لم يكن أهلا لذلك بأن كان صبيا أو مجنونا، أو معتوها أو سفيها فيشترط قبول وليه، ويكون القبول على الفور عقب الإيجاب إن كان الموقوف عليه حاضرا، فإن كان غائبا فلا يلزم أن يكون عقب الإيجاب بل يصح من الغائب متى علم، ولو متراخيًا وإن طال الزمن، وإنما اشترط القبول؛ لأن دخول عين أو منفعة في ملكه قهرا عنه لا يكون إلا في الإرث، فكان الوقف أشبه بالبيع.

ومن لا ولي له خاص فوليه القاضي، فيقبل له عند بلوغ الغير أو يقيم على الصبي من يقبل له، ولو وقف على جمع، فقبل بعضهم دون البعض بطل فيما من لم يقبل عملا بتفريق الصفقة، وهذا هو المعتمد الذي صححه الإمام وأتباعه.

ومقابل الأصح: لا يشترط القبول في الوقف؛ لأنه أشبه بالقربات منه

ص: 219

العقود، وهذا ظاهر نصوص الشافعي في غير موضع، واختاره جمع منهم الماوردي، والمصنف في الروضة والأول هو المعتمد.

والذي يتحصل من كلام الشافعي والأصحاب أنه لا يشترط قبول البطن الثاني والثالث، وإن شرطنا قبول البطن الأول بل الشرط عدم الرفض، وإن كان الأصح أنهم يتلقون الوقف من الواقف، فإن ردوا فمنقطع الوسط، فإن رد الأول بطل الوقف، ولو رجع من رد لم يعد له الوقف، ومن قال بأنه يعود له إن رجع قبل حكم الحاكم به لغيره، فمردود وعلم منه أنه لورد بعد قبوله لم يؤثر.

أما الوقف على جهة عامة، وهي ما عدا المعين، وإن انحصرت كالوقف على الفقراء، أو على المسجد والرباط، فلا يشترط فيه القبول جزمًا ولم ينب الإمام عن المسلمين فيه بخلافه في نحو القود؛ لأن هذا لا بد له من مباشر.

ومن الوقف على جهة عامة الوقف على سبيل البر، أو الخيرات أو الثواب ويصرف لأقرباء الواقف، ثم لأهل الزكاة ثم للعاملين والمؤلفة قلوبهم، وفي سبيل الله، ويصرفه للغزاة الذين هم أهل الزكاة، فإن جمع هذا مع واحد مما قبله صرف ثلثه لأقاربه، وثلثه للغزاة، وثلثه لباقي أهل الزكاة غير العاملين والمؤلفة.

ومنها الوقف على أكفان الموتى، أو تجهيزهم أو المغسلين لهم، أو الحفارين لقبورهم قال ابن الرفعة: ولا يصرف إلا لمن يجب ذلك في ماله، أو ماله من يجب عليه نفقته.

ومنها الوقف على الأواني لمن تنكسر منه، وعلى الفقهاء وهم من حصل من علم الفقه ما يهتدي به إلى باقية، وإن قل وعلى المتفقهين، وهم المشتغلون بالفقه، ولو المبتدئين.

ص: 220

شروط الوقف:

يشترط في الوقف أربعة شروط، وهي: التأبيد والتنجيز، وبيان المصرف والإلزام.

الشرط الأول: التأبيد ويتحقق ذلك بأحد وجهين: أحدهما أن يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين، وطلاب العلم.

الوجه الثاني: أن يقف على من ينقرض، ثم من بعده على من لا ينقرض. كالوقف على رجل بعينه، ثم على الفقراء أو يقف على هذا الرجل بعينه، ثم على عقبه ثم على الفقراء، فمثل هذا الوقف يسمى منقطع الابتداء متصل الانتهاء، أما إذا وقف وقفا منقطع الابتداء والانتهاء كالوقف على ولده، وليس له ولد، فالوقف باطل؛ لأن الولد الذي لم يخلق لا يملك، فلا يفيد الوقف عليه شيئا، وكذلك يكون الوقف باطلًا إذا كان متصل الابتداء منقطع الانتهاء كالوقف على رجل بعينه، ولم يزد عليه أو على رجل بعينه، ثم على عقبه ولم يزد عليه، وإنما كان الوقف باطلا؛ لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه، وقيل: إنه يصح ويصرفه بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحمله فيما سماه على ما شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤيد ويقدم المسمى على غيره، فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب، وهذا هو الراجح.

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة وذو رحم محتاج"، وروى سليمان بن عامر:"صدقتك على المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة" 1: والأرجح أنه يختص به الفقراء من الأقرباء؛ لأنه مصرف الصدقات وهي لا تكون إلا لفقير محتاج، وقيل: يشترك فيه الفقراء والأغنياء؛ لأن الغنى

1 الحديث مروي عن سلمان بن عامر الضبي يرفعه قال: الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة" "سنن الدارمي ج1 ص397".

ص: 221

والفقير في الوقف سواء.

أهم الفروع المتعلقة بشرط التأبيد:

الفرع الأول: لو قال: وقفت هذا على زيد سنة فباطل؛ لأن شأن الوقف التأبيد، ومحل البطلان إذا لم يعقب التوقيت بمصرف أخر غير مؤقت كما لو وقفه على زيد سنة ثم على الفقراء، فلا شك أن الوقف صحيح، وإذا قال: جعلت هذا سنة صح الوقف ولغا ذكر السنة، ويكون مؤيدا.

الفرع الثاني: إذا وقف على زيد ونسله، فمات زيد وانقطع نسله، فهل يبقى الوقف أو يرتفع؟ الأظهر أن يبقى صحيحا؛ لأن وضع الوقف على الدوام.

ومقابل الأظهر يرتفع الوقف، ويعود ملكا للواقف أو وراثه إن مات، وإذا قلنا بصحة الوقف بعد انقراض من ذكرهم الواقف، فالأظهر أن يصرف لأقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض الموقوف عليه المذكورين؛ لأن الصدقة على الأقارب من أفضل القربات لقوله صلى الله عليه وسلم:"صدقتك على الغير صدقة، وعلى رحمك صدقة وصلة" 1، فكان صرف الوقف على الأقرب لما فيه من صلة الرحم، ويختص بفقراء قرابة الرحم لا الإرض، فيقدم ابن البنت على ابن العم.

فإن قيل: الزكاة وسائر المصارف الواجبة عليه شرعا لا يتعين صرفها، ولا الصرف منها إلى الأقارب، فهلا كان الوقف كذلك؟

أجيب بأن الأقارب مما حث الشارع عليهم في تحبيس الوقف لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "أرى أن تجعلها في الأقربين"، فجعلها في أقاربه وبني عمه.

وأيضا فإن الزكاة ونحوها من المصارف الواجبة لها مصرف متعين

1 روى هذا الحديث عن سلمان بن عامر الضبي بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة" سنن الدارمي ج1 ص397.

ص: 222

فلم تتعين الأقارب، وهنا ليس معنا مصرف متعين والصرف إلى الأقارب أفضل فعيناه.

وقيل: يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن الوقف يؤول إليهم في الانتهاء.

وعلى القول الأول الذي يرى صرف الوقف إلى أقارب الواقف، فإنهم إذا انقرضوا بحيث لم يكن له أقارب صرف الإمام ريعه إلى المصالح العامة للمسلمين، وقيل: يصرف للفقراء والمساكين، ولا يختص بفقراء بلد الواقف أو الوقف بخلاف الزكاة.

الفرع الثالث: لو كان الوقف منقطع الابتداء متصل الانتهاء كأن قال: وقفت على من سيولد لي، ثم الفقراء أو مسجد سيبنى، ثم على طلبة العلم، فالمذهب بطلان هذا الوقف؛ لأن الأول باطل لعدم إمكان الصرف إليه في الحال فكذا ما ترتب عليه.

والطريق الثاني: صحة الوقف ويصرف في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف على ما تقدم بيانه، وقيل: يصرف إلى ما بعد الأول.

فمثلا إذا قال: وقفت هذا العقار على ولدي، ثم على الفقراء ولا ولد له، فيصرف على القول بالصحة في الحال إلى الفقراء، وذكر الأول لغو.

أما إذا كان الوقف منقطع الوسط كما لو قال: وقفت هذا على أولادي، ثم رجل ثم الفقراء، فالمذهب صحته لوجود المصرف في الحال والمآل، وبه يعلم أنه لا يضر، تردد الواقف في صفة أو شرط، أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعيينه إذ لا يتحقق الانقطاع إلا مع الإبهام من كل وجه يكون مصرفه عند الانقطاع، كمصرف منقطع الآخر، لكن محله أن عرف أمد انقطاعه بأن

ص: 223

يقول: وقفت على أولادي ثم على بهيمة زيد ثم على الفقراء، فإن لم يعرف كرجل لا يعرفه الواقف صرف بعد موت الأول لمن بعد التوسط، وهم الفقراء.

والمراد بالتردد الذي لا يضر هو التردد في عبارة الوقف بأن كانت عبارته مترددة بين أمرين، وهناك من القرائن ما يدل على إرادته لأحدهما، وليس المراد تردده في الوقف نفسه؛ لأنه مانع من صحته.

والشرط الثاني: أن يكون الوقف منجزا، فلا يصح تعليقه على شيء كوقفت ضيعتي هذه على زيد إذا جاء رأس الشهر؛ لأنه عقد يقتضي نقل الملك في الحال، فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والهبة، وهذا إذا كان الوقف ليس قربة ظاهرة كالوقف على شخص معين، فإن كان قربة ظاهرة كتحرير الرقاب أو بناء المساجد وغيرها من جهات البر التي ينفك عن اختصاص الآدميين، فالظاهر صحته وعلى كل، فإن الوقف لا يصح تعليقه إلا في ثلاثة أمور:

1-

إذا كان الوقف فيه قربة ظاهرة كجعلت هذا المبنى مسجدا إذا جاء رمضان.

2-

إذا علق الوقف على الموت كوقفت داري على الفقراء بعد موتي.

3-

إذا جعل إرثه وصية فيصح، وإن كان نفاذ الوصية بعد الموت لكن يكون حكمه حكم الوصايا في اعتباره من الثلث، وفي جواز الرجوع عنه، وفي عدم صرفه للوارث، ويكون حكم الأوقاف في تأبيده، وعدم بيعه وهبته، وإرثه بعد موت الواقف.

الشرط الثالث: بيان المصرف فلو اقتصر على ذكر الموقوف دون الموقوف عليه، فالأظهر بطلانه لعدم ذكر مصرفه، وإن أضافه لله كقوله:

ص: 224

وقفت داري لله، أو فيما شاء وهذا هو المعتمد.

ولا يقال إنه: لو قال: أوصيت بثلث مالي ولم يذكر مصرفا أنه يصح، ويصرف للمساكين، أفلا يكون هنا كذلك؟

أجيب بأن غالب الوصايا للمساكين مبنية على المساهلة، فتصح بالمجهول والنجس بخلاف الوقف.

الشرط الرابع: الإلزام: فلو وقف شيئًا من أملاكه على الفقراء، واشترط لنفسه الخيار في إبقاء الوقف، أو الرجوع فيه متى شاء أو شرط الخيار لغيره، أو شرط عوده إليه بوجه من الوجوه كأن شرط أن يبيعه، أو شرط أن يدخل من شاء، ويخرج من شاء بطل الوقف على الصحيح، وإن أضافه لله تعالى على المعتمد كقوله: وقفته لله أو فيما شاء الله بخلاف الوصية والصدقة؛ لأن موضعهما الفقراء، وإن قال: وقفته على من شئت أو فيما شئت، فإن عينه قبل ذلك صح وإلا فلا.

وقيل: إن الوقف يصح ويلغو الشرط كما لو طلق على أن لا رجعة له، ومن ذلك ما روي أن رجلا وقف شيئا، وشرط أن يكون لورثته بعد موته، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم شرطه فقط.

شروط الواقف:

يلزم اتباع شروط الواقف ما لم تكن الضرورة، فإن كان هناك ضرورة، فلا يتبع شرطه، ومن ذلك ما لو شرط أن لا يؤجر الدار الموقوفة أكثر من ثلاث سنوات، ولم يوجد من يستأجرها إلا بأكثر من ذلك، فتجوز الزيادة للضرورة.

شرط الواقف إذا كان الموقوف عقارًا: فلو شرط الواقف أن لا تؤجر

ص: 225

الدار أكثر من سنة، ثم انهدمت وليس هناك مورد لعمارة هذا الدار إلا بأن يؤجرها لمدة طويلة حتى يمكن عمارتها، ففي هذه الحالة يجوز إجارتها بعقود مستأنفة، وإن شرط الواقف أن لا تستأنف؛ لأن المنع في هذه الحالة يقتضي تعطيل العمارة لهذه الدار، وهو مخالف لمصلحة الوقف، وإنما جاز بعقود مستأنفة، ولم يجز بعقد واحد للمدة كلها؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.

أما إذا لم تكن ضرورة وشرط الواقف أن يؤجر الواقف أكثر من ثلاث سنين، فأجره الناظر ست سنين، فإن كان في عقد واحد لم يصح في شيء لمخالفته لشرط الواقف لا؛ لأن ذلك مبني على تفريق الصفقة، إذ أن تفريق الصفقة غير جائز.

وإذا أجر ثلاث سنين قبل انقضاء الأولى لم يصح العقد الثاني، وإنما أبطلناه في الثاني دون الأول لانفراده.

وخلاصة القول: أنه يجوز إبطال شرط الواقف في حالات الضرورة، فإذا لم يوجد إلا من يرغب في إجارة الوقف إلا على وجه مخالف لما شرطه الواقف، فهي صحيحة؛ لأن الظاهر أنه لا يريد تعطيل وقفه.

وقيل: إن مثل هذا الشرط لا يتبع؛ لأنه شرط فيه حجر على من يستحق المنفعة والقياس فساد الوقف به، فيلغو الشرط في هذه الحالة.

شرط الواقف إذا كان الوقف مسجدًا: إذا شرط الواقف في وقف المسجد اختصاصه بطائفة كالشافعية اتبع شرطه، وكان المسجد مختصا بهم، فلا يصلي ولا يعتكف فيه غيرهم رعاية لغرضه، ومثل ذلك المدرسة والرباط إذا شرط في وقفهما اختصاصهما بطائفة معينة اختص بهم، ومعنى اختصاص المسجد بالطائفة الموقوف عليها أنه يمنع غيرهم من دخول المسجد

ص: 226

والجلوس فيه أو الصلاة أو الاعتكاف، فإن دخلوه حرم عليهم ذلك رعاية لغرض الواقف، وإن كان ذلك الشرط مكروهًا.

والثاني: لا يختص المسجد بهم ويلغو الشرط؛ لأن جعل البقعة مسجدًا يجعلها غير مختصة بطائفة معينة، ومن ثم فلا يكون هناك معنى لاختصاص المسجد بجماعة.

ويمكن أن يقال: إن كان المسجد موقوفا على أشخاص معينة كزيد وعمرو وبكر وذريتهم جاز الدخول بإذنهم، وإن كان المسجد موقوفا على طائفة معينة كالشافعية، أو الحنفية أو الصوفية لم يجز لغير هذه الطائفة الدخول، ولو أذن لهم الموقوف عليهم، فإن صرح الواقف بمنع دخول غيرهم لم يطرقه غيرهم ألبتة، وإذا قلنا بجواز الدخول بالإذن في القسم الأول في المسجد والمدرسة، والرباط كان لهم الانتفاع على نحو ما شرطه الواقف للمعينين؛ لأنهم تبع لهم وهم مقيدون بما شرطه الواقف.

شرط الواقف إذا كان الوقف مقبرة:

وإذا كان الوقف مقبرة، وخصها الواقف بطائفة، فإنها تختص بهم؛ لأن النفع هنا عائد إليهم بخلافه، ثم فإن صلاتهم في ذلك المسجد كفعلها في مسجد آخر.

وعليه فلو دفن بها غير من اختصت به، فقياس من يرى نبش المغصوب لإخراج من دفن به أنه هنا كذلك.

ولكن إذا اعتاد أهل بلد دفنا بمحل، فلا يمتنع على غير أهله الدفن فيه؛ لأنه لم يسبق له اختصاص بمالك أزال ملكه عنه، ومجرد العادة اقتضت جواز الإقدام على الدفن فقط من غير ثبوت الاختصاص الذي يمنع غيرهم من الدفن فيه.

ص: 227

أهم الفروع المتعلقة بشرط الواقف:

الفرع الأول: لو وقف عقارًا على شخصين معينين كزيد وبكر ثم الفقراء، فمات أحدهما فإن نصيبه يصرف إلى الآخر؛ لأن شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا، ولم يوجد وإذا امتنع الصرف إليهم، فالصرف إلى من ذكره الواقف أولى وهذا هو الأصح.

والثاني: يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا.

ومحل الخلاف إذا لم يفصل الواقف، فإن فصل بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا الوقف، فإن قال ذلك فهما وقفان، فلا يكون نصيب الميت منهما للآخر بل الأقرب انتقاله للفقراء إلا إذا قال: ثم من بعدهما على الفقراء فالأقرب انتقاله للأقرب إلى الواقف إذا مات أحدهما؛ لأنه لا ينتقل إلى الفقراء إلا بعد موتهما.

الفرع الثاني: أنه إذا لم يذكر من يصرف له بعدهما، ثم مات أحدهما، فالأوجه أن يصرف نصيبه للآخر، ولا يصرف لأقرباء الواقف، ولو رد الوقف أحدهما أو بأن ميتا، فالقياس على الأصح صرفه للآخر.

الفرع الثالث: أنه لو وقف على زيد، ثم عمرو ثم بكر ثم الفقراء، فمات عمرو قبل زيد ثم مات زيد، فلا شيء لبكر وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء؛ لأنه رتبه بعد عمرو، وعمرو بموته أولا لم يستحق شيئا، فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئًا، وبهذا قال الماوردي والروياني، وقال القاضي: الأظهر أنه يصرف إلى بكر؛ لأن استحقاق الفقراء مشروط بانقراضه، وهذا هو الراجح.

ص: 228

أحكام الوقف اللفظية.

الأحكام اللفظية للوقف، هي الأحكام المتعلقة بمدلول لفظ الواقف، وعبارته وذلك؛ لأن الأصل أن شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف، أو كانت هناك ضرورة تقضي بالخروج على شرط الواقف، فإذا تلفظ الواقف في صيغة الوقف بحرف عطف يقتضي تشريكا كالواو، أو ترتيبا مثل ثم عمل به، كأن قال: وقفت أملاكي في مدينة طنطا على أولادي، وأولاد أولادي، فذلك يقتضي التسوية في أصل الإعطاء، وقدر العطية بين جميع أفراد الأولاد وأولادهم من الذكور والإناث؛ لأن الواو لمطلق الجمع كما هو الصحيح عند الأصوليين، ونقل عن إجماع النحاة، ومن جعلها للترتيب كما حكاه الماوردي في باب الوضوء عن أكثر الأصحاب، فذلك يقتضي تقديم الأولاد عملًا بالترتيب المستفاد من الواو، فلو قال: ومن مات منهم فنصيبه لولده، فمات أحدهم اختص ولده بنصيبه، وشارك الباقين فيما عداه.

أما ولو قال: وقفت هذا العقار على أولادي، ثم أولاد أولادي ما تناسلوا أو قال: وقفته على أولادي وأولادي الأعلى، فالأعلى أو الأقرب فالأقرب، فهو للترتيب لدلاته ثم عليه في الأولى، ولتصريحه به في الثانية؛ لأن ما تناسلوا يقتضي التعميم بالصفة المتقدمة، ومن ثم فيمتنع الصرف لبطن، وهناك أحد من بطن أقرب منه كما صرح به البغوي، وغيره.

ولكن هل يدخل أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد الأصح أن أولاد الأولاد لا يدخلون -إذ يصح أن يقال في ولد الوالد لشخص ليس ولده، ومقابل الأصح يدخلون حملا على الحقيقة، والمجاز والثالث: تدخل أولاد البنين لانتسابهم إليه دون أولاد البنات.

ص: 229

والمراد بالأولاد الجنس، فيشمل الولد الواحد، فيستحق الكل فلو حدث له ولد بعده شاركه ولا يدخل الحمل؛ لأنه لا يسمى ولدا إلا إذا لم يكن له ولد فيستحق الوقف، وهو جنين حذرًا من إلغاء الوقف.

أما أولاد البنات، فلا يدخلون مع أولاد الأولاد إلا إذا قال: وقفت هذا على ذريتي أو على نسلي، أو على عقبي لصدق اللفظ بهم، والعقب هو ولد الرجل الذي يبقى بعده.

أما دخول البنات في الذرية، فلقوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} 1 إلى أن ذكر عيسى، وليس هو إلا لبنت والنسل والعقب في معنى الذرية، بل يدخل الحمل في ذلك أيضا، وفي الوقف على البنين والبنات يدخل الخنثى إذ هو لا يخرج عن أحدهما، ويعطى القدر المتيقن عند المفاضلة بين الذكر والأنثى، ويوقف الباقي إلى أن تظهر حقيقة أمره.

فإن قيد أولاده بالهاشميين لم تدخل البنات إلا إذا كان أبوهم هاشميًّا، أو قال: وقفت هذا على من ينتسب إلى من أولاد أولادي، فإن أولاد البناء لا يدخلون مع أولاد البنين في الوقف نظرا إن كان هذا القيد معتبرا شرعا بأن يكون الواقف ذكرا، فإن كان أنثى دخلوا بجعل الانتساب لغويا؛ لأن النسب إن كان شرعيا، فلا انتساب للأنثى أصلا، وإن كان لغويا، فالكل ينسبون إليها بمعنى أن كلا من أولادها ينسب إليها، فليس لها لها فرع إلا وينسب إليها بهذا المعنى.

وإنما لم تدخل أولاد البنات إن قال: وقفت على من ينسب إلي من الأولاد؛ لأنهم ينسبون إلى أبائهم لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} 2، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حق الحسن بن علي:"إن ابني هذا سيد"، فجوا به إن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام.

1 من الآية "84" من سورة الأنعام.

2 من الآية "5" من سورة الأحزاب.

ص: 230

الصفة والاستثناء في الوقف.

ومرادنا بالصفة هنا ما يفيد قيدًا في غيره، فلا يتوهم أنها الصفة النحوية، وحكم هذه الصفة أنها إذا تقدمت على جمل، أو مفردات معطوفة اعتبرت تلك الصفة في الكل من تلك الجمل، أو المفردات إذا كانت تلك الجمل، أو المفردات قد عطف بعضها على بعض بحرف يدل على الاشتراك كالواو، بشرط أن لا يتخلل المتعاطفات كلام طويل.

وذلك؛ لأن الأصل اشتراك هذه المتعاطفات في جميع المتعلقات سواء تقدمت الصفة، أو الاستثناء عليها أو تأخرا أو توسطا، ومثال ذلك أن يقول شخص: وقفت هذا على محتاجي أولادي، وأحفادي وإخواتي، أو على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين، أو على أولادي وأحفادي، وإخوتي إلا من يفسق منهم.

والأحفاد هم أولاد الأولاد، والمحتاج من يجوز له أخذ الزكاة كما أفتى به القفال، فإن عطف ما ذكر من المتعاطفات بثم، أو فرق بينهما بكلام طويل اختصت الصفة بالجملة الأخيرة، والمذهب صحة العود إلى الجميع، وإن كان العاطف بثم، فلا يتقيد بالواو فقط بل بوجود عاطف جامع بالواوا والفاء، أو ثم وهذا هو المعتمد.

وما سبق ذكر فهو في عطف المفردات، وأما عطف الجمل فهو أن يقول: وقفت هذا الوقف على أولادي، وحبسبت على أقاربي ضيعتي، وسلبت على خدمي بيتي المحتاجين، أو إلا أن يفسوق أحد منهم إلا أن الأسنوي استبعد رجوع الصفة للكل؛ لأن كل جملة مستقلة بصيغة خاصة بها.

ص: 231

أحكام الوقف المعنوية:

ونعني بها ثبوت الملك في ذات الموقوف وفي منافعه أما ذات الملك، فهو لله تعالى فإن كل الموجودات بأسرها ملك له في جميع الحالات بطريق الحقيقة، وإن سمي غيره مالكا، فإنما هو بطريق التوسع والمجاز بمعنى ثبوت الاختصاص له. وبناء عليه، فإنه إذا انفك الملك عن اختصاص الآدمي، فلا يكون للواقف أو للموقوف عليه، وهذا هو الأظهر، وفي قول: لا ينتقل عن الواقف وبه قال الإمام مالك، وحجة هذا الرأي أن الواقف حبس الأصل، وسبل الثمرة، وذلك لا يوجب زوال ملكه بدليل اتباع شرطه.

والقول الثالث: أن المالك ينتقل إلى الموقوف عليه، ووجهه أن الوقف ملحق بالصدقة، وبه قال الإمام أحمد، فإن قيل: إن الوقف يثبت بشاهد ويمين، وحقوق الله لا تثبت إلا بشاهدين: أجيب بأن المقصود بثبوت الوقف هو حق الانتفاع بالوقف، فيجوز ثبوته بشاهد ويمين، فيكون محل الخلاف فيما يقصد به تملك ريعه، أما الوقف ذاته فهو كالمسجد والمقبرة وكذا الربط1، والمدارس فالملك فيها لله تعالى باتفاق2.

وخلاصة القول: أن ذات الوقف مملوكة لله تعالى والمنافع مملوكة للآدمي، ولكن من يستحق المنافع في الموقوف؟

أما منافع الموقوف، فهي ملك الموقوف عليه؛ لأن ذلك مقصودة، فليس للواقف انتفاع بدليل أن الموقوف عليه يجب عليه زكاة العين الموقوفة، وهذا يقطع بأنه ليس للواقف أي حق في الموقوف لكن يستثنى المسجد، والبئر

1 نهاية المحتاج للرملي "ج5 ص389".

2 الرباط ما يربط به القربة وغيرها والجمع ربط، والرباط اسم من رابط مرابطة إذا لزم ثغر العدو والرباط الذي يبنى للفقراء "المصباح المنير ج1 ص256".

ص: 232

والمقبرة إذا وقف شيء من ذلك، فيكون للواقف فيها ما للغير كما أن له أن يتصرف في فوائد الموقوف الحادثة بعد الوقف تصرف الملاك في أملاكهم، فيستوفي منافع الموقوف بنفسه وبغيره بإعارة، وإجارة إن كان ناظرا، وإن لم يكن ناظرا امتنع ذلك عليه، لتعلقه بالناظر أو نائبه كسائر الأملاك.

أما الولد فيملكه الموقوف عليه في الأصح عند الإطلاق، أو عند شرط الولد له، وقيل: يكون وقفا تبعا لأمه.

أما إذا كانت أمه حاملا به حين الوقف، فولدها وقف قولا واحدا إن قلنا: للحمل حكم المعلوم بناء على أنه يعلم، وهو الأصح.

أما الثمرة الموجودة عند الوقف، فهي ملك للواقف إن كانت مؤبرة، وإن كانت غير مؤبرة، فوجهان قال الدارمي: ينبغي أن تكون للموقوف عليه، وقال الزركشي: وكذا الموجود في البئر عند الوقف ينبغي أن يكون ملكا للواقف: ومن الثمرة، صوف ووبر ولبن، فيملكها الموقوف عليه.

الفروع المتعلقة بملك الوقف:

الأول: إذا ماتت البهيمة الموقوفة اختص1 الموقوف عليه بجلدها لكونه أولى به من غيره، وهذا قبل الدبغ، فإن دبغه أو اندبغ بنفسه عاد وقفا.

الثاني: لو تعطلت منفعة الموقوف بسبب غير مضمون كأن جفت الشجرة الوقوفة، أو قلعها ريح أو سيل أو نحو ذلك، ولم يمكن إعادتها إلى مغرسها قبل جفافها، أو كبرت الدابة الموقوفة لم ينقطع الوقف على المذهب، وإن كان لا يصح وقف ذلك ابتداء لشرط الدوام بل ينتفع بها جذعا بإجارة ونحوها، أو ألواحا لنحو باب، أو سقف إدامة للوقف في عينها، ولا تباع ولا توهب لقوله صلى الله عليه وسلم:"حبس الأصل، وسبل الثمر".

1 وإنما عبرنا بأن الموقوف عليه يختص بجلدها، ولم نقل بملكه؛ لأن النجس لا يقبل الملك.

ص: 233

وفي قول: تباع لتعذر الانتفاع على وفق شرط الواقف، والثمن الذي بيعت به على هذا الوجه، قيل: يشتري به شجرة أو شقص شجرة من جنسها لتكون وقفًا، وفي قول: يملكه الموقوف عليه في الأصح، ومقابل الأصح ينقطع الوقف، فينقلب الحطب ملكا للواقف.

الثالث: أنه يجوز بيع فرش المسجد الموقوفة إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت أو أشرفت على الانكسار، ولم تصلح إلا لإحراق لئلا تضيع، أو يضيق المكان بها من غير فائدة، فيكون تحصيل نزر يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها، ولا تدخل بذلك تحت بيع الوقف؛ لأنها صارت في حكم المعدومة وهو المعتمد، وإذا بيعت فيصرف ثمنها في صالح المسجد، أما إذا أمكن أن يتخذ من تلك الجذوع ألواح، فلا تباع قطعا بل يجتهد الحالكم، ويستعمله فيما هو الأقرب لمقصود الوقف.

ومقابل الأصح أنها تبقى أبدًا.

ومحل الخلاف إنما هو في العين الموقوفة، ولو بشراء أما المملوكة للمسجد بشراء ونحوه، ولم توقف فإنها تباع جزما.

ويجري هذا الخلاف في دار متهدمة، أو مشرفة على الانهدام، ولم تصلح للسكنى، والأصح المنع من بيعها؛ لأن جواز البيع يؤدي إلى موافقة القائلين بالاستبدال هذا لا يجوز، ويمكن حمل قول القائلين بالجواز على البناء خاصة، وهذا الحمل أسهل من تضعيفه.

الرابع: لو انهدم مسجد وتعذرت إعادته، أو تعطل بخراب البلد مثلا فلا يباع مطلقا لإمكان الانتفاع به حالا بالصلاة في أرضه، ولإمكان عوده كما كان، وبهذا فارق المسجد وقف فرس على الغزو، فإنه إذا كبر ولم يصلح المغزو جاز بيعه.

ص: 234

أما أنقاض المسجد، فإن رجى عوده حفظت وجوبا، ولو بنقل النقض إلى محل أمين إن خيف على أخذه، فإن لم يرج عوده بني به مسجد آخر بقربه، فلا يجوز بناء مدرسة بطوب المسجد، وفرشه وقناديله حكمها حكم أنقاض المسجد، وإن كان بالمسجد من يعمل براتب استحق أجره، وإن تعذر عليه القيام بوظيفته لعدم تقصيره كمدرس لم تحضر طلبته بخلاف إمام لم يحضر من يصلى معه، فلا يستحق إلا إذا صلى في البقعة، وإن كان وحده؛ لأن عليه فعل الصلاة فيه إماما، فإذا تعذر أحدهما بقي الآخر، وهذا في مسجد يمكن فيه أداء تلك الوظائف أما المسجد الذي محاه البحر مثلا، وصار داخل اللجة1، فينبغي نقل وظائفه لما ينقل إليه نقضه.

وخلاصة القول أن غلة المسجد تحفظ لرجاء عوده، فإن تعذر صرفت إلى أقرب المساجد إن احتيج إليها، وإلا صرفت لأقرب الناس إلى الواقف، فإن لم يكن له أقرباء صرفت للفقراء.

النظر على الوقف وشروط الناظر، ووظيفته:

الأول: سلطة الواقف في تعيين ناظر على الوقف: يكون للواقف الحق في اشتراط تعيين ناظر على الوقف، فلو شرط النظر لنفسه، أو لغيره واحدًا أو أكثر اتبع شرطه كبقية شروطه لما روي أن عمر رضي الله عنه ولى أمر صدقته2، ثم جعله لحفصة من بعده ما عاشت، ثم لأولي الرأي من أهلها، وخبر البيهقي:"المسلمون عند شروطهم" 3؛ ولأن الواقف هو المتقرب بالصدقة، فيتبع شرطه كما يتبع في مصارفها وغيرها.

1 لجة الماء بالضم معظمه "المصباح المنير ج2 ص665".

2 المراد بالصدقة هنا الوقف.

3 الأصل أن شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف ويناقضه، عليه جرت أوقاف الصحابة، فقد وقف عمر وشرط أن لا جناح على من وليه أن يأكل منها بالمعروف، وأن التي تليه حفصه في حياتها، فإذا ماتت فذو الرأي من أهلها رواه أبو داود بسند صحيح "التلخيص ج7 ص69".

ص: 235

وكما يقبل شرطه، فيمن يكون له النظر فيقبل أيضا ما شرطه لنفسه من ريع الوقف بحيث لا يزيد على أجرة المثل، فإن لم يشترط لنفسه أجرا، فهو متبرع إلا أن يفرض له الحاكم أجرة المثل بعد رفعه له، فإن أخذ شيئًا من مال الوقف قبل ذلك، أو بعده بغير ما قرر له ضمنه، ولا يبرأ إلا برده للقاضي أما ما يؤخذ ضيافة، أو حلوانا فقد قال الرملي بجوازه نظرا للعادة، ومنعه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.

والذي يظهر لنا أنه إن بذله دافعه عن طيب نفس بلا إكراه، وبلا خوف زوال الوقف عنه، وبلا نقص أجرة وقفه جاز، وإلا فلا وبهذا يمكن أن يجمع بين الرأيين.

وإن لم يشترط النظر لأحد، فهو للقاضي بناء على أن الملك في الموقوف لله تعالى، وأما على القول بأن الملك فيه للواقف، أو للموقوف عليه يكون النظر للواقف فيهما.

والراجح في نظرنا أن الوقف إن كان على جهة عامة، فولاية النظر للحاكم وإن كان على معين، فله أيضا، إن قلنا: الملك ينتقل إلى الله تعالى، وإن جعلناه للواقف أو الموقوف عليه، فللواقف أن يتولى النظر على الوقف.

وحيث كان الوقف للقاضي، فيكون القاضي بلد الوقف، فيتولى إجارته وحفظه ونحوهما، وقاضي بلد الموقوف عليه من حيث التصرف، وقسمة الغلة ونحوهما لتنمية مال اليتيم، وليس لأحد القاضيين فعل ما ليس له.

الثاني: شروط الناظر: يشترط في الناظر شرطان:

الأول: العدالة ولو كان هو الواقف أو كان أعمى، أو أنثى أو كان النظر على معينين رشداء؛ لأن النظر ولاية على الغير، فاعتبر فيه ذلك كما في الوصي والقيم، فإن كان الناظر معينا من قبل الحاكم، فيشترط فيه العدالة

ص: 236

الباطنة، ويكتفي في المعين من قبل الواقف بالعدالة الظاهرة، كما في الأب وإن افترقا في وفور شفقة الأب، وخالف الأذرعي، فاعتبر فيه العدالة الباطنية أيضا والأول أوجه.

الشرط الثاني: الاهتداء إلى التصرف، فلو زالت أهليته انتقل النظر للحاكم لا لمن بعده ممن شرط له النظر على المعتمد، ولو عادت الأهلية عادت له الولاية إن كان الواقف قد نص على عينه وإلا فلا، وثبوت أهليته في مكان من جملة الوقف يسري على بقية من حيث الأمانة مطلقا، وكذا الاهتداء إلى التصرف إن كان أعلى من البقية، وإلا فلا بد من ثبوتها في الجميع، وعلم مما ذكر أن الناظر الذي شرطه الواقف لا ينعزل، ولو عزل نفسه أو عزله غيره، ولا يبدل بغيره وأن عروض عدم أهليته مانع من تصرفه لا سالب لولايته.

الثالث: وظيفة الناظر:

أما وظيفة الناظر فهي عند الإطلاق، أو تفويض جميع الأمور له تكاد تنحصر في العمارة والإجارة، وتحصل الغلة بقسمتها على مستحقيها، وحفظ الأصول والغلات على الاحتياط؛ لأنه المعهود في مثله، ويراعي عند قسمة الغلة على مستحقيها الزمن الذي حدده الواقف، فلا يجوز له ولا لغيره أخذ شيء من الوقف قبل وقت استحقاقه، وله جعل المال تحت يده من حيث الولاية لا من حيث الاستحقاق ليأخذ هو وغيره منه ما قد يستحق في وقته من شهر، أو سنة أو غيرهما، ولا يجوز مثل ذلك للجاني، ولا للعامل ولا غيرهما إلا بإذن الناظر؛ لأنهم نوابه فيه.

فإن فوض إليه بعض هذه الأمور، فليس له أن يتعدى ذلك اتباعا للشرط

ص: 237

كالوكيل، فإن فوض النظر لاثنين لم يستقل أحدهم بالتصرف كما في الوصية لاثنين، ولو شرط النظر للأرشد من أولاده دخل أولاد البنات، ومتى ثبت رشد واحد لم ينتقل عنه برشد غيره ما لم يتغير حاله، ولو تعارض يبينتان برشد اثنين مثلا اشتركا حيث وجدت الأهلية، وسقط الرشد للتعارض فيه، ولو طال الزمن بين البينتين قدمت النافلة.

عزل الوقف لمن ولاه: وأما عزل الواقف لمن ولاه النظر عنه، ونصب غيره مكانه، فهو جائز كما في الوكيل أما غير الناظر، فلا يصح من تولية، ولا عزل بل هي للحاكم؛ لأنه لا نظر له حينئذ.

ولكن هل يجوز عزل الناظر من غير سبب؟ الظاهر أن الواقف له عزل الناظر مطلقا؛ لأنه كالوكيل المأذون له في إسكان هذه الدار، فله أن يسكنها من جاء من الفقراء، وإذا أسكنها فقيرا مدة، فله أن يخرجه ويسكن غيره لمصلحة، ولغير مصلحة، وليس تعيينه لذلك يصيره كأنه مراد الواقف حتى يمتنع تغييره.

أما غير الناظر من أرباب الوظائف والمدرس، والإمام والطلبة ونحوهم، فليس للواقف ولا للناظر، ولا للإمام الأعظم عزلهم بغير سبب، ولا ينفذ عزلهم ويفسق عازلهم به ويطالب بسببه إلا أن علمت صيانته، وديانته وأمانته، وعلمه.

فإن عزل الناظر نفسه لم ينصب بدله الحاكم، وإنما يقيم من يتصرف عنه، وتولية الحاكم غيره للتصرف عنه ليس لانعزاله، بل لامتناعه إذا عاد عاد النظر كما كان.

فرع: لو ضاق الوقف عن مستحقيه لم يقدم بعضهم على بعض بل

ص: 238

يقسم بينهم بالمحاصة1؛ لأنه لا يجوز تمييز بعضهم على بعض، وليس للناظر إحداث وظيفة لم تكن مشروطة من شروط الواقف، ولا يجوز له صرف شيء من الوقف فيها، ولا يجوز لمن قرر فيها أخذ شيء من المعلوم فيها، ولا يجوز إبطال وظيفة مما شرطه الواقف، ويفسق فاعل ذلك وينعزل به، ولا يجوز للناظر تقديم بعض المستحقين على بعض في الإعطاء، والله أعلم.

1 الحصة القسم والجمع حصص، وحصة من المكان كذا حصل له ذلك نصيبًا، وتحاص الغرماء اقتسموا المال بينهم حصصا "المصباح المنير ج1 ص168".

ص: 239