المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ إحياء الموات

الفصل السادس:‌

‌ إحياء الموات

.

بيان المراد من إحياء الموات:

أما إحياء الموات، فالمراد به عمارة الأرض الخربة شبهت عمارتها بإحياء الموتى، وهو إدخال الروح في جسد خال منها بجامع النفع في كل منهما، أو نقول: شبهت الأرض الميتة الخربة بالميت بجامع عدم النفع في كل منهما.

تعريف الموات لغة وشرعًا:

أما الموات لغة فهو الأرض الخربة الدارسة، وتسمى ميتة ومواتا وأما الموتان، فهو بضم الميم، وسكون الواو الموت الذريع تقول: رجل موتان القلب بفتح وسكون الواو أي لا بصيرة له ولا فهم، وهو في اصطلاح الفقهاء: الأرض التي لا مالك لها، ولا ينتفع بها أحد كما قال الرافعي.

شرح التعريف:

فقوله: "لا مالك لها" يحتمل أن يكون المراد منه لا مالك لها معلوم، فيكون من الموات ما ظهر فيه أثر ملك كغراس شجر، وأساس جدران ونحو أوتاد، وعلى هذا يكون الموات شاملا للأرض التي لا مالك لها أصلا، ولم تعمر قط أو عمرت من قبل، وظهر فيها أثر ملك ولها مالك، ولكنه ليس معلومًا، ويحتمل أن يكون المراد بالأرض الموات التي لا مالك لها أصلا، فلا يشمل الموات إلا شيئا واحدا، وهو الأرض التي لم تعمر قط، وأما الأرض التي ظهر فيها أثر ملك، فلا يكون من الموات على هذا المعنى، فيكون الموات على الأول أعم من الثاني؛ لأن الأول يكون الموات شاملا لأمرين الأول: الأرض التي لم تعمر مطلقا، والثاني: الأرض التي عمرت، ولكنها تخربت ولم يبق منها إلا آثار

ص: 167

العمارة السابقة كغراس شجر، ودق الأوتاد ونحو ذلك.

وقوله: "ولا ينتفع بها أحد" قيد في التعريف لا بد منه ليخرج الأرض التي لا مالك لها، ولكن ينتفع بها الناس كحريم المعمور، وهو ما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق كفناء الدار ومسيل الماء، فلا يجوز إحياؤه؛ لأنه تابع للعامر ولا يملك بالإحياء؛ لأننا لو جوزنا إحياءه لأبطلنا الملك في العامر على أهله، كما لا يجوز إحياء ما بين العامر من الرحاب والشوارع، ومقاعد الأسواق؛ لأن هذا من جملة العامر؛ ولأنا لو جوزنا إحياءه ضيقنا على الناس في أملاكهم، وطرقهم وهذا لا يجوز شرعا؛ لأن الشرع ورد بإحياء الموات، وهذا ليس من الموات، بل هو تابع للعامر كما بينا.

أقسام إحياء الموات:

ويمكن على ضوء ما سبق أن نقسم الموات إلى قسمين:

الأول: موات أصلي، وهو الذي لم يعمر قط.

الثاني: موات طارئ وهو ما عمر، ثم خرب بعد عمارته، وأصبح الآن غير عامر.

وهذا التقسيم لا يتأتى إلا على الاحتمال الأول، وهو أن المراد بالموات الأرض التي لا مالك لها معلوم.

وعرف الماوردي والروياني، والموات بأنه، ما لم يكن عامرا ولا حريما لعامر قرب العامر أو بعد، وهذا التعريف قريب من الأول.

فقوله: "ما لم يكن عامرا" أي لم يكن عامرا في الإسلام إذ لا عبرة بعمارة الأرض في الجاهلية.

ص: 168

مشروعية إحياء الموات:

إحياء الموات مشروع، والأصل في مشروعيته قبل الإجماع أخبار كثيرة منها ما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من عمر أرضا ليست لأحد، فهو أحق بها، وما أكله العواقي، فهو له صدقة" 1، فقوله صلى الله عليه وسلم فهو أحق بها أي مستحق لها يملكها، وفي رواية:"فهي له" 2، وهذه الرواية قاطعة في ثبوت الملك بالإحياء، ولكونه أحق بها لم يحتج في الملك بالإحياء إلى لفظ يدل على أنه اختار ملكية ما أحياه من الأرض بأن يقول مثلا: تملكت أو أدخلتها في ملكي، وأما قوله:"فهو له صدقة" أي بسبب إحيائها، فالفاء للسببية كما في قوله في حديث آخر:"دخلت امرأة النار في هرة حبستها"، أي بسبب هرة، وقوله:"وما أكله العوافي" أي طلاب الرزق من بنائين، وفعله وكذا طير أو بهيمة، فهو له صدقة الإحياء؛ لأنه مصدر نفع وخير للإنسان، والحيوان على السواء أما الإنسان فباكتساب الرزق بالعمل في البناء، واستصلاح الأرض البور، وأما الحيوان؛ فلأنه يأكل مما ينبت من الزرع فكان الإحياء سببا في الأجر.

وقد يقال: إن الحديث دليل على أن الإحياء خاص بالمسلم دون الكافر؛ لأن الأجر لا يكون إلا لمسلم والصحيح خلافه.

فإن ثبوت الأجر والصدقة الواردين في الحديث لا يؤخذ منهما تخصيص الإحياء بالمسلم؛ لأن الكافر له الصدقة، ويثاب عليها في الدنيا بكثرة

1 رواه البخاري وأحمد والنسائي، ووقع في البخاري:"من أعمر" بزيادة ألف في أوله وخطئ راويها "التلخيص الحبير ج3 ص61".

2 رواه البيهقي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وهو ضعيف جدا لا تقوم به حجة. "التلخيص ج3 ص62".

ص: 169

المال والولد وفي الآخرة بتخفيف العذاب، وذلك أعمال الخير التي لا تتوقف صحتها على نية كالصدقة، وإحياء الموات.

ويؤيد ذلك أن اللغة تقضي أن الثواب والأجر يستوي فيه المسلم، والكافر فقد جاء في المصباح، أجره الله أجرا، وأجره إذا أثابه فلم يقيد ما يسمى ثوابا بجزاء المسلم، فاقتضى إن كل ما يقع جزاء يسمى ثوابا، وأجر سواء كان الفاعل مسلما أو كافرا.

ولهذا يصح إحياء الكافر للأرض الموات إذا كانت ببلاد الكفار أما بلاد المسلمين، فلا يجوز إحياء الكفار بها حتى، ولو كان بإذن من الحاكم؛ لأن الإحياء استعلاء، والكافر ممنوع من الاستعلاء في بلاد المسلمين.

حكم إحياء الموات:

الأرض المعمورة الميتة إما أن تكون ببلاد، أو بلاد الكفر، فإن كانت ببلاد الإسلام، فيجوز فيها الإحياء بشرطين:

الشرط الأول: أن يكون المحيى مسلمًا، مكلفا أو غير مكلف، فلو كان غير مسلم فلا يجوز له الإحياء، ولو أذن فيه الإمام؛ لأن الإحياء من الكافر كالاستعلاء، وهو ممتنع عليه بدارنا، وإذا أحيا غير المسلم أرضا بلاد الإسلام، فللمسلم أن يأخذها منه، فإن كان فيها شيء له كزرع رده المسلم إليه، فإن أخذه فبها، وإن أعرض عنه فهو لبيت المال، ويصرفه الإمام في المصالح العامة.

ولكن يجوز للذمي والمستأمن والمعاهد، والاحتطاب والاحتشاش والاصطياد بدار الإسلام؛ لأن ذلك مما يخلف، ولا يتضرر به المسلمون، فكان ذلك مما يجوز لهما، ويجوز لهما أيضا نقل التراب من موات دار الإسلام إذا لم يتضرر به المسلمون، أما الحربي فإنه ممنوع من جميع ذلك حتى من الاحتطاب إلا أنه إذا أخذ شيئا منه ملكه.

ص: 170

الشرط الثاني: أن تكون الأرض التي يراد ملكها بالإحياء حرة لم يجر عليها ملك لمسلم ولا لغيره، فإن جرى عليها ملك لمسلم، أو لغيره بأن كان ذميا، أو مستأمنًا أو معاهدًا فهي لمالكه، أما إذا كانت الأرض مملوكة لحربي جاز إحياؤها وأخذها؛ لأن مال الحربي إذا ظفرنا به أخذناه غنيمة.

فإن جهل مالكه والعمارة إسلامية بأن كانت بعد الإسلام، فهو مال ضائع؛ لأنه مال لمسلم أو ذمي أو نحوه، فيكون أمره مفوض إلى الإمام، فإما أن يحفظه بعينه، أو يبيعه ويحفظ ثمنه، أو يقرضه لبيت المال إلى أن يظهر مالكه إن كان يرجى ظهوره، فإن لم يرج ظهوره، فهو ملك لبيت المال يتصرف فيه الإمام كيفما شاء.

وإن كانت العمارة جاهلية، فيملك بالإحياء في الأظهر إذ لا حرمة لملك الجاهلية؛ ولأنه كالموات والركاز.

والثاني: المنع من الإحياء؛ لأنها ليست بموات.

وإن كانت بلاد الكفار، فللكافر أحياؤها؛ لأنه من حقوق داره عليه، ولا ضرر علينا فيه فيملكه بالإحياء كالصيد، ويجوز للمسلم أحياؤها أيضًا إذا لم يدفعوا المسلمين عنها، فيمنعوهم من أحيائها، فإن منعوهم عنها كان الصلح بيننا، وبينهم على أن البلد لنا، وهم يسكنون بجزية، فالمعمور منها فيء ومواتها الذي كانوا يدافعون عنه يتيحتجر حتجر، ليكون فيئا لأهل الفيء، ولا يكون فيئا في الحال بل في المستقبل، ويفهم من هذا إن الإحياء جائز للمسلم في الحل والحرم على السوء، ولكن يستثنى من ذلك أمور.

الأول: إحياء المسلم للأرض الموات بعرفة، ومزدلفة ومنى لتعلق حق وقوف الحجيج بعرفة، والمبيت بمنى ومزدلفة؛ لأن ذلك من مناسك الحج.

وأما المحصب1، وهو الموضع الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل بين

1 المحصب: موضع بمكة على طريق منى، ويسمى البطحاء "المصباح ج1 ص167".

ص: 171

مزدلفة ومنى، فيجوز إلحاقة بذلك؛ لأنه يسن للحجيج المبيت به عند الضرورة، وهذا ما قاله الزركشي لكن قال الوالي العراقي: ليس ذلك من مناسك الحج، فمن أحيا شيئا منه ملكه، وهذا هو المعتمد.

الثاني: المرافق العامة، وما في حكمها: فلا يجوز إحياء المرافق العامة من الطرق كمصلى العيد في الصحراء، وموارد الماء فمن أحيا شيئًا من الموات على شاطئ النيل أو الخلجان، فيجب علي ولي الأمر، ومن له قدرة أن يمنعه من ذلك الإحياء.

الثالث: الأرض التي حماها السلطان، فلا يجوز لأحد: أن يحيى أرضا منع السلطان عامة الناس من الرعي فيها، وخصصها لمواشي الجزية والصدقة، والفيء، أو لمواشي رجل ضعيف لا يقدر على الارتحال بدوابه إلى الأرض البعيدة طلبا للرعي، فإذا حمي له الإمام قطعة قريبة من داره لترعى فيها بهائمه، وتكون مملوكة له فلا يجوز لأحد غيره أن يرعى فيها؛ لأنه ملكها بهذا الإذن، ومن ثم فلا يملكها إلا بإذن الإمام، أو إذن نائبه.

الرابع: حريم المعمور: حريم المعمور هو ما تمس الحاجة إليه للانتفاع بالمعمور، وإن حصل أصل -الانتفاع بدونه، ومعنى ذلك أن المعمور لا ينتفع به على الوجه الأكمل إلا به، وحريم المعمور هذا لا يجوز فيه الإحياء، وإذا أحياه شخص فلا يمكله؛ لأنه مملوك لمالك العامر، وهو في حاجة ماسة إليه لتمام الانتفاع بالمعمور، ولكن إذا اتسع الحريم بحيث كان يزيد على ما يحتاج إليه العامر، ثم احتيج إلى عمارة ما زاد عن ذلك، فيتجوز عمارته لعدم تفويت حاجة العامر إليه، ولا يخفى أنه لو أريد عمارة ذلك الموضع بتمامه، فلا يجوز بغير رضا صاحب العامر، فمثلًا إذا اعتاد الناس في القرى طرح الرماد في موضع، فلا يجوز عمارة هذا المكان؛ لأنه حريم العامر وهي القرية، فإن كان يزيد عن حاجتهم، فيجوز عمارة ما زاد سواء كان ذلك بإذن، أو بغير إذن أما عمارته

ص: 172

بتمامه وتكليفهم طرح الرماد في غيره، ولو قريبا منه لا يجوز؛ لأنه باعتيادهم الرمي فيه صار من الحقوق المشتركة بينهم، ومن ثم فلا يجوز إحياؤه إلا برضاهم.

وسمي حريما لحرمة التصرف فيه بمعنى أن لمالك العامر أن يمنع غيره من إحيائه بجعله دارا، وليس له منعه من المرور فيه، ولا من رعى كلا فيه، ولا من استقاء من ماء فيه ونحو ذلك.

وكما جاز إحياء ما زاد على حريم المعمور، فإنه يجوز أيضًا الغراس فيما لا يمنع من انتفاع الناس بالحريم كأن يكون قد غرس في مواضع يسيرة بحيث لا يفوت منافعهم المقصودة من الحريم.

وخلاصة القول: أنه لا يجوز إحياء ما تمس حاجة المعمور إليه من الحريم، ولا يثبت الملك فيه بالإحياء؛ لأنه مملوك لمالك العامر، ومن ناحية أخرى، فإنه تابع للمعمور والإحياء لا يجوز إلا في الأرض الموات، فإن زاد الحريم عما يحتاج إليه المعمور، فلا مانع من إحياء الزائد عن حاجة المعمور أما ما يحتاج إليه المعمور من الحريم، فلا يجوز فيه الإحياء إلا بإذن من له حق الانتفاع بالمعمور، والله أعلم.

حريم القرية والبذر، والدار، والنهر:

وإذا كان الحريم يختلف في كل شيء بحسبه، فإن حريم القرية يختلف عن حريم البئر والنهر، والدار لاختلاف كل واحد منها بحسب الغرض الذي أعد من أجله.

فحريم القرية المحياة يتناول كل ما تمس حاجة القرية إليه، ويشمل ذلك ما يلي:

1-

النادي، وهو المكان الذي يجتمع فيه أهل القرية يندون أي يتحدثون

ص: 173

ويسمرون، ويطلق النادي على أهل المجلس، فلا يسمى ناديا إلا والقوم فيه، وأما إذا لم يكونوا فيه، فيسمى مجتمع الناس.

2-

مرتكض الخيل بفتح الكاف، وهو مكان سوق الخيل لسباقها سواء أكانوا خيالة أم لا؛ لأنه قد تحدث لهم الخيل، أو يسكن القرية بعدهم من له رغبة في الخيل، وهذا هو الأصح خلافا للإمام، ومن تبعه حيث اعتبر مرتكض الخيل إذا كان أهل القرية خيالة، وإلا فلا.

3-

مناخ الإبل بضم الميم، ومثله موضع وقوف السيارات في المدن، وهو الموضوع الذي تناخ فيه إذا كانوا أهل إبل، ويفهم منه أنه إذا لم يكونوا أهل إبل، فلا يكون مناخ الإبل من حريم القرية، وفارق ذلك مرتكض الخيل حيث كان المرتكض من لوازم القرية، ولو لم يكونوا أهل خيل؛ لأن الخيل لازمة للجهاد، وقد حث الشرع على اقتنائها، والتدريب على ركوبها ولا تخلو منها قرية من قرى المسلمين، وقد ورد الأمر بتعلم ركوبها في قوله صلى الله عليه وسلم:"تعلموا السباحة والرماية، وركوب الخيل".

4-

مطرح رماد وسرجين، وقمامة، وهي الزبالة.

5-

ومن حريم القرية الجرين المعد لدياسة الحب، فيمتنع التصرف فيه بما يعطل منفعته على أهل القرية، أو ينقصها، ومن ثم فلا يجوز زرعه في وقت الاحتياج إليه، فإن زرع وحدث خلل في الأرض من أثر زرعه، وامتنع بسبب ذلك كمال الانتفاع المعتاد، فيلزم من زرعه تعويض الضرر الذي ترتب على ذلك.

6-

ومن الحريم مراح الغنم، وملعب الصبيان ومسيل الماء وطرق القرية؛ لأن العرف مطرد بذلك، وعليه العمل خلفا من سلف.

ومنه مرعى البهائم إن قرب عرفا من القرية، واستقل كما قاله الأوزعي

ص: 174

ومست حاجتهم له، ولو في بعض السنة فيما يظهر ومثله المحتطب.

وهذه المنافع وإن كانت خاصة بأهل القرية، إلا أنه لا يجوز لأهل القرية أن يمنعوا المارة من رعي مواشيهم في مراعيها المباحة.

وأما البئر فنوعان:

الأول: بئر استقاء.

الثاني: بئر قناة محياة.

بئر الاستقاء وحريمها:

أما بئر الاستقاء فهي ما كانت مطوية، وينبع منها املاء وحريمها، ويشتمل على الأمور الآتية:

1-

موقف النازح من جانب واحد، أو أكثر حسب ما يستقى به من شخص أو دابة، فإن كان النازح شخصًا فالحريم موقف النازح من جانب واحد، وإن كان دابة فحريمها قدره من سائر الجوانب، وهو المسمى بالمدار، والذي يتجه اعتبار العرف والعادة.

2-

موضع الدولاب إن كان الاستقاء به، والدولاب بضم أوله أشهر من فتحه فارسي معرب، ويكون على شكل الناعورة، ويطلق على ما يستقي به النازح، ويسمى الشادوف، وما تستقي به الدابة، ويسمى الساقية.

3-

والحوض، وهو يطلق عرفا على مصب الماء الذي يذهب منه إلى مجتمعه، ويطلق على مجتمع الماء.

بئر القناة وحريمها:

وأما بئر القناة، فهي المحفورة من غير طي، وينبع منها الماء، أو هي حفرة

ص: 175

في الأرض ينبع منها عين، وتسيل في القناة بأن كان الماء يأتي في تلك القناة إلى تلك البئر، فيجتمع فيها ثم يعلو ويطلع، وهذا النوع من الآبار لا يعرف له وجود إلا في الفيوم.

وحريمها ما لو حفر فيه نقص ماؤها، أو خيف انهيارها أي سقوط حافتيها، ويختلف ذلك بحسب صلابة الأرض، ورخاوتها وإنما لم يعتبر في هذه البئر ما مر في بئر الاستقاء؛ لأن المدار في حفظها على حفظ مائها لا غير، ولهذا بحث الزركشي جواز البناء في حريمها بخلاف حفر البئر فيه، فإنه لا يجوز.

وأما حريم النهر كالنيل، فهو ما تمس الحاجة إليه في الانتفاع به، فيدخل في حريم النهر ما يحتاج إليه لإلقاء الأمتعة، وما يخرج منه عند حفره، أو تنظيفه وحكم هذا أنه يمتنع البناء فيه، فلو بنى فيه شيئا، وجبت إزالته ولو كان الشيء الذي بناه في الحريم مسجدا، ونقل إجماع الأئمة الأربعة على ذلك.

ويعتبر ما ذكر من الحريم حتى ولو بعد الماء بحيث لم يصر من حريمه لاحتمال عود الماء إليه، فإن أيس من عوده جاز وهو الظاهر، ويؤخذ من ذلك أن ما كان حريما لا يزول عنه وصف الحريم بزوال متبوعه ما دام عوده محتملا، وهذا هو المعتمد.

حكم الانتفاع بحريم الأنهار:

أما الانتفاع بحريم الأنهار، فإن فيه اتجاهين:

الاتجاه الأول: إذا كان الانتفاع بحريم الأنهار كحافاتها بوضع الأحمال والأثقال، أو تحويط مكان فيه بقصب ونحوه لحفظ الأمتعة فيه، فهذا ينبغي أن يقال: إن فعله بقصد الانتفاع به، وكان ذلك لا يضر بانتفاع غيره، ولم يضيق

ص: 176

على الماء ونحوهم ولا عطل أو نقص منفعة النهر كان جائزًا.

وحيث كان ما فعله جائزا، فلا أجرة عليه في مقابل الانتفاع، وإن كان ما فعله غير جائز، فيكون حراما وإذا حرم لزمته الأجرة لمصالح المسلمين.

الاتجاه الثاني: الانتفاع بما يحدث في خلال النهر من الجزر، والوجه الذي لا يصلح غيره امتناع إحيائها؛ لأنها من النهر أو حريمه لاحتياج راكب البحر والمار به إلى الانتفاع بها لوضع الأحمال، والاستراحة والمرور ونحو ذلك، بل هي أولى بمنع إحيائها من الحريم الذي يتباعد عنه الماء.

ولكن هل يتوقف الانتفاع بهذه الجزر على إذن الإمام؟ أقول: إن القول بأن الانتفاع بها يتوقف على إذن الإمام فيه نظر، والأقرب إلى الصواب هو القول بعدم توقف ذلك الانتفاع على إذن الإمام، ولا يكون آثما بذلك، ولكن يلزمه الأجرة مقابل هذا الانتفاع، وذلك على القول بجواز الانتفاع بهذه الجزر.

وأما حريم الدار العامرة، فهو إما أن يكون حريمًا مستقلا بها، أو مشتركا بينها، وبين غيرها من الدور الأخرى.

الحريم المشترك:

يكون الحريم مشتركا إذا كانت الدار محفوفة بدور، وحينئذ فليس لها في هذه الحالة حريم مختص بها، وإنما لها حريم مشترك بينها وبين جميع الدور، وذلك بشروط:

الأول: أن تكون الدور متلاصقة، أو تكون بطريق نافذ كما قاله الرافعي.

الثاني: أن تكون هذه الدور تم إحياؤها في وقت واحد، وذلك؛ لأنها إذا

ص: 177

أحييت معا أو جهل حالها، فلا حريم لها لانتفاء المرجح لها على غيرها، وذلك؛ لأن ما يجعل حريما لها ليس بأولى من جعله حريما لغيرها.

الثالث: أن تكون الدار بطريق نافذ فلا حريم لها؛ لأنه العامة المسلمين بخلاف ماذا كانت في طريق غير نافذ، فهذه لها حريم خاص بها كالدار المبنية في موات.

الحريم المختص:

أما إذا كانت الدار أحييت في موات، فحريمها يكون مختصًّا بها، ويتكون الحريم مما يأتي:

أولا: ممر الدار وهو يكون عادة في صوب الباب أي في مواجهته، ويكون بمقدار الحاجة، وما قيل من أن تقديره سبعة أذرع، فمحول على عرف المدينة الشريفة، وهي المدينة المنورة عليها وعلى ساكنها أفضل الصلاة، وأزكى السلام.

ثانيًا: فناء جدران الدار بكسر الفاء والمد، وهو ما حواليها من الخلاء المتصل بها، ونقل ابن الرفعة في أصح الوجهين أن فناء الدار ليس حريما، ونقل ذلك الزركشي عن الأكثرين، ولكن يمنع الغير من حفر بئر بقربها، ومن سائر ما يضر بها كإلصاق جداره بها؛ لأنه يضر ملك غيره.

ثالثا: يدخل في حريم الدار مطرح رماد، وكناسة بالضم ما يكنس، وهي الزبالة للحاجة إلى ذلك.

إذا تصرف المالك في ملكه، فمتى يكون ضامنا لما يترتب على هذا التصرف؟

لكل واحد من الملاك أن يتصرف في ملكه، فإن كان بما جرت به العادة

ص: 178

فلا ضمان عليه، وإن أدى إلى ضرر جاره، أو إتلاف ماله فمن حفر بئر ماء، أو حش1، فاختل به جدار جاره فلا ضمان عليه؛ لأن منعه من هذا التصرف يضر به ضررا لا جابر له، ويكفي في جريان العادة أن يكون جنسه يفعل بين الأبنية، ومنه حداد بين بزازين.

ويتحصل من ذلك أن الشخص يكون له أن يتصرف في ملكه بما وافق العادة، وإن أضر الملك والمالك، وله أيضًا فعل ما خالفها إن لم يضر المالك، فإن كان لا يضر المالك، فلا يمنع وإن ضر المالك، أو ضر الأجنبي.

ومن ثم فيجوز للشخص في أصح القولين في المذهب أن يتخذ داره المحفوفة بالمساكن حماما، أو مدبغة أو فرنا، أو اصطبلًا بها، وله أيضا أن يتخذ حانوته في البزازين2 حانوت حداد، وقصار ولا يمنع من ذلك بشرط أن يحكم الجدران أحكاما يليق بمقصوده؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه، وفي منعه إضرار به، ثم إن تصرفه هذا لا يضر المالك، وإن ضر المالك بنحو رائحة كريهة.

فإن تجاوز العامة فيما ذكر ضمن الضرر الذي يلحق الجار، كأن دق دقا عنيفا أزعج الأبنية، أو حبس الماء في ملكه، فانتشرت النداوة إلى جدار جاره.

ومعنى ذلك أنه لا يمنع من التصرف في ملكه إلا إذا أضر الملك، وكان التصرف الذي صدر منه لم تجر العادة به، أما إذا جرت العادة به فلا منع ولا ضمان مطلقا.

وخلاصة القول في هذا الرأي أن الشخص يجوز له أن يتصرف في ملكه بما وافق العادة، وإن أضر الملك والمالك، وله فعل ما خالف العادة، وإن

1 الحش بضم الحاء أو فتحها بيت الخلاء الذي تقضى فيه الحاجة.

2 البزازين تجارة القماش.

ص: 179

أضر المالك، أو ضر الأجنبي من باب أولى، فإن ضر بالفعل الذي جاوز العادة الملك فلا يفعله لأنه يترتب عليه الضمان.

وقيل: يمنع منه للإضرار بالجار سواء أكان الضرر في المالك أو الشخص.

وهذا الرأي ضعيف لأن الضرر لا يزول بالضرر ويؤيد هذا ما نقل عن الأصحاب أنه يجوز للمالك أن يتصرف في ملكه على العادة، ولا ضمان إذا أفضى إلى تلفه، وأنه لو كان لشخص دار في سكة غير نافذة، فله جعلها مسجدا أو حانوتا، أو سبيلا إذن الشركاء في ذلك، أو لا ووجهه أن الشخص لا يمنع من التصرف في ملكه، وهذا هو المعتمد.

صفة الإحياء:

المراد بصفة الإحياء كيفيته التي يترتب عليها الملك، وضابطه أن يهيأ كل شيء لما قصد منه غالبا، بحسب الغرض المقصود منه عرفا، وهذا معناه أن صفة الإحياء تختلف من شيء لآخر، وإنما وجب الرجوع إلى العرف؛ لأن الشارع أطلقه ولم يبينه، وليس له حد في اللغة، فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالحرز والقبض، وفيما يلي بيان كيفية إحياء المسكن والزريبة، والمزرعة والبستان والبئر.

أولا: إحياء المسكن:

فإن أراد مسكنا اشترط لإحيائه شروط وهي:

1-

تحويط البقعة بما جرت به عادة الناس في ذلك المكان إما بأجر1، أو لبن2 أو قصب، أو مسلح وهو المعتمد.

1 الآجر: الطوب الأحمر المصنوع من الطين، ثم حرق بالنار.

2 الطوب قبل الحرق بالنار.

ص: 180

وبناء عليه، فيلزمه الرجوع في جميع ذلك إلى العادة، فمثلا لو اعتاد نازلوا الصحراء عند نزولهم في موضع منها تنظيف الموضوع من نحو شوك وحجر، وتسويته لضرب خيمة، وبناء معلف ففعلوا ذلك، فإن كان بقصد التملك ملكوا البقعة، وإن ارتحلوا عنها، وإن كان بقصد الارتفاق فهم أولى بها إلى أن تنتهي رحلتهم.

2-

نصب باب وسقف بعض البقعة لتتهيأ للسكنى، ويقع عليها اسم المسكن. إلا إذا أراد أن يهيئ موضعا للنزهة في زمن الصيف، والعادة فيه عدم السقف، فلا يشترط السقف حينئذ.

أما المسجد فلا يشترط فيه إلا تحويط البقعة التي يراد جعلها مسجدا، فلو حوطها لأجل أن يجعلها مسجدًا صارت مسجدًا بالنية، وإن لم يبن فيه أو لم يسقف ومثله مصلى العيد، واعتبر السبكي في المسجد السقف.

ثانيا: إحياء الزريبة: وإن أراد زريبة للدواب، ومثلها حظيرة لجمع ثمار وغلات وغيرها، فيشترط في إحيائها شرطين:

الأول: تحويط المكان بالبناء بما جرت به العادة، فلا يمكن في إحياء الزرائب والحظائر نصب أخشاب، أو وضع أخشاب أو وضع أحجار من غير بناء؛ لأن المجتاز أثناء سفره يفعل ذلك، والمتملك لا يقتصر عليه عادة.

الثاني: نصب الباب، وذلك؛ لأن نصب الباب شرط في إحياء الزريبة على الأصح كما أنه شرط في إحياء المسكن، ويؤخذ في الاعتبار أن العادة لو جرب في بعض البلاد بترك باب الدواب لم يتوقف إحياؤها على الباب.

أما السقف فلا يشترط في إحياء الزريبة؛ لأن العادة فيها عدمه.

ص: 181

ثالثا: إحياء المزرعة: أما المزرعة فيشترط في إحيائها ما يأتي:

1-

تحويط البقعة بتراب، وذلك بأن يجمعه حولها ونحو ذلك كتحويط بنحو حجر، أو شوك لينفصل المحي عن غيره كجدار الدار.

2-

يشترط للمزرعة أيضا تسوية الأرض بطم1 المنخفض، وكسح المستعلى وحرثها أن توقف زرعها عليه مع سوق ما توقف الحرث عليه، وتليين ترابها بما يساق إليها لتتهيأ للزراعة.

3-

ويشترط تهيئة ماء لها بشق ساقية من نهر، أو حفر بئر وقناة إن لم يكفها مطر معتاد، فإن كفاها المطر، فلا حاجة إلى تهيئة الماء لها.

ويؤخذ من التعبير بتهيئة الأرض للزراعة عدم اشتراط السقي بالفعل بل يكفي حفر طريقه بحيث لا يبقى إلا إجراؤه، فإن فعل ذلك كفاه في الإحياء بالنسبة للمزرعة.

ويستثنى من ترتيب الماء صورتان:

الأولى: أراضي الجبال إذا كان لا يمكن سوق الماء لها، ويكفيها المطر المعتاد، فإنها تملك بالحراثة وجمع التراب في أحد وجهين اقتضى كلام الرافعي ترجيحه، ونقله الخوارزمي عن سائر الأصحاب.

الثانية: أراضي البطائح وهي بناحية العراق، وهي أرض قد غلب عليها الماء، فالشرط في إحيائها حبس الماء عنها لتتهيا للزراعة كما أن إحياء اليابس يكون بسوق الماء إليه.

أما اشتراط الزرع لإحياء المرزعة، ففيه ثلاثة أوجه:

أحدهما: أنه لا يشترط؛ لأن الإحياء قد تم بما سبق، وما بقي إلا الزراعة

1 طم المنخفض ردمه بحيث يتساوى مع الأرض.

ص: 182

وذلك انتفاع بالمحيا، فلا يكون الزرع شرطا كما لا يشترط سكنى الدار.

والثاني: وهو ظاهر ما نقله المزني: أنه لا بد في الإحياء من الزراعة؛ لأنها من تمام العمارة، وذلك خلاف سكنى الدار، فإنه ليس من تمام العمارة، وإنما هو كالحصاد في الزرع.

الثالث: وهو قول أبي العباس، أنه لا يتم إلا بالزراعة والسقي؛ لأن العمارة لا تكمل إلا بذلك، وأما الحصاد فلا يشترط جزما، والأول هو الصحيح.

فائدة: ما يبذر الأرض يقال له: زريعة يتخفيف الراء وجمعها زرائع.

رابعا: إحياء البستان: وأما إحياء البستان، فيشترط فيه شروط يمكن إجمالها فيما يلي:

1-

جمع التراب حول الأرض كالمزرعة إن لم تجر العادة بالتحويط، وإلا فيشترط التحويط إما ببناء، أو بقصب1، أو شوك حيث جرت العادة إذ الإحياء لا يتم بدونه، ويفهم من هذا أنه لا يشترط الجمع بين التحويط، وجمع التراب ولهذا حمل الزركشي جمع التراب على إصلاح تراب الأرض، وتهيئته لما يراد له لا جمعه حولها.

وبعض الفقهاء اشترط التحويط، ويجب الرجوع فيما يحوط به إلى العادة.

2-

ويشترط أيضًا لإحياء البستان، تهيئة ماء له بحسب العادة إن لم يكفه مطر كالمزرعة.

3-

ويشترط غرس البستان كله، أو بعضه بحيث يسمى بستانا كما

1 القصب عيدان البوص، والذي يسمى الغاب، وهو القصب الفارسي.

ص: 183

أفاده الأذرعي بحيث يقع على الأرض اسم البستان، فلا يكفي غرس شجرة أو شجرتين في المكان الواسع على المذهب إذ لا يتم اسمه بدونه أي أن البستان لا يطلق عليه اسم البستان إلا بالغرس الذي يكفي لإطلاق هذا الاسم عليه، وبهذا علم اعتبار الزرع في المزرعة.

وقيل: لا يشترط في البستان غرس الأشجار كما أن الزرع في المزرعة لا يشترط، وفرق الأول بأن اسم المزرعة يقع على الأرض قبل الزرع، واسم البستان لا يقع عليها قبل الغرس، ويترتب على هذا أن من شرط الزرع في المرزعة شرط الغرس في البستان بطريق الأولى، كما قال الرافعي لكن لا يشترط أن يثمر الغرس في البستان باتفاق.

والظاهر أنه لا يشترط نصب باب للبستان وهو كذلك، وإن خرج الحاوي الصغير تبعا للغزالي القول باشتراطه.

خامسا: إحياء البئر، ويشترط فيه:

1-

خروج الماء.

2-

طي البئر الرخوة بخلاف الصلبة، وأما إحياء بئر القناة، فيشترط فيه مع خروج الماء جريانه.

أما لو حفر نهرًا ممتدًّا إلى النهر القديم بقصد التملك ليجري فيه الماء ملكه، وإن لم يجره كما لا يشترط السكنى في إحياء السكن.

الإحياء سبب من أسباب الملك:

إذا تم الإحياء على الصفة المذكورة ثبت الملك فيه لمن قام بالإحياء، ولا يتوقف ذلك على صيغة، أو تلفظ يفيد أنه أدخله في ملكه، وليس لأحد أن يزيله

ص: 184

عنه إلا بإذنه، فإن قال: تنازلت عن تملكي في هذا الإحياء، فقد زال عنه الملك، وكان لغيره أن يعمره.

ولكن هل يشترط القصد في الإحياء؟

أما القصد فلا يشترط؛ لأنه غير معتبر في المذهب، والقصد هو المعبر عنه بالنية، وبناء عليه فلو أحاط شخص مواتا بقصد أن يكون حظيرة، أو دارا ثم لم يتخذه لما قصده له ملكه بالقصد الطارئ، ولو كان القصد شرطا لما صح له ذلك، أما ما يفعل عادة له، ولغيره كحفر بئر، فإنه يتوقف ملكه على قصده، فإن أحياه بقصد الملك ملكه، وإلا فلا.

الفرق بين الإحياء والاحتجار:

الاحتجار هو الشروع في عمل إحياء لم يتمه، كما لو حفر أساسا، أو حوط بقعة بأحجار أو خشب، أو بناء شيء فيها، أو جمع ترابا حولها، فمن فعل شيئا من ذلك، فهو متحجر لهذا المكان أي مانع لغيره منه.

الحق الذي يثبت بالاحتجار:

والمحتجر يثبت له حق اختصاص على العين المحتجرة، فيكون أحق بها من غيره ولكن لا يثبت به الملك؛ لأن سبب الملك هو الإحياء، ولم يوجد وبناء عليه، فإن المحتجر يكون أحق بما احتجره من غيره، والمراد ثبوت أصل الأحقية له إذ لا حق لغيره فيه لحديث أبي داود:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به" 1

حق الاختصاص لا يثبت إلا بشرطين:

الأول: أن يكون المحل الذي احتجره لا يزيد على كفايته.

الثاني: أن يكون قادرًا على عمارته في الحال دون المآل.

1 رواه أبو داود من حديث أسمر بن مضرس، قال البغوي: لا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث، وصححه الضياء في المختارة "التلخيص ج3 ص63".

ص: 185

فإن كان ما احتجره زائدا على كفايته، فلغيره إحياء الزائد دون ما سواه؛ لأن ما سواه باق تحجره فيه ولو شائعا، وإن كان غير قادر على الإحياء في الحال، فلا يكون أحق به حتى ولو كان قادرا عليه في المآل.

حكم التصرف في حق الاختصاص:

إذا كان للمحتجر حق اختصاص، فالأصح المنصوص أنه لا يصح التصرف فيه يبيع أو نحوه؛ لأن حق التملك لا يباع ولا يوهب، ولا يرهن كحق الشفعة، وإنما يكون له نقله إلى غيره، وإيثاره به من غير مقابل كإيثار غيره بجلد الميتة قبل الدماغ، والثاني: يصح حق الاختصاص كبيع علو البيت للبناء، والسكنى دون أسفله.

حكم إحياء ما احتجره غيره:

إذا شرع شخص في الإحياء، وقبل أن يتمه جاء شخص آخر، فأحياه ملكه وإن اعتبر بهذا الفعل عاصيا، فيصح الملك مع أنه آثم كما لو سام على سوم1 أخيه.

والثاني: لا يملكه لئلا يبطل حق غيره.

ومحل هذا الخلاف إذا لم يعرض المتحجر عن العمارة، وإلا ملكه المحيى قطعًا.

متى يسقط حق المحتجر؟

يسقط حق المحتجر إذا طالت مدة الاحتجار عرفا بلا عذر بدون إحياء، فيطلب السلطان أو نائبه منه أن يتمم الإحياء، أو يترك ما تحجره لما في احتجاره بدون إتمام الإحياء من التضييق على الناس في حق مشترك، فيمنع

1 سام البائع السلعة سوما عرضا للبيع وسامها المشتري طلب بيعها، ومنه:"لا يسوم أحدكم على سوم أخيه"، أي لا يشتر ويجوز حمله على البائع أيضا "المصباح المنير ج1 ص351".

ص: 186

منه، فإن طلب مدة يقوم فيها بالإحياء، وكان له عذر مقبول أمهل مدة قريبة بحسب رأي الإمام رفقا به، ودفعا لضرر غيره، فإن مضت المدة المقررة ولم يفعل شيئا بطل حقه، وتقدر المدة التي يسقط فيها حقه في الاحتجار بثلاثة أيام أو بعشرة، فإذا مضت ولم يعمرها بطل حقه من غير رفع إلى سلطان، وأيضًا يبطل حقه بمضي المدة بلا مهلة؛ لأن الاحتجار ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر عنه إلا بقدر تهيئة أسبابها، فإذا كان لا يقدر على تهيئة الأسباب ليعمر ما اتحجره في القابل، وجب أن يعود مواتا كما كان إذا تأخر، وطال الزمان.

أما إذا لم يذكر عذرًا أو علم منه الإعراض فينزعها منه حالا، ولا يمهله وهو ظاهر؛ لأن الاحتجار ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر إلا بقدر تهيئة أسبابها كما سبق.

الفرق بين الإحياء وإقطاع الأرض:

الإقطاع مأخوذ من قطع الشيء يقطعه قطعا، والقطعة من الشيء الطائفة منه، وأقطعة أرضًا أي أعطاه طائفة من أرض الخراج، ويفهم من هذا أن إقطاع الأرض هو انقطاع الإمام قطعة من الأرض الخراجية لشخص يقدر على إحيائها.

متى يكون الإقطاع جائزا، ومتى يكون غير جائز؟

يكون الإقطاع جائزا بإذن الإمام أو نائبه، ويثبت به الحق بمجرد الإقطاع لمن أقطعه الإمام، وإلا فلا تظهر فائدة الإقطاع، ومعلوم أنه لا يجوز لأحد غير الإمام، أو نائبة أن يقطع أحدا من الناس أرضا، فإذا أقطع الإمام أو نائبه شخصا، فإن كان يقصد تملك الرقبة ملكها المقطع له، أو بقصد الارتفاق1 فله ذلك.

1 الارتفاق هو الانتفاع بالأرض دون تملك العين.

ص: 187

والأصل في مشروعية الإقطاع ما ورد في الصحيحين: "أنه صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير بن العوام أرضًا من أموال بني النضير"، وما رواه الترمذي، وصححه أنه صلى الله عليه وسلم:"أقطع وائل بن حجر أرضا بحضرموت"1، وهذا الحكم بالنسبة للإقطاع، أما المندرس الضائع من الأرض، فإن كان يرجى ظهور مالكه، فإنه يحفظ له وإلا صار ملكا لبيت المال، يكون للإمام أن يقطعه لمن شاء ملكا، أو ارتفاقا بحسب ما يرى فيه المصلحة.

شروط إقطاع الإمام: لا يجوز للإمام أن يقطع أرضًا مواتًا إلا بشرطين:

الشرط الأول: أن يكون مسلما، فلا يقطع الإمام ذميا في دار الإسلام.

الشرط الثاني: أن يكون قادرا على يقدر على إحيائه؛ لأنه اللائق بفعله، المنوط بالمصلحة.

وأما إقطاع العامر فيكون إما إقطاع تمليك، أو إقطاع استغلال، وارتفاق أي تمليك المنفعة دون العين والأول، وهو أن يقطع الإمام ملكا أحياه بالأجراء، أو الوكلاء أو يكون الإمام قد اشتراه، أو اشتراه وكيله، وهذا النوع من الإقطاع، يملكه المقطع له بالقبول والقبض، ويسمى هذا الإقطاع معاشًا.

والثاني: وهو إقطاع الارتفاق أو الاستغلال، وهو أن يقطع غلة أراضي الخراج، وهو جائز بلا خلاف إذا وقع في محله بأن يكون الشخص من أهل النجدة، كما قال الأذرعي، ويملكها المقطع له بالقبض، ويختص بها من

1 رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه البيهقي، وثبت أن النبي أقطع عبد الله بن مسعود حين قدم المدينة، فيمن أقطع، فقال له أصحابه: يا رسول الله نكبه عنا، قال:"فلم بعثني الله إذًا؟ إن الله لا يقدس أمة لا يعطون الضعيف منهم حقه"، وإسناده قوي وفي الصحيحين، قالت أسماء: كنت أنقل النوى في أرض الزبير التي أقطعه رسول الله "التلخيص ج3 ص64".

ص: 188

السلطان، فإن أقطعها شخصا من أهل الصدقات بطل؛ لأنه لا يقدر على القيام بها.

أما أهل المصالح، فلا يجوز للسلطان إعطاؤهم من مال الخراج شيئا إلا بشرطين.

الأول: أن يكون المال قد وجب بسبب استباحوه به، كالتأذين أو الإمامة ونحوهما، ومعنى هذا أنهم لا يأخذون المال إلا بسبب قيامهم بعمل معين.

الثاني: أن يكون قد حل أجل المال، ووجب لتصح الحوالة به، ويكون المال بهذين الشرطين قد خرج عن حكم الإقطاع، وأصبح أجرًا في نظير عمل.

مالا يجوز فيه الإقطاع: أما الأرض التي لا يجوز إقطاع الإمام لها، فهي ما يلي:

1-

لا يجوز للإمام أن يقطع ما أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا ينقض ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم.

2-

لا يجوز إقطاع الأملاك المتخلفة عن السلاطين بالموت، أو القتل بل ولا تدخل في ملك الإمام القائم، وإنما هي حق لورثتهم إن عرفوا، فإن لم يعرفوا أو لم يكن ورثة، فحكم هذه الأملاك حكم الأموال الضائعة أي أن حكمها حكم اللقطة.

3-

أرض الفيء لا يجوز أقطاعها تمليكًا.

4-

لا يجوز إقطاع الأراضي التي اصطفاها الأئمة لبيت المال من فتوح البلاد، ثم آلت إلى بيت المال بحق الخمس، أو باستطابة نفوس الغانمين.

5-

لا يجوز إقطاع أراضي الخراج صلحًا.

6-

لا يحوز إقطع أراضي من مات من المسلمين ولا وارث له، مطلقا في أصح الوجهين.

ص: 189

الفرق بين الحمى وإحياء الموات:

الحمى في اللغة معناه المنع، ورد في المصباح حميت المكان من الناس أي منعتهم عنه، وأحميته بالألف جعلته حما لا يقرب.

ولا يحمى إلا الإمام أو نائبه أو وإلى ناحية، وإذا حمى الإمام أيضا لنعم1 ضالة أو لخيل الجهاد، وغير ذلك من المصالح، ومنها ما حماه الإمام لتكون مرعى لنعم الجزية أو الصدقة، أو لنعم رجل ضعيف لا يقدر على النجعة "بضم النون"، أي الإبعاد في طلب المرعى، امتنع على عامة الناس إحياؤها، فيجوز للإمام أو لنائبه أن يمنع الناس من رعى جزء معين لهذا الغرض لكن بشرط أن يكون ما حماه الإمام قليلًا من كثير بحيث يكفي الباقي حاجة الناس، وإن تباعدوا المرعى.

ودليل ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وقيل البقيع2.

وخرج بالحمى لنعم الصدقة وغيرها من المصالح العامة ما لو حمى الإمام لنفسه فلا يجوز، وخرج بالرعي الشرب، فليس للإمام أن يحمي الماء العد "بكسر أوله"، وهو الذي مادته لا تنقطع كماء عين، أو بئر لشرب خيل الجهاد، وإبل الصدقة والجزية وغيرها، فلا يجوز ذلك؛ لأن الماء وهو أصل الحياة، والأظهر أنه يجوز للإمام أن يحيي أرضا مواتا لطائفة من الناس استنادا على أن الرسول قد حمى أرضا بالبقيع أو النقيع.

ومقابل الأظهر عدم الجواز لخبر: "لا حمى إلا لله ولرسوله".

والراجح هو الأول؛ لأنه يمكن أن يقال: إن معنى هذا الحديث أنه لا يحمى

1 الأنعام هي الإبل والبقر والغنم من الماشية.

2 رواه البخاري من طريق ابن عيينة عن الزهري، ورواه أحمد والحاكم، وأبو داود من طريق عبد العزيز الداراوردي.. والنقيع هو من ديار مزينة، وهو في صدر وادي العقيق، ويشتبه بالبقيع والمشهور الأول "التلخيص الحبير ج2 ص281".

ص: 190

لنفسه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من خصائصه وإن لم يقع، ولو وقع كان للمسلمين؛ لأن مصلحته مصلحتهم، أو نقول: إن المعنى، لا حصى إلا مثل حمى الله ورسوله من كونه لا عوض فيه، فإنه يحرم على الإمام أخذ العوض ممن يرعى فيه كالموات، بل ويحرم على الإمام أن يرعى فيه مواشي نفسه، بل ويمنع الأقوياء من الرعي أيضا لكن لو وقع منهم رعي فيه لم يغرمهم شيئا، ولا يعزرهم وإن علموا ذلك على المعتمد.

هل يجوز نقض ما حماه الإمام؟

وإذا حمى الإمام أرضًا لرعي مواشي بيت المال، أو حماه غيره من الأئمة، فله نقض ذلك الحمى ورفعه، فيعود كما كان بشرط أن تظهر مصلحة عامة في نقضة بعد ظهورها في الحمى.

أما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز نقضه مطلقا، وإن استغنى عنه؛ لأن ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت بالنص، ونقض ما حماه غيره من الأئمة اجتهاد من الإمام، والنص مقدم على الاجتهاد، فإن نقضه فهو كافر للإجماع عليه.

وقيل: يمتنع نقض ما حماه الإمام لخيل الجهاد، ونحوها لتعينه لتلك الجهة، كما لو عين بقعة لمسجد أو مقبرة.

حكم الارتفاق بالمنافع العامة:

المنافع العامة أو المشتركة هي التي لا يختص بها فرد دون آخر، بل تكون منفعتها حقا مشتركا لجميع الناس كمنفعة الشارع، والمسجد والسوق، وأفنية المنازل وغيرها من المنافع المشتركة، وفيما يلي بيان ذلك مفصلا.

ص: 191

الارتفاق بالشارع:

أولا: الشوارع هي الطرقات، وهي من المنافع المشتركة وتكون إما أصلية، أو فرعية.

أما المنفعة الأصلية للشارع فهي المرور فيه؛ لأنه وضع لذلك، وهذه هي المنفعة الغالبة، وأما الفرعية، فهي الجلوس أو الوقوف فيه بقصد الاستراحة أو المعاملة أوانتظار رفيق، أو سؤال عن شيء وغير ذلك من المنافع، وهذه المنافع الفرعية تكون جائزة ما لم يترتب عليها إضرار بالناس في المنافع الأصلية، كالتضييق على المارة مثلًا، فإن تعارضت المنافع الأصلية والفرعية قدمت الأولى على الثانية، ولا يشترط إذن الإمام في أي من المنافع الأصلية، أو الفرعية؛ لأن هذا الحق ثبت بالشرع، وما ثبت بالشرع لا يحتاج إلى إذن الإمام.

حقوق الجالس في الشارع وواجباته:

أما حقوقه فله وضع سرير اعتيد وضعه فيه فيما يظهر، ويختص بمحله ومحل أمتعته ومعامليه، فلا يجوز لغيره أن يضيق عليه في موضعه، ومحله بحيث يضر به في الكيل والوزن والعطاء، ومن حقه منع من يقف بقربه إن منع من رؤية، أو وصول معامليه إليه.

ولكن ليس له أن يمنع من قعد قريبا منه يبيع مثل متاعه ما دام لم يزاحمه فيما يختص به من المرافق المذكورة.

ومن حقوق الجالس في الشارع مسلما كان، أو ذميا تظليل موضعه الذي يجلس فيه من الشارع بغير مثبت كثوب، أو كالجناح إذا كان لا يتم انتفاعه بالموضع إلا بذلك.

ص: 192

أما واجبات الجالس في الشارع، فإن كان ولا بد من ذلك فعليه أن يعطي الطريق حقه من غض البصر، وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ورد ذلك في الخبر، وإلا فالأصل أن الجلوس في الشارع مكروه، فينبغي للمسلم أن يترفع عنه، ولا يجلس فيه إلا لضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله هذه مجالسنا، وليس لنا فيها من بد، فقال: إن كان ولا بد فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق قال: غض البصر وكف الأذى، ورد السلام على من عرفت ومن لم تعرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"1.

بعض المسائل المتعلقة بمنفعة الشارع:

1-

إذا تنازع اثنان في موضع من الشارع، فأيهما أحق به؟

في ذلك تفصيل نذكره فيما يلي ذلك؛ لأنهما إما أن يصلا معا، وإما أن يكونا مسلمين أو أحدهما مسلما، والآخر ذميا.

فإن وصلا إلا الموضع معا وتنازعا فيه، وكانا مسلمين أقرع بينهما وجوبا لانتفاء المرجح، فمن خرجت القرعة له فهو أحق به، وإن كان أحدهما مسلما، قدم المسلم على غيره دون حاجة إلى إقراع؛ لأن انتفاع الذمي بدار الإسلام إنما هو بطريق التبعية للمسلمين.

وإن وصل أحدهما بعد الآخر، قدم السابق ولو كان ذميا كما هو ظاهر، لوجود المرجح، وهو السبق.

2-

إذا جلس شخص في موضع من شارع أو غيره، ثم فارقه فهل يسقط حقه بالمفارقة؟

1 متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "رياض الصالحين للإمام النووي ص106 تحقيق مصطفى عمارة دار إحياء الكتب العربية ط الحلبي".

ص: 193

إن كان قد جلس فيه لاستراحة ونحوها بطل حقه بمجرد مفارقته، وإن نوى العودة إليه.

أما إذا جلس فيه لمعاملة أو صناعة، ثم فارقة ليعود إليه، فهو أحق به إذا لم تطل مفارقته بحيث لم ينقطع معاملوه لخبر مسلم:"إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه فهو أحق به"، أما إذا طالت المدة، أو فارقه تاركا لحرفته، أو محله، فقد بطل حقه لإعراضه عنه.

والمدة التي بها يسقط حق المفارق لموضعه هي التي من شأنها إذا مضت أن ينقطع عنه معاملوه، وإن لم ينقطعوا بالفعل.

ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون الجالس قد جلس بإقطاع الإمام، أو دونه وهو الصحيح في أصل الروضة، لكن يرى البعض أنه إذا كان بإقطاع الإمام، فلا يبطل المفارقة وإن طالت، وجزم به صاحب التمتة، وأقره المصنف في تصحيحه.

ثانيًا: حق الجلوس في مكان من المسجد أو المدرسة:

1-

الجلوس لتعليم أو تعلم: ومن ألف من المسجد موضعًا يفتي فيه الناس، ويقرئ القرآن، أو الحديث أو الفقه، أو غيرها من العلوم المتعلقة بعلوم الشرع كنحو وصرف، ولغة فحكمه كالجالس في موضع من الشارع على التفصيل المتقدم إلا أنه جرت العادة بتعطيل الداسة في المسجد مدة، ولو طالت كشهر أو شهرين مثلا، فترك مجلسه في تلك المدة، فلا يعتبر مفارقا لمجلسه في تلك المدة، ويجري هذا الحكم في السوق الذي يقام في كل شهر أو سنة مرة.

وقياسا على ما تقدم أن من استحق الجلوس في المسجد في مكان

ص: 194

مخصوص لتعليم علم ثم جلس آخر بالقرب منه بحيث يضيق عليه، أو يرفع صوته بحيث يشوش عليه في تعليمه منع من ذلك، وهو ظاهر وحديث النهي عن اتخاذ المساجد وطنا يستحق، فهو مخصوص بما عدا ذلك.

ومثل المسجد المدرسة، فإن ألف فيها موضعًا يقرئ فيه قرآنا أو علما شرعيا ولتعلم ما ذكر كسماع درس بين يدي مدرس، فهو أحق به بشرط أن يستفيد أو يفيد؛ لأن له غرضا في ملازمته ذلك الموضع ليألفه الناس ويعرف به.

لكن إذا غاب فيجوز لغيره الجلوس في موضعه مدة غيبته التي لا يبطل حقه، لئلا تتعطل منفعة هذا الموضع في الحال، كما يجوز لغيره حال جلوسه أن يجلس في هذا الموضع لغير الإقراء أو الإفتاء، ولم يستحق الجلوس فيه مطلقًا.

ولا يتوقف حقه في الجلوس في ذلك الموضع من المسجد على إذن الإمام، ولو مسجد كبير، أو جامع اعتيد الجلوس فيه بإذن الإمام في أوجه الوجهين لقوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 1.

2-

الجلوس في موضع من المسجد لصلاة: ومن جلس في موضع من المسجد لصلاة دخل وقتها، أو لا فهو أحق به في تلك الصلاة ونحوها من استماع حديث أو وعظ؛ لأن لزوم بقعة معينة من المسجد ورد النهي عنه، ولو كان الجالس صبيا في الصف الأول، ثم يزول اختصاصه عنه بمفارقته بعد

1 الآية "18" من سورة الجن.

ص: 195

الصلاة حتى لا يألفها فيقع في رياء ونحوه؛ ولأن لزوم بقعة معينة للصلاة من مما ورد النهي عنه.

أما إذا فارق موضعه من المسجد، ولو قبل دخول الوقت لقضاء حاجة أو رعاف1، أو تجديد وضوء أو إجابة داع وكانت مفارقته لموضعه بنية العودة لم يبطل اختصاصه في تلك الصلاة، وما لحق بها في الأصح، فيحرم على غيره الجلوس فيه بغير إذنه، أو ظن رضاه كما هو ظاهر، وإن لم يترك إزاره فيه إذا علم أنه فارقه ليعود إليه لخبر مسلم:"من قام من مجلسه، ثم رجع إليه فهو أحق به" 2، ومحل ذلك إذا لم تقم الصلاة في غيبته، فإن أقيمت سقط حقه لوجوب سد الصف مكانه.

والقول بأن من سبق وقعد خلف الإمام، وليس أهلًا للاستخلاف، أو كان ثم من هو أحق منه بالإمامة، فيؤخر ويقدم الأحق موضعه استنادًا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: $"ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى"، هذا القول ممنوع؛ لأن الصبي إذا سبق إلى الصف الأول فلا يؤخر، وإذا كان الصبي الذي سبق إلى الصف الأول لا يؤخر منه فغيره أولى.

وبهذا يظهر أن من سبق إلى موضع من المسجد في الصف الأول، فهو أحق به من غيره حتى تنتهي تلك الصلاة، فإذا انتهت سقط حقه في ذلك الموضع في صلاة أخرى حتى، ولو اعتاد الجلوس فيه.

مفارقة المسجد في ذلك لمقاعد الأسواق، وبيوت المدرسة:

فارق المسجد مقاعد الأسواق في ذلك، فإن مقاعد الأسواق مختلفة في

1 الرعاف خروج الدم من الأنف "المصباح ج1 ص274".

2 رواه مسلم من حديث أبي هريرة دون التقيد بالمسجد، وقد أورده بالزيادة إمام الحرمين في النهاية، وصححه "التلخيص الحبير ج3 ص64".

ص: 196

ذاتها من حيث اختصاص بعضها بكثرة الواردين فيه، وبالوقاية من نحو حر، وبرد أما المسجد فليس فيه شيء من هذا؛ لأنه إنما أعد للصلاة، وبقاعه كلها صالحة لهذا الغرض.

وفارق أيضًا بيوت المدرسة إذا فارقه ساكنه؛ لأن المسجد لا يقصد للسكنى فيه، وإنما تؤلف بقاعه لأجل الصلاة فيها أما بيوت المدارس، فإنها تقصد للسكنى بها فاعتبر ما يشعر بالإعراض عنها، وهو الغيبة الطويلة.

ثالثا: الجلوس في المسجد لحرفة: أما من جلس في المسجد لحرفة، أو معاملة فيندب منعه.

وقيل: يجب إن كان فيها ازدراء بالمسجد، أو كان فيها تضييق على أهله، ولو باجتماع الناس عليه كالكاتب بالأجرة، وإذا وجب المنع فيحرم عليه فعلها فيه.

ويندب أيضًا منع من يتخطى حلق الفقهاء، والقراء توقيرا لهم.

رابعا: الارتفاق بالصحاري: وكما يجوز الارتفاق بالشارع يجوز أيضا الارتفاق بغيره كالصحاري لنزول المسافرين إن لم يضر النزول بالمارة، ولا يشترط إذن الإمام في ذلك لاتفاق الناس عليه على تلاحق الأعصار من غير نكير.

حكم دفع العوض في مقابل الارتفاق بالمنافع العامة:

لا يجوز لأحد من الولاة، أو غيرهم أخذ عوض على ذلك إذ لو جاز أخذ العوض لجاز بيع الموات، ولا قائل به أما إقطاع بعض الشارع لمن يرتفق به، حيث لا ضرر على المارة في ذلك، فهو جائز.

ص: 197

خامسًا: الارتفاق بأفنية المنازل:

أما الارتفاق بأفنية المنازل، فيجوز إن لم يضر ذلك بأصحابها، فإن أضر بهم منعوا من الجلوس فيها إلا بإذنهم، وأما الجلوس على عتبة الدار، فلا يجوز إلا بإذن مالكها مطلقا أي سواء أضر ذلك بهم أم لا.

الأعيان المشتركة:

وهي الأعيان التي تستفاد من الأرض، ويحتاج إليها الناس في أغراضهم المختلفة كالمعادن التي أودعها الله تعالى في الأرض ظاهرًا وباطنًا، والمعدن في الأصل اسم للمكان؛ لأنه مأخوذ من العدن بمعنى الإقامة، ومنه جنات عدن أي جنات إقامة دائمة إلا أنه يطلق على ما يستخرج من الأرض، فهو حقيقة في البقعة التي وجد بها المعدن مجاز مرسل على ما يستخرج من المعادن من إطلاق اسم المحل على الحال، وقيل: هو حقيقة فيهما.

أنواع المعادن:

والمعدن المستخرج من الأرض نوعان: ظاهر وباطن.

الأول: المعدن الظاهر، وهو ما خرج بدون علاج؛ لأن جوهره قد برز، وظهر من غير عمل، وإنما العمل والسعي في تحصيله وقد يسهل، وقد لا يسهل والمعادن المستخرجة من باطن الأرض كثيرة منها.

1-

نقط بكسر النون أفصح من فتحها، وهو ما يرمى به ويسمى الآن بالبترول، وقال الزركشي: هو دهن يكون على وجه الماء في العين، وفي الصحاح إنه اسم لدهن معروف.

2-

كبريت وهو عين تجري، فإذا جمد ماؤها صار كبريتا، وهو أبيض، وأصفر وأكدر، وأحمر، ومعدته خلف وادي النمل الذي مر به سليمان عليه

ص: 198

السلام، ويضيء في معدنه فإذا فارق معدنه زال ضوءه.

ويقال: إن الأحمر هو الجوهر، ولهذا ضربوا به المثل في العزة والندرة، فقالوا: أعز من الكبريت الأحمر.

3-

وقار وهو الزفت، ويقال: فيه قير.

4-

ومومياء بضم الميم الأولى بالمد وحكى القصر، وهو شيء يلقيه البحر إلى الساحل، فيجمد ويصير كالقار، وقيل: إن المومياء عبارة عن أحجار سود باليمن خفيفة فيها تجويف، وأما التي تؤخذ من عظام الموتى، فهي نجسة أو متنجسة.

ويؤخذ من أن المومياء شيء يلقيه البحر أن العنبر ينبت في قاع البحر، ثم يقذفه الماء بتموجه إلى البر.

5-

ويرام بكسر أوله جمع برمة بضمها، وهو حجر يعمل منه قدور الطبخ، وأحجار رحى وأحجار نورة، ومدر وجص، وملح مائي وكذا جبلي إن لم يحوج إلى حفر، وتعب ويلحق به قطعة ذهب أظهرها السيل من معدن.

حكم امتلاك المعدن الظاهر:

وهذه المعادن لا تملك بالإحياء، ولا يثبت فيها اختصاص باحتجار، ولا إقطاع من سلطان؛ لأنها مشتركة بين الناس مسلمهم، وكافرهم كالماء والكلأ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع رجلا ملح مأرب1، فقال رجل: يا رسول الله إنه كالماء العد: أي العذب قال: "فلا إذن". رواه أصحاب السنن الأربعة، وابن ماجه2.

1 مأرب بإسكان الهمزة وكسر الراء موضع باليمن.

2 الرجل الذي أقطعه الرسول صلى الله عليه وسلم هو: أبيض بن حمال المازني، والذي قال للنبي ذلك هو الأقرع بن حابس، وهذا الحديث صححه ابن حبان، وضعفه ابن القطان "التلخيص ج3 ص64، 65".

ص: 199

والإجماع منعقد على منع إقطاع مشارع1الماء، وهذا مثلها بجامع الحاجة العامة، وأخذها بغير عمل.

ويؤخذ من هذا أنه لا يجوز إقطاع الأعيان، أو المنافع العامة.

ولهذا فيمتنع على الإمام إقطاع، أو احتجار أرض لأخذ حطبها، وصيدها وبركة لأخذ سمكها سواء في ذلك إقطاع التملك والارتفاق، وقيد الزركشي المنع بالأول، ويمتنع على الإمام إقطع الأيكة2، وثمارها وهي الأشجار الثابتة في الأرض التي لا مالك لها إن قصد الإيكة دون محلها، فإن قصد إحياء الأرض المشتملة على ذلك، فتدخل تبعا، ويعلم من ذلك أن من ملك أرضا بالإحياء ملك ما فيها بشرط أن لا يكون قد علم ما فيها قبل الإحياء، فإن كان يعلمه، فلا يثبت له فيه حق.

الثاني: المعدن الباطن: وأما المعدن الباطن فهو ما لا يخرج إلا بعلاج كذهب، وفضة وحديد ونحاس، ورصاص وفيرزج وعقيق، وياقوت، وسائر الجواهر المبثوثة في طبقات الأرض.

حكم تملك المعدن الباطن:

وهذا المعدن لا يملك بالحفر والعمل في الأظهر، وإنما يملك بالاستيلاء عليه بعد استخراجه كما أن المعدن الظاهر لا يملكه من قام بإحياء الأرض إذا علمه؛ لأن إحياء كل شيء بحسبه، وهذا ما عليه الخلف والسلف، والمتقدمون، والمتأخرون.

والثاني: أنه يملك بذلك إذا قصد به التملك كما يملك الموات بالإحياء.

1 مشارع الماء مواره التي تقصد المشرب، ومن ذلك يقال: شعت الإبل أي وردت شريعة الماء، سميت بذلك لظهورها، ووضوحها.

2 الأيك شجر الواحدة أيكة "المصباح المنير ج1 ص43".

ص: 200

وفرق الأول: بأن الموات يملك بالعمارة وحفرالمعدن تخريب، ثم إن الموات إذا ملك يستغني المحيى عن العمل، والمعدن مبثوث في طبقات الأرض يحتاج كل يوم إلى حفر وعمل.

وعلى القول بأنه يملك بالحفر دون الاستيلاء، فلا بد من قصد التملك، وخروج المعدن، أما قبل خروجه فهو كالمحتجر.

وعلى القول بعد الملك فهو أحق به، أما محل المعدن فلا يملك بالحفر، والعمل مطلقًا.

وهل يشترط إذن الإمام؟ لا يشترط في ملك الأرض، أو المعدن إذن من الإمام.

أهم المسائل المتعلقة بالمعدن:

1-

إذا تزاحم على المعدن المستخرج اثنان، وكان الحاصل منه لا يكفيهما معًا قدم السابق، فيأخذ بقدر حاجته منه لسبقه، ويرجع في تقدير الحاجة إلى ما تقتضيه عادة أمثاله.

وقيل: إن أخذ لغرض دفع فقر، أو مسكنة مكن من أخذ كفاية سنة، أو العمر الغالب، فإن طلب زيادة على حاجته، فالأصح إزعاجه أي إبعاده إن زوحم عن الزيادة؛ لأن عكوفه عليه كالمحتجر، فإن لم يزاحم لم يتعرض له لكن مقتضى التعليل بأن عكوفه عليه كالمحتجر يقتضي أنه لا فرق، فإنه ما دام مقيما عليه، فلا يقدم عليه غيره من المحتاجين ما دام مقيما، وهذا يقتضي أنه إذا أخذ حاجته من المعدن الحاصل، وجب إزعاجه وإبعاده سواء زوحم، أو لا حتى يأخذ غيره منه حاجته، وبناء عليه فلو أخذ شيئا قبل إزعاجه، فالأقرب أنه يملكه؛ لأنه حين أخذه كان مباحًا.

ص: 201

فإن جاءَا معًا أو جهل السابق، أو تنازعا في الابتداء أقرع بينهما في الأصح لانتفاء المرجع نعم لو كان أحدهما مسلما، والآخر ذميا قدم المسلم بدون إقراع، وإن اشتدت حاجة الذمي؛ لأن ارتفاقه إنما هو بطريق التبع للمسلمين، ومقابل الأصح يجتهد الإمام، ويقدم من يراه أحوج، وقيل: بنصب من يقسم بينهما الحاصل.

2-

إذا أحيا مواتًا، فظهر فيه معدن ظاهر، أو باطن ملكه مع ملكه للبقعة لكونه من أجزاء الأرض المملوكة بالأحياء، ومع ملكه للبقعة يملك ما فيها بشرط أن لا يعلم بالمعدن حال الإحياء، فإن علمه وبنى عليه دارا مثلا، فلا يملك شيئا لا المعدن ولا الأرض في أرجع الطريقين لفساد القصد، إذ المعدن لا يتخذ دارًا ولا مزرعة، ولا بستانًا.

المياه وحكم تملكها:

أصل الماء ماء بالهاء، فأبدلت همزة؛ لأنها أقوى على الحركة يدل على ذلك ظهورها في الجمع والتصغير، فتقول في ماء مياه أمواه ومويه.

والمياه تنقسم إلى قسمين: الأول: مباح. والثاني: مختص.

الأول الماء المباح وحكمه: أما المباح فمياه الأودية كالنيل والفرات، والعيون الكائنة في الجبال ونحوها من كل ما ينبع في الموات، وسيول الأمطار؛ لأنه مشترك بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم:"الناس شركاء في ثلاثة الماء والنار والكلأ" 1، فمن سبق إلى شيء منه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به"، فإن أراد أن يسقي منه أرضا، فإن كان نهرًا عظيما كالنيل والفرات، وما أشبههما من الأودية العظيمة جاز أن يسقي منه ما شاء، ومتى شاء؛ لأنه لا ضرر فيه على أحد، وإن كان نهرا صغيرا لا يمكن له سقي

1 رواه الخطيب في الرواة عند مالك، عن نافع عن عمر، وزاد فيه: والملح وفيه عبد الله بن خواش متروك، وقد صححه ابن السكن "التلخيص ج3 ص65".

ص: 202

أرضه منه إلا إذا حبسه، فيراعى ما يلي:

1-

إن كانت الأرض متساوية بدأ بالسقي من هو في أول النهر، فيحبس الماء حتى يسقي أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يرسله إلى من يليه، وهكذا إلى أن تسقى الأرض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قضى في شرب نهر من مسيل أن للأعلى أن يشرب قبل الأسفل، ويجعل الماء فيه إلى الكعب، ثم يرسله إلى الأسفل الذي يليه حتى تنتهي الأرضون.

فعن عبد الله بن الزبير أن الزبير، ورجلًا من الأنصار تنازعا في شراج الحرة1، وهي التي تسقى بها النخل، فقال الأنصار للزبير: سرح الماء، فأبى الزبير فاختصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى من بعدك، فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا زبير اسق أرضك، واحبس الماء إلى أن يبغ الجذر".

وبهذا قال الجمهور، لكن الأرجح أنه يرجع في قدر السقي للعادة والحاجة لاختلافهما زمانا ومكانا، فيرجع في حق أهل كل محل بما هو المتعارف عندهم، وذلك؛ لأن الخبر جار على عادة أهل الحجاز، فيكون المعتمد اعتبار عادة الزرع والأرض والوقت.

2-

وإن كانت الأرض غير مستوية بأن كان بعضها أعلى من بعض، ولا يقف الماء في الأرض العالية إلى الكعب، وحتى يقف في الأرض المنخفضة إلى الوسط، فيسقي المنخفضة حتى يبلغ الماء الكعب، ثم يسدها، ويسقي العالية حتى يبلغ الكعب.

1 شراج الحرة في الأماكن التي يسيل إليها الماء من الحرة إلى السهل، والحرة حجارة سود.

2 حديث أنه صلى الله عليه وسلم، قال للزبير حين خاصمه الأنصاري في شراج الحرة التي يسقون بها النخل.. الحديث متفق عليه، وأما حديث عائشة أنه قضى أن الأعلى يرسل إلى الأسفل، ويحبس قدر الكعبين، فقد أعله الدارقطني بالقوف "التلخيص ج3 ص66".

ص: 203

ويتفرع على ذلك أنه إذا أحيا جماعة أرضا على هذا النهر، وسقوا منه ثم جاء بعدهم رجل، فأحيا أرضا في أعلاه، وأنه إذا سقى أرضه استضر أهل النهر، فإنه يمنع من هذا الإحياء؛ لأن من ملك أرضا ملكها بمرافقها، وهذا النهر من مرافق أرضهم، فلا يجوز مضايقتهم فيه.

والمراد بالأعلى الأقرب للماء؛ لأن من يحيي أرضا يحرص على قربها من الماء ما أمكن لما فيه من سهولة السقي، وخفة المؤنة وقرب عروق الغراس من الماء، ومن هنا يقدم الأقرب إلى النهر إن أحيوا دفعة، أو جهل السابق، وأما القول بالإقراع، فهو ضعيف فالمعتمد تقديم الأقرب في هذه الصورة.

وينبغي أن يعلم أن عمارة هذه الأنهار تكون من بيت المال، أما بناء قنطرة يمرون عليها، وبناء رحى فإن كانت من العمران جاز مطلقا إن كان العمران واسعًا، وبإذن الإمام إن كان ضيقًا إن لم يضر بالملاك، وإلا فلا يجوز.

وسائل تملك الماء المباح:

إذا كان المباح حقًّا مشتركًا للجميع وليس مملوكا لأحد إلا أنه يملك ما أخذه منه بيد، أو ظرف كإناء، أو حوض مسدود المنافذ، أو حفرة في أرض ومن ذلك أيضا كيزان الدولاب كساقية، فيملكه بمجرد دخوله فيه كالاحتطاب والاحتشاش، ولو كان الآخذ له غير مميز بخلاف الإحياء، فإنه يشترط في المحيى أن يكون مميزا، والفرق بين هذا، وما تقدم في الإحياء من اشتراط التمييز في المحييى، وعدم اشتراطه هنا فهو أنه لما كان الانتفاع بالماء المباح يكون بإعدامه، والقصد منه النفع به حتى للدواب التي لا قصد لها، ولا شعور توسعوا فيه، فلم يشترطوا في تملكه تمييزا، ولا غيره، ويؤيد ذلك أنهم جوزوا للذمي

ص: 204

أخذ الحطب ونحوه من دارنا، وذلك؛ لأن المسامحة تغلب في ذلك، وبناء على ما تقدم، فإن ما يقع من إرسال الصبيان للإتيان بماء، أو حطب يكون مملوكًا للمرسل حيث كان له ولاية عليهم بجواز استخدامه لهم في مثل ذلك -فإن لم يرسله أحد، أو أرسله غير وليه المذكور، فالملك في هذه الحالة للصبي، فيحرم على الغير أخذه منه، ولو كان والدًا لهذا الصبي إلا إذا رأى المصلحة في أخذه وصرفه، أو بذله على الصبي.

فلو رده إلى محله، فالأوجه عدم حرمة تضييعه عليه، بخلاف رمي المال، فإنه يضيع، والفرق بينهما أن رمي المال يعد ضياعًا له بخلاف الماء، فإنه يتمكن من أخذه منه، وإن لم يكن عين، وأيضا فإن السمك يخالف الماء، فيحرم إلقاؤه بعد اصطياده وذلك؛ لأن رد السمك إلى الماء يعد تضيعا له لعدم تيسر أخذه كل وقت بخلاف الماء.

الثاني الماء غير المباح: وهو الذي ينبع في أرض مملوكة، أو موات بقصد التملك، فصاحب الأرض لحق به من غيره؛ لأنه يملكه وهذا هو المنصوص عليه، وقيل: لا يملكه إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه، فكان أحق به هذا إذا لم يفضل عن حاجته، فإن فضل عن حاجته، واحتاج إليه غيره لزمه بذله من غير عوض بأن احتاجت إليه الماشية التي ترعى الكلأ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء، ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة" 1، فإن الماشية إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع الماء، فقد ضيع من الكلأ، وهذا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد من الماشية الحيوانات المحترمة.

1 رواه الشافعي، عن مالك بن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، وهو متفق عليه بلفظ:"لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ""التلخيص ج3 ص66".

ص: 205

وإنما حرم عليه أن يمنع فضل الماء دون فضل الكلأ؛ لأن الكلأ لا يستخلف عقيب أخذه، وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف، فتهلك ماشيته والماء يستخلف عقيب أخذه، وقد يقال: إن ما ينقص من الدلو، والحبل لا يستخلف، فتضرر والضرر لا يزال بالضرر، وإنما وجب بذله للماشية دون الزرع لحرمة الروح.

ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع؛ لأن الزرع لا حرمة له في نفسه، والماشية لها حرمة في نفسها، ولهذا لو احتاج الزرع لم يلزمه سقيه، ولو احتاجت الماشية لزمه سقيها.

وإن لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: علق الوعيد على منع الفضل؛ ولأن ما لا يفضل عن حاجته يتضرر ببذله، والضرور لا يزال بالضرر.

حكم ماء البئر المحفورة بموات:

لا يخلو الأمر من أن يكون الحافر لهذه البئر قد حفرها لارتفاق نفسه، ومصلحته الخاصة دون قصد ملكيتها، وإما أن يكون قد حفرها لارتفاق المارة، أو لا بقصد نفسه ولا المارة.

فإن حفرها لارتفاق نفسه، فهو أولى بمائها من غيره فيما يحتاجه منه لشربه، أو شرب دوابه، أو لسقي زرعه لسبقه إليه، ويظل له هذا الحق إلى أن يرتحل عنها لحديث:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به"، فإن ارتحل عنها بطلت أحقيته.

هذا إذا ارتحل معرضًا أما لو كان لحاجة، وارتحل عازمًا العودة، فلا يسقط إلا أن تطول غيبته، فليس المناط هو الارتحال بل الإعراض حتى لو أعرض، ولم يرتحل كان الحكم كذلك.

ص: 206

أما لو حفرها بقصد ارتفاق المارة، أو حفرها لا بقصد نفسه، ولا المارة، فإنه يكون كأحدهم، وتصبر مشتركة بين الناس، ويمتنع عليه سدها، وإن حفرها لنفسه لتعلق حق الناس بها، فلا يملك إبطاله.

كيفية تقسيم مياه القناة المشتركة:

أما تقسيم المياة المشتركة، فإن كانت بين جماعة، فينبغي أن يقسم ماؤها إذا أضاق عنهم، فلا يقدم فيه أعلى على أسفل، ولا عكسه ويكون تقسيم المياة عند ضيقه بينهم مهايأة بأن يسقي كل منهم يوما، أو بعضهم يوما، وبعضهم أكثر بحسب حصته، ولكل منهم الرجوع عن المهايأة متى شاء، فإن رجع وقد أخذ نوبته قبل أن يأخذ الآخر

نوبته، فعليه أجرة نوبته من الشهر للمدة التي أخذ نوبته فيها، وإذا تراضوا بأنه تكون السقيا مهايأة، فلا أثر لزيادة الماء، أو نقصه مع التراضي.

ص: 207