المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الركن الثالث: المعقود عليه: - فقه المعاملات

[عبد العزيز محمد عزام]

الفصل: ‌الركن الثالث: المعقود عليه:

‌الركن الثالث: المعقود عليه:

وهو المال المقصود نقله من أحد العاقدين إلى الآخر، ثمنا كان أو مثمنا، واعلم أن النقد يكون ثمنا دائما والمبيع مقابلة، وإن دخلت عليه الباء، فإذا قلت: بعتك هذا الدينار بعشرة أقلام، فالدينار هو الثمن والعشرة أقلام مقابل الثمن، أما إذا كان الثمن والمثمن نقدين، أو عرضين فالثمن ما دخلت عليه الباء، والمبيع مقابله، ومثال ذلك ما إذا قلت: بعتك هذا الثوب بحقيبة، فالحقيبة هي الثمن والثوب في مقابله1.

شروط المعقود عليه:

والمعقود عليه هو المثمن والمثمن، وله شروط خمسة:

أن يكون طاهرًا، وأن يكون منتفعا به، وأن يكون للعاقد عليه ولاية، وأن يكون قادرًا على تسلميه، وأن يكون معلوما للعاقدين عينا، وقدرا وصفة، وقد ذكر السبكي أن هذه الخمسة ترجع إلى شرطين فقط، وهما كونه مملوكا منتفعا به؛ لأن القدرة على التسليم والعلم به، وكون الملك لمن له العقد هي في الحقيقة شروط في العاقد، وشرط الطهارة ستغني عنه بالملك؛ لأن النجس غير مملوك، وأجيب عن ذلك بأن هذه أمور اعتبارية تارة تعتبر مضافة للعاقد، وتارة تعتبر مضافة للمعقود عليه2، وفيما يلي نتناول هذه الشروط بالبيان والإيضاح:

الشرط الأول: أن يكون المعقود عليه طاهرا:

والأعيان الطاهرة ضربان: ضرب لا منفعة فيه، وضرب فيه منفعة،

1 راجع حاشية المدابغي على الإقناع للخطيب "ج2 ص3".

2 حاشية البجيرمي "ج2 ص19".

ص: 28

فأما الذي لا منفعة فيه، فهو كالحشرات والسباع التي لا تصلح للاصطياد، والطيور التي لا تؤكل، ولا تصطاد كالرخصة، والحدأة، وما لا يؤكل من الغراب، فلا يجوز بيعه؛ لأن ما لا منفعة فيه لا قيمة له، فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، وبذل العوض فيه من السفه.

وأما ما فيه منفعه، فلا يجوز بيع الحر منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمة خصمته "أي خلجته1 وغلبته" رجل أعطى بي، ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه، ولم يوفه أجره".

وما عدا ذلك من الأعيان الطاهرة المنتفع بها في المأكل والمشرب، والملبس والأراضي والعقارات، فيجوز بيعها، لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعها من غير إنكار2 على صحة بيع كل ما كان طاهرا، أو أمكن تطهيره بغسله، فلا يصح بيع النجس.

والنجس إما أن يكون نجس العين، أو نجس بملاقاة نجاسة، فأما نجس العين فلا يجوز بيعه، وذلك مثل الكلب والخنزير، والخمر والسرجين3، وما أشبه ذلك من النجاسات، والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة، والخنزير، والأصنام". وروى ابن مسعود وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ثمن الكلب"، فنص على

1 خلجت الشيء خلجها من باب قتل انتزعته، واختلج العضو اضطراب "راجع المصباح المنير ج1 ص212".

2 المهذب: لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص261-262".

3 السرجين: الزبل وهي كلمة أعجمية فعربت قال الأصمعي: لا أدري كيف أقوله، وإنما أقول: الروث. المصباح المنير ج1 ص223.

ص: 29

الكلب والخنزير والخمر والميتة، ويقاس عليها سائر الأعيان النجسة.

وأما اقتناؤها فينظر فيه، فإن لم يكن فيها منفعة مباحة كالخمر، والخنزير والميتة والعذرة لم يجز اقتناؤها لما روى أنس، قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر تصنع خلا فكرهه، وقال:"اهرقها"؛ ولأن اقتناء ما لا منفعة فيها سفه فلم يجز، فإن كان فيه منفعة مباحة كالكلب جاز اقتناؤه للصيد والماشية، والزرع لما روى سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من اقتنى كلبا إلا كلب صيد، أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان"، وفي حديث أبي هريرة إلا كلب صيد، أو ماشية أو زرع؛ لأن الحاجة تدعو إلى الكلب في هذه المواضع فجاز اقتناؤه، وهل يجوز اقتناؤه لحفظ الدواب؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز للخبز.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إليه، وهل يجوز اقتناء الجرو للصيد، والزرع والماشية فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ليس فيه منفعة يحتاج إليها.

والثاني: يجوز؛ لأنه إذا جاز اقتناؤه للصيد جاز اقتناؤه لتعليم ذلك، وأما السرءجين فإنه يكره اقتناؤه، وتربية الزرع به لما فيه من مباشرة النجاسة.

وأما النجس بملاقاة النجاسة: فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة، فينظر فيها، فإن كان جامدًا كالثوب وغيره جاز بيعه؛ لأن البيع يتناول الثوب، وهو طاهر، وإنما جاورته النجاسة، وإن كان مائعا نظرت، فإن كان مما لا يطهر كالخل لم يجز بيعه؛ لأنه نجس لا يطهر بالغسل، فلم يجز بيعه كالخمر، والثاني: يجوز بيعه؛ لأنه يطهر بالماء فأشبه الثوب، فإن كان دهنا فهل يطهر بالغسل فيه وجهان: أحدهما: لا يطهر؛ لأنه لا يمكن عصره من النجاسة، فلم يطهر كالخل وهو الأصح، والثاني: يطهر؛ لأنه يمكن

ص: 30

غسله1 بأن يصب عليه في إناء ماء يغليه، ويحرك بخشبة حتى يصل إلى جميع أجزائه، وهو مردود بحديث الفأرة: فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن الفأرة تموت في السمن. فقال: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فأريقوه"، فلو أمكن تطهيره شرعا لم يقل فيه ذلك، وعلى إمكان تطهيره قيل: يصح بيعه قياسا على الثوب المتنجس، والأصح المنع عملا بالحديث الذي سبق ذكره، ويجري الخلاف في بيع الماء النجس؛ لأن تطهيره ممكن بالمكاثرة، وجزم بعضهم بالمنع، وقال: إنه ليس بتطهير بل يستحيل ببلوغه قتلين من صفة النجاسة إلى الطهارة2، كطهارة الخمر بالتخلل، وجلد الميتة بالدباغ، وقد يقال: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الماء من جنس الطاهر بخلاف الخمر3.

والحاصل أن فيه: قولين ضعيفين: القول بإمكان طهره، والقول بصحة بيعه، والثاني: مبني على الأول.

الشرط الثاني: أن يكون منتفعًا به انتفاعا شرعيا، ولو في المستقبل كالجحش الصغير، فلا يصح بيع ما لا ينتفع به بمجرده وإن تأتي النفع به بضمه إلى غيره كحبتي حنطة، إذ عدم النفع إما للقلة مثل حبتي الحنطة ففيها منفعة، ولكن لا يعتد بها شرعا، ولذا فإنه لا أثر لوضعها في فخ للاصطياد، وإما أن يكون عدم النفع راجع إلى الخسة كالحشرات الضارة، وهي دواب الأرض كالحية والعقرب والفأرة، إذ لا نفع فيها يقابل بمال أي لا

1 المهذب لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص262".

2 قليوبي وعميرة "ج2 ص157".

3 حاشية البجيرمي "ج2 ص21".

ص: 31

نفع يعتبر ويقصد شرعا بحيث يقابل بمال.

فالمدار أن يكون فيه منفعة مقصودة معتد بها شرعا بحيث يقابل بالمال، وقد علل الرافعي عدم صحة بيع ما لا منفعة فيه، بأن أخذ المال في مقابلته قريب من أكل المال بالباطل، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1. فلا يجوز بيع سباع لا تنفع كأسد وذئب ونمر، وما في اقتناء الملوك لها من الهيبة، والسياسة ليس من المنافع المعتبرة بخلاف ما ينفع منها كضبع للأكل، وفهد للصيد، وفيل للقتال.

والسبع هو كل حيوان مفترس، وهو لا نفع فيه؛ لأنه لا يؤكل ولا يصطاد ولا يقاتل عليه، ولا يتعلم ولا يصلح للحمل، وأما السياسة: فهي إصلاح أمور الرعية، وتدبير مصالحهم، قال في المختار: يقال ساس الناس أصلح أمورهم.

فروع:

لا يصح بين ألات اللهو والمحرم كالطنبور والمزمار، إذ لا نفع بها شرعا، وإن تمول رضاخها2، وقيل: يصح بين آلات اللهو، إن عد رضاخها مالا؛ لأن فيه نفعا متوقعا، ورد بأنها على هيئتها لا يقصد منها غير المعصية، ومثلها في عدم الصحة الصور والصلبان، ولو من ذهب أو فضة أو حلوى، لكن قال شيخنا بصح بيع صور الحلاوة؛ لأن المقصود منها الرواج. وقال الرافعي: الوجهان فيها يجريان كما في الصلبان والصور، ثم الحكم ثابت ولو كانت من الجواهر النقية، ثم لا يخفى أن من الصور ما يجعل من الحلوى بمصر

1 الآية رقم "29" من سورة النساء.

2 رضاض الشيء: ما تكسر منه: من رضضته رضا: كسرته. المصباح ج1 ص271.

ص: 32

على صور الحيوان، وقد عمت به البلوى ببيع ذلك وهو باطل، قال في شرح المهذب، وكذب الكفر والسحر والفلسفة1.

وصح بيع الماء على الشط أي جانب النهر، والتراب بالصحراء، ولكن بشرط أن يجوز الماء في قربة مثلا، ويكوم التراب كما قيد بذلك المحلى، فإذا باع قربة ماء مثلا على شط البحر، أو عربة رملي من الصحراء جاز ذلك على الأصح لظهور المنفعة فيهما، ولا يقدح في ذلك ما يقال من إمكان تحصيل مثلهما بلا تعب، ولا مؤنة وبحث بعضهم تخصيص الخلاف بما إذا لم يتميز للبيع بوصف زائد كبرودة الماء، ونعومة التراب وإلا فيصح بلا خلاف، وهذا يفيد أنه لو برد الماء، أو غربل التراب مثلا صح بيعه مطلقًا.

الشرط الثالث: القدرة على تسليم المبيع: فلا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء، والسمك في الماء، والجمل الشارد والفرس العائر، والمال المغصوب في يد الغاصب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:"نهى عن بيع الغرر" وهذا غرر، ولهذا قال ابن مسعود: لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر؛ ولأن القصد بالبيع تمليك التصرف، وذلك لا يمكن فيها لا يقدر على تسليمه2 نظرا الحيلولة المنفعة فيه، نعم يصح بيع المغصوب لمن يقدر على انتزاعه بلا مؤنة، فمتى كان البائع قادرًا على التسليم، والمشتري على التسلم صح البيع جزما، وإن كان عاجزا عنه، وكان المشتري قادرا على التسلم صح على الصحيح نظر إلى وصول المشتري إلى المبيع الثاني: لا يصح نظرا إلى عجز البائع بنفسه، ويستثنى من عدم

1 قليوبي وعميرة "ج2 ص158"، حاشية البجيرمي "ج2 ص22".

2 المهذب، لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص263".

ص: 33

صحة بيع الطير الطائر النحل الموثوقة أمه بأن تكون في الكوارة1، فيصح بيعه وفارق بقية الطيور بأنه لا يقصد بالجوارح، وبأنه لا يأكل عادة إلا مما يرعاه2.

والعجز عن تسليم المبيع، إما أن يكون حسا أو شرعا، ويتحقق العجز الحسي في بيع ما لا يقدر على تسليمه فعلا، كالمغصوب والضال، وما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة، وغيرها من المعاوضات قبل القبض لما روي أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله إني أبيع بيوعا كثيرة، فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال:"لا تبع ما لا تقبضه"؛ ولأن ملكه عليه غير مستقر؛ لأنه ربما هلك فانفسخ العقد، وذلك غرر من غير حاجة، ويتحقق العجز عن التسليم شرعا. في بيع جزء معين من شيء نفيس ينقص قيمته، أو قيمة الباقي بقطعه كجزء ثوب نفيس ينقص بقطعه، وما ذكر للعجز عن التسليم شرعا؛ لأنه لا يمكن التسليم إلا بالقطع، وفيه نقص وتضييع للمال، ويستثنى من ذلك إناء النقد فيصح بيع جزء معين منه لحرمة اقتنائه، ووجوب كسره، فالنقص الحاصل فيه موافق للمطلوب فيه فلا يضر3. ويصح في الثوب الذي لا ينقص بقطعه في الأصح، وذلك كغليظ الكرباس، وهو الثوب المنسوج من القطن، ففي حديث عمر، وعليه قميص من كرابيس4، ومنه أيضا الفل بفتح الفاء، وهو نوع من القماش الغليظ والخيش، والثاني: قال قطعة لا يخلو عن تغيير لعين المبيع، قال الرافعي: والقياس طرده في السيف والإناء،

1 كوارة النحل بضم الكاف: عسلها في الشمع. وقيل: بيتها إذا كان فيه العسل، وقيل: هو الخيلة "المصباح ج2 ص659".

2 النهاية "ص23".

3 حاشية البجيرمي "ج2 ص24".

4 النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير "ج4 ص14".

ص: 34

لكن اعتراضه الأسنوي بأن الثوب ينسج ليقطع بخلاف الإناء والسيف، وهو اعتراض له وجاهته، ولا يصح بين المرهون بغير إذن مرتهنة للعجز عن تسليمه شرعا، واختلف أصحابنا في بيع النحل في الكوارة أي الخلاية، فجوزه أبو العباس؛ لأنه يعرف مقداره حال دخوله وخروجه، وقال بعضهم: لا يجوز وهو قول أبو حامد الإسفراييني؛ لأنه قد يكون في الكوارة من لا يخرج، وإن اجتمع فرخه في موقع وشوهد جميعه جاز بيعه؛ لأنه معلوم مقدور على تسليمه، فجاز بيعه.

الشرط الرابع: أن تكون له على المبيع ولاية بملك، أو وكالة أو إذن من الشارع كولاية الأب والجد والقاضي، والظافر بغير جنس حقه، والملتقط لما يخاف فساده والمراد: ولاية تامة، ليخرج المبيع قبل قبضه، فلا يصح عقد الفضولي لغيره، وإن أجازه الملك لعدم ولايته على المعقود عليه، والفضولي من ليس مالكا ولا وكيلا ولا وليا، وفي القديم أن عقده موقوف على رضا المالك، وإن أجازه نفذ وإلا فلا، والمعتبر أجازة من يملك التصرف عند العقد، فلو باع مال الطفل فبلغ، وأجاز لم ينفذ ومحل الخلاف ما لم يحضر المالك، فلو باع مال غيره بحضرته، وهو ساكت لم يصح قطعا كما في المجموع1. ويجري القولان، فيما لو اشترى لغيره بلا إذن بعين ماله أو في ذمته، وفيما لو زوج ابنة غيره أو أطلق منكوحته، وأجر عقاره بغير إذنه، واحتج لذلك بما روى شبيب بن غرقدة التابعي عن عروة البارقي حديث توكله في شراء شاة، فاشترى شاتين، ثم باع إحداهما بدينار، وأخضر الأخرى مع الدينار، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم والحديث رواه شبيب، عن عروة فذكره، قيل: لجهالة فيه لم يحتج به الشافعي في هذا، ولكنه احتج به في أن من وكل في شراء شاة بدينار، له أن

1 حاشية البجيرمي "ج2 ص27".

ص: 35

يشتري به شاتين؛ لأن المرسل يحتج به إذا وافق القياس، وبيع الفضولي مخالف للقياس، ولو باع مال مورثه ظانا حياته، وكان ميتا صح في الأظهر لصدوره من المالك. والثاني: لا يصح لظنه أنه ليس ملكه.

الشرط الخامس من شروط المبيع: العلم به عينًا وقدرًا وصفة، حذرا من الغرر وهو منهي عنه، وبيعه باطل، لما ورى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم:"نهى عن بيع الغرر"، والغرر ما انطوت عناها عاقبته، أو تردد بين أمرين أغلبهما أخو فهما، ومن ذلك ما إذا قال له: بعتك أحد الثوبين وإن تساوت قيمتهما للجهل بعين المبيع، ولا يقال: أي غرر في هذا عند استواء القيمة؛ لأنا نقول: لا بد للعقد من مورد يتأثر به على أنه لا يخلو من الغرر لتفاوت الأغراض في مثل ذلك للمتعاقدين، فلا يكفي أحدهما بل لا بد من تعيين المعقود عليه1.

ويصح بيع صاع من صبرة، وإن جهلت صيعانها، فإن كانت معلومة القدر كعشرة صيعان مثلا صح ذلك جزما، والمبيع عشرها فلو تلف بعضها تلف بقدره من كل المبيع، وقيل: المبيع أي صاع كان فيبقى المبيع ما بقي صاع، وإن كانت مجهولة يصح البيع في الأصح المنصوص، والمبيع أي صاع كان، وللبائع تسليمه من أسفلها، وأن لم يكن مرئيا؛ لأن رؤية ظاهر الصبرة كرؤية كلها، والثاني لا يصح كما لو فرق صيعانها، وقال: بعتك صاعا منها؛ لأنه ربما تتفاوت بالكيل فيختلف الغرض، فإن بقي منها صاح واحد دون غيره تعين، وكذلك يصح بيع صبرة مجهولة الصيعان كل صاع بدرهم، ولا يضر في مجهولة الصيعان الجهل بجملة الثمن؛ لأنه معلوم بالتفصيل، وهذا يكفي، لأن يدفع به الغرر.

1 قليوبي وعميرة "ج2 ص161".

ص: 36

ولا يصح البيع بزنة هذه الحصاة ذهبا، أو بملء ذا البيت برا، للجهل بقدر الثمن في كل؛ لأن الثمن والمثمن إذا كانا في الذمة، فلا بد من معرفة قدره يقينا أعني كيلا أو وزنا أو ذرعا، فلو كان الثمن معينا كأن قال بملء ذا البيت من هذه الحنطة -صح لإمكان الأخذ قبل تلف البيت، ذكره الرافعي في جانب المبيع، والثمن مثله بالأولى بدليل جواز الاستبدال في الثمن دون المثمن، ولو كانا يعلمان مقدار ما يحويه البيع صح، فإذا قال: بعتك ملء ذا البيت من ذا البركان البيع صحيحا، والفرق بين هذه الصورة والصورة المتقدمة الباطلة أن البائع هنا عين البر، وهناك أبهمه؛ لأنه يمكن أن يحيطا بجوانب البيت، ويعرفا تخمينا يأخذ كذا، ويملأ البيت من البر المعين حالا قبل تلف البيت، أما في في هذه الصورة، فالمبيع معين والمعين لا يشترط فيه معرفة القدر تحقيقا، بل يكفي فيه التخمين1.

ولو باع بنقد يتعامل به في بلد المبيع، ولو مغشوشا أو عروضا مثلية، فهو المتعين، ومتى تعدد من جنسين أو من جنس، وغلب أحدهما تعين الغالب لظهور أن المتعاقدين أراداه، وإن لم يغلب أحدهما اشترط التعيين لأحدهما في العقد حتى يكون معلوما لطرفي العقد، هذا إذا كان هناك تفاوت بينهما، فإن استوت قيمتهما صح البيع بدون تعيين، وهذا هو المعتمد، ويبدو واضحا أن العقد يكون صحيحا، وإن لم يعلما بتساويهما في القيمة، وإذا اختلفا في الغلبة، وغيرها قدم مدعى الصحة.

1 حاشية البجيرمي "ج2 ص31".

ص: 37

ولا يجوز بيع مجهول القدر، فإن قال: بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح البيع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي: "نهى عن بيع الغرر"، وفي بيع البعض غرر؛ لأنه يقع على القليل والكثير؛ ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بقدر المبيع كالسلم، وإن قال: بعتك هذه الصبرة جاز، وإن لم يعرف مقدارها؛ لأن غرر الجهالة ينتفي عنهما بالمشاهدة، قال الشافعي: وأكره بيع الصبرة جزافا؛ لأنه يجهل قدرها على الحقيقة، وإن قال: بعتك ثلثها أو ربعها، أو بعتك إلا ثلثها أو ربعها جاز؛ لأن من عرف الشيء عرف ثلثه وربعه، وما يبقى بعدهما.

بيع الغائب:

والأظهر أنه لا يصح بيع الغائب، وهو ما لم يره المتعاقدان أو أحدهما خلافا للأئمة الثلاثة، وإن وصف بصفة السلم للغرر؛ ولأن الخبر ليس كالعيان، وهذا وإذا كان يجهل جنس المعقود عليه أو نوعه، فإن علم الجنس والنوع بأن قال: بعتك الثوب اليمني الذي في داري، أو بعتك الفرس الأدهم الذي في اصطبلي ففيه قولان:

قال في القديم: يصح ويثبت له الخيار إذا رآه لما روى ابن أبي مليكة، أن عثمان رضي الله عنه ابتاع طلحة أرضا بالمدينة نافلة بأرض له بالكوفة، فقال عثمان: بعتك ما لم أره، فقال طلحة: إنما النظر لي؛ لأني ابتعت مغيبًا، وأنت قد رأيت ما ابتعت فتحاكما إلى جبير بن مطعم، فقضى على عثمان أن البيع جائز، وأن النظر لطلحة؛ لأنه ابتاع مغيبا؛ ولأنه عقد على عين، فجاز مع الجهل بصفته كالنكاح.

وقال في الجديد: لا يصح لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الغرر"، وفي هذا البيع غرر؛ ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم، فإذا قلنا بقوله القديم فهل تغتفر صحة البيع إلى ذكر الصفات أو لا. فيه ثلاثة أوجه:

ص: 38

أحدهما: أنه لا يصح حتى تذكر جميع الصفات كالمسلم فيه.

والثاني: لا يصح حتى تذكر الصفات المقصودة.

والثالث: أنه لا يفتقر إلى ذكر شيء من الصفات، وهو المنصوص عليه؛ لأن الاعتماد على الرؤية، ويثبت له الخيار إذا رأه، فلا يحتاج إلى ذكر الصفات، فإن وصفه ثم وجده على خلاف ما وصف ثبت له الخيار، وإن وجده على ما وصف، أو أعلى ففيه وجهان: أحدهما: لا خيار له؛ لأنه وجده على ما وصف؛ فلم يكن له خيار كالمسلم فيه.

والثاني: له الخيار؛ لأنه يعرف ببيع خيار الرؤية، فلا يجوز أن يخلو من الخيار، وإذا ثبت له الخيار، فهل هو على الفور؟ قال أبو هريرة: هو على الفور؛ لأنه خيار تعلق بالرؤية، فكان على الفور كخيار الرد بالغيب. وقال أبو إسحاق: يتقدر الخيار بالمجلس؛ لأن العقد إنما يتم بالرؤية، فيصبر كأنه عقد عند الرؤية، فيثبت له خيار كخيار المجلس، فيمتد الخيار بامتداد المجلس وهو الأصح، ولا خيار للبائع، وقيل: له الخيار إن لم يكن قد رأى المبيع.

وإذا كنا قد اشترطنا في المعقود عليه أن يكون معلوما عنيا، وقدرا وصفة إلا أنه يمكن أن يكتفي عن ذلك بمشاهدة المعقود عليه، فإذا كان معينا كفت معاينته عن العلم بقدره، وذلك اعتمادًا على التخمين، فلو قال: بعتك هذه الحقيبة بهذه الصبرة، والفرض أنها مجهولة المقدار صح البيع، فإذا كانت الصبرة في موضع فيه ارتفاع، وانخفاض وعلم المشترى أو البائع بذلك بطل البيع لمنعه من التخمين؛ لأنه إذ ذاك يلتحق بغير المرئي، فإن ظن استواء ما تحتها صح البيع وثبت له الخيار، ولو كان تحتها حفرة فالبيع صحيح وما فيها للبائع، ولو باع الصبرة إلا صاعا، فإن كانت معلومة الصيعان صح البيع وإلا فلا، فإن قيل: كيف تحكم بالبطلان، وقد سبق أن جوزت بيع الصبرة

ص: 39

المجهولة المقدار جزافًا، وبطريق التخمين؟ قلنا بأن التخمين مع الاستثناء لا يوثق به1.

ويستفاد من ثبوت الخيار للمتعاقدين أن شراء الأعمى لا يصح، حيث جوزنا بيع الغائب بالوصف، لتعذر ثبوت الخيار له؛ لأنه لا يمكن أن تتأتى منه الرؤية المترتب الخيار عليها، وقيل: يصح ويقام وصف غيره له مقام رؤيته، أما في السلم، فإنه يصح سلمه إذا كان رأس مال السلم في الذمة، إذ المعين لا يصح منه كالبيع به، والفرق بين السلم، وبين غيره أن السلم يعتمد على الوصف أما البيع والإجارة، والرهن، فتعتمد على الرؤية، وسبيله أن يوكل فيها. وقيل: إن عمي قبل تمييزه بين الأشياء، أو خلق أعمى، فلا يصح سلمه لانتفاء معرفته بالأشياء، ولكن يرد على ذلك بأنه يمكن له أن يعرفها بالسماع، ويتخيل فرقًا بينها.

وقت الرؤية:

وتكفي الروية قبل العقد فيما لا يتغير غالبا إلى وقت العقد؛ لأن العلم بالمعقود عليه يتحقق، فإذا كان مما يغلب عدم تغيره كأرض، وإناء وحديد، أو كان يحتمل التغير، وعدمه كحيوان صح البيع نظرا للغالب في الأول، والأصل بقاء المرئي بحاله في الثانية، فإسن وجده المشتري متغيرًا عما رأه عليه تخير، فلو اختلفا في تغيره، فالقول قول المشتري بيمينه؛ لأن البائع يدعي عليه أنه رآه بهذه الصفة الموجودة الآن ورضي به، والأصل عدم ذلك بخلاف ما يغلب تغيره كالأطعمة التي يسرع فسادها، فإن رآها من يوم مثلا، فلا تكفي رؤيتها قبل العقد إذ مضت عليها مدة يغلب فيها الفساد، وإن لم تتغير بالفعل نظرا للغالب.

1 راجع قليوبي وعميرة "ج2 ص164". والمهذب لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص363، 364".

ص: 40

رؤية البعض ورؤية الكل:

وإذا كانت رؤية بعض المعقود عليه تدل عليه على باقية كانت رؤية ذلك البعض عن الكل، وذلك في الأشياء التي لا تختلف أجزاؤها، مثل الحنطة والشعير والجوز، واللوز، ولا خيار له إذا رأى الباطن إلا إذا خالف الظاهر، وقد سئل الشهاب عن بيع السكر في قدوره هل يصح، وتكفي رؤية أعلاه من رءوس القدور؟ فأجاب بأنه إن كان بقاؤه في القدور من مصالحه صح، ولعل وجه ذلك أن رؤية أعلاه1 لا تدل على باقية، لكنه اكتفى به إذا كان بقاؤه في القدور من مصالحه للضرورة، ومثل ذلك المائعات في ظروفها كالسمن، ولو جامدا والزيت والعسل الأسود، أو من النحل، وخلا عن الشمع، وكذلك القطن في عدله أو في جوزه بعد تفتحه، فهذه كلها تكفي رؤية بعضها، وإن لم ير الكل بخلاف الأشياء التي تختلف، وحداتها اختلافا بينها كالبطيخ والرمان والخوخ والعنب، فإن الاكتفاء برؤية الظاهر غير صحيح، فلا بد فيها من رؤية كل واحد منها على حدة، فإنا لم ير أحد جانبي البطيخة فالبيع باطل؛ لأنه كبيع الغائب.

ومما تكفي فيه رؤية بعضه ما كان أنموذجا لمتساوي الأجزاء كالحبوب، الأنموذج هو المسمى عند الفقهاء بالعينة بأن يأخذ البائع قدرا من البر، ويريه للمشتري، وهذه العينة لا بد من إدخالها في البيع بحيث تشمل صيغة البيع الجميع، وإن لم يخلطه بالباقي، فيقول: بعتك البر الذي عندي مع الأنموذج، فلو أعطى له الأنموذج من غير بيع، وباعه ما عنده لم يصح؛ لأنه صدق عليه أنه لم ير من المبيع شيئا، وكذلك لا يصح إذا عقد عليه مستقلا، وعلى ما

1 حاشية البجيرمي "خ2 ص33".

ص: 41

عنده عقدًا مستقلًّا.

وكذلك إذا لم يدل البعض على باقية بل كان صوانًا للباقي كقشير الرمان، وقشر القصب الأعلى الذي لا يمص معه، وجوز القطن بعد تفتحه؛ لأنه قبله لم يبد صلاحه، فلا يكفي رؤية قشره، ومثل ذلك البيض والقشرة السفلى للجوز واللوز، ففي هذه الأمثلة تكفي رؤية القشر المذكور؛ لأن صلاح باطنه في بقائه فيه، وإن لم يدل هو عليه.

وتعتبر رؤية كل شيء على ما يليق به، فيعتبر في الدار رؤية البيوت، والسقوف والسطوح والجدران، والمستحم والبالوعة، وفي البستان رؤية الأشجار والجدران، ومسايل الماء، وفي الدابة رؤية مقدمها ومؤخرها، وقوائمها وظهرها، وفي الثوب الديباج المنقوش رؤية وجهه، وقيل: رؤيتهما وفي الكتب الورق والبياض1.

وجاء في المهذب: إذا رأى بعض المبيع دون بعض، نظرت فإن كان مما لا يختف أجزاؤه كالصبرة من الطعام، والجرة من الدبس2 جاز بيعه؛ لأن برؤية البعض يزول غرر الجهالة؛ لأن الظاهر أن الباطن كالظاهر، وإن كان مما يختلف نظرت، فإن كان مما يشق رؤية باقية كالجوز في القشر الأسفل جاز بيعه؛ لأن رؤية الباطن تشق، فسقط اعتبارها كرؤية أساس الحيطان، وإن لم تشق رؤية الباقي كالثوب المطوى، ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كبيع ما لم ير شيئا، ومنهم من قال: يبطل البيع قولا واحدا؛ لأن ما رآه

1 راجع قليوبي وعميرة "ج2 ص166".

2 الدبس بالكسر عصارة الرطب "المصباح المنير ج1 ص225".

ص: 42

لا خيار فيه، وما لم يره في الخيار، وذلك لا يجوز في عين واحدة1.

النهي الذي يفسد البيع:

والنهي قد لا يقتضي البطلان، وقد يقتضيه وهو المراد هنا، ويتحقق ذلك إذا كان التحريم راجعا إلى ذات العقد، بفقد ركن من أركانه أو إذا رجع إلى أمر خارج، ولكنه لازم من لوازمه كفقد شرط من شروطه.

وقد جاء في البخاري من رواية ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن عسب الفحل"، بفحت العين وسكون السين المهملتين، وهو ضرابه أي طروقه للأنثى، يقال: ضرب الفحل الناقة ضرابا نزا عليها، ويقال: ماؤه، ويقال: أجرة ضرابه، وعلى الأولين يقدر في الحديث مضاف ليصح النهي، فيكون التقدير نهي عن بدل عسب الفحل من أجرة ضرابة، أو ثمن مائة أي بذل ذلك وأخذه؛ لأنه كبيرة لا يقل إثمها عن أكل أموال الناس بالباطل.

وقد ورد التصريح بالنهي عن ثمنه في رواية الشافعي في المختصر؛ لأن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بأفعال المكلفين والضراب فعل غير المكلف، والماء عين لا يتعلق بها حكم2.

فتحرم أجرته للضراب وثمن مائة عملا بالأصل في النهي من التحريم، والمعنى فيه أن ماء الفحل ليس بمقوم ولا معلوم، ولا مقدور على تسليمه لتعلقه باختياره، وهو غير مقدور عليه للمالك، وما قيل من صحة استئجاه للإنزاء محمول على ما إذا استأجره مدة لما يشاء، فله حينئذ إنزاؤه، وهذه الطريقة واجبة على مالكه حيث اضطر إليه أهل ناحية، وعليها حمل قول

1 المهذب لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص264".

2 راجع قليوبي وعميرة، وحاشية البجيرمي على المنهج.

ص: 43

بعضهم إن منعه كبيرة، فإن قلت: لا يلزم المالك أن يبذل ما له مجانا، وقد منعتم البيع والإجارة.

قلت: وطريق ذلك أن يؤجر له الفحل زمنا معينا؛ لينتفع به ما شاء، وهذا بخلاف ما لو استأجره لعمل معين كالحرث، فليس له الإنزاء، وإذا وقع الفحل في حالة ضرابه أو إنزائه فمات أو انكسر، ضمنه صاحب الأنثى إذا كان مستعيرا له؛ لأنه تلف في حال الاستعمال المأذون فيه بغيره لا به كوقوع البهيمة في بيت الدقيق حالة طحنها، أما إذا كان مستأجرا له فلا ضمان1.

ومقابل الأصح جواز استئجاره للضراب، كالاستئجار لتلقيح النخل.

ورد بأن الأجير قادر على التلقيح، وليس فيه عين حتى لو شرطت عليه ذلك فسد العقد2.

والإعارة للضراب محبوبة أي مستحبة، ومحل ذلك حيث لم يتعين وإلا وجبت. وكان الامتناع منها كبيرة حيث لا ضرر عليه في ذلك، وفي تلك الحالة عليه أن يبذله مجانا، ويفرق بينه وبين إعارة المصحف حيث لا تجب مجانا، وإن تعين لقراءة الفاتحة، بأن لم يكن في البلد غيره، بأن المصحف له بدل بأن يلقنه غيبا بخلاف هذا الذي نحن فيه، ويجوز أن يعطي صاحب الأنثى صاحب الفحل شيئا هدية، ويصح وقفه للضراب، وإذا أتلف شيئا فلا يضمنه الواقف بل يكون الضمان في متلفاته على من هو تحت يده، ولو جنى شخص على الفحل الموقوف أخذت منه القيمة، واشترى بها

1 حاشية البجيرمي على المنهج "ج2 ص60-61".

2 قليوبي وعميرة "ج2 ص175".

ص: 44

غيره ووقف مكانه1.

حبل الحبلة:

ومما نهى عنه حبل الحبلة بفتح المهملة والموحدة، وهذا النهى رواه الشيخان عن ابن عمر بلفظ:"نهي عن بيع حبل الحبلة" 2، وهو بيع النتاج، أو بيع شيء بثمن إلى نتاج النتاج أي إلى أن تلد هذه الدابة، ويلد ولدها فالبيع باطل؛ لأنه معلق به، ولا يقال: حبل لغير الآدمي إلا مجازا.

لأن الحبل مختص بالآدميات، وأطلق هنا على مطلق حمل سواء كان في الآدميات، أو في غيرها.

وبطلان البيع المستفاد من النهي على التفسير الأول: لأنه ما ليس بمملوك ولا معلوم، ولا مقدور على تسليمه، وعلى الثاني: لأنه إلى أجل مجهول.

والبيع إلى نتاج النتاج هو المسمى في الريف بالمقاومة، وهو بيع الدواب، ويؤجل الثمن إلى أن يأخذه من أولاد الدابة، ولا إثم فيه على فاعله؛ لأنه مما يخفى فيعذر فيه.

وصورته أن يقول: بعتك ولد ما تلده هذه الناقة، وهو بيع حبل الحبلة حقيقة، أو أن يبيع شيئا بثمن إليه، وهو بيع حبل الحبلة على التسامح، هذا هو تفسير ابن عمر، وبه أخذ الإمام الشافعي3.

1 الشبراملسي "ج2 ص61".

2 الحديث متفق عليه، وجعله بعضهم من قول نافع، وهو في المدرج للخطيب، ووهم ابن الجوزي في جامع المسانيد، فزعم أنه من إفراد مسلم "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر ج3 ص11.

3 قليوبي وعميرة "ج2 ص175".

ص: 45

ومما نهى عنه بيع الملاقيح والمضامين:

والملاقيح جمع ملقوحة، وهي لغة جنين الناقة خاصة، وشرعا أعم من ذلك، وهي ما في البطون من الأجنة، وذلك شامل للذكر والأنثى، ويرد على ذلك أن التعريف اللغوي أخص من التعريف الشرعي مع أن المشهور العكس إلا أن يقال هذا المشهور أغلبي، وإلا فقد يكونا متساويين، وقد يكون اللغوي أخص كما هنا.

والمضامين جمع مضمون كمنصور، أو مضمان كمفتاح، وهي ما في أصلاب الفحول من الماء، قال الأزهري: سميت بذلك؛ لأن الله تعالى أودعها ظهورها، فكأنها ضمنتها.

وقد روى النهي عن بيعهما مالك مرسلًا، والبزار مسندا وعدم صحة بيعهما من حيث المعنى لما روى من حديث أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين"1.

النهي عن بيع الملامسة والمنابذة:

وهو أن يلمس بضم الميم وكسرها ثوبا مطويا، أو في ظلمة، ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه، اكتفاء بلمسه عن رؤيته أو يقول: إذا لمسته فقد بعتكه اكتفاء بلمسه عن الصيغة، أو يبيعه شيئا على أنه متى لمسه لزم اليبع، وانقطع خيار المجلس وغيره، وقد روى الشيخان عن أبي سعيد هذا الحديث بلفظ:"نهي عن المنابذة والملامسة في البيع"2.

1 الحديث رواه ابن عباس في الكبير للطبراني والبزار، وعن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق وإسناده قوي، التلخيص الحبير ج3 ص12.

2 والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يثلبه، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نزاض" متفق عليه "نيل الأوطار ج5 ص170".

ص: 46

وقد علل الإمام بطلانه بالتعليق، والعدول عن الصيغة الشرعية، وبينه الأسنوي بأنه إن جعل اللمس شرطا فبطلانه للتعليق، وإن جعل ذلك بيعا فلفقد الصيغة. وأما قوله: إذا لمسته فقد بعتكه فيقول الآخر، فهو وإن وجد الإيجاب والقبول، لكنه مع الشرط الفاسد وهو اللمس.

والمنابذة بأن يجعلا النبذ بيعًا اكتفاء به عن الصيغة، فيقول أحدهما: انبذ إليك ثوبي بعشرة، فيأخذه الآخر أو يقول: بعتك هذا بكذا على أني إذا نبذته إليك لزم البيع، وانقطع الخيار، والبطلان لعدم الرؤية، أو عدم الصيغة، أو للشرط الفاسد.

النهي عن بيع الحصاة:

رواه مسلم عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الحصاة" يعني: إذا قذف الحصاة فقد وجب البيع1، بأن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما تقع عليه هذه الحصاة، أو يجعلا الرمي لها بيعا اكتفاء به عن الصيغة، فيقول أحدهما: إذا رميت هذه الحصاة، فهذا الثوب مبيع منك بعشرة، أو يقول: بعتك ولك الخيار إلى رميها، والبطلان في ذلك للجهل بالمبيع أو زمن الخيار، أو لعدم الصيغة. ويرد على الأخير أن قوله في الملامسة: فقد بعتكه صيغة، فكان الوجه أن يقال: إن البطلان في هذه للتعليق لا لعدم الصيغة، وأجاب الشيخ عميرة بأنه يعلم من هذا الكلام أن قوله: فقد بعتكه إخبار لا إنشاء، أو أنه جعل الصيغة مفقودة لانتفاء شرطها، وعدم التعليق2.

1 التلخيص الحبير "ج3 ص12".

2 راجع الشبراملسي على المنهج "ج2 ص63".

ص: 47

ولا يصح بيع العَرْبون:

ويقال: العَرْبان، وهو أن يشتري سلعة، ويعطيه نقدا ليكون من الثمن إن رضيها وإلا فهبة، روى أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم:"نهى عن بيع العربان"1. وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد والهبة إن لم يرض السلعة، وعبارة الشبراملسي لاشتماله على شرطين مفسدين، شرط الهبة وشرط رد المبيع بتقدير أن لا يرضى.

ويحرم التفريق بين الأم والولد الصغير لقوله: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه، وبين أحبته يوم القيامة" 2، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وسواء التفريق بالبيع أو الهبة أو القسمة ونحوها، فإذا فرق ببيع أو هبة بطلا في الأظهر للعجز عن التسليم شرعا بالمنع من التفريق، والثاني يقول: المنع من التفريق لما فيه من الإضرار لا لخلل في البيع.

والمراد بالتفريق في الحديث التفريق بين الأم وولدها، أما التفريق بين البهيمة، وولدها فقد قال الأسنوي فيه تفصيل: وهو لا يحرم إن كان بالذبح لهما أو لأحدهما، والمذبوح الولد أو الأم مع استغنائه عنها، ويكره حينئذ، ويحرم التصرف فيما عدا ذلك، ولا يصح التصرف في حالة الحرمة بنحو بيع، فلو باع أحدهما لمن يغلب على ظنه أنه يذبحه لم يصح، فقد لا يذبح وشرط الذبح عليه غير صحيح، والمعتمد أنه لا يصح البيع مطلقا ذبح المشتري، أم لا ولو علم أنه يذبح، لخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "معلون من فرق بين والدة وولدها،

1 رواه مالك وأبو داود، وابن ماجه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وفيه راو لم يسم، وسمي في رواية لابن ماجه ضعيفة - التلخيص الحبير ج3 ص17".

2 الحديث نص في تحريم التفريق بين الوالدة وولدها، وقيس عليه سائر الأرحام المحارم بجامع الرحامة "سبل السلام للصنعاني ج3 ص24".

ص: 48

وعلى ذلك، فهو من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه.

والمعتمد أنه من الصغائر خلافا لابن حجر، حيث قال: إنه من الكبائر كما قرره الشيخ عبده1.

النهي عن بيعتين في بيعة:

رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة، وقال: حسن صحيح2 بأن يقول: بعتك هذا العقار بألف نقدا، أو بألفين إلى سنة، فخذ بأيهما شئت أو شئت أنا، أو يقول: بعتك هذا الحسان على أن تبيعني دارك بألف، أو تشتري مني داري بكذا، والبطلان للجهل بالعوض في الأول، وللشرط الفاسد في الثاني3، وفي تسمية هذا بيعتين في الصورة الأولى تسامح؛ لأنها بيعة واحدة، وإنما سماها بيعتين باعتبار الترديد في الثمن بين الألف حالا، والألفين مؤجلا، وهذا بخلاف ما لو قال، وبألفين بالواو فيصح، ويكون بعض الثمن حالا، وهو ألف وبعضه مؤجلا وهو ألفان، ومحل ذلك إذا حذف قوله: فخذ بأيهما شئت، وإلا لم يصح4.

وقد نهى صلى الله عليه وسلم: "عن بيع وشرط"5، وراه عبد الحق في الأحكام عن

1 الشبراملسي على المنهج "ج2 ص65".

2 حديث أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيعة في بيعة، رواه الشافعي، وأحمد والترمذي، والنسائي - التلخيص الحبير ج3 ص12.

3 قليوبي وعميرة "ج2 ص177".

4 حاشية الشبراملسي "ج2 ص66".

5 ورواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده بلفظ:"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع" التلخيص الحبير ج3 ص12.

ص: 49

عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وروى أبو داود وغيره بهذا الطريق:"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع"، وفي رواية1:"لا بيع وشرط"، كبعتك سيارتي بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أو بشرط أن تقرضني مائة، والمعنى في ذلك أنه جعل الألف، ورفق العقد الثاني أي انتفاعه به ثمنًا، واشتراط العقد الثاني فاسد، فبطل بعض الثمن، وليس له قيمة معلومة حتى يفرض التوزيع عليه، وعلى الباقي فبطل البيع2.

والحاصل من كلامهم أن كل شرط مناف لمقتضى العقد، إنما يبطله إذا وقع في صلبه، أو بعده وقبل لزوم العقد، بخلاف ما لو تقدم عليه ولو في مجلسه، فإن بايعه السيارة، ويشتري منه الدار، فإن بيع السيارة باطل وأما بيع الدار، فإن تبايعاها معتقدين صحة العقد الأول بطل، وإن اعتقدا فساده صح؛ لأنه حينئذ ليس مبنيًّا على الأول3.

ولو اشترى زرعا بشرط أن يحصده البائع "بضم الصاد وكسرها"، أو ثوبا ويخيطه البائع، أو بشرط أن يخيطه، فالأصح بطلانه لاشتماله على شرط عمل فيما لم يملكه بعد، وذلك فاسد قال الأسنوي: لأنه شريط يخالف مقتضى العقد4، وينبغي أن يكون مثله إذا شرط البائع ذلك والمشتري يوافقه؛ لأن في ذلك معنى شرطه، وإنما لم يحمل كلام المصنف على الثاني الغني عن التأويل؛ لأن المذكور في كلامهم الأول، لكن المناسب لقول المتن عن بيع بشرط بقاء المتن بحاله، إلا أن يراد بالبيع الأول ما يشمل الشراء، وهذا كله فيما إذا جعل الحصاد، أو الخياطة على البائع أو أجنبي، فإن جعل

1 رواه الخمسة وصححه الترمذي، وابن خزيمة والحاكم "سبل السلام ج3 ص16".

2 قليوبي وعميرة "ج2 ص177".

3 حاشية الشبراملسي "ج2 ص66".

4 قليوبي وعميرة "ج2 ص177".

ص: 50

على المشتري فإنه يصح، وقوله: بشرط أن يحصده البائع أو أجنبي، أو قال: وتحصده بخلاف ما إذا قال: وأحصده بصيغة الأمر، فإنه لا يكون شرطًا؛ لأن صيغة الأمر شيء مبتدأ غير مقيد لما قبله، فلم تكن في معنى الشرط أما صيغة الخبر، فإنها مقيدة لما قبلها، فكانت بمعنى الشرط، ومن هذا القبيل اشتريت منك هذا الحطب بشرط أن تحمله إلى البيت، سواء كان البيت معروفا أم ولا، وكذا لو شرط عليه حمل البطيخة المشتراة، ونحو ذلك1.

والثاني: يصح، ويلزم الشرط وهو في المعنى بيع، وإجارة يوزع المسمى عليهما باعتبار القيمة، ورد بأنه ليس فيه ذكر مدة ولا عمل معلوم.

والثالث: يبطل الشرط ويصح البيع بما يقابل المبيع من المسمى، وهذا حاصل الطرق الثلاثة في المسألة، أصحها بطلان البيع والشرط، والثانية فيهما القولان في الجمع بين بيع، وإجارة والثالثة يبطل الشرط، وفي البيع قولًا تفريق الصفقة. وقوله: الطرق الثلاثة فيه اعتراض على المصنف حيث لم يعتبر بالمذهب، ومثل هذا الاعتراض وجهه الأسنوي على تعبير المصنف بالأصح، إلا أن اعتراض الأسنوي من وجهين: الأول أن المسألة: ذات طرق، والثاني: أن التعبير بالأصح يقتضي قوة الخلاف مع أنه ضعيف؛ لأن الراجح طريق القطع.

والذي عليه أكثر الفقهاء أن كل شرط ليس في كتاب الله، ولا مأثورًا عن نبيه، ولا مستخرجا ومستنبطا من القرآن، أو السنة الصحيحة من وجه واضح، فهو باطل وإن كان مائة شرط، فعن عائشة قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم من العشي، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "ما بال أناس يشترطون شروطا

ليست

1 حاشية البجيرمي.

ص: 51

في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق"، رواه البخاري ومسلم1.

ويستثنى من النهي عن بيع وشرط صور منها:

1-

البيع بشرط الخيار، أو البراءة من العيب، أو بشرط قطع الثمر.

2-

البيع بشرط الأجل، والرهن، والكفيل للعينات بثمن في الذمة.

والدليل على صحة البيع في ذلك الحاجة إليها في معاملة من لا يرضى إلا بها، والضمير في قوله: للحاجة إليها ليس راجعًا إلى هذه المستثنيات فقط، بل إنه يجوز عوده على ما قبلها أيضًا، فيكون راجعا للسنة، وهذا الدليل الأول والدليل الثاني هو قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 2، وإنما قدم الدليل العقلي على الآية لعمومه وخصوصها بالأجل، والآية وإن كانت واردة في السلم، فالعبرة فيها بعموم لفظها.

ولا بد من كون الرهن غير المبيع، فإن شرط رهنه بالثمن بطل البيع، وإنما مثل بالثمن؛ لأن التأجيل يغلب في الأثمان دون المبيع، والغالب في المبيع أن يكون معينا، وذلك لاشتماله على شرط رهن ما لم يملكه بعد الآن؛ لأنه إنما يملكه بعد البيع والبيع لا يكون إلا بتمام الصيغة، وعلى ذلك فلا بد أن يكون الشرط من المبتديء من المتبايعين، حتى يبطل البيع، فلو رهنه بعد قبضه بلا شرط مفسد صح، والشرط المفسد هنا أن يكون في صلب العقد تمامه3.

1 القسم الثاني: المعاملات من كتاب الوحيين تأليف عبد العزيز بن راشد "ص3".

2 سورة البقرة الآية: 282.

3 حاشية الشبراملسي "ج2 ص68".

ص: 52

ولا بد أن يكون المرهون معينًا بالمشاهدة، أو الوصف بصفات السلم، ولا ينافي ذلك ما مر في بيع الغائب من أن الوصف لا يجزئ عن الرؤية؛ لأنه في معين لا موصوف في الذمة، وما هنا في وصف لم يرد على عين معين1.

وفي الكفيل بالمشاهدة أو بالاسم والنسب، إذا كانا يعرفان المسمى المنسوب، وإلا كان من قبيل الغائب، ولا يكفي الوصف كموسر ثقة، وإنما اكتفى في الكفيل بالمشاهدة لأدائها غالبا إلى معرفة حال الشخص صعوبة، وسهولة، وبحث الرافعي أن الاكتفاء به أولى من الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله، وسكت عليه النووي وأقره، وتقييد الثمن بكونه في الذمة للاحتراز عن العين، كما لو قال: بعتك بهذه الدراهم على أن تسلمها لي في وقت كذا، أو ترهن بها كذا، أو يضمنك بها فلان، فإن الشرط باطل ذكره في الروضة كأصلها في الأجل؛ لأنه رفق شرع لتحصيل الحق الذي في الذمة والمعين حاصل، ثم ذكر الرافعي في التكلم على ألفاظ الوجيز الرهن، والكفيل، ويقال في كل منهما إن رفق مشروع لتحصيل الحق والمعين حاصل، فشرط كل من الثلاثة معه في غير ما شرع له.

ويشترط في الأجل أن لا يبعد بقاء الدنيا إليه، وإن بعد بقاء المتعاقدين، أو أحدهما إليه لقيام وارثهما مقامهما، فلا يصح التأجيل بألف سنة مثلًا للعلم حال العقد بسقوط بعضه، وهو يؤدي إلى الجهل به المستلزم للجهل بالثمن؛ لأن الأجل يقابله قسط من الثمن، ومعلوم أن البيع يبطل بالأجل المجهول للعلة المذكورة.

1 حاشية البجيرمي "ج2 ص68".

ص: 53

ويشترط إشهاد على العقد خوفا من الجحود سواء كان العرض في الذمة، أو معينا لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 1، ونزولها في السلم كما قاله ابن عباس لا يمنع الاستدلال بها في غيره؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، فإن قلت: أي عموم هنا قلت: الفعل كالنكرة. وهي في حيز الشرط للعموم فكذا الفعل، أو؛ لأن الضمير في قوله: وأشهدوا راجع للأشخاص والعموم في الأشخاص يستلزم العموم في الأحوال، وصرف الأمر في الآية عن الوجوب

الإجماع وهو أمر إرشاد لا ثواب فيه إلا لمن قصد به الامتثال2.

ولا يشترط تعيين الشهود في الأصح إذ لا يتفاوت الغرض فيهم؛ لأن الحق يثبت بأي عدول كانوا، ولذلك لو عينهم لم يتعينوا، ولا أثر لتفاوت الأغراض بتفاوتهم وجاهة ونحوها، وهذا ربما يفيد جواز إبدالهم بدونهم، وهو كذلك. والثاني يشترط تعينهم كالرهن والكفيل، وفرق بتفاوت الأغراض فيهما بخلاف الشهود، فإن الحق يثبت بأي عدول كانوا، وقطع الإمام بالأول ورد الخلاف إلى أنه لو عينهم هل يتعينوا؟، الأصح عدم تعينهم، فإن لم يرهن المشتري، أو لم يشهد كما في أصل الروضة، أو لم يتكفل المعين فللبائع الخيار لفوات ما شرطه، ولو عين شاهدين فامتنعا من التحمل ثبت الخيار إن اشترط التعيين، وإلا فلا ولو شرط مقتضى العقد كالقبض، والرد بعيب أو ما لا غرض فيه كشرط أن لا يأكل إلا كنا صح العقد فيهما، ولغا الشرط في الثاني، وأخذ من كلامه في التتمة، ونص في الأم فساد العقد في الثاني3 ذلك أن المشروط في العقد، إما لصحته كشرط قطع الثمر، أو من مقتضياته

1 من الآية 282 من سورة البقرة.

2 المرجع السابق "ج2 ص70".

3 قليوبي وعميرة "ج2 ص180".

ص: 54

وهو ما رتبه الشارع عليه كالقبض والرد بالعيب، أو من مصالحة كالكتابة والخياطة، أو مخالف لمقتضاه كعدم القبض فهذا الأخير مفسد للعقد دون ما قبله، وهو معمول به في الأول، وتأكيد في الثاني، ومثبت للخيار في الثالث. ولو شرط وصفًا يقصد مثل أن تكون الدابة حاملا، أو لبونًا صح الشرط مع العقد، وله الخيار إن أخلف الشرط، وفي قول يبطل العقد للجهل بالشرط، ولو قال: بعتك الدابة وحملها بطل البيع في الأصح لجعله الحمل المجهول مبيعا بخلاف بيعها بشرط كونها حاملا، ففيه جعل الحاملية وصفا تابعا.

والثاني: يقول: لو سكت عن الحمل دخل في البيع، فلا يضر التنصيص عليه كما لو قال: بعتك الجدار ورأسه.

وأجيب بأن اسم الجدار شامل للرأس بخلاف اسم الدابة لا يشمل الحمل، ولا يصح بين الحمل وحده؛ لأنه غير معلوم ولا مقدور على تسليمه، ولا الحامل دونه؛ لأنه لا يجوز إفراده بالعقد، فلا يجوز استثناؤه كأعضاء الحيوان.

وقد يفرق بينهما بأن الحمل آيل إلى الانفصال، فالأولى أن يقال: هو استثناء مجهول من معلوم، فيصير الكل مجهولًا.

ص: 55

النهي الذي لا يفسد البيع:

والغرض من هذا المبحث هوب بيان العقود التي نهى الشارع عنها، وحرم تعاطيها ومع ذلك تصح سواء سبقتها تلك المنهبات، أو قارنتها قال المصنف: ومن المنهي عنه ما لا يبطل بالنهي عنه لمعنى اقترن به لا لذاته، أو لازمه فقوله: ما لا يبطل بالنهي عنه أي نوع مغاير للأول، والضمير في يبطل عائد على البيع لدلالة السياق عليه.

والنهي في هذه الأمور كما سبق أن ذكرنا لا يرجع إلى ذات العقد، ولا إلى لازمه بل لأمر خارج عنهما كالتضييق، والإيذاء، وهذا لا يقتضي الفساد كبيع الحاضر للبادي، بأن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه، فيقول له: بلدي أي رجل من أهل تلك البلد اتركه عندي لا بيعه لك على التدريج شيئا، فشيئا بأغلى، فيوافقه على ذلك1، فالمنهي عنه هو القول المذكور أما البيع بعد ذلك فجائز، قال بعضهم: لأنه تنته به الحرمة، وقوله: فيوافقه على ذلك ليس قيدا في الحرمة، فالقول حرام، وإن لم يوافقه عليه بل، وإن خالفه بعدم امتثاله بالبيع حالًا.

ويظهر أن بعض أهل البلد لو كان عند متاع مخزون، فأخرجه لبيعه حالا، فتعرض له من يبيعه له تدريجا بأغلى حرم للعلة المذكورة، ولكن اعتمد شيخنا عدم الحرمة؛ لأن النفوس لها تشوف لما يقدم به بخلاف الحاضر.

قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبع حاضر لباد" 2، رواه الشيخان من رواية أبي هريرة، وغيره زاد مسلم:"دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

1 شرح جلال الدين المحلي "ج2 ص182".

2 وهو حديث جابر، وحديث أبي هريرة مثله "متفق عليه" التخليص ج3 ص14.

ص: 56

والمعنى في النهي عن ذلك ما يؤدي إليه من التضييق على الناس بأن يكون بالشرطين المشتمل عليهما التفسير.

أحدهما: أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه كالأطعمة، فما لا يحتاج إليه إلا نادرًا لا يدخل في النهي.

ثانيهما: قصد القادم البيع بسعر يومه، فلو قصد البيع على التدريج، فسأله البلدي تفويض ذلك إليه، فلا بأس؛ لأنه لم يضر بالناس، ولا سبيل إلى منع المال منه1. وكذلك إذا انتفى عموم الحاجة إليه كان لم يحتج إليه إلا نادرا.

ومثل البيع الإجارة، فلو أراد شخص أن يؤجر محلا حالا، فأرشده شخص إلى تأخير الإجارة لوقت كذا، كزمن النيل مثلا حرم ذلك لما فيه من إيذاء المستأجر، ولو استشاره البدوي فيما فيه حظه، وجب عليه إرشاده لما فيه من النصيحة على أوجه الوجهين، وقال الأذرعي: إنه الأشبه، وكلام المصنف يميل إليه.

والوجه الثاني: لا. أي لا يجب إرشاده توسيعًا على الناس، ومعنى وجوب إرشاده أنه يسكت لا أنه يخبره بخلاف نصيحته، وقال ابن الوكيل: لا يرشده توسيعًا على الناس وهو الظاهر2، وقال الجلال المحلي: ولو استشاره صاحب المتاع في التأخير، وجب عليه الإرشاد بالنصيحة، ولو بما فيه التضييق تقديما لها على المعتمد.

1 المرجع السابق.

2 حاشية البجيرمي "ج2 ص78".

ص: 57

والنهي للتحريم، فيأثم بارتكابه العالم به، ومثله الجاهل المقصر ولو فيما يخفى غالبا قال شيخنا: وللحاكم أن يعزر في ارتكاب ما لا يخفى غالبا، وإن ادعى جهله.

فالحرمة مقيدة بالعلم أو التقصير، وأن التعزير مقيد بعدم الخفاء، وفي الروضة قال القفال: الإثم على البلدي دون البدوي، ولا نظر لموافقته مراعاة لغرضه بوجود الريح في ماله، ولو تلقى الركبان، وباعهم ما يقصدون شراءه من البلد، فهل هو كالتلقي للشراب فيه وجهان: المعتمد منهما أنه كالتلقي، والركبان جمع راكب، والتعبير به جرى على الغالب: والمراد القادم، ولو واحدا أو ماشيا.

السوم على سوم غيره:

قال صلى الله عليه وسلم: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه" 1، رواه الشيخان عن أبي هريرة، وهو بمعنى النهي، فيأثم مرتكبه العالم به، والمعنى فيه الإيذاء، وذكر الرجل والأخ ليس للتقييد بل الأول؛ لأنه الغالب، والثاني للرقة والعطف عليه، وسرعة امتثاله، فغيرهما مثلهما.

وإنما يحرم ذلك بعد استقرار الثمن، وصورته أن يقول لمن أخذ شيئا ليشتريه بكذا: رده حتى أبيعك خيرا منه بهذا الثمن، أو مثله بأقل، أو يقول لمالكه: استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحل الحرمة إن كان السوم الأول جائزا، وإلا فلا يحرم السوم على سومه، ويؤيده جواز الخطية على الخطية كانت الأولى محرمة. ولا بد من اتفاقهما عليه صريحًا مع المواعدة على إيقاع

1 الحديث متفق عليه، ومثله رواه الدارقطني في حديث بمعناه. وفي الرسالة للشافعي لا أحفظه ثابتا، وتعقبه البيهقي بأنه روي من أوجه كثيرة، فذكرها - التلخيص الحبير ج3 ص14.

ص: 58

العقد في وقت معين، فلو اتفقا عليه ثم افترقا من غير مواعدة لم يحرم السوم، كما نقله الإمام عن الأصحاب، فإذا لم يكن صريحا، ومثله قوله: حتى أشاور أو سكت فلا يحرم وقيل: يحرم، ومثل القول أن يخرج له من جنس ما يريد شراءه، وهو أرخص منه، وكانت قرينة على إرادة الرد، والقول المذكور حرام، وإن لم يوجد رد ولا بيع للإيذاء، وصرح في الزواجر، وفيما بعده بأنه من الكبائر.

وخرج باستقرار الثمن ما يطاف به على من يزيد في ثمنه، والحال أنه يريد الشراء، فلا يحرم ذلك وإلا حرمت الزيادة؛ لأنها من النجش الآتي بل يحرم على من لم يرد الشراء أخذ المتاع الذي يطاف به لمجرد التفرج عليه؛ لأن صاحبه إنما يأذن عادة في تقليبه لمن يريد الشراء، ويدخل في ضمانه بمجرد ذلك حتى، ولو تلف في يد غيره كان طريقا في الضمان؛ لأنه غاصب بوضع يده عليه، فليتنبه له فإنه يقع كثيرًا.

ويحرم البيع على بيع غيره قبل لزوم البيع بانقضاء خيار المجلس، أو الشرط وكذا بعده في زمن خيار عيب على المعتمد، بأن يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثله بأقل من ثمنه، والشراء على الشراء قبل لزومه بأن يأمر البائع بالفسخ، ليشتريه بأكثر لخبر الصحيحين:"لا يبع بعضكم على بيع بعض"، زاد النسائي حتى يبتاع أو يذر"1.

والمعنى في تحريم ذلك الإيذال العالم العربي بالنهي، وفي ذلك إشارة إلى رد قول بعضهم: لا يشترط ذلك هنا بخلاف البيع على البيع؛ لأنه خديعة، وتحريم

1 الحديث متفق عليه، وفي معناه حديث عقبة بن عامر: "المؤمن أخو المؤمن، فلا

يحل لؤمن أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر، ولا يخطب على خطبته" التلخيص الحبير ج3 ص15.

ص: 59

الخديعة معلوم من العمومات، وقال السبكي: النزاع إنما هو في نهي خاص أما العلم بالتحريم، فلا بد منه في التأثيم قطعًا أي عند الله سبحانه وتعالى، وأما في الحكم الظاهر للقضاة، فما اشتهر تحريمه لا يحتاج فيه إلى الاعتراف بالعلم بخلاف الخفي.

ولو أذن البائع على بيعه، ارتفع التحريم وكذا المشتري في الشراء، ومحله أن يأذن لا عن ضجر ونحوه، وإلا فلا عبرة بإذنه، وقد ذكر الماوردي أنه يحرم طلب السلعة من المشتري مثلا بزيادة ربح، والبائع حاضر، وفي كلام الشافعي إذا اشترى رجل من رجل سلعة، ولم يتفرقا ينهي أن يبتاع المشتري سلعة تشبه السلعة التي اشتراها؛ لأنه ربما يحمله على رد الأولى.

النجش: وهو أن يزيد في ثمن السلعة المعروضة للبيع لا لرغبة في شرائها، بل ليغر غيره فيشتريها، وذلك منهي عنه، روى الشيخان عن ابن عمر أنه صلى لله عليه وسلم:"نهى عن النجش" 1، وهو لغة الإثارة لما فيه من إثارة الرغبة، يقال: نجش الأثر أثاره من مكانه، وقد ذكر الزيادة؛ لأنه الغالب، وإلا فلو دفع فيها ثمنا ابتداء لا لرغبة فيها فينبغي امتناعه، نعم ينبغي أن يستثنى ما يسمى في العرف فتح الباب من عارف يرغب في فتحه؛ لأنه لمصلحة بيع السلعة؛ لأن بيعها في العادة يحتاج فيه إلى ذلك، ومدح السلعة ليرغب فيها بالكذب كالنجش، وقضيته أنه لو كان صادقًا في الوصف لم يكن مثله، وهو ظاهر؛ لأن المدح بمجرده لا يحمل المالك على الامتناع من البيع بما دفع فيها أولًا بخلاف الزيادة؛ لأن المالك إذا علم بها يمتنع في العادة من البيع بما دفع أولًا2.

1 الحديث متفق عليه - التلخيص الحبير ج3 ص15.

2 حاشية البجيرمي "ج2 ص86".

ص: 60

والمعنى في تحريمه الأيذاء، وهو للعالم بالنهي عنه كما نقله البيهقي، عن الشافعي وأن سكت عنه في المختصر، والأصح أنه لا خيار للمشتري لتفريطه بعدم مراجعة أهل الخبرة وتأمله، وقيل: له الخيار للتدليس كالتصرية، ومحل الخلاف عند مواطأة البائع للناجش وإلا فلا خيار جزمًا، ويجري الوجهان فيما لو قال البائع: أعطيت في هذه السلعة كذا فبان خلافه، وكذا لو أخبر عارف بأن هذا عقيق، أو فيروزج بمواطأة البائع، فاشتراه فبان خلافه، ويفارق التصرية بأنها تقرير في ذات المبيع، وهذا خارج عنه.

وصورة المسألة أن يقول: بعتك هذا مقتصرا عليه أما لو قال: بعتك هذا العقيق أو الفيروزج، فبان خلافه لما يصح العقد؛ لأنه حيث سمي جنسا، فبان خلافه فسد بخلاف ما لو سمي نوعا، وتبين من غيره، فإن البيع صحيح، ويثبت الخيار.

وبيع الرطب والعنب لعاصر الخمر، والنبيذ أي ما يئول إليهما، فإن توهم اتخاذه إياهما من المبيع، فالبيع له مكروه أو تحقق فحرام أو مكروه، قال في الروضة: الأصح التحريم والمراد بالتحقق الظن القوي بالتوهم الحصول في الوهم أي الذهن، ويصح البيع على التقديرين، وحرمته أو كراهته؛ لأنه سبب لمعصية متحققة، أو متوهمة.

وقد استدل البيهقي على حرمته بحديث: "لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها وبائعها، ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها، والمحمولة إليه وأكل ثمنها"1.

1 الحديث رواه ابن عمر.. وفيه عبد الله الغافقي، وصححه ابن السكن، ورواه ابن ماجه، ورواته ثقات التلخيص الحبير "ج3 ص73".

ص: 61

ووجه الاستدلال أنه يدل على تحريم التسبب إلى الحرام، ومنه بيع سلاح لمن يقطع الطريق، ودابة لمن يحملها فوق طاقتها، وللحاكم بيع هذين على مالكهما قبرًا عليه، وخشب لمتخذه آلة له، ومنه النزول عن وظيفة لغير أهل إن علم أن الحاكم يقره فيها، قال الرملي: ومنه بيع الطعام للكافر في نهار رمضان وكذا بيعه طعاما علم، أو ظن أنه يأكله نهارا، كما أفتى بذلك بعض الفقهاء.

حكم البيع:

والبيع تعتريه الأحكام الخمسة:

فيكون واجبًا في حالة الاضطرار، ويكون مندوبًا في زمن الغلاء ويكون مكروها في بيع المصحف، ودور مكة وفي سوق اختلط فيه الحرام بغيره، وممن أكثر ماله حرام خلافًا للغزالي، ويحرم بيع العنب لمن يتخذه خمرًا، والرطب لمن يتخذه نبيذا ولو كان كافرا، ويجوز فيما عدا ذلك.

ومما يجب بيع ما زاد على قوته سنة إذا احتاج الناس إليه، ويجبره الحاكم عليه ولا يكره إمساكه مع الحاجة، ومما يحرم التسعير على الحاكم، ولو في غير المطعومات لخبر:"لا تسعروا فإن الله هو المسعر" 1، ولا يحرم البيع بخلافه لكن للحاكم أن يعزر من خالفه، إذا بلغه لشق عصا الطاعة أي للإخلال بالنظام، فهو من التعزير على الجائز، وقيل: يحرم فخرج بالشراء ما لو أمسك غلة ضيعته ليبيعها في زمن الغلاء

1 الحديث وراه أحمد وأبو داود، والترمذي وابن ماجه والدارمي، والبزار وأبو يعلى من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت وغيره من أنس، وإسناده على شرط مسلم، وقد صححه ابن حبان والترمذي - التلخيص الحبير ج3 ص14.

ص: 62

وبالقصد ما لوا شترى لنفسه، أو مطلقا، ثم طرأ له إمساكه لذلك، وخرج بزمن الغلاء زمن الرخص، ومكان الغلاء كان اشتراه من مصر لينقله إلى مكة ليبيعه بأغلى، فلا حرمة في شيء من ذلك، على المعتمد، خلافا لابن حجر في بعض ذلك.

تفريق الصفقة:

سمي بذلك؛ لأن العرب كانوا يتصافقون عند العقد، فالعلاقة بين المعقود عليه وبين هذه التسمية هي المجاورة، والمراد بالتفريق أثره ومعنى التفريق اختلافها صحة بالنسبة لشيء، وفسادًا بالنسبة لآخر ابتداء أو دوامًا، والتفريق في اختلاف الأحكام معناه أن يكون لكل عقد من المختلفين حكم يخصه، وإليه أشار المصنف بقوله: إذا باع خمرًا وخلا في صفقة واحدة، أو مشتركا بغير إذن الشريك صح البيع في ملكه من الخل، وحصته من المشترك، وبطل في غيره في الأظهر، إعطاء لكل منهما حكمه. والثاني: يبطل في الجميع تغليبًا للحرام على الحلال قال الربيع: وإليه رجع الشافعي آخرًا، قال ابن المنذر: وهو مذهب الشافعي، وحينئذ فينظر لماذا خالف الأصحاب إمامهم في هذه المسألة، وقد يجاب بأن الربيع قال ذلك بحسب ما بلغه، ولعل الأصحاب اطلعوا علىخلافه، أو أن عبارة الربيع أحد قولي الشافعي، فتصحفت على الناقل بآخر قوليه، فعبر بما قاله، وقول ابن المنذر مبني على صحة الرجوع، وقد علمت بطلانه.

ولو أذن له الشريك في البيع صح بيعه جزما؛ لأن الثمن في مقابلتهما، ويقدر الخمر خلا، ومحل التوزيع باعتبار القيمة حيث اختلفت قيمتهما بعد فرضهما خلين، فإذا لم تختلف وزع على الأجزاء؛ لأنهما مثليان، لكن الأرجح

ص: 63

كما جزم به المقري توزيع الثمن في المثلى أي المتفق القيمة، وفي العين المشتركة على الأجزاء، وفي المتقومات على الرءوس باعتبار القيمة، وإذا قدرنا الخمر خلا، فهل المراد من أعلى الخل، أو أدناه أو الغالب من جنسه، الأقرب الأخير للعرف، وإنما كان الأصح تقدير الخمر بالخل دون العصير؛ لأنه لا يمكن عوده عصيرا، ويمكن عوده خلا، فكان التقدير به أولى.

وإذا جهل كون بعض المبيع خمرا، فيكون له الخيار بيع الفسخ والإجازة لتبعيض الصفقة عليه، وخياره على الفور كما قاله في المطلب، فإن علم ذلك فلا خيار له، كما لو اشترى معيبًا يعلم عيبه، وفيما يلزمه الخلاف الآتي من الحصة أو جميع الثمن، وقيل: يلزمه الجميع قطعا؛ لأنه التزمه عالما بأن بعض المذكور لا يقبل العقد، فإن أجاز البيع فبحصته من المسمى باعتبار قيمتهما، ويقدر الخمر خلا وقيل: عصيرًا، فإذا كانت قيمتهما ثلاثمائة والمسمى مائة وخمسين، وقيمة الخل مائة فحصته من المسمى خمسون، وفي قول بجميعه وكأنه بالإجازة رضي بجميع الثمن في مقابلة ما في المبيع من الخل، ولا خيار للبائع وإن لم يجب له إلا الحصة إن كان المبيع مما يتقسط الثمن على أجزائه كالمشترك وجب القسط، لتعديه حيث باع ما لا يملكه، وطمع في ثمنه1.

وليس تفريق الصفقة خاصًّا بالبيع، بل إنه يأتي أيضا في الهبة والنكاح، فإن زوج ابنته وبنت غيره بغير إذنه، فيصح في بنته فقط.

ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع، أو إجارة ومسلم كقوله: بعتك سيارتي وأجرتك داري سنة بكذا، وكقولك: أجرتك داري شهرًا، وبعتك

1 قليوبي وعميرة "ج2 ص188".

ص: 64

صاع قمح في ذمتي سلما بكذا صحا في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمتهما، أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه، والثاني يبطلان؛ لأنه قد يعرض لاختلاف حكمهما باختلاف أسباب الفسخ والانفساخ، وغير ذلك ما يقتضي فسخ أحدهما، فيحتاج إلى التوزيع، ويلزم الجهل عند العقد بما يخص كلا منهما من العروض، وذلك محذور وأجيب بأنه لا محذور في ذلك ألا ترى أنه يجوز بيع ثوب، وشقص من دار في صفقة، وإن اختلفا في الشفعة، واحتيج إلى التوزيع اللازم له ما ذكر.

فهذا عقد واحد فيه جهل بالتوزيع حاله وجوده، ولم يبطل فأولى أن لا يضر ذلك في العقدين، وإنما قال: وإن اختلفا حكمهما؛ لأن متفقي الحكم يصح جمعهما جزمًا.

ويلاحظ في ذلك أنه واختلفا من حيث الموضوع إلا أنه يجب توافقهما من حيث الجواز واللزوم، فإذا تعددت الصفقة بين عقدين لازمين كالبيع، والإجارة أو بين عقدين جائزين كالشركة، والقراض بأن خلط ألفين له بألف لغيره، وشاركه على أحدهما، وقارضه على الآخر، فإنه يصح ذلك.

فإذا كان أحدهما لازما لو الآخر جائزا كبيع وجعالة، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما؛ لأن العروض في الجعالة لا يلزم تسليمه إلا بفراغ العمل، وفي البيع المذكور يجب تسليمه في المجلس، وتنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات، وهذا يفيد أن اختلافهما في اللزوم، والجواز بمجرد ليس مقتضيان للبطلان، وبيان ذلك أن الإجارة تقتضي التأقيت، والبيع والسلم يقتضيان عدمه، والسلم يقتضي قبض رأس المال في المجلس بخلاف غيره1

1 حاشية البجيرمي "ج2 ص95".

ص: 65

وكما تتعدد الصلة بالمبيع تتعدد أيضا بتفصيل الثمن كبعتك ذا بكذا، وذا بكذا، فيقبل فيهما وله رد أحدهما بالعيب، ويتعدد البائع نحو بعناك هذا بكذا، فيقبل منهما وله رد نصيب أحدهما بالعيب، وكذا يتعدد المشتري نحو بعتكما هذا بكذا، فيقبلان في الأظهر البائع. والثاني: لا؛ لأن المشتري بنى على الإيجاب السابق، فالنظر إلى من صدر من الإيجاب، ومجمل القول أن التعدد إنما يكون إذا فصل البادي من البائع، والمشتري دون القابل، فإذا فصل الموجب وأجمل القابل كان العقد متعددا حملا للإجمال على التفصيل، ولو أجمل الموجب، وفصل القابل لا يتعدد العقد حملا للتفصيل على الإجمال، وهذا هو المفهوم من كلام الأصحاب، وجرى عليه شيخنا كابن حجر، ولا يضر كثرة التفصيل، وإن طال بها الفصل بين الإيجاب والقبول؛ لأن هذا الفصل يتعلق بشيء في العقد، وهو المعقود عليه.

ولو كان العاقد وكيلا في رهن وشفعة، فالعبرة في اتحاد الصفقة، وتعددها بالوكيل لتعلق أحكام العقد به كرؤية المبيع، وثبوت خيار المجلس وهذا على الأصح، والثاني: اعتبار الموكل؛ لأن الملك له وصححه في المحرر في أكثر نسخه كما قاله في الدقائق تبعا لتصحيح الوجيز، ونقل في الشرحين تصحيح الأول عن الأكثرين.

ولو خرج ما اشتراه من وكيل عن اثنين، أو من وكيلين عن واحد معيبًا، فعلى الأول له رد نصفه في الصورة الثانية دون الأولى، وعلى الثاني ينعكس الحكم. ولو خرج ما اشتراه وكيل عن اثنين، أو وكيلان عن واحد معيبا، فعلى الأول للموكل الواحد نصفه، وليس لأحد الموكلين رد نصفه، وعلى الثاني ينعكس الحكم.

ص: 66

حكم بيع الأدخنة:

وإذا كنا قد علمنا أن الشرط في المبيع أن تكون له منفعة مقصودة شرعًا، فهل الدخان المعروف فيه منفعة، فيصح بيعه أو لا منفعة فيه، فيكون بيع حرامًا، لقد قيل: إنه يدخل ضمن الأشياء التي لا منفعة فيها، وإذا فلا يصح بيعه بل يحرم استعماله؛ لأن فيه ضررا كبيرا وهذا ضعيف، وكذا القول بأنه مباح.

والمعتمد: أنه مكروه، بل قد يعتريه الوجوب كما إذا كان من يتعاطاه يتيقن الضرر بتركه، وحينئذ فبيعه صحيح، وقد تعتريه الحرمة كما إذا كان الذي يشتريه يحتاج ثمنه لنفقة عياله، أو يتقين الضرر إذا تعاطاه1.

وقد جاء في حاشية الرشيدي: والحق في التعليل أنه منتفع به في الوجه الذي يشتري له، وهو شربه إذ هو من المباحات لعدم قيام دليل على حرمته، فتعاطيه انتفاع به في وجه مباح2.

والصواب هو ما ذكره الشيخ الباجوري في حاشيته؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 3، والإسراف وضع الشيء في غير موضعه، فمن احتاج إلا طعام فعدل عنه إلى شراء الدخان، فلا شك أنه آثم بهذا العمل الضار، فالنص بتناوله من هذه الناحية.

1 راجع حاشية الباجوري على ابن قاسم "ج1 ص343".

2 حاشية السندي على المنهاج للرملي "ص177".

3 من الآية 31 من سورة الأعراف.

ص: 67

حكم بيع آلات اللهو:

أما ألات اللهو فقد اختلف فيه العلماء هل يجوز بيعها أو لا يجوز؟. وذلك على رأيين: الأول: قال: يصح بيعها وهو شاذ.

والرأي الثاني: وإن سلم بأن منفعها محرمة إلا أنه نظر إلى شيء آخر علق عليه الحل والحرمة، وهو جسم الآلة نفسها، فقال: إن كانت لا تعد بعد الرض أي الكسر مالا: لم يصح بيعها؛ لأنه ليس فيها منفعة شرعا.

أما إذا كان رضاضها أي حطامها يعد مالا، ففي صحة بيعها وبيع الأصنام والصور المتخذة من الذهب والفضة، وغيرها ثلاثة أوجه:

الأول: وهو أصحها البطلان، وبه قطع كثيرون.

الثاني: الصحة.

الثالث: وهو اختيار القاضي حسين في تعليقه والمتولى، وإمام الحرمين، والغزالي أنه إن اتخذ من جوهر نفيس صح بيعها، وإن اتخذ من خشب ونحوه فلا. قال الرافعي: والمذهب البطلان مطلقا، وبه قطع عامة الأصحاب1.

1 راجع المجموع شرح المهذب "ج9 ص278".

ص: 68