الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث:
في القراض وما يتعلق به من أحكام:
تعريفه لغة وشرعًا:
القراض لغة مشتق من القرض وهو القطع؛ لأن المالك يقطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها، وقطعة من الربح، ومنه المقراض آلة للقطع، ويسمى أيضا مضاربة لاشتماله غالبا على الضرب في الأرض الذي هو السفر قال تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} 1، أي سافرتم لاشتماله عليه غالبا، والقراض والمقارضة لغة أهل الحجاز.. والمضاربة لغة أهل العراق.
وشرعا: عقد يقتضي دفع المالك مالا للعامل ليعمل فيه، والربح بينهما، ويفهم من هذا التعريف أن القراض لا يكون إلا على مال، فلا يصح أن يكون على منفعة كسكنى الدار، كما لا يصح أيضا علي دين سواء أكان العامل هو المدين أم غيره، والعامل بمقتضى عقد القراض يكون شريكا لرب المال في الربح، فخرج بذلك الوكيل؛ لأن الوكيل يتصرف نيابة عن الموكل، ولا يستحق عن هذا العمل شيئا في الغالب.
دليل المشروعية:
والدليل على مشروعية القراض الإجماع، والقياس على المساقاة بجامع أن في كل العمل في شيء ببعض نمائه مع جهالة العوض؛ ولأن المساقاة والقراض كل منهما جوز للحاجة من حيث أن مالك النخيل قد لا يحسن تعهدها، ولا يتفرغ له، ومن يحسن العمل قد لا يملك ما يعمل فيه، وهذا المعنى موجود في القراض؛ لأن صاحب المال قد لا يحسن التصرف، ومن مال له يحسنه، فيحتاج الأول إلى الاستعمال، والثاني إلى العمل
1 من الآية "101" من سورة النساء.
2 مغني المحتاج "ج2 ص309".
وقد استدل الماوردي على صحة القراض بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} 1، واستدل عليه أيضا بأن رسول الله، ضارب لخديجة بمالها إلى الشام، وهو بعيد فليس ذلك نصا في القراض، لاحتمال أن المراد بالفضل المشار إليه في الآية هو الرزق من غير عمل، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مقارضا؛ لأن خديجة لم تدفع له مالا يشتري به، وإنما كان مأذونا له في التصرف عنها يبيع أمتعتها على سبيل الوكالة، فهو صلوات الله عليه كان وكيلا بأجر.
حكم القراض:
وأما حكمه فهو عقد جائز بين الطرفين، لكل منهما فسخه متى شاء، وإذا كان الفسخ من جهة العامل كان عليه أن يوفي الديون، ويدفع رأس المال بعد أن يصبره دراهم ودنانير، والدليل على ذلك ما رواه -زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله، وعبيد الله بني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرحب بهما.. وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى. ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكما إياه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق، ثم تبيعانه في المدينة، وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما ربحه، فقالا: وددنا ذلك ففعل، وفكتب إلى عمر يأخذ منهما المال، فلما قدما وباعا ربحا، فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما، فقالا: لا فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين لو هلك المال
1 من الآية "198" من سورة البقرة.
ضمناه، فقال: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال؛ ولأن الأثمان لا يتوصل إلى نمائها المقصود إلا بالعمل، فجاز المعاملة عليها ببعض الخارج منها كالنخل في المساقاة.
أركان عقد القراض:
وهذه الأركان هي: صيغة، وعاقدان ومال، وعمل، وربح، وإذا كان الفقهاء اعتبروا العمل والربح من الأركان، وهما لا يوجدان عادة إلا بعد عقد القراض، فما ذلك إلا؛ لأنه لا بد من ذكرهما لتوجد ماهية القراض، وإلا فقد يقارض ولا يوجد عمل من العامل، أو يعمل، ولا يوجد ربح.
الركن الأول: الصيغة: وهي إيجاب وقبول، بأي لفظ يتأدى به معنى القراض أو المضاربة؛ لأن المقصود هو المعنى، فجاز بما يدل عليه كالبيع بلفظ التمليك، فإن فإن كانت الصيغة بلفظ يفيد العقد كقارضتك، أو عاملتك أي بلفظ الماضي، فإن القبول يكون باللفظ، فيقول: قبلت فلا يكفي القبول بالفعل بأن يأخذ الدراهم، فعلا بعد قوله له: قارضتك في كذا علي أن يكون الربح بيننا، بل لا بد أن يسبق هذا الفعل اللفظ، فإن كان الإيجاب بلفظ من ألفاظ الأمر كخذ مثلا، فقد قيل: يكفي أخذ الدراهم، والأصح أنه لا يكفي مطلقا أي سواء كان بلفظ الأمر أو بما يفيد العقد، لأنه عقد معاوضة يختص بمعين، فلا يشبه الوكالة؛ لأنها مجرد إذن، ولا الجعالة؛ لأنها لا تختص بمعين.
وهذا العقد لا يقبل التعليق؛ لأنه يبطل بالجهالة كالبيع والإجارة، ولا يقبل شرط المدة فيه؛ لأنه عقد معاوضة مطلقا، فيبطل بالتأقيت كالبيع، والنكاح
فإذا شرط عليه المنع من البيع بعد مدة معينة كشهر مثلا بطل العقد؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، فإن العامل يستحق البيع لأجل الربح، وهذا شرط ينافيه ومن ثم فإنه يصح، وذلك بخلاف ما إذا شرط عليه ألا يشتري بعد مدة كذا، فهذا شرط صحيح؛ لأن رب المال يملك المنع من الشراء إذا شاء، فإذا شرط المنع منه، فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد، فلم يمنع من صحته.
الركن الثاني: العاقدان: وهما المالك والعامل، ولهما شروط:
فيشترط أولا: في المالك ما شرط في الموكل، وفي العامل ما شرط في الوكيل؛ لأن القراض توكيل وتوكل، فلا يجوز أن يكون أحدهما سفيها، ولا صبيا ولا مجنونا، أما الأعمى فإنه يجوز أن يكون مالكا، ولا يجوز أن يكون عاملا، ولولي المجنون والصبي، والسفيه أن يقارض لهم من هو أهل لإيداع المال عنده، ولو كان بأكثر من أجرة المثل ما دام لم يجد غيره؛ لأن في ذلك منفعة لهم، وأما المحجور عليه بفلس، فلا يصح أن يقارض، ويصح أن يكون عاملا؛ لأن الحجر عليه يمنعه من التصرف في أمواله تصرفا قد يضر بالغرماء، ويصح القراض من المريض، ولا يحسب ما زاد على أجرة المثل من الثلث؛ لأن المحسوب منه ما يفوته من ماله، والربع ليس بحاصل حتى يفوته، وإنما هو شيء يتوقع حصوله، وإذا حصل حصل بتصرف العامل.
ويشترط ثانيا: أن يكون الإذن مطلقًا، فلا يجوز للمالك أن يضيق التصرف على العامل، فإذا قال له مثلا لا تشتر شيئا حتى تشاورني، أو لا تشتر إلا الحنطة البيضاء، أو لا تتعامل إلا مع زيد من الناس، فلا تشتر إلا منه، ولا تبع إلا له فهذا من شأنه أن يضيق عليه الخناق، فلا يحقق الغرض المقصود؛ لأن المقصود من القراض حصول الربح، وقد لا يحصل فيما يعينه
من الأصناف أو الأشخاص، ومثل هذا أن يشترط عليه التصرف في شيء يندر وجوده كالياقوت الأحمر، أو الخيل البلق، وهي الخيل الذي اختلط سوادها ببياضها، فهذا لا يجوز؛ لأنه لم يحصل منه الربح غالبا، فإن كان في شيء يعم وجوده غالبا كالثياب، والطعام والفاكهة في وقتها صح.
ويشترط ثالثا: أن يستقل العامل بالعمل، ليتمكن من العمل متى شاء، والمحظور في هذا هو اشترك المالك مع العامل في العمل؛ لأنه يصح أن يقارض المالك الواحد أكثر من عامل في وقت واحد، كما يجوز له أن يفرض لأحدهما النصف، وللآخر الربع أو الثلث، وقد أجاز فقهاء المذهب شرط إعانة مملوك المالك للعامل كبهيمته، أو رجل أجير عنده؛ لأنه مال، فجعل تبعا للمال؛ ولأن ذلك لا يمنع استقلال العامل بالعمل.
وإذا كنا قد جوزنا للمالك أن يقارض أكثر من عامل، فإن للعامل أيضا أن يقارض أكثر من مالك، ولكن هل له أن يشرك غيره معه في العمل؟ وللإجابة عن هذا التساؤل، نقول: إنه إذا فعل ذلك، فإما أن يكون بإذن المالك، أو بغير إذنه، فإن كان بغير إذنه فسد العقد مطلقا سواء قصد أن يشاركه في العمل والربح، أو يشاركه في الربح فقط، أو قصد أن يحل محله، وينسلخ هو من العمل؛ لأن المالك لم يأذن فيه، ولم يأتمن غيره، وإن كان بإذن المالك، فإن أذن له بالمشاركة في الربح، والعمل، فلا يجوز ذلك في الأصح؛ لأن القراض شرع على خلاف القياس رفقا بالناس من أجل المصلحة، وموضوعه أن يكون بين عاقدين أحدهما مالك لا عامل، والآخر عامل ولو متعددا، فلا يصح أن يعقده عاملان من استمرارهما عاملين، فإن قارضه العامل بالإذن لينفرد بالربح، والعمل صح كما لو قارضه المالك بنفسه، والربح بين المالك، والعامل الثاني، وينعزل الأول بمجرد الإذن له إن ابتدأه المالك، كذا قيل والمعتمد أنه لا
ينعزل إلا بالعقد مطلقا؛ لأنه لا قراض إلا بعقد1، هذا إذا كان المال مما يجوز عليه القراض، فلو وقع بعد تصرف الأول وصيروته عروضا لم يجز؛ لأنه لا بد أن يكون مما يصح القراض عليه ابتداء بأن يكون نقدًا.
حكم تصرف العامل الثاني:
وإذا تصرف العامل الثاني بغير الثاني بغير إذن المالك، فتصرفه تصرف غاصب فيضمن ما تصرف فيه، فإن اشترى بعين مال القراض لم يصح شراؤه؛ لأنه فضولي أو تصرف في الذمة له، فإن ربح فالربح للأول؛ لأنه وكيل عنه أما هو فليس له إلا الأجرة إذا لم يرض أن يعمل مجانا، فإن عمل مجانا كأنه قال له الأول، وكل الربح لي فلا أجرة له، وقد جاء في المهذب: فإن كان رب المال قد قارض العامل على النصف، وقارض العامل آخر، واشترى الثاني في الذمة، ونقد الثمن من مال القراض وربح، فعلى المذهب القديم قال المزني: إن لرب المال نصف الربح، والنصف الآخر بين العاملين لكل منهما نصفه، وقد وافق أبو إسحاق على ما ذهب إليه المزني، وقال: هذا صحيح؛ لأن رب المال رضي أن يأخذ نصف الربح، والنصف الثاني بين العاملين؛ لأنهما رضيا أن ما رزق الله بينهما، والذي رزق الله تعالى هو النصف، فإن النصف الآخر أخذه رب المال فصار كالمستهلك، وخالف في ذلك بعض الأصحاب، فقالوا برجوع العامل الثاني على العامل الأول بنصف أجرة مثله؛ لأنه دخل علي أن يأخذ نصف ربح المال، ولم يسلم له ذلك إذ أن الربح كله للمالك لا للغاصب، إذ لو جعلناه للغاصب لاتخذ ذريعة إلى الغصب من العاملين، واختاره السبكي؛ لأنه لم يتصرف بإذن المالك، فأشبه الغاصب.
1 راجع البجيرمي "ج2 ص615".
وعلى المذهب الجديد: الربح كله للعامل الأول، وللعامل الثاني أجرة مثله، ومن الأصحاب من وافق المزني في رأيه الذي ذهب فيه إلى أن الربح للأول؛ لأن العامل الثاني لم يشتر لنفسه وإنما اشتراه للأول، فكان الربح له بخلاف الغاصب في غير القرض، فإنه اشتراه لنفسه فيكون الريح له، ومنهم من قال: هذا غلط؛ لأن الربح للعامل الثاني؛ لأنه المتصرف فصار كالغاصب في غير القراض، هذا إذا كان العامل الثاني قد اشترى للأول بمال في ذمته.. فإن اشترى بعين مال القراض، فباطل على الجديد القائل ببطلان شراء الفضولي، وحينئذ فيكون الأول باق على صحته، وله أن ينزع المال من الثاني، ويتصرف فيه، وأما المذهب القديم للقابل له، فقائل بالوقف أي أن تصرف العامل الثاني صحيح موقوف على الإجازة، هذا كله إن بقي المال، فإن تلف في يد العامل الثاني، وعلم بالحال فغاصب وعليه الضمان، وإن جهل فعلى العامل الأول.
الركن الثالث: المال وله شروط:
الأول: أن يكون نقدًا، والنقد هو المضروب من الذهب والفضة دراهم، ودنانير خالصة، فلا يجوز على تبر، والتبر هو الذهب والفضة قبل ضربهما، ولا على حلى، وهو ما يتحلى به النساء من المصوغات الذهبية أو الفضية، ولا على المغشوش من الدراهم، أو الدنانير وإن راجت وعلم قدر غشها؛ لأن الغش الذي فيها عرض، ولا يجوز القراض على العروض، وخالف في ذلك السبكي، وقال: يقوى عندي أن أفتي بالجواز، وأن أحكم به إن شاء الله، ولا على عروض مثلية أو متقومة؛ لأن القراض عقد غرر من حيث أن العمل فيه غير مضبوط والربح غير موثوق به، ولولا الحاجة لما صح، ومن ثم فإنه يختص بما يروج غالبا، ويسهل التجارة به، وهو الأثمان من الذهب والفضة أو هما معا.
الثاني: أن يكون رأس المال معلوم القدر والجنس والصفة، فلا يجوز على مجهول القدر دفعا لجهالة الربح، فاشترط العلم بقدر المال ليعلم العامل ما يخصه من الربح بخلاف الشركة، فيكفي العلم بما يخص كلا منهما عند القسمة، ولا على مجهول الصفة، ومن ذلك ما عمت به البلوى من التعامل بالفضة المقصوصة، فلا يصح القراض عليها؛ لأن صفة القص، وإن علمت إلا أن مقدار القص مختلف فيه، فلا يمكن ضبط مثله عند التفاضل حتى لو قارضه على قدر منها معلوم القدر وزنا، فالظاهر عدم الصحة؛ لأنه حين الرد، وإن أحضر قدره وزنا لكن القرض يختلف بتفاوت القص قلة وكثرة.
قال السبكي: ويصح القراض على غير المرئي؛ لأنه توكيل.
الثالث: أن يكون معينا عند المالك، فلو كان غير معين بأن كان القراض على ما في الذمة، ذمة العامل أو ذمة الأجنبي، فلا يصح وإن عين في المجلس لفساد العقد، فإن المالك لا يقدر على تعيين ما في ذمة غيره، نعم إن كان على ما في ذمة المالك بشرط ألا يكون دينا، فإن قارضه على ألف في ذمته أي غير معينة، ثم عينه في المجلس صح القراض خلافا للبغوي.
ويفهم من هذا أنه كان في ذمة غير المالك، فلا يجوز سواء عين في المجلس، وقبضه المالك فيه أو لا، ويؤخذ من كلامه أنه إذا قارضه على دين في ذمة العامل، فإن عينه وقبضه المالك في المجلس صح، وعليه بعد القبض أن يرده للعامل بلا تجديد عقد، وإن قارضه على دين في ذمة أجنبي لم يصح، وإن عينه وقبضه في المجلس، إلا بعقد جديد بعد تعينه وقبضه، والفرق بين العامل والأجنبي، وأن ما في ذمة غير العامل معجوز عنه حال العقد بخلاف ما في ذمة العامل، فإنه قادر على تحصيله فصح العقد.
الشرط الرابع: أن يسلم المال إلى العامل، ويستقل باليد عليه والتصرف فيه، وكل شرط ينافي ذلك لا يصح، فلو شرط المالك أن يكون المال في يده أو في يد غيره، فهذا الشرط يقتضي بطلان عقد القراض؛ لأنه قد لا يجده عند الحاجة وغير صحيح أيضا ما لو شرط عليه مراجعته في التصرف، أو شرط عليه أن يعمل معه؛ لأن انقسام اليد يقتضي انقسام التصرف، ولكن يصح كما سبق أن ذكرنا شرط إعانة مملوك المالك للعامل؛ لأن ذلك لا يمنع استقلال العامل بالمال، ومملوك المالك مال، فجعل عمله تبعا للمال، ولكي يكون هذا الشرط صحيحا، فلا بد وأن يكون المملوك معلوما برؤية أو وصف، والحكمة في اشتراط كون رأس المال نقدًا، أن المقصود من القراض رد رأس المال، واقتسام المالك والعامل الربح بينهما بالنسبة المتفق عليها، فإذا كان رأس المال عروضا تجارية أو نقدا مغشوشا، فإنه يصعب رد رأس المال بقيمته التي كان عليها أثناء التعاقد؛ لأنه يزيد وينقص حسب قانون العرض والطلب، فإذا زادت هذه الأشياء في الثمن احتاج العامل أن يصرف جميع ما اكتسبه لرد مثل رأس المال إن كان مثليا، أو قيعيا إن لم يكن له مثل، وفي ذلك إضرار بالعامل، وإذا نقص عن قيمته فإنه يصرف جزءا يسيرا من الربح في رد مثله، أو قيمته ثم يشارك رب المال في الباقي، وفي كلتا الحالتين لا تتحقق العدالة بين المالك والعامل، وإنما تتحققق إذا كان رأس المال نقدا خالصا من الذهب والفضة؛ لأن قيمتهما ثابتة لا تتغير غالبا.
الركن الرابع: العمل ويشترط فيه أن يكون في تجارة، فليس كل عمل يصلح للقراض، وإنما العمل الذي يحقق الربح بالتجارة، فإن كان الربح باحتراف صنعه كطحن، وعجن وخبز أو غزل، وما شاكل ذلك فلا يصح؛ لأن هذه الأعمال لا يسمى فاعلها تاجرا بل محترفا، فالقراض عليها فاسد؛ لأنها
أعمال مضبوطة، ويمكن الاستئجار عليها، فلا يحتاج إلى القراض عليها؛ لأنه جوز للحاجة، فلو فعل ذلك العامل من غير شرط لم يفسد القراض، وأجرته على المالك إن أذن له، ولو شرط على العامل استئجار ذلك من مال القراض جاز وفيه نظر؛ لأن الربح لم ينشأ عن تصرف العامل، وهذا أوجه وإذًا: فشرط العمل أن يكون تجارة؛ لأن الحرفة يمكن الاستئجار عليها، وألا يضيق العمل على العامل بأن يشترط عليه شراء متاع معين كقوله: ولا تشتر إلا هذه السلعة، وهو ظاهر بل لو قال: على أن تشتري حنطة، وتبيعها في الحال لم يصح لتضييقه عليه بطلب الفورية في الشراء والبيع، وعليه لو حذف قوله: في الحال كان قراضا صحيحا، ولو قارضه على أن يشتري الحنطة، ويخزنها مدة فإذا ارتفع سعرها باعها لم يصح، وظاهر أنه إذا لم يشرط عليه الخزن، فاشترى هو وخزن باختياره إلى ارتفاع السعر لم يضر؛ لأنه إذا شرط لم يجعل التصرف إلى رأي العامل.
ولا يشرط عليه المالك شراء نوع نادر الوجود كخيل بلق، أو معاملة شخص معين كقوله: لا تبع إلا لزيد أو لا تشتر إلا منه، ولا أن يوقت له مدة كسنة؛ لأن المتاع والمدة المعينين قد لا يربح فيهما، والنادر قد لا يجده، والشخص المعين قد لا يتأتى من جهته ربح في بيع أو شراء.
نوع العمل الذي يؤديه العامل:
والعمل الذي يجب على العامل أن يؤديه هو ما جرت العادة به كنشر الثياب وطيها، والإيجاب والقبول، وقبض الثمن ووزن ما خف كالعود والمسك؛ لأن إطلاقه الإذن يحمل على العرف، وقد جرى العرف أن يتولى العامل هذه الأشياء بنفسه، فإن لم يفعل واستأجر عليها لزمه دفع الأجرة من ماله الخاص، بخلاف ما يثقل حمله، فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه بل
يستأجر من يقوم به من مال القراض، فإن قام بذلك هو لم يستحق الأجرة؛ لأنه تبرع به.
القيود الواردة على حرية العامل في العمل:
وليس للعامل أن يتصرف إلا فيما أذن فيه المالك، فإن أذن له في التجارة لم يملك الإجارة؛ لأن تصرفه بالإذن فلا يملك إلا ما دخل فيه، ولا يبيع إلا بثمن المثل ولا بثمن مؤجل؛ لأنه يتصرف في حق غيره، فلا يملك إلا ما فيه النظر والاحتياط، وليس فيما ذكرناه نظر ولا احتياط.
ووجه منع الشراء نسيئة إلا بإذن المالك أنه كما قال الرافعي: قد يتلف رأس المال، فتبقى العهدة متعلقة بالمالك، ولكل من المالك والعامل رد بعيب؛ لأن لكل منهما حقا في المال هذا إن فقدت مصلحة الإبقاء بحيث لو أبقي لا يربح، ولو فقد مصلحة الرد بأن استويا بأن كان الرد يحتاج إلى مؤنة كأجرة حمله إلى مكان البائع، أو كان البائع مماطلا بالثمن امتنع الرد، وإذا كان الرد ممتنعا، فلا يجوز ولا ينفذ شرعًا.
ولا يعامل العامل المالك كأن يبيعه شيئا من مال القراض؛ لأن المال له، ويأخذ حكم المالك في ذلك وكيله ومأذونه، وكذا امتناع معاملة أحد العاملين للآخر في ماله، وإن أثبت لكل منهما الاستقلال، وخرج بمال المالك مال غيره كأن كان وكيلا عن غيره، فتجوز معاملته، ولا يشتري بأكثر من مال القراض، وصورة الشراء بأكثر من مال القراض أن يقع الشراء في عقدين بأن كان مال القراض مائة، واشترى سلعة بمائة إما بعين تلك المائة، أو في الذمة ولم ينقدها فيهما، ثم يشتري بخمسين من تلك أو بها، فإن الشراء الثاني باطل لتعين المائة للعقد الأول.
1 راجع البجيرمي "ج2 ص618".
الركن الخامس: الربح:
فإذا كان هناك ربح، فإن هذا الربح يختص به المالك والعامل، فلا يجوز شرط شيء منه لثالث؛ لأن المالك يأخذ بملكه والعامل بعمله، فإن قارضه على أن لزوجته أو لابنه، أو لأجنبي ثلث الربح، فالقراض باطل؛ لأنه جعل لغيرهما منه شيئا مع عدم العمل، فإن شرط عليه العمل، فهو قراض لاثنين، فإن شرط جزء الربح للمالك وجزءا للعامل، وجزء للمال أو الدابة التي يدفعها المالك للعامل؛ ليحمل عليها مال القراض مثلا، فالظاهر الصحة، وكأن المالك شرط لنفسه جزئين، وللعامل جزءا وهو صحيح1.
ويشترط مع هذا أن يكون الربح معلوما لهما بجزئية كنصف، وثلث فلو قال: قارضتك على أن يكون لك في الربح حصة، أو نصيبا أو جزءا أو شيئا منه، فلا يصح للجهل بحصة العامل، ولا يصح على أن لأحدهما عشرة، أو ربح صنف لعدم العلم بالجزئية؛ ولأنه قد لا يربح غير العشرة، أو غير ربح ذلك المصنف، فيفوز أحدهما بجميع الربح.
ويتضح من هنا أن الربح له ثلاثة شروط: كونه للمالك والعامل، وكونه معلومًا، وكون العلم بالجزئية كما سبق أن ذكرنا.
ويتفرع على ذلك صورة مختلفة:
الأولى: لو قارض المالك العامل على أن كل الربح للعامل، فقراض فاسد في الأصح نظرا للفظ؛ لأن القراض يقتضي المشاركة في الربح، ولا توجد هذه المشاركة فكان فاسدا. وقيل: قراض صحيح نظرا للمعنى؛ لأن أحدهما إذا انفرد به يصدق عليه اختصاصهما به إذ لم يشرط فيه شيء لثالث، وإن
1 المرجع السابق.
قال المالك: وكل الربح لي فقراض فاسد في الأصح لما مر، فيستحق العامل على المالك في الأولى أجرة عمله دون الثانية، وقيل: هو إبضاع أي توكيل بلا أجر، والإبضاع بعث المال مع من يتجر فيه متبرعًا.
الثانية: إذا قال المالك خذه وتصرف فيه والربح كله لك، فقرض صحيح أو كله لي فإبضاع، وفارقت هذه الصورة الصورة المتقدمة بأن للفظ فيها صريح في عقد آخر.
الثالثة: إذا قال: قارضتك على أن الربح بيننا، فالأصح الصحة، ويكون نصفين كما لو قال: هذه الدار بيني وبين فلان، فإنها تجعل بينهما نصفين.
والثاني: لا يصح لاحتمال اللفظ لغير المناصفة، فلا يكون الجزء معلوما كما لو قال: بعتك هذه الدار بألف دراهم ودنانير، ولو قال: قارضتك على أن يكون الربح بيننا أثلاثا لم يصح للجهل بمن له الثلث، ومن له الثلثان.
الرابعة: لو قال: قارضتك ولم يتعرض للربح فسد القراض؛ لأنه خلاف وضعه.
حكم اختلاف العاقدين:
وإذا حدث اختلاف بين العامل ورب المال في قدر الربح، فادعى العامل أنه النصف، وادعى رب المال أنه الثلث تحالفا؛ لأنهما اختلفا في عوض مشروط في العقد، فيتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، فإن حلفا صار الربح كله لرب المال، ويرجع العامل بأجرة المثل؛ لأنه لم يسلم له المسمى، فرجع ببدل عمله.
أما إن اختلفا في قدر رأس المال، فقال رب المال: ألفا، وقال العامل: خمسمائة، فإن لم يكن في المال ربح، فالقول قول العامل؛ لأن الأصل عدم القبض، فلا يلزمه إلا ما أقر به، وإن كان في المال ربح، ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول العامل لما ذكرناه.
الثاني: أنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا فيما يستحقان من الربح كما لو اختلفا في قدر الربح المشروط، والصحيح الأول؛ لأن الاختلاف في الربح المشروط اختلاف في صفة العقد، فيتحالفان كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، وهذا اختلاف فيما قبض، فكان الظاهر مع الذي ينكر كالمتبايعين إذا اختفا في قبض الثمن، فإن القول قول البائع.
متى يضمن العامل مال القراض؟
والعامل أمين فيما في يده من مال القراض، فلا يضمن إلا بتفريط، فإن تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن؛ لأنه نائب عن رب المال في التصرف، فلم يضمن من غير تفريط، فإن كان القراض ألفا فاشترى بضاعة في الذمة، ثم تلف الألف قبل أن ينقد المثن انفسخ عقد القراض لتلف رأس المال بعينه، وعلى رب المال أن يدفع الثمن؛ لأن العامل اشتراه له، فكان الثمن عليه كما لو تلف الثمن في يد الوكيل قبل أن ينقده، وقيل: على العامل؛ لأن رب المال لم يأذن له في التجارة فيما زاد على رأس المال، فإن تلف رأس المال بتفريط العامل، فعليه الضمان كما إذا سافر في بر أو بحر بغير إذن المالك لما في ذلك في تعريض المال للخطر، ومن ذلك أيضا ما لو قارض العامل رجلين على مالين، واشترى لكل منهما حضانا، ثم أشكل عليه الأمر، فلم يعرف ما يخص كلا منهما، في هذه الحالة قيل: يباع الحصانان، فإن
لم يكن فيهما ربح، قسم المال بينهما ولا شيء للعامل، وإن ربح شاركهما فيه، وإن خسر فيهما ضمن العامل ما نقص؛ لأنه إنما حصل بتفريطه.
وقيل: إن الحصانين للعامل، ويلزمه قيمتهما؛ لأنه تعذر ردهما بتفريطه، فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما.
هل ينفذ تصرف العامل في القراض الفاسد؟
لا فرق عندنا بين العقد الفاسد والعقد الباطل، فهما بمعنى واحد، والعقد يبطل أو يفسد ركن من أركانه، أو شرط من شروطه السابقة بأن يكون رأس مال القراض ليس نقدا، أو يكون الربح غير معلوم، أو يكون العاقدان قد شرطا خلاف ما يقتضيه العقد، وهو أن يكون الربح لأحدهما، وإذا فسد العقد نفذ تصرف العامل؛ لأن العقد إذا بطل فقد بقي الإذن فيملك به التصرف، فإن حصل ربح في المال سقط حق العامل في الربح لبطلان العقد، ولا يكون له إلا أجر المثل إن كان لا يرضى أن يعمل إلا بعوض، فإن رضي بذلك كأن يكون قارضه على أن الربح كله لرب المال، فلا يستحق شيئا؛ لأنه رضي أن يعمل من غير عوض، فصار كالمتطوع بالعمل من غير قراض، وهذا هو قول المزني. وخالف في ذلك أبو العباس، فقال باستحقاقه أجر المثل؛ لأن العمل في القراض يقتضي العوض، فلا يسقط كالوطء في النكاح.
وإن ظهر في المال ربح، فمتى يملك العامل حصته منه؟ في هذه المسألة ثلاثة آراء: الأول: قبل الظهور كرب المال. والثاني: بالقسمة؛ لأنه لو ملكه بالظهور لكان شريكا لرب المال، وإذا هلك شيء كان هالكا من المالين وليس كذلك، ومع أنه يملكه بالقسمة، فإنه لا يستقر ملكه إلا إذا وقعت بعد الفسخ
ونضوض رأس المال أي صار نقدًا، حتى لو حصل بعد القسمة نقص جبر بالربح المقسوم.
ويملك العامل حصته من الربح بقسمته؛ لأنه لو ملكها بالظهور، وقبل القسمة لكان شريكا في المال، فيكون النقص الحادث بعد ذلك محسوبا عليهما، وليس كذلك لكنه إنما يستقر ملكه بالقسمة إن نض رأس المال، وفسخ العقد حتى إذا حصل بعد القسمة نقص جبر بالريح المقسموم، ويستقر في ملكه أيضًا بنضوض المال، والفسخ بلا قسمة، ومعنى هذا أن ملكيته للربح لا تكون ثابتة، ومستقرة ونهائية إلا بنضوض رأس المال، وفسخ العقد سواء تمت القسمة أو لا، أما مجرد ظهور الربح فلا يملك به الربح، لكن يثبت له فيه حق مؤكد، فإن مات يورث عنه، ويقدم به على الغرماء، وعلى مؤن تجهيز المالك لتعلقه، بعين المال، ولا يدخل في الربح كل زيادة ناشئة من عين المال من غير تصرف العامل؛ لأنه ليس من فوائد التجارة كثمر ونتاج، وغيرها من سائر الزوائد العينية الحاصلة بغير عمل، ولو اشترى حيوانا حاملا، أو شجرا عليه ثمر غير مؤبر، فالأوجه إن الولد والثمر من مال القراض، فلا يختص بالمالك وحده، بل يكون بينهما1.
وقيل: إن العامل يملك حصته من الربح؛ لأنه أحد المتقارضين، فملك حصته من الربح بالظهور كرب المال.
حكم طلب أحد المتعاقدين فسخ العقد:
عرفنا مما سبق أن القراض عقد جائز لكل واحد من المتعاقدين أن يفسخ العقد متى شاء؛ لأنه تصرف في مال الغير بإذنه، فملك كل منهما
1 راجع حاشية البجيرمي "ج2 ص620".
فسخه كالوديعة والوكالة، فإن فسخ العقد، وكان المال من غير جنس رأس المال وتقاسماه جاز، وإن باعاه جاز؛ لأن الحق لهما، وإن طلب العامل البيع وامتنع رب المال أجبر؛ لأن حق العامل في الربح لا يحصل إلا بالبيع، فإن قال رب المال: أنا أعطيك مالك فيه من الربح وامتنع العامل، فإن قلنا: إنه ملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر على أخذه، كما لو كان بينهما مال مشترك، وبذل أحدهما للآخر عوضًا، وإن قلنا: إنه لا يملك حصته بالظهور، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر على بيعه؛ لأن البيع لحقه وقد بذل له حقه، والثاني: أنه يجبر؛ لأنه ربما زاد في القيمة.
وأن طلب رب المال البيع، وامتنع العامل أجبر على بيعه؛ لأن حق رب المال في رأس المال، ولا يحصل ذلك إلا بالبيع، فإن قال العامل: أنا أترك حقي ولا أبيع، فإن قلنا: إن العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه؛ لأنه يريد أن يهب حقه وقبول الهبات لا يجب، وإن قلنا: إنه لا يملكه بالظهور، ففيه وجهان أحدهما لا يجبر على بيعه؛ لأن البيع لحقه، وقد تركه فسقط، والثاني: يجب؛ لأنه البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله، فإذا رضي بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله.