الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن:
الهبة وأحكامها
.
تعريف الهبة لغة وشرعا:
الهبة لغة: من وهب بمعنى مر لمرورها من يد إلى يد أخرى، أو بمعنى تيقظ لتيقظ فاعلها للخير أو هي مأخوذة من هبوب الريح، قال في الفتح: تطلق بالمعنى الأعم على أنواع: الإبراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية وهي ما يلزم به الموهوب له عوضه، ومنخصها بالحياة أخرج الوصية، وهي تكون أيضا بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل1، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض، وهذا هو معنى الهبة شرعا، فإن الهبة شرعا: تمليك منجز مطلق في عين حال الحياة بلا عوض ولو من الأعلى، أو نقول: هي تمليك تطوع في الحياة، وهذا أولى وأخصر.
فخرج بالتمليك الضيافة؛ لأنها إباحة لكن يملك الضيف ما أكله بوضعه في فمه ملكا مراعي فيه أنه إن ازدرده، أو بلغه استقر على ملكه، وإن أخرجه تبين أنه باق على ملك صاحبه، ولهذا لو حلف لا يأكل طعام زيد، فأكله ضيفا لم يحنث؛ لأنه لم يأكل إلا طعام نفسه، كما يخرج بالتمليك أيضا الوقف؛ لأنه إباحة على المعتمد، فهو خارج بالتمليك، وعلى القول بأنه تمليك فهو تمليك للمنفعة لا للعين، فيكون الوقف على هذا خارج بقوله في عين، وخرجت العارية كذلك بالتمليك؛ لأنها إباحة في المنافع؛ لأن المستعير ينتفع ولا يمتلك المنفعة.
وقوله: منجز أي حاصل في الحال، فخرج به المعلق غير صفة كقدوم غائب نحو إن جاء زيد فقد وهبتك كذا، فلا يصح؛ لأنه غير منجز، وخرج
1 تقول: وهبت لزيد مالا أعطيته بلا عوض
…
واتهبت الهبة قبلتها ويتعدى للمفعول الأول بلام، وفي التنزيل:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} "المصباح المنير ج2 ص842".
بالحياة الوصية؛ لأن التمليك فيها إنما يتم بالقبول، وهو بعد الموت.
وخرج بقوله: بلا عرض ما فيه عوض كالبيع ولو بلفظ الهبة؛ لأن اللفظ لا يقتضيه، هذا إن لم تقيد بثواب، فإن قيدت به، فإن كان مجهولًا كثوب فباطلة لتعذر تصحيحها بيعا لجهالة العوض ولا تصح هبة؛ لأن لفظها لا يقتضيه كما علم، فيكون المقبوض بها في هذه الحالة مقبوض بالشراء الفاسد، فيضمن ضمان المغصوب، وإن كان معلوما فهي بيع نظرا للمعنى، فيجري فيه أحكامه كالخيار والشفعة، وعدم توقف الملك على القبض، بل تملك بالعقد، ومحل عدم العوض إن لم تقم قرينة على طلبه، وإلا وجب إعطاء العوض، أو رد الهدية كما صرح به الرملي.
وقوله: ولو من الأعلى أي ولو كان ذلك التمليك صادرا من الأدنى للأعلى منه رتبة دنيوية، وهذه الغاية للرد على القول بأن الهبة إذا كانت من الأدنى للأعلى منه تقتضي العوض عملا بالعادة.
فالهبة والعطية، والهدية والصدقة معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بغير عوض، وهذا صحيح بالنسبة لاسم العطية، فإن اسم العطية شامل للجميع أما الصدقة والهدية فهما متغايران، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وقال في اللحم الذي تصدق به على بريرة:"هو عليها صدقة، ولنا هدية"، فالظاهر أن من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج، فهو صدقة ومن دفع إلى إنسان شيئا يتقرب به إليه محبة له، فهو هدية وجميع ذلك مندوب إليه، ومحثوث عليه لقوله صلى الله عليه وسلم:"تهادوا تحابوا" 1، وأما الصدقة فما ورد في فضلها أكثر من أن يمكننا حصره، وقد قال الله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} 2.
1 حديث: "تهادوا تحابوا"، رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي وابن وردان عن أبي هريرة، وإسناده حسن "التلخيص الحبير ج3 ص69، 70".
2 من الآية "271" من سورة البقرة.
وفرق بعضهم بين الصدقة والهدية، فقال: إن ملك محتاجا لثواب الآخرة شيئا فهو صدقة، وإن نقله إلى مكان الموهوب له إكراما له، فهدية فكل من الصدقة والهدية هبة بالمعنى اللغوي، وليس كل هبة صدقة وهدية، وتظهر فائدة الفرق بين الصدقة والهدية في الحلف، فمن حلف لا يتصدق لم يحنث بهبة، أو هدية أو حلف لا يهدي لم يحنث بصدقة، وهبة أو لا يهب حنث بهما، وقد يجتمعان كما لو اجتمع النقل والحاجة، والمراد بالنقل ما يشمل البعث به إليه مع وكيله مثلا، وقوله: فإن نقله إكراما قد يحترز به عن نحو رشوة، وإعطاء نحو شاعر خوفا من هجوه.
حكم الهبة:
الهبة مندوب إليها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا"، وهي للأقارب أفضل لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم مستقة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله" 1، وفي الهبة صلة الرحم.
والمستحب أن لا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطية، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أعطيت ابني عطية، وإن أمه قالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فهل أعطيت كل ولدك مثل ذلك؟ قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى قال: فلا إذا"2.
فإن فضل بعضهم بعطية صحت العطية، لما روى في حديث النعمان أن
1 وفي رواية للبخاري: فقال الله تعالى: "من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته". "رياض الصالحين للنووي ص153".
2 رواه الشافعي في الأم والبيهقي، وفيه قال:"فارتجعه"، وفيه: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم "التلخيص ج3 ص72".
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشهد على هذا غيري"، فلو لم يصح لبين له ولم يأمره أن يشهد عليه غيره.
ولا يستنكف أن يهب القليل، ولا أن يوهب له القليل، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع أن ذراع لقبلت"1.
وقد تمسك بحديث النعمان بن بشير من أوجب التسوية بين الأولاد في العطية، وبه صرح البخاري، وهو قول طاووس والنووي وأحمد، وإسحاق وبعض المالكية قال في الفتح: والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة، وعن الإمام أحمد يجوز التفضيل في العطية بين الأولاد إن كان له سبب كأن يحتاج الولد لزمانته، أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين.
وذهب الجمهور إلى أن التسوية متسحبة، فإن فضل بعضهم صح وكره، وحملوا الأمر على الندب، وكذلك حملوا النهي الثابت في رواية مسلم:"أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء، قال: بلى قال: فلا إذن"، حملوا هذا النهي على التنزيه.
وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة منها أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده حكاه ابن عبد البر، وتعقبه بأن كثيرًا من طرق الحديث مصرحة بالبعضية، كما في حديث جابر وغيره أن الموهوب كان غلامًا، وكما في لفظ مسلم عن النعمان:"تصدق علي أبي ببعض ماله".
والجواب الثالث: أن النعمان كان كبيرا، ولم يكن قبض الموهوب، فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي، لكن قال الحافظ: وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله: ارجعه، فإنه يدل على تقدم وقوع القبض، والذي
1 رواه البخاري من حديث أبي هريرة في النكاح، ورواه الترمذي من حديث أنس بلفظ:"لو أهدى إلي كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت"، وصححه. "التلخيص الحبير ج3 ص70".
تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا، وكان أبوه قابضا له لصغره، فأمره برد العطية المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوضة.
والرابع: أن قول: أشهد على هذا غيري، يفيد الصحة؛ لأنه أذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: اشهد؛ لأن الإمام ليس في شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار، وتعقب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة، ولا من أدائها إذا تعينت عليه، والإذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث، وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع.
وقال ابن حبان قوله: أشهد، صيغة أمر والمراد به نفس الجواز، وهي كقوله لعائشة: اشترطي لهم الولاء، ويؤيد هذا الوجه تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا كما في بعض الروايات المذكورة.
الخامس: أن الإجامع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير، جاز له أن يخرج بعض ولده بالتمليك لبعضهم، ولكن قال الحافظ بن حجر: ولا يخفى ضعفه؛ لأنه قياس مع وجود النص، وقد رأى الشوكاني أن التسوية واجبة، وأن التفضيل محرم.
أركان الهبة:
أركان الهبة ثلاثة: عاقدان، وصيغة، وموهوب.
الركن الأول: العاقدان ولهما شروط، فيشترط في الواهب الملك، وإطلاق التصرف في ماله، فلا تصح من ولي في مال محجور، ويشترط في
الموهوب له أن يكون فيه أهلية الملك لما يوهب له من تكليف، وصحة تصرف، وسيأتي أن غير المكلف يقبل له وليه، فلا تصح لحمل ولا لبهيمة.
الركن الثاني: الصيغة وهي إيجاب وقبول لفظا من الناطق، ومن صريح الإيجاب أن يقول: وهبتك ومنحتك، وملكتك بلا ثمن، ومن صريح القبول قبلت ورضيت، ولا يصح القبول إلا على الفور، وقال أبو العباس: يصح على التراخي والصحيح الأول؛ لأنه تمليك: حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع.
ولكن يستثنى من اشتراط القبول بعض مسائل من أهمها:
1-
إذا وهبت المرأة نوبتها لضرتها، فلا يشترط قبول الضرة لتلك النوبة على الصحيح.
2-
إذا خلع السلطان شيئا على الأمواء والقضاة وغيرهم، فلا يشترط فيه القبول، وبهذا قال بعض المتأخرين لجريان العادة بذلك.
2-
وإذا اشترى الولد لابنه الصغير حليا وزينه به، فإنه يكون تمليكًا له بخلاف ما لو اشترى حليا لزوجته، فإنه لا يصير ملكا لها كما قال القفال.
والفرق بينهما أن له ولاية على الصغير بخلاف الزوجة، وبهذا قال السبكي وتبعه ابن الملقن، ويرد هذا قول الشيخين وغيرهما، فإن وهب للصغير ونحوه ولي غير الأب والجد قبل له الحاكم، وإن كان أبا أو جدا تولى طرفي العقد، وهذا معناه أنه لا بد من الإيجاب والقبول.
ويتفرع على هذا أنه إذا وهب للصغير ونحوه ممن ليس أهلًا للقبول، وجب على الولي أن يقبل عنه الهبة، فإن لم يقبل انعزل الوصي، أو القيم، وأثم
لتركه الأحظ، فإن كان أبا أو جدا، فلا ينعزل لكمال شفقتهما، وإن كان سفيها فيقبلها لنفسه؛ لأن السفيه صحيح العقل.
أما الأخرس فيكفيه الإشارة المفهمة.
والهبة بلفظ الكناية تحتاج إلى نية الواهب، ومن الهبة بلفظ الكناية أن يقول شخص لآخر: كسوتك هذا الثوب؛ لأنه يصلح للعارية والهبة، فإن قال: لم أرد الهبة صدق؛ لأنه ليس صريحا في الهبة، ولهذا فيرجع إلى نيته، فإن نوى بها هبة حصلت وإلا فلا.
وإذا كان يشترط في الهبة الإيجاب والقبول، فإن الهدية لا يشترط فيها ذلك على الصحيح ولو في غير المطعوم، بل يكفي البعث من المهدي، والقبض من المهدي إليه، فيكون البعث والقبض كالإيجاب والقبول، وهذا ما جرى عليه الناس في الأعصار، وقد أهدى الملوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكسوة والدواب، والجواري، وفي الصحيحين: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة رضي الله عنها، ولم ينقل إيجاب ولا قبول، وهذا هو الصحيح.
وقيل: يشترط في الهدية الإيجاب والقبول كما في الهبة سواء بسواء، وحمل ما جرى عليه الناس على الإباحة، ولكن يمنع من هذا القول أن الفروج لا تباح بالإباحة.
وأما الصدقة فلا تحتاج إلى الصيغة قطعا، وهذا هو الظاهر كما قال الإمام.
مسألة: لو ختن شخص ولده، واتخذ دعوة فأهدى إليه، ولم يسم أصحاب الهدايا الابن ولا الأب، ففي هذه المسألة وجهان:
أحدهما: أنها للابن وصححه العبادي، وصاحب الكافي، وجزم به القاضي حسين.
والثاني: أنها للأب، وهو أصح وأقوى.
الركن الثالث: الشيء الموهوب وضابطه أن كل ما جاز بيعه من الأعيان جاز هبته؛ لأنه عقد يقصد به ملك العين، فملك به ما يملك بالبيع، وما جاز بيعه جاز هبة جزء منه، ولو شائعا لما روى عمر بن سلمة الضمري عن رجل من بهز:"أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة حتى إذا كانوا في بطن وادي الروحاء، وجد الناس حمار وحش عقيرا، فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اتركوه حتى يأتي صاحبه"، فأتى البهزي وكان صاحبه، فقال: يا رسول الله شأنكم هذا الحمار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق، وهم محرمون، قال: ثم مررنا حتى إذا كنا بالبادية إذا نحن بظبي حاقف1 في ظل فيه سهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا أن يقف عنده حتى يخبر الناس عنه.
وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حيث قتادة قال: "كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا، والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية، فأبصروا حمارا وحشيا، وأنا مشغول أخصف2 نعلي فلم يؤذنوني، وأحبوا ألو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الغرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت: لهم ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه، فغضبت فنزلت فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار، فعقرته ثم جئت به
1 حقف الشيء حقوفا اعوج فهو حاقف، وظبي حاقف معناه انحنى وتثنى من جرح وغيره "المصباح المنير ج1 ص174".
2 خصف الرجل نعله أصلحه، وهو كرقع الثوب "المصباح ج1 ص205".
وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فرحنا وخبأت العضد1 معي، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عن ذلك، فقال: $"هل معكم منه شيء"؟ فقلت: نعم. فناولته العضد فأكلها، وهو محرم.
وفي رواية لمسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: هل أشار إليه إنسان أوامره بشيء؟ قالوا: لا. قال فكلوا.
وهذا الخبر صريح في صحة هبة المشاع، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد سواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن.
حكم تعليق الهبة على شرط:
لما كانت الهبة تمليكا لمعين في الحياة لم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فإن علقها على شرط كان وعدا بالهبة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة، إن رجعت هديتنا إلى النجاشي فهي لك.
فإن كان هذا الشرط منافيا لمقتضى العقد، فلا يصح هذا الشرط كأن يقول: وهبتك هذا الشيء بشرط أن لا تهبه ولا تبيعه، أو بشرط أن تهبه أو تبيعه أو بشرط أن تهب فلانا شيئا، ففي كل هذه الصور الشرط غير الصحيح، لكن هل تصح الهبة مع الشروط الفاسدة فيها وجهان.
أما إذا وقت الهبة، فقال: وهبتك هذا العقار سنة، ثم يعود إلي فلا تصح الهبة مع التأقيت؛ لأن الهبة عقد تمليك فلا يقبل التأقيت.
حالات التمليك:
التمليك إما أن يكون للعين أو للمنفعة: أو لهما معا، وإما أن يكون
1 العضد ما بين المرفق إلى الكتف من الذراع "المصباح المنير ج2 ص494".
بعوض أو بغير عوض.
فإن كان التمليك للعين بغير عوض من غير احتياج كان هبة، فإن كان عن احتياج فصدقة، وإذا كان للمنفعة بغير عوض فعارية أو بعوض فإجارة، وإن كان للعين بعوض فبيع.
وما لا يجوز بيعه كمجهول ومغصوب لمن لا يقدر على انتزاعه، وضال فلا يجوز هبته بجامع أن كلا منهما تمليك في الحياة، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: زن وأرجح؛ لأن الرجحان المجهول وقع تابعا لمعلوم، والأوجه من هذا أن نقول: إن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم أرجح تحقق الحق حذرا من التساهل فيه.
وقد اختلفوا في ترك الدين المستقر الذي في الذمة للمدين هل يعد هبة، أو يعد إبراء فحسب، فذهب الرملي إلى أنه لا يعد هبة في الأصح؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، فإن قلنا بصحة بيعه لغير من هو عليه قياسا على بيع الموصوف، فإنه لا يوهب والدين مثله بل أولى.
والفرق بين صحة بيعه، وعدم صحة هبته بأن بيع ما في الذمة التزام تحصيل المبيع في مقابلة الثمن الذي استحقه، والالتزام فيه صحيح بخلاف هبته، فإنه لا يتضمن الالتزام إذ لا مقابل فيها، فكانت بالوعد أشبه، فلم تصح
ويرد على ما لا يجوز بيعه من المجهول، ومع هذا تجوز هبته أمور:
1-
إذا خلط متاعه بمتاع غيره، فوهب أحدهما نصيبه لصاحبه، فيصح مع جهل قدره وصفته للضرورة.
2-
لو قال شخص لآخر: أنت في حل مما تأخذ، أو تعطي أو تأكل من مالي فله الأكل فقط؛ لأنه إباحة وهي صحيحة بالمجهول بخلاف الأخذ والإعطاء قال العبادي: وأفتى القفال في: أبحث لك من ثمار بستاني ما شئت بأنه
إباحة، وظاهره أن له أخذ ما شاء، وما قاله العبادي أحوط.
وفي الأنوار، لو قال: أبحث لك ما في داري، أو ما في كرمي من العنب فله أكله دون بيعه وحمله، وإطعامه لغيره، وتقتصر الإباحة على الموجود في الدار أو الكرم، ولو قال: أبحث لك جميع ما في داري أكلا واستعمالا، ولم يعلم المبيح لم تحصل الإباحة.
ومتى قلنا: لا تصح الهبة في غير المقدور عليه، أو فيما لا يمكن تسليمه كالجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على أخذه، فإن عدم الصحة مردها إلى أن الهبة عقد يفتقر إلى القبض، فلم يصح في ذلك كالبيع.
متى يثبت الملك في الهبة؟
الهبة لا تملك إلا بالقبض لما روت عائشة رضي الله عنها، "أن أباها نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: يا بنية. إن أحب الناس غنى بعدي لأنت، وإن أعز الناس علي فقرا بعدي لأنت، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي، ووددت لو أنك جذذته، وحزته وإنما هو اليوم مال الوارث"1.
قال الشافعي رضي الله عنه في الأم: بلغنا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه نحل عائشة أم المؤمنين جذاذ عشرين وسقا من نخل له بالعالية، فلما حضره الموت قال لعائشة: إنك لم تكوني قبضتيه، وإنما هو مال الوارث، فصار بين الورثة؛ لأنها لم تكن قبضته.
ويشترط في صحة الهبة أن يكون القبض بإذن الواهب؛ لأن الواهب بالخيار قبل القبض إن شاء أقبضها وأمضاها، وإن شاء رجع فيها ومنعها، فإن قبضها الموهوب له قبل إذنه لم تتم الهبة، ولم يصح القبض؛ ولأن
1 رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن عورة عن عائشة، ورواه البيهقي من طريق ابن وهب، عن مالك وغيره عن ابن شهاب.. "التلخيص الحبير ج3 ص72، 73".
التسليم غير مستحق على الواهب، فلا يصح التسليم إلا بإذنه.
ويتفرع على ذلك أنه لو أذن الواهب في القبض، ثم رجع من الإذن أو رجع في الهبة صح رجوعه؛ لأن ذلك ليس بقبض، وإن رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه؛ لأن الهبة قد تمت.
حكم الهبة بعد موت أحد المتعاقدين:
إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، فإن قلنا بأنه عقد يؤول إلى اللزوم لم يبطل بموت أحد المتعاقدين، بل يقوم ورثته مقامه في القبض أو الفسخ، وإن قلنا بأنه من العقود الجائزة، فإنه يبطل بموت أحد المتعاقدين كالوكالة والشركة، وهو قول الإمام أحمد حيث قال في رواية أبي طالب، وأبي الحارث في رجل أهدى هدية، فلم تصل إليه حتى مات، فإنها تعود إلى صاحبها ما لم يقبضها.
ودليل على ما روي بإسناده عن أم كلثوم بنت سلمة قالت: "لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "إني قد أهديت إلى النجاشي حلة، وأواقي مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة علي، فإن ردت فهي لك قالت: فكان ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردت عليه هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة" 1.
والقول بانفساخ الهبة بالموت ضعيف، ووجه ضعفه أن المدار ليس على القبول بل على الأيلولة واللزوم، وهو جار في الهدية والصدقة، وأيضا يجري الخلاف في الجنون والإغماء، ولولي المجنون قبضها قبل الإفاقة.
وفرق الحنابلة بين المكيل والموزون وغيرهما، فقالوا: لا يصح التمليك في المكيل والموزون بغير قبض أما في غيرهما، فيصح
1 رواه الحاكم "التلخيص الحبير ج3 ص73".
لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: "الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض".
وقال بعض الأصحاب: إنما يستغنى عن القبض إذا تحقق الإيجاب والقبول، واستقر العقد بينهما؛ ولأنه عقد تمليك فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالنكاح.
ويتفرع على هذا القول: أنه إذا حدث نماء في الهبة قبل القبض، فهو للموهوب له، والمنصوص أن النماء لا يكون للموهوب له إلا بعد القبض.
حكم الرجوع في الهبة:
الرجوع في الهبة بعد القبض حرام إلا هبة الوالد لولده، وكذا سائر الأصول على المشهور، وهذا يشمل الهدية والصدقة على الراجح، ولا يتعين الفور بل له ذلك متى شاء.
والدليل على هذا ما رواه ابن عباس، وطاووس مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل للرجل أن يعطي العطية، فيرجع فيها إلا الولد فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي العطية، ثم يرجع فيها كمثل الكلب يرجع في قيئه" 1، هذا مبالغة في الزجر، فيدل على التحريم.
ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة، قال ابن حجر: اتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض.
وإنما جاز للوالد الرجوع في هبته لوالده لانتفاء التهمة فيه، فإن ما طبع عليه الوالد من إيثاره لولده على نفسه يقضي بأنه إنما يرجع لحاجة، أو مصلحة.
1 رواه الشافعي عن مسلم بن خالد مرسلًا، وقال: لو اتصل لقلت به ورواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث طاوس عن ابن عباس، وهو عنده من رواية عمرو بن شعيب، عن طاوس، وقد اختلف عليه في "التلخيص ج3 ص72".
ولكن لا يرجع من غير عذر، فإن رجع من غير عذر كره له الرجوع، وإن كان بعذر لم يكره كأن يكون الولد عاقا، أو يصرفه في معصية.
وذهب الأوزاعي إلى عدم كراهته إن احتاج الأب لنفقة أو دين، بل ندبه حيث كان الولد غير محتاج.
ووجوبه في العاصي إن غلب على الظن تعينه طريقا إلى كله عن المعصية، ويمتنع الرجوع في صدقة واجبة كنذر وزكاة، وكفارة وكذا في لحم أضحية تطوع؛ لأنه إنما يرجع ليستقل بالتصرف، وهو ممتنع هنا.
وكذا له الرجوع لسائر الأصول، وإن علوا على المشهور.
وإنما يملك الوالد الرجوع إذا كانت الهبة باقية في ملك الابن، فإن خرجت عن ملكه لم يكن له الرجوع فيها؛ لأنه إبطال لغير ملك الابن، فإن عادت إليه بسبب جديد كبيع، أو هبة أو إرث، أو وصية لم يملك الرجوع أيضا؛ لأن ملكها لم يستفده من جهة أبيه، أما إن عادت بفسخ أو إقالة فله الرجوع على أحد الوجهين.
ويتفرع على ذلك أنه إذا تداعى رجلان نسب مولود، ووهب له كل منهما مالا، فليس لواحد منهما أن يرجع في هبته؛ لأن نسبه لم يثبت لواحد منها.
أما إذا لحق بأحدهما، ففيه وجهان.
أحدهما: يجوز الرجوع في الهبة لثبوت البنوة.
الثاني: لا يجوز؛ لأنه لم يكن ثبت له الرجوع في حالة العقد.
هل الهبة تقتضي العوض أو لا تقتضيه؟
الهبة إما أن تكون لمن هو دونه في المنزلة الاجتماعية، أو تكون لمثله أو
لأعلى منه رتبة، فإن كانت لمن هو دونه لم يلزم الموهوب له أن يثيبه بعوض؛ لأن القصد من هبته الصلة والرحمة، فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقة.
وإن كانت الهبة لمن هو مثله لم يلزمه أن يثيبه أيضا؛ لأن القصد من هبته اكتساب المحبة، وتأكيد الصداقة.
وإن وهب لمن هو أعلى منه، ففيه قولان:
الأول ما قاله الشافعي في المذهب القديم: يلزمه أن يثيبه عليه بعوض؛ لأن العرف في هبة الأدنى للأعلى أن يلتمس به العوض، فيصير ذلك كالمشروط.
والثاني ما قاله الشافعي في المذهب الجديد: أنه لا يجب العوض؛ لأن الهبة تمليك بغير عوض، فلا يوجب المكافأة بعوض كهبة النظير للنظير.
فإن قلنا: لا يجب فشرط في الهبة ثوابا معلوما ففيه قولان:
أحدهما: يصح هذا الشرط ويلزم العوض؛ لأنه تمليك مال بمال فجاز كالبيع، فعلى هذا يكون كبيع بلفظ الهبة في الربا والخيار، وجميع أحكامه.
والثاني: أنه شرط باطل؛ لأنه عقد لا يقتضي العوض، فبطل شرط العوض كالرهن، فعلى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه.
فإن شرط فيه ثوابا مجهولا، بطل قولا واحد لا؛ لأنه شرط العوض بل؛ لأنه شرط عوضا مجهولا.
وإن قلنا: إنه يجب العوض ففي مقدار هذا العوض ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يلزمه أن يعطيه إلى أن يرضى لما روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن أعرابيا وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها، وقال: "أرضيت؟ قال: لا.
فزاده، وقال: أرضيت؟ فقال: نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي، أو أنصاري أو ثقفي" 1.
والثاني: يلزمه قدر قيمته؛ لأنه عقد يوجب العوض، فإذا لم يكن مسمى، وجب عوض المثل كالنكاح.
والثالث: يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله؛ لأن العوض وجب بالعرف، فوجب مقداره في العرف، فإن قلنا: إنه يجب العوض فلم يعطه ثبت له الرجوع، فإن تلفت العين رجع بقيمتها؛ لأن كل عين ثبت له الرجوع بها إذا تلفت، وجب الرجوع إلى بدلها كالبيع.
ومن الأصحاب من قال: لا يثبت له الرجوع إذا تلفت العين؛ لأن حق الواهب في العين، وقد فاتت.
الثواب على الهدية:
أما الهدية فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبلها، ويثيب عليها، فقد روى أحمد، والبخاري وأبو داود والترمذي من حيث عائشة رضي الله عنهما قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها"، أي يعطي المهدي بدلها، والمراد بالثواب المجازاة، وأقله ما يساوي قيمة الهدية:
ووجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى بدل الهدية، وواظب على ذلك.
وهذا دليل على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدي، وكانت ممن مثله يطلب الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهب الأعلى للأدنى.
وأيضا: فإن مما يدل على وجوب رد الهدية أن الذي أهدى يقصد أن يأخذ أكثر مما أهدى، فلا أقل من أن يعوض بنظير هديته، وهذا ما قاله
1 رواه أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، ولأبي داود والنسائي، عن أبي هريرة وكذا رواه الحاكم، وصححه على شرط مسلم "التلخيص الحبير ج3 ص72".
الشافعي في القديم.
ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولو وقعت المواهبة كما تقرر في الأصول.
وذهب الشافعي في الجديد إلى القول بأن الهدية للثواب باطلة؛ لأنها بيع مجهول لما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، قال:"أهدى رجل من فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله، فعوضه منها بعض العوض فتسخطه، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: إن رجالا من العرب يهدي أحدهم الهدية، فأعوضه عنها بقدر ما عندي، فيظل يسخط علي".
ويحكى أن بعض أهل العلم والفضل كان يمتنع من قبول الهدية من أحد أصلا لا من صديق، ولا من قريب ولا غيرهما، وذلك لفساد النيات في هذا الزمان.
وخلاصة القول أن الهبة إذا كانت مقيدة بنفس الثواب، فلا رجوع فيها، ومتى وهب مطلقا، فلا ثواب إن وهب لدونه، وكذا لأعلى منه في الأظهر كما لو أعاره داره إلحاقا للأعيان بالمنافع؛ ولأن العادة ليس لها قوة الشرط في المعاوضات.
والثاني: يجب الثواب إذا وهب مطلقا لإطراد العادة بذلك، وكذلك لا ثواب له، وإن نواه إن وهب لنظير على المذهب؛ لأن القصد من مثله الصلة، وتأكيد الصداقة، ومثل ذلك الهدية والصدقة، وإن اختار الأذرعي دليلا؛ لأن العادة متى اقتضت الثواب وجب الثواب، أو وجب رد الهدية.
والأوجه كما بحثه الأذرعي أيضا أن التردد إذا لم يظهر حالة الإهداء قرينة حالية، أو لفظية دالة على طلب الثواب، وإلا وجب هو أو الرد لا محالة.
بعض التفريعات:
1-
لو قال شخص لآخر: وهبتك ببدل، فقال: بل بلا بدل، صدق المتهب بيمينه؛ لأن الأصل عدم البدل، ولو أهدى له شيئا على أن يقضي له حاجة، فلم يفعل لزمه رده إن بقي وإلا فبدله.
2-
ولو وهب له بشرط أن يدفع عوضا معلوما بأن قال: وهبتك هذا على أن تثيبني كذا فقبل، فالأظهر صحة العقد نظرا للمعنى إذ هو معاوضة مال معلوم بمال معلوم، فصح كما لو قال: بعتك.
والثاني: بطلانه نظرًا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضي التبرع، ومن ثم يكون بيعا على الصحيح، فيجري فيه عقب العقد أحكامه كالخيار والشفعة وعدم توقف الملك على القبض، وقيل: يكون هبة نظرا للفظ، فلا تلزم قبل القبض، أو بشرط ثواب مجهول، فالمذهب بطلانه لتعذر صحته بيعًا لجهالة العوض، وتعذر صحته هبة لذكر الثواب على الأصح؛ لأنها لا تقتضيه.
3-
ولو وهب شيئا في ظرف، فإن لم تجر العادة برده، فهو هدية أو هبة تحكيما للعرف المطرد، وذلك كقوصرة تمر وهي الوعاء الذي يكنز فيه من نحو خوص، ولا يسمى بذلك إلا وهو فيه، وإلا فزنبيل، وكعلبة حلوى.
وكتاب الرسالة يملكه المكتوب إليه إن لم تدل قرينة على عوده، وهذا ما قاله المتولي، وهو أوجه من قول غيره إنه باق على ملك الكاتب، ويملك المكتوب له الانتفاع به على وجه الإباحة.
فإذا اعتيد رده أو اضطربت العادة، فلا يكون هدية بل أمانة في يده كالوديعة، ويحرم استعماله؛ لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه إلا في أكل
الهدية منه إن اقتضته العادة عملا بها، ويكون عارية حينئذ، ويسن رد الوعاء وهذا في المأكول.
أما غيره فيختلف رد ظرفه باختلاف عادة النواحي، فيتجه في كل ناحية بعرفهم، وفي كل قوم عرفهم باختلاف طبقاتهم.
4-
ولو ختن ولده، وحملت له هدايا ملكها الأب، وقضية ذلك أن ما جرت به عادة بعض أهل البلاد من وضع صينية بين يدي صاحب الفرح ليضع الناس فيها دراهم، فيرد ذلك تبعا للعرف الجاري.
وكان من عادة أهل الأسكندرية أن يكتب الناس قائمة بأسماء الواهبين، ومقدار ما دفعوه في الصينية، وهم حريصون على رد ما يأخذونه في أفراح من أعطوهم، وربما زاد بعضهم على ما أخذ.
وفي القاهرة تفشو هذه العادة إلا أن الحرص على الرد أقل من الأسكندرية.
قال الرملي: ثم ما يعطيه الناس للمزين في الأفراح، والمناسبات يجري في ذلك التفصيل، فإن قصد المزين وحده أو مع نظرائه المعاونين له عمل بالقصد، وإن أطلق كان ملكا لصاحب الفرح يعطيه لما يشاء؛ لأنه مع الإطلاق ينصرف في الغالب إليه، فيكون هو المقصود، وهذا هو عرف الشرع، فيقدم على العرف المخالف له بخلاف ما لا عرف للشرع فيه، فيحكم بالعادة فيه.
العمري والرقبي.
العمري بضم العين وسكون الميم في القصر، قال في الفتح: وحكي بضم الميم مع ضم أوله، وحكي فتح أوله مع السكون، وهي مأخوذة من العمر، وهو الحياة.
سميت بذلك؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعطي الرجل الدار، ويقول له: أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك، فقيل لها: عمري لذلك.
والرقبي بوزنها مأخوذة من المراقبة؛ لأن كلا منها يرقب الآخر متى يموت لترجع إليه، وكذا ورثته يقومون مقامه، وهذا أصلها في اللغة.
والعمري هو أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك، وفيها ثلاث أحوال.
الأول: أن يقول: أعمرتك هذا الدار ويطلق، فهذا تصريح بأنها للموهوب له.
وحكم هذه الدار حكم المؤبدة لا ترجع إلى الواهب؛ لأن المطلقة حكمها حكم المؤبدة، وهذا أحد قولي الشافعي رضي الله عنه، وهو موافق لرأي الجمهور.
والقول الثاني: أنها تكون عارية ترجع بعد الموت إلى المالك لما روي عن سفيان عن ابن جريج، عن عطاء عن جابر مرفوعا:"لا تعمروا ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا أو أرقبه، فهو سبيل الميراث"1. وفي رواية أحمد والنسائي عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا، أو أرقبة فهو له حياته
…
" 2.
الحال الثاني: أن يقول: هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلي، فهذه عارية مؤقتة ترجع إلى المعير عند موت المعمر، وبه قال أكثر العلماء، ورجحه جماعة من الأصحاب.
والأصح عند أكثرهم لا ترجع إلا الواهب؛ لأن هذا الشرط يعتبر شرطا فاسدا، فيلغو.
1رواه الشافعي، وأبو داود والنسائي، وصححه أبو الفتح القشيري على شروطهما "التلخيص الحبير ج3 ص71".
2 حديث جابر: إنما العمري التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "هي لك ولعقبك من بعدك"، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها.
واحتجوا بحديث جابر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الأنصاري الذي أعطى أمه الحديقة حياتها أن لا ترجع إليه، بل تكون لورثتها. ونصه:
"إن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها، فماتت فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها بينهم ميراثًا" رواه أحمد.
الحال الثالث: أن يقول: هي لك ولعقبك من بعدك، أو يأتي بلفظ يشعر بالتأبيد، فهذه حكمها حكم الهبة، وروي عن مالك أنه يكون حكمها حكم الوقف إذا انقرض المعمر، وعقبه رجعت إلى الواهب، والأحاديث القاضية بأنها ملك الموهوب ولعقبة ترد عليه.
والخلاصة أنه إذا شرط في العمري أنها للمعمر وعقبه، فهذا تأكيد لحكمها، وتكون للمعمر وورثته، وهذا قول جميع القائلين بها، إذا أطلقها فهي للمعمر ورثته أيضا؛ لأنها تمليك للرقبة، فأشبهت الهبة، فإن شرط أن تكون له بعد موته، فقال الشافعي في القديم: يصح العقد والشرط، ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر، وقال في الجديد: بأنها تكون للمعمر.
إذا ثبت هذا فإن العمري تصح في العقار وغيره من الحيوانات، والثياب؛ لأنها نوع من هبة، فصحت في ذلك كسائر الهبات.
ومن ثم إذا قال: سكنى هذا الدار لك عمرك، أو اسكنها عمرك أو نحو ذلك، فليس ذلك بعقد لازم؛ لأنها في التحقيق هبة المنافع، والمنافع إنما تستوفي بمضي الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى، وللمسكن الرجوع متى شاء، وأنه إذا مات بطلت، والله أعلم.
خاتمة.
وبعد، فلا يسعنا إلا أن نقدم الشكر لله جزيلا، والثناء جليلا على ما أفاض به علينا ويسره لنا في إنجاز هذا العمل الذي نرجو أن يكون خالصا لوجهه الكريم، فله الحمد والمنة، والفضل العظيم.
هذا ولقد بسطنا القول في فقه المعاملات في البيع والربا، والقراض واللقطة وإحياء الموات، والجعالةوالهبة، وحاولنا قدر المستطاع بيان أهم أحكامها مقرونة بأدلتها من الكتاب والسنة، والإجماع لتكون مورد عذبللشاربين، ومن يريد أن ينفقه في الدين..
وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.