الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الركن الثاني: العاقد:
وإذا أطلق العاقد انصرف إلى البائع والمشتري؛ لأن كلا منهما له دخل في تحصيل التمليك بالثمن، والشروط التي ذكرها المصنف أربعة: الأول والثاني منهما عام يصدق على البائع والمشتري، والثالث والرابع خاصان بالمشتري، وفيما يلي نتكلم عن شروط العاقد، ثم شروط المعقود عليه1.
شروط العاقد:
والعاقد كما قال البجيرمي في حاشيته هو من له دخل في تحصيل التمليك بالثمن، وهو صادق بكل من البائع، والمشتري أو غيرهما.
وشرطه الأول: إطلاق تصرف، والمراد بالمطلق التصرف من أذن له الشارع في التصرف، فيدخل فيه الولي في مال موليه، وكونه لا يتصرف إلا بالمصلحة قدر زائد على إطلاق التصرف، وعبارة الشوبري إطلاق التصرف صحته ولو بالبيع، فلا يصح عقد الصبي والمجنون، ولو أذن له الولي في التصرف لقوله عليه السلام:"رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، أو يفيق"، ومن حجر عليه بسفه أو فلس لا يصح تصرفه بالنسبة لبيع عين ماله، أما شراؤه بثمن في
1 حاشية البجيرمي على المنهج ج2، ص14.
الذمة فيصح، من بلغ غير مصلح لدينه وماله، لا يصح تصرفه، قال البغوي: الصلاح في الدين أن يكون مجتنبا للفواحش، والمعاصي المسقطة للعدالة.
الشرط الثاني: عدم إكراه بغير حق، فلا يصح عقد مكره في ماله بغير حق لعدم رضاه قال تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، ومحله إن لم يقصد إيقاع البيع، وإلا صح كما بحثه الزركشي أخذا من قولهم لو أكره على إيقاع الطلاق، فقصد إيقاعه صح القصد، فالصريح في حق المكره كناية، كما ذكروه في الطلاق1.
فإن كان الإكراه بحق صح عقده، وذلك كان توجه عليه بيع ما له لو فاء دين أو شراء مال أسلم إليه فيه، ومن الإكراه بحق أن يكون عنده طعام يحتاج إليه الناس، فيكرهه الحاكم على بيع الزائد على كفاية سنة، ويفهم من ذلك أنه لا يصح لو باعه، أو اشتراه بإكراه غير الحاكم، ولو كان المكره مستحق الدين، وهو ظاهر؛ لأنه لا ولاية له، نعم إن تعذر الحاكم، فتتجه الصحة بإكراه المستحق أو غيره ممن له قدرة عليه؛ لأن المراد إيصال الحق لمستحقه، ولصاحب الحق أن يأخذ ماله، ويتصرف فيه بالبيع، وإن لم يكن من جنس حقه، ويحصل حقه به، وأن يتملكه إن كان من جنس حقه؛ لأنه ظافر، ومنه ما يقع في مصر من أن بعض الملتزمين في البلد يأخذ غلال الفلاحين لامتناعهم من أداء المال الواجب عليهم، فيصح البيع2.
ويصح عقد مكره في مال غيره بإكراهه؛ لأنه أبلغ في الإذن3.
1 راجع حاشية البجيرمي "ج2 ص15".
2 المرجع السابق "ج2 ص16".
3 حاشية الباجوري على ابن قاسم "ج1 ص338".
الشرط الثالث: إسلام من يشتري له مصحفا، أو كتب حديث، أو علم فيها آثار السلف، والمراد بالمصحف هنا ما فيه قرآن مقصود، ولو قليلًا كرسالة أو تميمة، وأجاز ابن عبد الحق التميمة، والرسالة اقتداء بفعله صلوات الله عليه، وخرج بالمقصود ما كان على جدار أو سقف، وثوب أو نحوهما1، فلا يصح لكافر أن يتملك شيئا من ذلك بالبيع، أو بغيره ولو بوكالة مسلم عنه؛ لأن الملك يقع له، لما في امتلاكه للقرآن، وكتب الحديث، وآثار السلف من الإهانة، وكذلك لا يصح للكافر أن يستخدم مسلما لما في استخدامه للمسلم من الإذلال، وقد قال الله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} .
وعبر بالإذلال في جانب المسلم، وبالإهانة في جانب المصحف؛ لأنه يعتبر في حقيقة الإذلال أن يكون للمذلول شعور يميز به بين الحسن والقبيح، والمرتد له حكم المسلم فيما تقدم، لبقاء علقة الإسلام فيه، وعلقة الإسلام كما قال البرماوي: وجوب مطالبته بما مضي حال ردته من الصلاة، والصوم ونحو ذلك، ولا مانع من مطالبته بالإسلام، فإذا طولب به وأسلم، فلا يبقى تحت يد الكافر2.
وخرج بملك المصحف وما بعده، إجارتها أو إعارتها ورهنها، فتقع صحيحة لكن من الكراهة في العقد على العين على كل لا تسلم العين إليه، بل يقبضها عن الحاكم، ثم يأمره وجوبا بإزالة ملكه عنها في إجارة العين، ويمنعه من استخدام المسلم لما فيه من الإذلال له كما قدمنا.
ويشترط: عدم حرابة من يشتري له عدة حرب كسيف، ورمح ونشاب،
1 قليوبي وعميرة "ج2 ص156".
2 حاشية البجيرمي "ج2 ص17".
وترس ودرع وخيل، ومثل الخيل السفن إذا كانوا يقاتلون عليها في البحر، فلا يصح شراء شيء من ذلك لحربي؛ لأنه يستعين به على قتالنا، فالمنع منه لأمر لازم لذاته، وهو الاستعانة على قتالنا بخلاف الذهني، وقاطع الطريق؛ لأنهما في قبضتنا، ولسهولة تدارك أمرهما، وليست الحرابة متأصلة في الذمي، ما لم يعلم أنه يدسه لأهل الحرب، فإن علم منه ذلك لم يصح شراؤه خلافا لمن قال بحرمة الشراء مع الصحة، وبخلاف غير عدة الحرب، ولو بما تصنع منه كالحديد، إذ لا يتعين جعله عدة حرب، لكن لو أخبر معصوم أنهم سيجعلونه عدة حرب، فيكون بيعه لهم غير صحيح، وهو محتمل وشراء البعض من ذلك كشراء الكل، وسائر التملكات كالشراء، ويكره للمسلم بيع المصحف؛ لأن في ذلك نوع امتهان، حيث جعل المصحف كالسلع التي تعرض للبيع والشراء، والمراد بالصحف هنا خالص القرآن، فخرج به المشتمل على تفسيره، وإن كان التفسيره أقل من القرآن أو أكثر، وكتب العلم والحديث، ولو قدسيا فلا يكره بيع شيء من ذلك، وكما يكره بيع المصحف يكره كذلك شراؤه، قيل: وثمنه مقابل لدفتيه، وقيل: بدل أجرة نسخة، وقيل: يكره البيع دون الشراء، وهو المعتمد لما في الأول من الإعراض، وإزالة الملك، ولما في الثاني من الرغبة والتحصيل، وشتان ما بين القصدين.
وقد أجاز ابن عبد الحق بيع الرسالة، والتميمة لكافر اقتداء بفعله صلوات الله عليه، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل الكتب إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، ولا شك أنها كانت مشتملة على بعض القرآن، فصح البيع لذلك، وإذا نقش قرآن على جدار، أو سقف أو ثوب وبيع معها، فلا شك أنه غير مقصود، وفي هذه الحالة لا مانع من أن يكون المشتري غير مسلم.
استخدام الكافر للمسلم.
وإذا كنا قد منعنا بيع القرآن لغير المسلم لما ذكرنا، فهل يصح للكافر أن يستخدم مسلمًا؟، وأحب في هذا المقام أن أبين أن كلام الفقهاء في هذه المسألة انصب على شراء الكافر للمسلم، فهو قد منعوا لما في امتلاكه له من الإذلال، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} . فهذا لا يصح، ولا يجب أن يكون، اللهم إلا إذا كان الكافر أبا أو ابنا، فيصح له أن يشتري المسلم ليعتقه، فإذا اشتراه ليعتقه، فلا ضير على المسلم في ذلك لانتقاء الإذلال حينئذ، وإن كان هناك رأي آخر يمنع من شرائه له في هذه الحالة؛ لأنه في رأية لا يخلو من الإذلال1.
والمرتد له حكم المسلم فيما تقدم لبقاء علقة الإسلام فيه، وعلقمة الإسلام تظهر في وجوب مطالبته بالإسلام حال ردته، فإذا طولب وأسلم، فلا يبقى تحت يد الكافر2.
ولنا الآن أن نتسأل هل هذا الحكم يسري على استخدام الكافر للمسلم؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إنه ينبغي أن نفرق بين أمرين:
الأول: إذا كان الغرض خدمة المسلم للكافر في شئونه الخاصة في المنزل، أو في خارج المنزل، فلا شك أن الإذلال قد تحقق، فالمسلم خادم والكافر مخدوم أي عبد، والكافر سيد له الأمر والنهي، وفي ذلك ما فيه من ضعف العزة والسيادة في الأرض {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
1 راجع المنهاج "ج2 ص156".
2 راجع حاشية البجيرمي "ج2 ص17". والبرماوي على الغاية لابن قاسم.
الأمر الثاني: أن المسلم إذا كان يحترف عملا شريفا، ويتقن صنعة لها قيمة في حياة الناس، فلا ضير عليه أن يعمل عند الكافر؛ لأنه لا يعيش عالة، وإنما يأكل من كد يمينه، وعرق جبينه، وفي هذه الحالة لا ينال من الكافر لا في خلقه ولا دينه، وقد صرح بعض الفقهاء بالمنع، ولعله قصد الحالة الأولى حالة استئجار الكافر للمسلم، أو للمصحف وما في حكمه، فإن الإجارة تقع صحيحة لكن مع الكراهة، فإذا أراد أن يتسلم العين، فلا تسلم له بل يقبضها الحاكم عنه، ثم يأمره، وجوبا بإزالة ملكه عنها في إجارة العين، ويمنعه من استخدام المسلم لما فيه من الإذلال1.
آراء الفقهاء في بيع المصاحف:
للفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أراء:
الأول: رخص في شرائها وكره بيعها، وقد كان أصحاب رسول الله، يكرهون بيع المصاحف، وفي ذلك روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس، ومروان بن الحكم أنهما سئلا عن بيع المصاحف للتجارة، فقالا: لا نرى أن تجعله متجرًا، ولكن ما عملت بيديك فلا بأس به، وروى أيضا بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير:"اشتره ولا تبعه"، وهذا إن صح، فإنه يدل على جواز بيعه مع الكراهة، والكراهة هنا للتنزيه تعظيما للمصحف عن أن يبذل بالبيع، أو يجعل متجرا.
والثاني: كره البيع والشراء، وبه قال ابن مسعود.
والثالث: يرى صحة بيع المصحف، وشرائه وإجارته، ونسخه بالأجرة.
1 راجع حاشية قليوبي على المنهاج "ج2 ص156".
لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه سئل عن بيع المصاحف، فقال: لا بأس يأخذون أجور أيديهم؛ ولأنه طاهر منتفع به، فهو كسائر الأموال.
والصحيح من المذهب: أن بيعه مكروه دون الشراء، وهو نص الشافعي في كتاب اختلاف علي، وابن مسعود، وبه قطع البيهقي، لما في بيعه من الإعراض وإزالة الملك، ولما في الشراء من الرغبة في تحصيل منافعه العظيمة، وآثاره الطيبة وشتان ما بينهما1. ومع هذا فالحاجة تدعو إلى شرائه وبيعه، وإذن فلا بأس في بيعه، والله أعلم.
الشرط الرابع: عصمة المشتري إذا كان المبيع سلاحًا:
فالمعدات الحربية التي تستخدم في ميدان القتال برا وبحرا، وجوا حتى البدائية منها كالسيف والدرع والرمح، والنشاب وغيرها وكذلك الخيل، فهذه المعدات محذور بيعها لحربي، فإن الحربي ليس بيننا وبينه عهد، ولا ذمة تمنعه من قتالنا، فإذا أجزنا له شراء مثل هذه الأسلحة، فإنه يستعين بها على قتالنا.
أما الذمي وقاطع الطريق، فإن حكمهما يختلف، فيصح البيع لهما؛ لأنهما في قبضتنا، فيسهل تدارك الأمر إذا سولت لهما أنفسهما قتالنا؛ ولأن الذمي ليس الحرابة متأصلة فيه، وهذا حكمه ما لم يخن العهد والذمة، فإن خانهما، وعلمنا أنه يدسه لأهل الحرب، فإنه يأخذ حكم الكافر الحربي.
أما ما تصنع منه أدوات الحرب كالحديد، أو ما يستخدم وقود للسيارات والطائرات، فإن حكمه يختلف، فإن أخبر معصوم أنهم سيجعلونه عدة حرب لقتالنا، فيكون حمكه حكم بيع آلات الحرب وإلا فلا.
1 راجع المجموع شرح المهذب "ج9 ص272-273".