المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ أحكام الجعالة

الفصل الخامس:‌

‌ أحكام الجعالة

.

تعريف الجعالة:

الجعالة بفتح الجيم، وكسرها اسم لما يجلعه الإنسان لغيره على شيء يفعله، وكذا الجعل والجعيلة، وأما تعريفها شرعا، فهو التزام مطلق التصرف عوضا معلوما على عمل معين، أو مجهول لمعين أو غيره1.

وعرفها بعضهم بقوله الجعالة: التزام عوض معلوم على عمل فيه كلفة، ولو غير معين.

حكم الجعالة:

الجعالة جائزة والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} 2، أي ضمين وكفيل، واعتبر الرملي أن سوق هذه الآية استئناسا وليس استدلالا، وعلل ذلك الشبراملسي في حاشية على النهاية قائلًا: إن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، وإن ورد في شرعنا ما يقرره، وأما الدليل المعتمد لجواز الجعالة فهو قوله صلى الله عليه وسلم: فيما رواه أبو سعيد الخدري أنا ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتو حيا من أحياء العرب، فلم يقروهم أي لم يضيفوهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم راق، فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيع شاة من الغنم، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه3، ويتفل فبرأ الرجل، فأتوهم بقطيع الشاة، فقالوا: لا

1 حاشية الباجوري على ابن قاسم "ج2 ص33".

2 من الآي "72" من سورة يوسف.

3 البزاق: الريق.

ص: 155

نأخذه حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فضحك وقال:"ما أدراك أنها رقية؟ خذوه واضربوا لي فيه بسهم"1.

وفي رواية أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رقى ملدوغا بعقرب بالفاتحة على ثلاثين رأسا من الغنم، وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك.

والإجماع منعقد على جواز الجعالة لما تدعو إليه الحاجة من رد ضالة، أو عمل لا يقدر عليه، ولا يوجد من يتطوع به، ولا تصح الإجارة عليه لجهالة، فجاز أن يجعل له جعلا كالإجارة والقراض.

الفرق بين الجعالة، والإجارة:

والجعالة كالإجارة، إلا أنها تختلف عنها في الأمور الآتية:

1-

جوازها وصحتها مع غير معين.

2-

صحتها على عمل مجهول.

3-

توقف استحقاق العوض فيها على فراع العمل.

4-

صحتها مع عدم قبول العامل.

5-

صحتها مع جهل العوض.

6-

سقوط كل العوض بفسخ العامل، ومن ثم فقد ذكرها بعضهم عقب الإجارة، واختار المصنف ذكرها عقب اللقيط؛ لأن فيها طلب ضائع كاللقيط واللقطة.

أركان الجعالة:

أما أركان الجعالة فهي أربعة: عاقدان، وعوض، وعمل، وصيغة وعدها بعضهم خمسة وهي عاجل، ومجعول له يسمى العامل، وعوض، وعمل،

1 رواه الجماعة إلا النسائي، وهذا لفظ البخاري وهو أتم وفي رواية للدارقطني:"قلت: يا رسول الله شيء ألقي في روعي"، قال الشوكاني: وذلك ظاهر في أنه لم يكن عنده علم متقدم بمشروعية الرقى بالفاتحة" "نيل الأوطار ج5 ص326، 327".

ص: 156

وصيغة وسوف نتكلم عن كل ركن من هذه الأركان الخمسة على هذا الترتيب.

الركن الأول:

الجاعل ويشترط فيه شرطان:

الأول: أن يكون مطلق التصرف بأن يكون تصرفه صحيحا، فيما يجعله عوضا سواء كان مالكا أو غير مالك، فدخل بذلك الولي وخرج الصبي، والمجنون والسفيه.

الثاني: أن يكون مختارًا، إن كان مكروها فلا يصح جعله.

الركن الثاني:

العامل ويشترط فيه شروط هي:

الأول: أن يكون العامل مأذونًا له بالعمل من صاحب المال، فإذا عمل من غير إذنه بأن كان له مال ضائع فجاء به، أو ضالة فردها إليه لم يستحق الجعل؛ لأنه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحق العوض، أما إذا أذن له وشرط له الجعل، فعمل استحق الجعل؛ لأنه استهلك منفعته بعوض، فاستحق العوض كالأجير.

ويدخل تحت هذا الشرط صور من أهمها:

أ- إذا أذن الجاعل لشخص فعمل غيره، فلا شيء للعامل وإن كان معروفا بذلك العمل، خلافا لأبي حنيفة.

ب- إذا نادى، فقال: من رد علي ناقتي أو سيارتي، فله دينار فردها من لم يسمع النداء لم يستحق الجعل؛ لأنه متطوع بالرد من غير بدل.

الثاني: أن يكون العامل أهلا للعمل إذا كان معينا، فيصح ممن هو أهل له، ولو صبيا أو مجنونا، أو محجورا عليه بسفه بخلاف صغير لا يقدر

ص: 157

على العمل؛ لأن منفعته معدومة فالجعالة معه كاستئجار أعمى للحفظ.

ويجوز أني يكون العامل غير معين كقوله: من رد على ضالتي فله كذا، فإذا ردها استحق الجعل، وهو الأجرة لم يسمع الراد ذلك من الجاعل، بل سمعه ممن يثق بخبره.

الثالث: أن العامل لا يستحق العوض إلا بالفراغ من العمل، فإن شرط له جعلًا على رد البعير الشارد، فرده إلى باب الدار ففر منه، أو مات قبل أن يسلمه لم يستحق شيئا من الجعل؛ لأن المقصود هو الرد، والجعل في مقابلته ولم يوجد منه شيء.

الركن الثالث: العوض ويشترط فيه:

1-

أن يكون مالًا مقصودًا، محترما أو مختصا فإن كان غير مقصود كالدم ونحوه، فلا يجوز.

2-

أن يكون معلوما؛ لأنه عوض فلا بد من العلم به كالأجرة في الإجارة، فلو كان مجهولا كقوله: من رد مالي أو ضالتي، فله ثوب أو أعطيه شيئا، فلا يجوز؛ لأن الجعالة عقد معاوضة، فلا تجوز بعوض مجهول كالنكاح.

فإن شرط له جعلا مجهولا فعمل، استحق أجرة المثل؛ لأن كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب المثل في فاسده، كالبيع والنكاح؛ ولأنه عقد جوز للحاجة، ولا حاجة لجهالة العوض بخلاف العمل؛ ولأن جهالة العوض تفوت مقصود العقد، أو لا يرغب أحد في العمل مع جهالة العوض.

ويحصل العلم بالمشاهدة إن كان معينًا، وبالوصف إن كان في الذمة، فلو قال: من رد ضالتي فله ما تحمله، وكان ما تحمله معروفا كسرجها

ص: 158

ولجامها أو شيئا آخر تنقله ضلت به، وكان معروفا للعامل، صح العوض وإلا فلا.

وخلاصة القول أنه يشترط في العوض ما يشترط الثمن، فما لا يصح ثمنا لكونه مجهولا أو نجسا لا يصح أن يكون جعلًا، ويستحق العامل أجرة المثل في المجهول والنجس المقصود كخمر وجلد ميتة، فإن لم يكن مقصودا كدم، فلا شيء للعامل.

الركن الرابع: العمل ويشترط فيه:

أولا: أن يكون فيه كلفة، فلا عوض فيما لا كلفة فيه، كقوله من دلني على مالي، فله كذا فدله عليه وهو بيد غيره؛ لأن ما كلفه به لا يقابل بالعوض.

ثانيا: أن يكون هذا العمل ليس متعينا عليه شرعا، فإن كان قد تعين عليه رده، فلا يستحق شيئا من العوض، فإن قال: من رد مالي فله كذا فرده من تعين عليه لغصب ونحوه، فلا يستحق العوض المشروط؛ لأن ما تعين عليه شرعا لا عوض له عليه.

الثالث: أن يقوم العامل بتسليم المردود إلى صاحبه، فلو تلف منه قبل تسليمه، ولو بعد دخول دار المالك لكن قبل تسليمه، فلا عوض له.

ولا فرق في العمل بين كونه معلوما، وكونه مجهولا عسر علمه للحاجة كما في القراض بل أولى، فإن لم يعسر علمه اشترط ضبطه، ففي بناء حائط يذكر موضعه وطوله، وعرضه وارتفاعه، وما يبنى به، وفي الخياطة يعتبر وصفها ووصف الثوب كالإجارة.

أما صحتها على المعلوم فأولى، ومثال ذلك قوله: من رد علي ضالتي من مكان كذا فله كذا، وهذا هو الأصح.

ص: 159

وقيل: إن كان العمل معلوما ومضبوطا، فالجعالة ممنوعة للاستغناء عنها بالإجارة.

الركن الخامس: الصيغة:

وهي من طرف الجاعل أما العامل، فلا يشترط له صيغة، ومن ثم فلا يشرط فيها قبول العامل باللفظ، ولو كان معينا؛ لأن المعتبر فعله كما في الوكالة، ولا تبطل برده نعم لو قال له العامل: أرد لك دابتك أو سيارتك، ولي دينار، فقال له: نعم أو رده كفى.

وإنما كانت الصيغة ركنا؛ لأن الجعالة معاوضة وشرط الصيغة عدم التأقيت؛ لأن التأقيت قد يفوت الغرض منها، فلو قال: من رد علي ضالتي إلى شهر كذا، فله كذا لم يصح كما في القراض؛ لأن تقدير المدة مخل بمقصود العقد، فقد لا يظفر به فيها، فيضيع سعيه ولا يحصل الغرض.

ويتفرع على ذلك فروع نذكرها فيما يلي:

الفرع الأول: لا فرق في الجاعل بين أن يكون جاعلا على نفسه، وأن يكون مخبرا عن غيره إن كان صادقا، وكان ثقة، فإن كان كاذبا فلا شيء له لعدم الالتزام، وكذا إن كان غير ثقة كما لو رد مال زيد غير عالم بإذنه، ولا التزامه إلا أن يعتقد الراد صدقه كما استظهره ابن قاسم.

الفرع الثاني: لو قال شخص: من يدلني على مالي فله كذا فدله غير من هو بيده استحق العوض؛ لأن الغالب أنه تلحقه مشقة، بشرط أن يكون هذا الشخص قد وجد منه بحث عن هذا المال بعد حصول الجعل من المالك، أما البحث السابق والمشقة السابقة قبل الجعل، فلا عبرة بهما.

ص: 160

أما إذا دله من كان المال في يده، فلا يستحق شيئا؛ لأن ذلك واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا، ومعنى ذلك أنه متى كان الدال، أو الراد غير مكلف استحق العوض المشروط أو المجعول.

وقد أفتى الإمام النووي فيمن حبس ظلما، فبذل مالا لمن يتكلم في خلاصة بجاهه وغيره بأن المال جعالة مباحة، وأخذ العوض في ذلك حلال..، ونقله عن جماعة "ثم قال: وفي ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا".

والصحيح الذي نعلمه أن ذلك رشوة، فيكون تخليص المظلوم عند السلطان، وأخذ العوض عنه ليس جعالة، ولا يستحق عليه أجرا وذلك؛ لأنه إذا كان صاحب جاه يستطيع أن يرفع ظلما وقع على إنسان بجاهه، وجب عليه العمل على رفعه، وهذا من شأنه أن يبطل الجعالة؛ لأنها لا تكون إلا عوضا عما لا يجب على العامل، ومقتضى النصحية، والعمل لإحقاق الحق الذي يلزم كل مسلم يمنع هذه الصورة التي أفتى بها النووي رحمه الله تعالى.

ولأنهم قالوا: إن السعي والعمل، وبذل المجهود مع حصول المقصود توجب الجعالة، وجعلوا إخبار الطبيب للمريض بدوائه عملا تافها لا جهد فيه، ولا سعي، فلا يستحق عليه جعلا، فكيف بمن له جاه يمكن أن يؤثر به في رفع ظلم، أو قضاء مصلحة بدون مشقة أو جهد، أو سعي إلا أن يتفوه بكلمة، فهل يحل له أن يأخذ جعالة؟

إن قياس المذهب والبناء على أصله يمنع ذلك، ولا أعلم في ذلك خلافا في الأصل الذي بنينا عليه؛ لأنه يستمد قوته من قوله صلى الله عليه وسلم:"الحلال بين والحرام بين".أما مسألة الطبيب التي أشار إليها، فمراده أن الطبيب لا يستحق أجرا إذا

ص: 161

وصف الدواء للمريض بكلمة؛ لأن الكلمة لا تكلفه جهدا يستحق عليه أجرا أما إذا قام بفحص المريض، ووصف الدواء اللازم، فلا شك أن هذا جهد يستحق الأجر عليه.

الفرع الثالث:

إذا قال: من رد علي ضالتي من بلد كذا فرجه من جهة ذلك البلد لكن من أبعد منه، فلا زيادة له لتبرعه بها، أما إذا قال: من رده من بلد كذا، فرده من مكان أقرب منه، فلا يستحق إلا قسطه من الجعل؛ لأنه جعل كل الجعل في مقابلة العمل، فبعضه في مقابلة بعضه، فإن رده من نصف الطريق استحق نصف الجعل، فإن كانت الطريق غير متساوية في المرونة، والسهولة بأن كان النصف الذي قطعه يمكن أن تكون أجرته ضعف أجرة النصف الآخر استحق الثلثين من الجعل، فإن كان من البلد أو من مسألة مثل مسافته، ولو من جهة أخرى استحق المسمى، ولو رد من البلد المعين، ورأى المالك في نصف الطريق، فدفعه إليه استحق نصف الجعل.

الفرع الرابع:

تصح الجعالة على عمل مجهول؛ لأن الجهالة احتملت في القراض لحصول زيادة، فاحتمالها في رد الحاصل أولى، وهو مقيد بما عسر ضبطه، فإن كان يمكن ضبطه كبناء حائط، فيذكر محله وطوله وسمكه وارتفاعه وما يبنى به، وخياطة ثوب فيصفه كالإجارة، وإذا صحت الجعالة على المجهول، فصحتها على المعلوم من باب أولى، ومثال ذلك قوله:"من رد علي ضالتي من مكان كذا فله كذا وهذا هو الأصح، وقيل: إن الجعالة على المعلوم ممنوعة للاستغناء بالإجارة عنها".

ص: 162

أسباب فسخ عقد الجعالة:

فائدة: ينقسم العقد باعتبار لزومه، وجوازه إلى ثلاثة أقسام:

أحدهما: لازم من الطرفين قطعا كالبيع والإجارة، والسلم والصلح والحوالة والمساقاة، والهبة لغير الفروع بعد القبض، والخلع.

ولازم من أحدهما قطعا، ومن الآخر على الأصح وهو النكاح، فإنه لازم من جهة المرأة قطعا، ومن جهة الزوج على الأصح، وقدرته، على الطلاق ليست فسخًا.

ثانيا: لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر قطعا كالرهن، وهبة الأصول وللفروع بعد القبض، والضمان والكفالة.

ثالثها: جائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية والوديعة، والجعالة قبل فراغ العمل.

ومن ثم فيجوز لأي منهماخ الفسخ قبل تمام العمل؛ لأن عقدها جائز من الطرفين، أما من جهة الجعل فمن حيث إنها تعلق استحقاق بشرط، فأشبهت الوصية.

وأما من جهة العامل؛ فلأن العمل فيه مجهول، وما كان كذلك لا يتصف باللزوم كالقراض، وإنما يتصور الفسخ من العامل في الابتداء إذا كان معينا بخلاف غيره، فلا يتصور فسخه إلا بعد شروعه في العمل.

والمراد بالفسخ رفع العقد ورده من أحد المتعاقدين، أو منهما معا وبذلك ينتهي ما اتفقا عليه: أما إذا كان الفسخ بعد العمل، فإنه لا أثر للفسخ؛ لأن الجعل قد لزم واستقر.

ص: 163

وكما تنفسخ الجعالة بفسخ أحد المتعاقدين كما سبق بيانه تنفسخ أيضا بموت أحد المتعاقدين، أو جنونه أو إغمائه، فلو مات المالك بعد الشروع في العمل، فرده إلى وارثه استحق قسط ما عمله في الحياة من العوض المسمى.

وإن مات العامل فرده وارثه استحق القسط منه أيضا.

فإن فسخ قبل الشروع أو فسخه العامل بعد الشروع فلا شيء له؛ لأنه لم يعمل شيئا في الأولى؛ ولأن الجعل إنما يستحق في الثانية بتمامه، وقد فوته باختياره.

وإن فسخ المالك بعد الشروع في العمل، فعليه أجرة المثل لما مضى؛ لأن جوازه يقتضي التسلط على رفعه، وإذا ارتفع لم يجب المسمى كسائر الفسوخ لكن عمل العامل وقع محترما، فلا يحبط بفسخ غيره فرجع إلى بلده، وهو أجرة المثل كالإجارة إذا فسخت بعيب، وهذا هو الأصح.

وقيل: لا شيء للعامل كما لو فسخ بنفسه، ولا فرق على هذا القول بين أن يكون ما صدر من العامل لا يحصل به مقصود أصلًا كرد الضال إلى بعض الطريق، أو يحصل به بعضه كما لو قال شخص لآخر: إن علمت ابني القرآن فلك كذا، ثم منعه من تعليمه، ولا يتنافى ذلك مع ما سبق ذكره، حيث قلنا: إذا مات العامل أو المالك في أثناء العمل، فإنه ينفسخ العقد، ويجب القسط من المسمى؛ لأن الجاعل أسقط حكم المسمى هنا بفسخه بخلافه هناك.

ولكن هل للمالك أن يزيد أو ينقص في الجعل الذي شرطه للعامل؟ نعم يجوز له ذلك قبل الفراغ من العمل سواء أكان قبل الشروع في العمل، أم بعده كما يجوز في البيع في زمن الخيار، بل إن هذا أولى كأن يقول مثلا

ص: 164

من رد علي ضالتي، فله عشرة من الجنيهات المصرية، ثم يقول: فله خمسة أو عكسه، فيكون الاعتبار بالأخير من قوليه، وهذا إذا سمعه العامل أما إذا لم يسمعه، أو كان بعد الشروع في العمل، فيجب أجرة المثل للعامل على المالك؛ لأن النداء الأخير فسخ للأول، والفسخ من المالك أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أجرة المثل، وهو الراجح عند الغزالي، وقال الماوردي، والروياني يستحق الجعل الأول وأقره السبكي، والبلقيني وغيره.

واستحقاق العامل أجرة المثل إذا لم يسمعه بعد الشروع لا ينافيه أنه لو عمل شيئا بعد الفسخ لا شيء له؛ لأن ذلك فيما فسخ بلا بدل بخلاف هذا.

أما التغيير بعد الفراغ فلا يؤثر؛ لأن المال قد لزم، ويتوقف لزوم الجعل على تمام العمل، ولهذا قال النووي: ولو مات الحيوان الضال1 في بعض الطريق، أو هرب فلا شيء للعامل ولو في دار المالك قبل تسليمه له؛ لأنه لم يرده.

ويستثنى من ذلك لو أكترى من يحج عنه، فأتى ببعض الأعمال، ومات فإنه يستحق من الأجرة بقدر ما عمل.

والفرق بينهما أن المقصود من الحج الثواب، وقد حصل ببعض العمل، وهنا لم يحصل شيء من المقصود، وهذا هو الفرق الأول.

والفرق الثاني: أن الإجارة لازمة تجب الأجرة فيها بالعقد شيئًا فشيئًا، والجعالة جائزة لا يثبت فيها شيء إلا بالشروط، ولم يوجد.

وإذا رد العامل المال الضائع، ولم يجد المالك فله أن يسلم المال المردود إلى الحاكم ويستحق الجعل، فإذا لم يكن حاكم أشهد على المال المردود واستحقه.

1 الضالة: اسم لما ضاع من الحيوان خاصة كما قال الأزهري وغيره.

ص: 165

وإذا أنكر المالك الجعل، وقال العامل شرط جعلا، أو أنكر المالك سعى العامل في رد ماله بأن قال: لم يرده، وإنما رجع بنفسه بأن كان المال بهيمة، فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم الشرط والرد.

أما إذا اختلف المالك، والعامل في مقدار الجعل بعد الفراغ من العمل، أو بعد الشروع، وقلنا للعامل: قسط ما عمله، فيحلف كل منهما ويفسخ العقد، وفي هذه الحالة يكون للعامل أجرة المثل كما في الإجارة، أما قبل الشروع فلا استحقاق له فلا تحالف، ومثله الاختلاف في قدر العمل كقوله: شرطت مائة على رد النقود والتجارة، فقال العامل: على رد التجارة وحدها، أو المال وحده فإن كان بعد الفراغ من العمل، فيحلف كل منهما ويكون للعامل أجرة المثل أما قبل الشروع، فلا استحقاق ولا تحالف، وينفسخ العقد.

ولكن هل يضمن العامل إذا ضاع المال من يده قبل رده؟ إن كان بتفريط، فإنه يضمن وإن لم يكن ذلك بتفريط منه فلا يضمن؛ لأن يده على ما يقع في يده يد أمانة، والله أعلم.

ص: 166