الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَفْحَةٌ مِنَ التَّارِيخِ
إن تقارير الصحافة التي خصصت لباندونج قد رأت في هذا الحدث عنواناً لفصل جديد من التاريخ، وربما كان هذا الفصل محاطاً بهالة أسطورية تسيطر على الأصول البعيدة للفكرة الأفرسيوية. وربما كان لهذه الفكرة أسطورتها المزخرفة ذات الإطار الغامض كسائر الأساطير.
فلقد قالوا: إن زعماء الهند وأندونيسيا قد اجتمعوا في أحد البلاد بجنوب أوروبا خلال صيف عام (1972م) ليشتركوا في بحث حالة بلادهم الخاصة، والمشكلات التي تثيرها الامتيازات الاستعمارية من ناحية، والنشاط المضاد للاستعمار من ناحية أخرى.
ولكن المبدأ الأفرسيوي لم يدخل التاريخ إلا في باندونج، وربما كانت الأقدار تعد هذا المكان التاريخي لتلك الولادة. فقبل خمسة أعوام حدث في إطاره الفخم حادث ذو دلالة، في يونيو (1950م) حين خاطب نهرو جماعة من الطلبة الأندونيسيين، فصاغ ضمناً نظرية العمل الضروري لتغيير الوضع في بلد في مرحلة أندونيسيا، بحيث تخلق في هذه المرحلة السابقة على الحضارة الشروط التي تتفق مع نمو الإنسان. قال:((إن العمل الشاق، والتعاون الوفير ضروريان، إذا ما أردنا بناء هذه الأمة الجديدة الحرة، أما الذين يضيِّعون مواهبهم في الثرترة، وفي المناقشة، وفي المنازعات التافهة فإنهم لا يخدمون بحق بلادهم)).
هذه الكلمات التي تهدف إلى تحويل ضمير صفوة من الشباب إلى منطق الإيجابية في التأثير، وإلى مستوى الواقع، هذه الكلمات لا تعتمد في الحقيقة على مضمون قومي معين، بل على مضمون اجتماعي ونفسي مشترك بين البلاد الأفرسيوية، حيث تجتاز هذه البلاد أزمة مشتركة في تاريخها، وحيث تجد نفسها في المرحلة نفسها من مراحل تطورها، وبذلك كانت تلك الكلمات كأنها
المقدمة النظرية لمؤتمر باندونج حيث قد تكررت في مداولاته بصور مختلفة بالاهتمام نفسه الذي لا يخص هذه المرة بلداً بعينه، وإنما يخص نصف الإنسانية، وحيث ترجمت هذه المرة عن الرغبة في أن تترابط هذه الشعوب، بأسرع ما يمكن، في مرحلة للبناء ذات تأثير فعَّال إلى أقصى حد.
إن المرحلة الثورية التي بدأت مع الحركة التحريرية في هذه البلاد يجب أن تنتهي. وأعظم خطر يواجهه بلد مكافح ضد استبداد معين هو أن تطول ثورته، ويستقر على القلق والفوضى، وحكم الغوغاء الذي ينتج عن هذه الثورة. ولقد تعرضت بعض بلاد أمريكا الجنوبية لمثل هذا الوضع، فشلَّ تطورها، بقدر ما شله النظام الاستعماري نفسه، قبل تحررها.
فمن المهمات الأولية الأساسية بالنسبة إلى بلد حقق ثورته أن ينظم قواه الثورية التي حررته، كيما يشرع في مهمته الرئيسية، مهمة بناء نظامه الاجتماعي. ولا شك في أن هذا هو المغزى الذي كان يتضح صراحة في مؤتمر باندونج، الذي سجل ميلاد الفكرة الأفرسيوية. إن الأحداث التاريخية لا تحمل الشحنة نفسها من التاريخ، وقليل جداً منها الذي يحمل شحنة الفكرة الأفرسيوية لأنها ذات وزن كبير في التطورات المستقبلة في العالم، فإن لها نتائجها على كلا المحورين في وقت واحد، وبعض هذه النتائج يتصل بالمشكلات الخاصة بالعالم الأفرسيوي، وبعضها الآخر يتصل بالحالة العالمية العامة. وحين تحدث هذه الشحنة تأثيرها الأخلاقي والسياسي على محور واشنطن - موسكو، فإن إحدى نتائجها الهامة جداً ستكون تغيير العلاقات الفاسدة التي تقررت بين شقي الإنسانية خلال القرن التاسع عشر.
فأي محاولة نقوم بها لتخطيط هذه العلاقات قبل عشر سنوات أو عشرين سنة، أي إبان العصر الاستعماري، تضطرنا إلى أن نرمز إليها ببعض السهام المتعارضة كيما نشير إلى قوى متنافرة تدل خطوطها على ذلك التنافر المتبادل بين الاستعمار العنصري وقوميات الشعوب المستعمرة المطالبة بحقوقها.
وستكون إحدى نتائج الفكرة الأفرسيوية في النطاق العالمي هي التغيير المستمر لهذا التخطيط الخاص بالعصر الاستعماري إلى وضع آخر، قد تتغير فيه طبيعة العلاقات من أساسها. إذ من الممكن أن تحل محل قوات التنافر والطرد الحالية قوات جذب، كلما سكن دوي الأحداث، وانقضى زمن الأحقاد.
ومن التوقع أن تخلق الفكرة الأفرسيوية من نفسها علاقات جديدة حتى لا تكون نتيجتها في المجال العالمي- فيما وراء المظاهر الحالية- انفصالاً بين المحورين، بل على طول الزمن (اتصالاً) وثيقاً بينهما. أي بين الأجناس التي فرَّق بينها الاستعمار خالق التفرقة العنصرية.
ومن حيث كونها جهداً للتحرر والتنظيم، فمن اللازم أن تتيح هذه الفكرة للشعوب الأفرسيوية أن تجتاز بعد مرحلة الفوضى الثورية، كي تتصل اتصالاً أكثر صلاحاً مع المجموعات الإنسانية المتطورة على المحور الآخر.
وبالفعل، فإن بعض المراقبين الغربيين الذين خصصوا ملاحظاتهم عن الروابط بين آسيا وأوروبا يرون أن ثقافة أوروبا، وحضارتها تتغلغلان أكثر في البلاد الآسيوية ((بقدر ما تتحرر آسيا من قيود الاستعمار)).
والحق أن هذه الملاحظة صادقة، ليس فقط بالنسبة إلى القارتين الأوروبية والآسيوية- بل بالنسبة إلى المحورين، فكل تغيير اجتماعي في حياة الشعوب الأفرسيوية له نتيجة نفسية في المحور الآخر، وأثر في التقريب بينهما.
وسنحلل فيما بعد بصورة أكثر تفصيلاً هذا الشكل، مبينين الدور غير المباشر الذي تؤديه أوروبا في هذا التقريب الهادف إلى توحيد العالم.
على أية حال فإننا نرى أن الفكره الآفرسيوية تقدم للعالم رسالة اتحاد وأخوة.
أما في العاجل، فإن مؤتمر باندونج يبدو في مظهر مزدوج؛ حسب نظرنا إليه بالنسبة إلى فكرة (القوة) أو فكرة (البقاء) وهو يمثل بالنسبة إلى الرجل
الأفرسيوي بلا جدال الصفحة الأولى في تاريخ حضارة جديدة، إذ كان قبل كل شيء لحظة تفكير في مشكلة (البقاء) وخطوة أولى في طريق الحل.
ثم إنه كان في مظهره الآخر أحد فصول الحرب الباردة، وحدثاً يؤثر على ميزان (استراتيجية التطويق) وعلى نظريات هيئات أركان الحرب فيمكن القول بأنه سجل في مغزى زمننا لحظة نفسية هامة في الحوار الدائر بين القوة والبقاء. وأياً ما كان المظهر الذي نتصور تحته أهمية مؤتمر باندونج؛ فإن هذه الأهمية
لا تنتج عن كمية وطبيعة المشكلات التي عولجت فعلاً خلال مناقشاته بل إنها تصدر عن كمية من المشكلات الأخرى التي نحيت بقصد أو عن غير قصد من هذه المناقشات، ولكنها ظلت في حيز القوة في التطور الاجتماعي والاستراتيجي الناتج عنه في الحالة العالمية، أي إنها ظلت كاحتمالات وعبارات مؤجلة في الحوار الناشب بين المحورين.
فهناك إذن ناحية مفاجئة في هذا التطور قد يحدث توقعها بعض القلق في العقول التي تعودت التعبير عن الواقع الإنساني بالأرقام. ولعل هذا القلق هو الذي بدأ في كلام مستر دلاس؛ عندما أعلن قبل انعقاد المؤتمر بأيام لبعض مندوبي الصحف تصريحاً عن باندونج قال فيه:
((إن أهداف هذا المؤتمر تبدو- له- مختلطة وغامضة)).
والواقع أن هذا التصريح يترجم عن إدراكه المشوب ببعض الحيرة والارتباك لتحوُّل عدد من عناصر (القوة)، إلى عناصر (عدم عنف) أكثر من أن يترجم عن سفسطة رجل مثل (دلاس). فالقوى التي يمثلها مؤتمر باندونج تكون فعلاً- في نظره- رصيداً له وزنه وتأتيره في مفهوم الاستراتيجية في العالم.
إن هذه القوى التي كانت بسبب هذا المفهوم في رصيد الحرب الباردة أي متجهة إلى أن تعمل بصورة أو بأخرى كعوامل (قوة) قد تحول خط نشاطها واستقر بصورة ما على محور (عدم العنف)، بوساطة مؤتمر باندونغ.
ونظرة إلى خريطة البلاد التي اشتركت في المؤتمر ترينا الأهمية الاستثنائية لهذا الانقلاب والتحول الذي حدث للقوى، ويدرك بها جيداً رجل الاستراتيجية مثل دلاس أهميته الخاصة، حين يأخذ في اعتباره الوضع الجغرافي للعالم الأفرسيوي؛ واطراده ووحدته على الخريطة. فإذا حسبنا حساب المساحات والحشود الأفرسيوية من الناحية الاستراتيجية، لعلمنا أي ثقل خطير ألقى به مؤتمر باندونج في ميزان التاريخ.
فالعوامل الجغرافية السياسية الفعالة في الموقف تعبر في الواقع عن تحول حقيقي إلى السلام الذي فرضته قوة الأشياء، أعني السلام الذي فرضه منطق الوقائع المحسة المسيطرة على منطق الحرب. والحق أن الحرب تفقد منطقها هنالك حيث تفقد وسائلها التي هي المساحات الجغرافية والحشود البشرية. فإذا بباندونج حين سخرت المساحات والجموع الأفرسيوية لبناء حضارة، قد قلبت قلباً مادياً المنطق الذي كان يستدرج العالم إلى الحرب العالمية الثالثة، بل إنها قبل أي إفصاح عن النوايا بمجرد ثقل العناصر المؤتمرة في ميزانيات القوة قد قلبت المفاهيم الاستراتيجية، وخطط أركان الحرب على محور: واشنطن - موسكو.
ولكن هذا الانقلاب السلمي لم يحدث صدفة، بقوة عناصره وحدها وبفعل خمودها وحده، فإن هناك نية، وإرادة أكيدة للسلام، تتضح صراحة في نظرية سياسية هي: الحياد.
فإن هدف باندونغ العاجل، والاهتمام الشامل الناتج عن هذا الهدف قد تأكدا دون نزاع بالنسبة إلى البلاد التي أرسلت مندوبيها إلى المؤتمر، أو على الأقل بالنسبة إلى أغلبيتها، رغبة في الهرب من كابوس الحرب، ولارادتها بمقتضى ذلك أن تنظم نفسها، أي أن تدعم بجميع الوسائل وفي جميع الميادين فرص السلام.
وكل تأثير آخر للمؤتمر الأفرسيوي في نمو البلاد المشتركة فيه ينتج بصورة غير مباشرة عن الظروف العالمية وعن أسرارها الغيبية، وعن التداخل الطارئ للقوى الروحية والمادية لمليار من البشر التقوا واجتمعوا على هدف واحد، وعلى فكرة محددة هي: السلام.
« .......... خريطة جغرافية .......... ھ»
الدول التي حضرت مؤتمر باندونج هي: الهند، باكستان، سيلان، بورما، إندونيسيا، أفغانستان، العربية السعودية، كمبوديا، ساحل الذهب، الصين، مصر، أثيوبيا، العراق، إيران، اليا بان، الأردن، لاوس، لبنان، ليبيا، نيبال، الفلبين، سيام، السودان، سورية، تركيا، فيتنام الشمالية والجنوبية، اليمن.
ولقد بدا لمؤرخي المستقبل أن جوهر الموضوع يتمثل في هذا الهدف وفي تلك الفكرة بصورة أقل مما يتمثل في النمو الاجتماعي؛ الذي حدث بعد ذلك إثر المناقشات التاريخية التي نتجت عنها الفكرة الأفرسيوية.
ولكن عصرنا، فيما عدا الدول الكبرى، قد أدرك تماماً أن إنقاذ السلام يعني إنقاذ كل شىء، وبدت القوى الروحية والمادية التي التقت في مؤتمر باندونج كأنها تكوّن القاعدة العظيمة للسلام، فلم تكن الكلمات الأولى للمندوبين، مجرد تحيات رسمية، بل كانت تعبيراً دقيقاً مقصوداً من أجل مبادئه، وتدعيمها بالرأي المناسب.
فعل ذلك جمال عبد الناصر منذ كلمته الأولى؛ حين قال مردداً ومزكياً تصريحات نهرو أثناء سفره إلى بكين: ((إن إقرار السلام ليس معناه انعدام الحرب، بل معناه التوجيه الرشيد للجهود في سبيل خلق مجتمع عالمي متعايش)).
فهذا التعريف لإقرار السلام ألقى في الواقع نظرة على الهدف العاجل للمؤتمر، ونظرة أخرى على أهدافه المتوقعة البعيدة.
وفي هذا التعريف يرتبط أيضا المغزى السياسي بالمغزى التاريخي، بحيث يقرران معاً الأهمية المزدوجة للمؤتمر الأفرسيوي كجهد دولي يدمج مشكلة السلام في العالم في توقع حضارة جديدة تبنيها سواعد مليار من البشر المنتسبين إلى جميع مراحل التطور الإنساني.
والمشكلتان في الواقع متحدثان، والوسائل التي تستخدم لحل إحداهما، هي نفسها التي تستخدم لحل الأخرى، وهي الوسائل الراهنة الموجودة في حوزة الشعوب الأفرسيوية، والمتمثلة في مواردها الروحية والمادية.
ومما يجب أن يذكر، أن باندونج كان مؤتمراً للبلدان المتخلفة، باستثناء واحدة أو اثنتين تقريباً، أعني البلدان التي ما زالت تعاني بقايا القابلية للاستعمار، والاستعمار، من نقص الأغذية، والأمية وازدياد السكان.
ويجب أن نذكر أيضاً أن جميع العقائد والأديان كانت ممثلة فيه، حتى الديانة المسيحية، في شخص الأسقف مكاريوس. وهكذا تظهر الإمكانيات التي تتحكم فيها هذه المجموعة المتنوعة في أفكارها وأصولها ومجتمعاتها، كما تظهر عوامل الضعف فيها، وتنوع كهذا، يمكنه بطبيعة الحال أن يقدم العناصر اللازمة لبناء قاعدة متينة للسلام، وإلقاء الأسس الروحية والصناعية لتشييد حضارة الرجل الأفرسيوي، وتهيئة الظروف النفسية والزمنية لإقامة (مجتمع عالمي متعايش).
وإنما تعبر هذه الرغبة عن توقعات عصر تهدف فلسفته واتجاهاته العميقة إلى
أن تبلغ- على أي احتمال- ((عهداً عالمياً)) وإنها لبالغته حتماً. وطبيعي أن جميع الإمكانيات والمصاعب في هذا الطريق يمكن تقديرها في ضوء الحقائق السياسية والاقتصادية الخاصة بمصير محور طنجة - جاكرتا، وهذه الحقائق دالة في الوقت نفسه على البعد الروحي والاجتماعي بين هذا المحور، ومحور القوة بحيث تصوغ أقرب مقياس لما يجب إنجازه من مهام.
إن ثماني عشرة دولة من دول باندونج التسعة والعشرين أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وثلاث عشرة دولة من مجموعة دول كولمبو، وهذه المجموعة تخصص من حيث المبدأ ميزانية مكونة من ثلاثة آلاف مليون من الجنيهات الاسترلينية لترقية التجهيز الزراعى، ولتصنيع جنوبي شرقى آسيا. ويمكننا أن نكون فكرة عن التأثير النسبي لخطة استثمار كهذا حين نأخذ في اعتبارنا بعض الحقائق البيانية عن المستوى الاجتماعى والاقتصادي للمنطقة التي نتحدث عنها. فإن دخلها الكلي لا يتجاوز في الواقع 25،000 مليوناً من الدولارات، أي ما يقرب من 8% من الدخل العالمي، ومتوسط دخل الفرد فيها لا يتجاوز 56 دولاراً في السنة في مقابل 1823 دولاراً في الولايات المتحدة الأمريكية و765 في إنجلترا. وهذا الدخل يتدرج بين حد أقصى: 200 دولاراً في اليابان، وهي دولة ترتبط في الواقع بمحور القوة، ولكنها مثلت في باندونج، حد أدنى: 38 دولاراً في ليبيريا، وهذا الرقم الأخير يقترب أكثر من الواقع الأفرسيوي، ويفسر
من الناحية الكمية خط النموذج الاجتماعي الذي استخدمنا عينتين منه في عنونة الفصل السابق.
هذه الأرقام بما بينها من تفاوت على المحور نفسه، تدل على الأهمية الأخلاقية والسياسية لاتصال دولي مثل هذا بين دول مختلفة في درجة النمو، رغم انتسابها إلى نظم سياسية متعارضة، ورغم اختيارها لنماذج ومناهج مختلفة، إذا ما نظرنا مثلاً إلى الصين واليابان، أو إلى اليابان وساحل الذهب.
فهي تبرز إرادة هذه الشعوب كلها أن تشترك في مصير واحد: وأن تتحمل بهذا مسؤولياتها الخاصة في مصير العالم، في اللحظة التي أصبح فيها العالم بين شقي الحرب والسلام.
ولقد اجتازت هذه الشعوب التي استردت استقلالها السياسى على تفاوت فيما بينها، اجتازت وهي في طريقها إلى باندونج مرحلة مهمة في سبيل استقلالها الأدبي. فحتى ذلك الوقت لم تظفر مشكلات كل هذه الشعوب ببحث كامل إلا في المؤتمرات التي تستلهم وحيها من ((الميثاق الاستعماري)) ومن الاستراتيجية العالمية، أي في ظروف أخلاقية وفنية ووجهت فيها المشكلات بمنطق القوة أكثر من أن تواجه بمنطق (البقاء) بينما لا يمكن أن يتم الاستقلال في هذا الميدان إلا إذا استقر في الأذهان أولية مشكلات (البقاء).
ولقد كان أحد الذين حاولوا بعث هذه الشعوب (علي ساسترو ميدجوجو) مدركاً لتلك المسؤوليات الضخام، ولعظم رسالة هذه الشعوب المتخلفة وضرورة بعثها، بينما لم تكن الفكرة الموجهة نفسها قد تجاوزت مرحلة التكوّن، كان ذلك حين قال كمقدمة لهذا الحدث الدولي:((إن الفكرة التي نشأت إبان مؤتمر كولمبو قد شقت طريقها وأثبتت أنها جديرة بالحياة))، ثم أضاف:((وإن شعوبنا لمدركة أن مصيرنا إنما يصدر عن أعمالنا، وجهدنا الخاص، لا عن دول توجد خارج آسيا)).
وطبيعى أن يصطدم هذا الاستقلال السياسي والأدبي الذي تجسم في مؤتمر باندونج وفي سير مناقشاته بالعرف والعادات والتقاليد، تلك المعانى التي كونت منذ زمن بعيد مقاييس العصر الاستعماري.
ولقد نفهم من هذا أن تأثير هذه الصدمة على الضمير في الغرب يحتمل أن يوجه رد الفعل توجيهاً سلبياً بقدر كبير. وبالفعل رأينا كلمات تروج في الصحافة كنا قد اعتقدنا أن زمنها قد فات، فلم تعد لها قيمة. فإذا بهم يتحدثون عن ((الخطر الآسيوي)) ويبعثون ((الخطر الأصفر)) من قبره إلى الخطر الذي كان الحجة العليا لدبلوماسية (وليم الثانى) حين أراد أن يلفت الرأي العام العالمي الذي أقلقته كلمة أخرى شائعة أعلن فيها هذا الإمبراطور شعاراً ألمانياً حين قال:((إن إمبراطوريتنا لقائمة على المياه)).
وتحدثوا أيضاً أو تهامسوا عن (الخطر الإسلامي). وتلك هي نفسية الاستعمار القديمة، فهو عندما يستنفد كل مبرراته، ولا سيما مبرر (القوة) نجده يستخدم جند الأشباح القديمة مفتخراً برسالة (ناشر الحضارة) أمام (المتوحشين الإفريقيين) المؤبدين، وأمام (الهمج الآسيويين).
وبذلك دلت قرائن الأحوال على أن حجة الاستعمار لم تنفد، بل إنها غير قابلة للنفاد، فلقد تجددت مع باندونج، وأصبحت كلمة باندونج نفسها مفتاح التفسير السياسى للأحداث عند البعض، إذ عندما تجري الأحداث على غير ما يرضي المصالح الاستعمارية، نراهم ينسبونها إلى تأثير المؤتمر الأفرسيوي. ففى خلال مناقشات دارت في البرلمان الفرنسي عن مسألة الجزائر كانت باندونج هي شاشة عرض المناقشات المتصلة بموضوع الإدراج المفاجئ للقضية في جدول أعمال الأمم المتحدة، فأعلن المتحدث باسم الحكومة في المجلس ((أن مؤتمر باندونج - كان وسيكون ذا نتائج خطيرة، مع أننا لم نتوقع له أن يحدث انقلاباً كهذا في العالم .. )) فالمسؤول الفرنسي لا يرى طبعاً في هذه النتائج الخطيرة التحول الذي يمكن أن يطرأ في الوضع الإنساني على محور طنجة - جاكرتا،
ولا يرى أيضاً انعكاساته الأخلاقية على محور القوة، خاصة لصالح السلام، فكأنه مجبر إذن بمرض السيطرة الموروث على أن يترجم إلى لغة القوة ما وضعته باندونج من مصطلحات (البقاء)، وهكذا تنقلب العلاقات في العقل الغربي كما تنقلب الألوان في التجربة السالبة (في التصوير) وذلك حين يتصل الأمر بأحداث خارج أوروبا: فهو يرى أسود ما يجب أن يكون أبيض في الواقع الأفرسيوي، وإن إعادة هذا الواقع إلى لونه الحقيقي في العقل الغربي، سواء من الناحية النفسية أم السياسية لهو من المشكلات الهامة التي يتعين على العالم أن يحلها من أجل خلاصه.
والأفرسيوية نفسها يجب أن تمنحه الأهمية التي يتطلبها في إطار العلاقات الدولية، مع الاهتمام بحلها عن طريق الاقناع.
وعلى كل، فإن (فكرة باندونج) قد دخلت التاريخ وهي تؤكد استقلال الشعوب الأفرسيوية السياسي والأدبي، كما ذكر السيد بانيكار في مقالة لفتت الأنظار في الغرب، قال فيها:((إن مؤتمر باندونج يعتبر التأكيد الأول الصريح لحق الشعوب الآسيوية والافريقية في أن تدير شؤونها الخاصة في نطاق استقلالها)).
ولقد كتب بعض المراقبين الغربيين المتحررين من الأفكار الاستعمارية والاستراتيجية عن هذا التأكيد قائلين بأن النزعة المضادة للاستعمار في الهند وفي أندونيسيا وفي بورما أو في مصر لم تظهر خلال المؤتمر كعداء مقصود موجه ضد المراكز الفرنسية ((متى تخلصت هذه المراكز من مغزى الاستعمار)).
كما لاحظوا أيضاً في هذه النزعة المعادية للاستعمار رغبة أصحابها في ألا يثيروا (المنازعات الاستعمارية) بل على العكس من ذلك كانوا يريدون أن يساعدوا على تسويتها بالحوار وتبادل الآراء. كما لم يفتهم الاعتدال الذي برهن عليه موقف المندوبين في مسائل النزاع، كما برهن على يقظتهم حين نددوا (بلغة المهرجين) التي استخدمها بعضهم على منبر المؤتمر نفسه، فأثرت
هذه الجوانب في نفوس أولئك المراقبين، فبعثوا بتقارير مخلصة إلى بلادهم يطلقون فيها على المؤتمر (مؤتمر الكرامة)، وليست هذه أقل ميزات المؤتمر الفعالة، لو أننا أوليناه مظهره الأخلاقي ما يستحق من الاهتمام، وهذا لازم في الموقف الذي تقف فيه الإنسانية الآن على عتبة عصر ذري، يقتضي علاقات إنسانية خالصة بين المحورين.
فإذا بقي العالم معطلاً بصورة ما في طريق تطوره التاريخى منذ عشر سنوات،
فإنما ذلك لانعدام أي سلطة أخلاقية تتدخل لتنقذه من العطل، وتقيمه على الطريق، وتعدل من سيره.
وعليه، فمن المهم- قبل كل شيء- أن تظهر الفكرة الأفرسيوية كقوة أخلاقية صالحة لأن تبعث على نمو الشعوب الأفرسيوية، وتحافظ على التوافق والانسجام بين مقتضيات هذا النمو، والمصلحة العليا للإنسانية.
وأخيراً: ما التقويم الفعلي الذي خلفه أسبوع باندونج؛ لقد خلف أولاً مجهوداً نظريا كاملاً صدر به بيانه النهائي. فالمبادئ المقررة في هذا البيان فيما يخص التعاون الاقتصادي والثقافي، والتعاون في الدفاع عن الحقوق الإنسانية، وعن حق الشعوب المطلق في تقرير مصيرها، وفي الجهد المشترك لحل مشكلة الشعوب المتخلفة، وفي السعي من أجل السلام والتعاون الدولي، هذه المبادئى تكوِّن في مجموعها منوالاً يستطيع التاريخ أن ينسج عليه ثوبه الوقور.
وفضلاً عن ذلك فإن المؤتمر الأفرسيوي قد أعطانا مثالاً ذا قيمة عالمية، مثالاً
لم يفت محرر (صحيفة بكين) الصادرة في عاصمة الصين حيث قدر محررها استنادا إلى نتائج المؤتمر: ((أن المشكلات الجوهرية العديدة التي تتصل بأوروبا وبالأمن الدولي يجب أن تحل على نسق مؤتمر باندونج حيث تم الاتفاق على المسائل الرئيسية .. )).
ولعل الكبار قد حققوا هم الآخرون هذا الاقتراح حين اجتمعوا بدورهم في جنيف لبحث المسائل المعلقة، ولكي يضعوا نهاية للحرب الباردة على أية حال.
إن مؤتمر باندونج لم يصل بعد إلى جميع نتائجه، فإن الأغلبية ما زالت في حيز القوة سواء في الإطار النفسي أم في الإطار الزمني. ولكن البذور التي ألقاها هذا المؤتمر في مهب التاريخ تحمل (فكرتي قوة) يمكنهما أن تصنعا معجزة هذا العصر حين يتم لهما التفتح والازدهار، فلقد غرس الفكرة الأفرسيوية التي ربما غيرت وجه الإنسان الذي يعيش بين طنجة وجاكرتا، وغرس في شكل مبدأ الحياد نواة لنفسية جديدة للسلام. مغيرة مفهومه تبعاً لتوجيه (عدم العنف) الذي يملي على المرء أن يكون صديقاً لجميع الناس، ولجميع المبادئ، عدواً للحرب. ولعل هذه الفكرة تغير وجه التاريخ حين تزدهر في الضمير الإنساني.
***