الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَوروبَّه وَفِكرة الأفرسيَوِيَة
إن أوروبا لم تحكم العالم فحسب، بل إنها قد غيرته أيضاً، فالعالم الراهن قد وجد تحت وطأة عصاها السحرية، أو تحت وطأة سوطها اللعين. والحق أن هذا هو الشكل المزدوج الذي يكون جملة الدور التاريخي الذي قامت به أوروبا منذ قرنين من الزمان، فلو أننا لم نتحدث إلا عن عصاها السحرية كما يفعل الاستعمار فلسنا نستخدم سوى شهادة زور في التاريخ. ولكنا أيضاً نقدم شهادة أخرى مزورة لو أننا اقتصرنا منهجياً على التحدث عن سوطها.
فأوروبا لم ترد تمدين العالم، هذا حق، ولكنها وضعته على طريق الحضارة حين جعلت تحت تصرفه الوسائل المادية ليتبع هذا الطريق، وحين أمدته بإرادة للسير فيه. فبعض الباحثين لا يريدون أن ينظروا في هذا إلى غير نيتها ومقصدها. ولا يجدون في عملها سوى المبررات لسوء الظن. والبعض الآخر لا ينظرون إلى غير (الواقع الأوروبي)، فهم يدّعون أن أوروبا في نهاية الأمر قد قامت بدور (تلميذ الساحر) حين أعارت حضارتها للشعوب الأخرى فإذا بهذه الشعوب تصنع منها عصياً لضربها. وهذا التصوير الذي يتناول المشكلة بهذه الطريقة يزورها تماماً، ولكنه يضعها هكذا في الصورة التي تفيد منها دراستنا. فأوروبا بدأت تسيء الظن بنفسها، ومن خلال هذه الحقيقة الأولية تتحدد مشكلة العالم الأخلاقية في السنوات المقبلة.
فالضمير الأوروبي يرزح تحت ثقل مسؤوليته، ولقد بدأ يشعر بهذا الثقل بصورة محزنة، ولاشك في أن لمأساة هذا الضمير دويها في مستقبل العلاقات الإنسانية، وقد وجدنا هذا الدور فعلاً في فكرة كليمنت أتلي عندما لاحظ أنه في الأعوام القادمة ستكون مشكلة العلاقات بين البيض والشعوب الملونة إحدى المشكلات المستعصية على الحل. وبدهي أن تفكير هذا الإنجليزي المسؤول
لا يحتوي إلا على اهتمام ذي طابع سياسي، ولكنا نرى فيه مظهراً أخلاقياً ناتجاً عن شعور معين بالإثم (التأثم) وعن تهويل باطني بسبب المشكلة، فلقد بدأ الضمير الأوروبي يشعر بعظم الخطيئة الاستعمارية. ولكن هذا المظهر الأخلاقي قد يحدث في صورة متعارضة صالحة لأن تعطل حل الأزمة الراهنة أو تعرضه للمخاطر. فقد يضيف إلى عنصر (القوة) - الذي حللنا آثاره في الأزمة- عاملاً أخلاقياً من الحرمان، في صورة شعور بالإثم المكبوت، وهذا الكبت قد يصبح مبعث خطر بالنسبة إلى الضمير الأوروبي، إذ ربما يؤثر فيه كدافع إلى حلول القوة.
وتحت هذا العنوان يرى الكاتب المشهور جورج دوهاميل ( Georges Duhamel) في مقال نشر بباريس في صحيفة (الفيجارو Figaro عدد 23 - 12 - 1955م) أن الأوروبيين لا يبدو أنهم يدركون أن الجنس الذي ينتسبون إليه قد ارتكب منذ قرون كثيراً من الخطايا والأخطاء، بل حتى كثيراً من الجرائم، وأنه في طريقه لا إلى أن يفقد سلطانه فحسب
…
بل أن يفقد التوازن والأمن الضروري كيما يمارس عبقريته ..
فنحن نرى في هذه الكلمات الشعور بالإثم يختلط لدى الكاتب الكبير بالشعور (بالخطر) الذي عرفنا له سوابق خطيرة منذ عهد ليس ببعيد حين تحدثوا عن (الخطر الأصفر) أو عن (الخطر الإسلامي).
ولقد ينتج عن هذا الاختلاط انعكاس يتخذ صورة الدفاع عن النفس ( Auto-Défence) بحيث يزيد في تعقيد وضع معقد، بل إن من المحتمل كثيراً أن يكون رد الفعل الاستعماري- الذي يعيث في العالم تخريباً منذ عشر سنوات- ناتجاً عن مثل هذا الانعكاس على الأقل في بعض نواحيه خاصة في شمال إفريقية حيث يعرف الاستعمار جيداً كيف يثيره ويستغله دفاعاً عن قضية خاسرة.
ونحن ندرك على الأخص ما نتج عن هذا الانعكاس في الجزائر، منذ أن أسلم شعب أعزل للذبح والتقتيل، ذلك لأن الحكومة الفرنسية تحاول أن تثير دائماً
غريزة الدفاع عن النفس في الضمير الفرنسي، حين تقذف في أتون المعركة بشعار (الأمة في خطر).
وأياً ما كان الأمر، فإن الضمير الأوروبي يواجه مشكلة تخلع على الأزمة العالمية مظهراً جديداً، وما كان لنا أن نتخيل لحلها طريقة قد تخلف في المجال الأخلاقي عناصر من شأنها أن تبعث الاضطراب في الحلول التي ندعي الإتيان بها للمشكلات في صبغتها السياسية. فالأزمة تتخذ بهذا مظهر مأساة مورينيه (1)، مأساة اجتماعية ترفع مشكلة العلاقات الإنسانية إلى مستوى عالمي. فلكي نحل هذه المشكلة يجب أن نقضي على ذهان التأثم، وذهان القوة، اللذين تقترن آثارهما في الضمير الأوروبي، وانعكاس الدفاع عن النفس هو ثمرة هذا التأثير.
أما المشكلة في صورتها العملية فإنها تعني مساعدة الأوروبي على التغلب على أزمة ضميره. ولقد صاغها غاندي في هذه الكلمات، في مؤتمر العلاقات الآسيوي عام (1946م). حين وجه إلى المندوبين قوله: ((إذا كنتم تريدون تبليغ رسالة إلى الغرب، فيجب أن تكون رسالة الحب والحقيقة
…
وسيحظى هذا الغزو برضا الغرب نفسه الذي يتعطش اليوم إلى الحكمة)).
إن هذه الرسالة لتتمثل في عدد من الضرورات الكبرى لعصر يواجه بصورة محزنة مشكلة الخلاص الإنساني
…
لقد فوتت أمريكا عام (1945 م) اللحظة التاريخية التي كانت تستطيع فيها أن تساعد العالم على اجتياز عقباته الأخلاقية والمادية، كيما يدخل في مرحلة جديدة. وها هي ذي الساعة تؤذن من جديد، ولكنها هذه المرة على محور (عدم العنف)، وإن فكرة الأفرسيوية لقادرة على أن تساعد العالم ليتغلب على (ذهانه) المزدوج، ولاشك في أن هذا مظهر جوهري لرسالتها العالمية، وفصل رئيسي في مهمتها التاريخية، وسيكون على الرجل الأفرسيوي في هذا الفصل من التاريخ أن يقدم للإنسانية ضميره لا علمه، فهو
(1) مورينو ( Moreno) عالم نفسي أمريكى مشهور يخالف مدرسة فرويد.
لا يملك علماً بعد، يقدم إليها ضميره، وبراءة طبيعته البسيطة العذراء، ولاشك في أن هذه هي الرسالة التي كان يفكر فيها غاندي حين تحدث عن (غزو الغرب) الذي سيحظى برضا الغرب نفسه.
إن مركب (القوة) موجود في أصول المرض الأوروبي، فمن اللازم إذن مساعدة أوروبا على التغلب على هذا المركب، ولقد أعطانا الأستاذ دوهاميل حين عالج مشكلة (مستقبل البيض) صورة حية حين بين كيف يتلاحم عنصرا هذا الذهان في الضمير الأوروبي، إذ يبدو أنه لم يعد لدى الأوروبي أمن مادام أنه لم يعد له سلطانٌ، وبذلك يبدو أنه مدفوع إلى عدم مواجهة المشكلات إلا بلغة القوة. كأنما هو لا يتوقع إلا أن يكون ظالاً أو مظلوماً، مضطهَداً أو مضطهِداً، فآلية هذا الذهان كامنة في أعماق (الذات) الأوروبية، ولقد أصر مستر هنري سباك حين كان يودع زملاءه الأجانب في إحدى جلسات المجلس الأوروبي الذي انعقد في بروكسل قبل مساء الميلاد بساعات، أصر على أن ينطق بعبارة أملتها ظروف الاحتفال بالميلاد ذاكراً أن ((أعياد ميلاد السعادة والسلام إنما تصدر عن تنظيم أوروبا لأن أوروبا تعتبر مفتاح السيطرة على العالم
…
))، فالسيطرة والسعادة يسيران إذن جنباً إلى جنب في هذا المنطق الذي يعكس موقفاً أساسياً للضمير الأوروبي، وبهذا تصبح المشكلة دقيقة ورهيبة، شأنها شأن كل ما يمس الضمير الإنساني. ولعل من الخسارة الكبرى، ليس فقط بالنسبة إلى أوروبا، بل بالنسبة إلى الإنسانية جميعاً، أن يفقد الرجل الغربي مع ضياع سيطرته على العالم ثقته في نفسه، وفي إمكانه إبراز موهبته وعبقريته، في عالم حطم أغلاله، فهذا هو الخطر الهائل، وسيكون هذا الذهان- مادام أنه لم يقض عليه- عنصراً ثابتاً في الأزمة.
فأوروبا بلا شك يجب أن يتاح لها الاستمرار في إبراز عبقريتها القديرة، ولكنها في الظروف العالمية الجديدة يجب أن تجد (أمنها) في مودة الشعوب لا في السيطرة عليها، ولكم نتمنى أن تتغلب على انعكاس (الدفاع عن النفس) الذي يعدّ شرطاً في سياستها وهو يوجهها
نحو النزعة الأوروبية في الوقت الذي تتحدد فيه معالم مستقبل إنساني على مستوى عالمي.
ولاشك في أن في (الحركة الأوروبية) التي اتخذت مركزها في استراسبورج ( Strasbourg) بعض المعالم الإيجابية التي ترشد أوروبا في طريقها نحو العالمية، ولكنها في الوقت نفسه تسجل انحسار الموجة الأوروبية عن العالم الذي أغرقته منذ قرنين من الزمان. ولعل الخسارة في هذه المرحلة تكون في أن يسجل هذا الانسحاب في المجال النفسي انطواء للضمير الإنساني. ومن المتفق عليه أن الموجة الأوروبية تخلف في التاريخ رصيداً محزناً من الخرائب الأخلاقية، وحقلاً من الأنقاض في النفس الإنسانية. ولكن إذا قلنا هذا فهل قلنا كل شيء؟ وهل يكفي أن نسطر سجلاً لشهداء الشعوب المستعمرة تحت حذاء الاستعمار؟
الواقع أننا حين ننظر جيداً إلى حقل الأنقاض الذي خلفته الوجة الاستعمارية وراءها، فإننا نراه مغطى (بغرين) مخصب ستجد فيه الحياة الجديدة فعلاً عناصر جوهرية لازدهارها في البلاد التي كانت من قبل مستعمرة. هذا الغرين غير مقتصر على الميادين التي تظهر فيها موهبة أوروبا للعيان- في كل ما يتصل بالتقدم المادي والصناعي- بل يتعداها إلى الميدان الروحي، حيث تبدو موهبتها غير مؤكدة في النظرة الأولى. لقد سببت حرية أوروبا جروحاً شنيعة للإنسانية، وأحدثت قروحاً رهيبة في بدنها، ولكنها في الوفت نفسه قد فتحت ثغرات في المجتمعات التي انسحبت من التاريخ، أو التي لم تدخله بعد، ومن هذه الثغرات جاءت نسمة جديدة، نسمة باعثة تحيي أشكالاً بليت، وتحرك حياة تجمدت، وكلما أردنا تحليل الأسباب التاريخية لهذه النهضات التي جددت العالم المستعمر خلال نصف القرن الماضي، فإننا نجد تأثير أوروبا، فجميع النهضات التي رأت النور في ضمير الشعوب المستعمرة قد تغذت في هذا الضمير نفسه بالغرين الذي أودعته فيه الموجة الأوروبية، فحركة الإصلاح التي تعتبر الشكل الروحي للنهضة في شمال إفريقية هي بلا جدال ثمرة الوعي الإسلامي، ونتيجة كفاحه ضد شكل
من أشكال الشر هو: الاستعمار، هذا شيء لا ينازع فيه من الوجهة التاريخية، ولكن التحليل يقضي بأن نذهب إلى الإطار النفسي والأخلاقي، وسنرى في الحال أن المشكلة تثرى بعناصر جديدة وتفسير جديد.
فالواقع أن الوعي الإسلامي قد وجد نفسه ملزماً بأن يجاهد فردياً وجماعياً ضد الشر أو المنكر، وهو يجد تبريره الجوهري ودافعه في قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 3/ 110]، ولكن الصراع التاريخي الأخير ضد المنكر في إفريقية الشمالية تحت راية حركة إصلاحية- الإصلاح- يرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر، أي إلى حركة الموحدين، فلعل انطلاق الوعي الإسلامي قد توقف من ذلك الحين لكي يستأنف نشاطه تحت راية الاصلاح الحالي، في شكل النشاط المضاد للاستعمار.
فيجب أن نكتب تاريخين 1125م-1925م، التاريخ الذي بدأ فيه ابن تومرت تبليغ دعوته في مراكش، والتاريخ الذي شرع فيه ابن باديس في قسنطينة. ولنتساءل عن سبب صمت الوعي الإسلامي وعدم اكتراثه فيما بين هذين التاريخين. أعني خلال ثمانية قرون؟ ولكن هذا السؤال يودي بنا بعيداً قطعاً، إذ لا ينبغي أن نتساءل: لماذا استمر صمت الضمير الإسلامي دهراً طويلاً؟ بل يكفينا أن نتساءل: كيف ولماذا انقطع هذا الصمت منذ خمسة وعشرين عاماً؟
إن المشكلة لم تعد ذات طابع تاريخي بل نفسي وأخلافي. فالوعي الذي بدأ مرة أخرى يتكلم بتأثير ابن باديس في إفريقية الشمالية كان غنياً بتجربة حاسمة قطعاً، ولكنه كان أيضاً غنياً بذاتية جديدة، فالحقيقة النفسية تكمل هنا الحقيقة التاريخية، التي ربما تبقى دون ذلك جزئياً في الظلام، أو تظل غير مفهومة، وعلى ذلك فالنفسية المسلمة الجديدة لا يمكن أن تتضح في ذاتها إلا إذا اعتبرنا الثروات الذاتية التي استمدت وعيها من غرين الحضارة الغربية، والواقع أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالعالم الإسلامي، فهي تتجلى أيضاً في ((نهضة)) الهند حيث ثارت
اليقظة الروحية بتأثير راما كريشنا ( Rama Krishna) وفيفي كاناندا (1)( Vive Kananda) وبلغت أوجها في مبدأ (عدم العنف) بتأثير غاندي.
ومما له دلالته هنا أن يستهل المهاتما مهمته السياسية بتفكيره في البهاجافاد جيتا مع محاولة أصيلة لتفسير نصها تفسيراً روحياً، وهو النص الذي يبتدئ (بدروس في السلاح) يلقيه كريشنا على تلميذه أريونا ( Aryouna) ، فغاندي حين يستبدل المعنى الرمزي بالتفسير الحرفي يرى أن الميدان الحقيقي للمعركة ليس في الساحة التي يصارع فيها أريونا إخوته، بل في النفس الإنسانية ذاتها، في ميدان المعركة الداخلية، حيث يجب أن تنتصر (الذات) العليا (للغرائز السامية) المتجسدة في أريونا على تلك الغرائز الدنيا. فبماذا يمكن أن تفسر هذه الثورة ((الروحية)) إن لم تفسر بتأثير الثقافة الغربية على روحية غاندي، وذلك حين وجد فيها دوافع، وعناصر ذاتية تغير موقفه تماماً أمام النص المقدس. وهذا التغيير الذي يحرر صاحبه من النص والحرفية يجعل من الإخلاص الذاتي المقياس الجوهري لموقف الرجل أمام (القانون)، وما كان لموقف كهذا أن يتصور في تاريخ الهندوسية قبل غاندي الذي يظهر تماماً أنه استمد خميرته الثورية من طينة الغرب الروحية. وهذا التغيير في موقف الرجل أمام القانون ((يتجلى في إطار آخر، هو إطار قضية المنبوذين، وإنا لنذكر حقاً، وبلا تردد أن الاستعمار لم يغير البناء الاجتماعي الذي وجده في الهند، بل هو قد كبر حجمه حين وضع طائفة الفاتحين الغزاة فوق الطائفة التقليدية السائدة، تاركاً مشكلة المنبوذين الأليمة كما هي. ولكن مما لا شك فيه أن الثقافة الغربية قد أرهفت الضمير الهندي في هذا المجال.
وبفضل التطور العقلي والأخلاقي الذي يدين به الضمير الهندي لهذه الثقافة واجهت الهند المشكلة في دستورها المعمول به منذ السادس والعشرين من يناير (1950 م).
(1) من زعماء النهضة الدينية في الهند في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وهو من التلاميذ الروحيين لراما كريشنا.
وعليه فإن الموجة الأوروبية لم تأت للعالم الذي أغرقته بغمرة الرفاهة المادية فحسب- مثل الثلاجة الكهربية وغيرها- بل إنها قد أتته أيضاً بثروات روحية لا جدال فيها. لقد أودعت في (لاشعور) الشعوب المستعمرة، وفي ذاتيتها عناصر تتجلى في سلوكها الاجتماعي الجديد، في فنها، وفي أسلوبها، وفي تنظيمها، وفي نشاطها، وهكذا لا يمكن تحليل أي نشاط أفرسيوي اليوم دون أن نجد طرازه في الغرب. فالبرلمانات التي ظهرت في البلاد الأفرسيوية أياً كانت هي قطعاً صورة طبق الأصل من البرلمان الإنجليزي أو البرلمان الفرنسي.
فأي مشروع لوضع دستور ديمقراطي إنما يرجع ضرورة إلى الطراز الغربي، ولم يكن الاتصال بالعبقرية الغربية في جميع الحالات التي استلهم فيها هذا النموذج عن الطريق العملي الصناعي فحسب، ولكنه كان عن طرق ذاتية أيضاً. فإن المشاكل الإنسانية التي تثور بالصورة نفسها لا تتطلب الحلول نفسها فحسب، بل إنها تثير رد فعل أخلاقي واحد، ومشاعر موحدة أيضاً، ولقد كسب الجانب الاجتماعي أسبقية في نشاط هذه البلاد، ونشأ نموذج للمجتمع يحقق فيه الفرد رسالته في صورة بطولة اجتماعية، بعد أن كان يحققها في صورة بطولة حربية، وكل هذا بفضل العبقرية الغربية. وقد نتج عن هذا في البلاد التي تعرضت للتأثير الغربي أشكال من الوفاء جديدة، وصور جديدة من الولاء، ذات صبغة اجتماعية، وروابط أسمى من روابط النظام القبلي، فلقد أخلى الضمير القبلي مكانه للوعي القومي، وأثرى الضمير الديني بعناصر مدنية يدين بها للغرب. فعندما يتحدث العالم المسلم عن (الديموقراطية) يستعير بداهة مفهوماً غربياً، وعندما يقف نقابي مسلم ليتحدث بصوت منفعل متهدج فإن نسمة ذات أصول نقابية غربية هي التي تنساب خلال هذا الانفعال، نسمة الصراع المؤثر من أجل انتصار العدالة الاجتماعية. فجوهر التبادل الإنساني هو في هذه العناصر الذاتية قبل أن يكون في العناصر الموضوعية، فهناك اتصال سري بين الأنفس، وهذا هو الطريق المباشر الفعال لإغناء العبقريات. وإخصاب الأفكار الأصيلة لحضارة ما. فإذا تعمق عمانويل مونييه في ضميره بنظرة قلقة،
فإن نظرته هذه قد تكشف لنا في ضميرنا عن أسباب القلق ذاتها. ولو أنه تعرض لتلك (الملاكمات الداخلية) التي تضع إيمانه موضع الاختبار فإن هذه الملاكمات تصيبنا، وتضع إيماننا موضع الاختبار أيضاً. وإن انفعاله أمام المأساة الاجتماعية، وأمام المشكلة الأخلاقية لينفض خمودنا أمام هذه المشكلات، ويبعث الحرارة في فتورنا إزاءها.
وقد حدث التبادل في كلا الاتجاهين فعلاً عن الطريق السري للضمائر، ويستطيع مؤرخو سيرة غاندي بلا شك أن يقرروا ميزانية ما يدين به للغرب في الناحية الروحية، ولكن هذه الميزانية يمكن أن تقرر في اتجاه آخر بتبيان ما يدين به الغرب لفلسفته. فإذا قال رجل الغرب في بعض الظروف الدرامية على لسان كامو ( Camus) (( إن قوة القلب وقوة الفكر والشجاعة تكفي لإيقاف القدر عند حده
…
)) فإن أبسط المسلمين تواضعاً يستطيع أن يعلمه أن كفاح الإنسان لا يكون بطولياً ومخصباً ضد القدر- ذلك النور الخفي الذي يقود الإنسانية نحو غايتها الغامضة- وإنما يكون كذلك إذا كان موجهاً ضد القوى الغاشمة العمياء التي تعودنا أن نسميها (قدراً)، والتي تعمل على صرف الإنسانية عن غايتها، وأعتقد أن هذه (القدرية) في أبسط صورها عند المسلمين من شأنها أن تخصب ذاتية كامو. ولكن عندما يقول كامو من ناحية أخرى فكرته عن (الإنسان والتاريخ) وعندما يقول لنا: ((إن مهمة رجال الثقافة والعقيدة ليست في أن يخونوا الصراع البطولي، ولا أن يخدموه فيما يلازمه من قساوة ومجافاة للإنسانية
…
)) فإن درسه هذا يزود المسلم بثروة ذاتية أخرى، وهو يذكرنا بأنه حتى في ظل قوة الاستعمار الملعونة، قد وضع نشاط الغرب على طريق التاريخ شعوباً أقصيت عنه بسيرها في دروب الخرافات والأساطير. وبث فيها- ولو عن غير قصد- إرادة السير في هذا السبيل، تلك الإرادة الخاصة التي أصبحت لا تفارق وعي كل شعب، تدفعه باستمرار إلى الحضارة. لقد كانت الحضارة من عمل اللاشعور عند الفرد، وهو العمل الذي لا يجند وعيه الموضوعي إلا بصفة استثنائية، عند بعض المؤرخين وعلماء الاجتماع مثل ابن خلدون، أعني عند
الخصيص الذي جعل من الحضارة موضوعاً للدراسة، ومشكلة للتجلية والإيضاح.
ولكن الحضارة قد أصبحت مع الثقافة الغربية هدفاً مقصوداً، وعملاً شعورياً، وفناً، ووظيفة اجتماعية للإنسان تتطلب ذكاءه وإرادته، وهو يرى فيها غايته الأرضية. هذه الذاتية الجديدة قد وسعت أولاً حقل الحضارة نفسها، حين مدته من النطاق القومي والعنصري إلى النطاق العالمي والإنساني. ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان بفضل قوته الصناعية قد أحدث تحولاً في طبيعتها التاريخية. فلم تعد الحضارة فيما يبدو خاضعة لقانون (الدورات) كما كانت في عصر ابن خلدون وأيضاً في عصر سبنجلر عندما كان يكتب عن (أفول الغرب).
ولو راجعنا- في ضوء التطورات الأخيرة- رأي فاليري في الوقت الذي كان فيه يتأمل النتائج المتوقعة للحرب العالمية الأولى، حين عبر عنها في تلك الصورة المأثورة ((الآن أدركنا نحن أن الحضارات فانيات .. )) لو راجعنا رأي فاليري اليوم لوجدناه قد أخطأ، إذ في ذلك الوقت لم تعد الحضارة لتكون فانية، لأن نطاقها قد بدلها خلقاً آخر. فأصبحت عالمية، وبذلك صارت خالدة.
ومع ذلك ففي الوقت الذي أراد فيه جون توينبي أن يختم كتابه الرائع (دراسة التاريخ) كانت ظاهرة (الدورات) لا تزال ذات وزن في استنتاجاته، ففي استنتاجه عن مستقبل الحضارة الغربية لم يكن عقله كمؤرخ على وفاق مع ضميره كإنسان غربي، فقد كان المؤرخ مأخوذاً فيما يبدو بفكرة (الأفول)، ولكن الإنسان يتجاوز هذا الخوف حين يصوغ للحضارة الغربية أمنية في ألا تغرق بدورها في محاولة (إنقاذ بالسيف) وهي محاولة قد تنتج عن غريزة الدفاع عن النفس، فهو يتمنى أن تصل مباشرة إلى ((نظام عالمي يقرب من ذلك الميثاق الذي دعا إليه دون جدوى بعض المسؤولين والفلاسفة الهلينيين خلال عصر الاضطرابات)) ثم أضاف قائلاً: ((إن ما نبحث عنه هو الموافقة الحرة للشعوب
الحرة على العيش في وحدة، وأن تصنع دون إكراه بالقوة التوافق والتنازل اللذين بدونهما لا يمكن لهذا المثل الأعلى أن يتحقق)).
وإذا كانت أمنية الإنسان تذهب إلى هذا المدى البعيد، فذلك لأن المؤرخ الكبير يرى في منعطف التاريخ الحالي أو يستشعر التحول الذي يجتاز بالإنسانية المرحلة الثانية من تطورها، بعد التحول الذي دخلت به في التاريخ في بداية العصر الحجري الجديد، فهو يرى أن التطور الذي حول المجتمع البدائي في نهاية العصر الثلجي ( Glaciaire) إلى مجتمع من طراز جديد، أي إلى (حضارة) يمكن الآن أن يحول هذه الحضارة إلى طراز جديد هو (الحضارة العالمية).
وهذا التحول قد يغير توقعات التاريخ تغييراً تاماً بحيث لا يدع مجالاً لافتراض (الأفول)، إذ إن في التوقع الجديد لن يكون أمامنا سوى افتراض الكسوف الكلي والنهائي الذي لا يمكن أن تقوم به (نهضة). فمشكلة الحضارة تصاغ حينئذ في مصطلحات تستبعد مراحل التعديل، وتستبعد (عودتها) التي احتفظت بها حتى الآن حين داولت دوراتها خلال آلاف السنين. ويوضح هذا أن الموجة الأوروبية قد حملت بذور الحضارة إلى أركان العالم القصية، وأخصب غرينها القارات كلها، وأن الحضارات إنما كانت (فانية) حين كان لكل منها حقلها الخاص، وهو عموماً في حدود إمبراطورية، وكان حامل رسالتها الفكرية لا يتجاوز عبقرية جنس ما، فكان الأفول يحدث مع انهيار الامبراطورية وافتقار العبقرية العاجزة عن أن تتجدد بفعل عناصر أرضها وحدها، فإن البذور التي تعود لتلقى دائماً في الأرض نفسها تنتهي بالانقراض، وفقدان الحيوية. أما اليوم فإن البذرة قد انتشرت في كل مكان، ولقد يتضاءل جنين هنا ولكنه ينضج وينمو هناك، فنحن نصادف دائماً أشكالاً من المقاصة تحتفظ بالحضارة في مستواها وفي حيويتها، حائلة بينها وبين الأفول وتلك هي نتيجة توحيد المشكلة الإنسانية. ولقد حققت العبقرية الغربية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي، وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته
السياسية، وفي ألوان نشاطه العقلي والفني والاجتماعي. فالمقاييس، وطرائق السلوك والتفكير لا تكف عن التقارب على محور طنجة - جاكرتا، ومحور واشنطن - موسكو.
على أن أوروبا لم تخلق عن قصد هذه الحالة العالمية، ولكن توسعها الاستعماري قد ساهم في ذلك بقوة مع عبقريتها الصناعية فتأثيرها قد رسم بطابعه كل شيء حتى الميادين التي لا يتوقع فيها، مثل ميدان النشاط المعادي للاستعمار. ونحن نجد ذلك أولاً في القوة الفكرية التي أمدت هذا النشاط، فلقد اقتبست الشعوب المستعمرة إلى جانب عناصر الفلسفات الفكرية التي استمدتها من ثقافاتها الخاصة، اقتبست علاوة على ذلك من ثقافة أوروبا ومن تجربتها الاجتماعية والسياسية عناصر أخرى لا يمكن إغفالها، ثم إن النشاط المعادي للاستعمار قد كان في صفوفه كثير من الأوروبيين الشرفاء رجالاً ونساء، كانوا رائديه ومؤيديه ومستشاريه. وقد ظفرت الوطنية المصرية بمدام جولييت آدم التي كانت الأم الغربية لمصطفى كامل ((باشا))، ونجد أيضاً أن من أوائل ثلاميذ المهاتما غاندي، وهو الذي كان يمثل الوطنية الهندية، بعض الإنجليز الذين كانوا أرشد مشيريه، وأخلص خادميه، ولسنا نستطيع أن ننسى في تاريخ هذه الحركة أسماء: بيرسون ( Pearson) وأندروس ( Andrews) كما أننا لا نستطيع أن ننسى اسم رومان رولاند ( Remain Rolland) في دراسته عن (إشعاع الغاندية) فلو أننا وصفنا تاريخ القرن العشرين حيث نعتبر الغاندية تياراً جوهرياً في فكر هذا القرن، فيجب أن نذكر رومان رولاند، لا باعتباره مجرد داع من دعاة هذا الفكر، ولكن باعتباره أحد أساتذته وزعمائه، فإنه لم يعرف الغرب بغاندي فحسب، حين بلغ إليه رسالته، بل إنه قد عمق هذه الرسالة أحياناً ووسع أفقها، لقد كان يعمقها كلما بدا له من الضروري أن ينفخ فيها من روح فيفي كاناندا ( Vive Kananda)، تلك الروح الإنسانية التي كانت تنعدم في بعض الظروف لدى غاندي، حيث كانت تصرفه عنها الطهارة الصارمة، وتلفته نزعات تفوق الآدمية عن الشعور بنواحي الضعف الآدمي، وعن إدراكه.
ولقد كان يوسع أفقها كلما رأى من الضروري بحق أن يخرج بها عن نطاق مستقبل الهند الذي حبس فيه غاندي نشاطه، اهتماماً منه بأن لهذا النشاط فاعلية، كما قد يكون من باب التواضع أيضاً. وكان رولاند يفعل ذلك لكي يدمجها في المستقبل المتوقع للعالم الذي يراه وهو الرجل الذي ينظر إلى الأشياء من ذلك الفلك الأوروبي الذي أصبح بما يحوي من ثقافة، وحضارة مدفوعة بالسلام أحياناً وبالعدوان أحياناً أخرى إلى المجال العالمي- مدار القرن العشرين (1) - ولو أننا وضعنا أيضاً تاريخ القومية الجزائرية أعني تاريخ النشاط العادي للاستعمار الذي خلق هذه القومية حين أثبتها شيئاً فشيئاً في أفكار الفرد وفي سلوكه فيجب أن نأخذ في حسابنا الدور الذي قام به خلال تلك الحقبة النشوئية أولئك الأساتذة العظماء أمثال سبيلمان ( V. Spielman) وأوجين جانج ( E. Jung) كما أننا لا ننسى ما ساهمت به الجامعة في إمداد النشاط الوطني بعناصر قيادية، وما أمدته به أحياناً من معونة مباشرة في المجال الأدبي (2).
وفي تونس مثلاً لم يجد الحزب الدستوري عام (1921م) الأساس القانوني للمطالبة بدستور للأمة التونسية إلا بناء على فتوى مستشارين من جامعة باريس هما: جوزيف برتلمي ( J. Barthelemy) أستاذ القانون الدستوري، وأندريه فيس ( A. Weiss) أستاذ القانون الدولي العام. وكان هذان المستشاران قد بينا في مشروع الدستور الذي وضعه الباي محمد عام (1957م) المبدأ الذي لا يقبل التقادم، حتى كان من الممكن أن يتطور في ضوئه النشاط الوطني كله منذ ثلاثين عاماً، وكان الاستعمار قد دفن هذا المشروع بفرض الحماية على تونس.
وإذن فإن لدى أوروبا عبقريتها الخيرة وعبقريتها الشريرة فإذا ظهر على المسرح مركب (القوة) المتمثل في النزعة الإمبراطورية وفي الاستعمار والعنصرية،
(1) مقتبس عن مقال للمؤلف نشر في صحيفة (الشاب المسلم) في 26/ 6/ 1953م، الجزائر. ثم أعيد نشره ضمن كتاب (في مهب المعركة) للمؤلف، طبعة دار الفكر بدمشق.
(2)
ومن أوضح المواقف في هذا السبيل موقف البروفسور مندور.
فإن عبقريتها الشريرة هي التي تتكلم، وهي التي تتكلم أيضاً حين يقف بعض الأوروبيين يتحسرون على أنهم لعبوا دور (تلميذ الساحر) أمام أعجوبة النهضة التي حققتها الشعوب التي حطمت قيود الاستعمار. ولكن تحت شعار الصليب أو الفكر الحر تظفر القوة الخلاقة المغيرة للواقع الأوروبي بنفوذ واعتبار في العالم الراهن، الذي يدين لها أولاً بوعيه العالمي. فأوروبا الآن يجب أن تندمج فيما صنعت، أي في ذلك الوعي الذي خلقته حضارتها. فلقد حققت انتقالاً وتحوّلاً في الكون الذي حققت فيه حضارتها منذ قرنين من الزمان، وعليها أن تكمل عملها في كونها الداخلي بإتمامها لتحولها الخاص بها. ولا شك في أن إتمامها عملها إنما هو من اختصاص عبقريتها الخيرة التي تتيح لها أن تجد في أعماق ضميرها مع الفكرة الكاملة عن الإنسان معنى فلسفة إنسانية تناسب العهد العالمي.
ومهمة فكرة الأفرسيوية في هذا النطاق تنحصر في مساعدة إنسان الغرب على بلوغ هذا الحجم الذي وهبه علمه القدرة عليه، ولكنه لم يهب له بعد الشعور به، وستظل أوروبا تصنع التاريخ وتعطي مثال الخير ومثال الشر، حسبما يكون المتحدث بلسانها ضميرها الخيّر أو ضميرها الشرير، فإن لاختيارها أهمية عالمية سواء كان خيراً أم شراً، وسيكون دور فكرة الأفرسيوية هو مساعدة أوروبا على أن تحسن اختيارها في اطمئنان لإكمال عملها في عالم ضميرها، وبهذا تكون الأفرسيوية قد أتمت عملها أيضاً لأنها تكون قد سمت بإنسان الغرب إلى المستوى الأخلاقي للإنسانية، محققة بذلك تركيب (الرجل العالمي).
دروكس في 3 فبراير 1956م
***