المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظرات عامة في الثفافة الأفرسيوية - فكرة الإفريقية الآسيوية

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌نظرات عامة في الثفافة الأفرسيوية

‌نَظَرَات عَامَّة في الثفافةِ الأفرسيَوية

إن مؤتمر باندونج حين جمع عناصر بعض المشكلات العضوية التي تخص الشعوب الأفرسيوية، وحين عالج اتجاه هذه الشعوب قد أنشأ في الواقع رأس المال الأولي لحضارة.

فكل حضارة تستلزم رأس مال أولي مكون من الإنسان والتراب والوقت فهي مركب من هذه العناصر الثلاثة الأساسية، ولا بد من أن يركبها العامل الأخلاقي، أعني يحتم تماسكها، من غير هذا العامل يوشك أن تتمخض العملية عن (كومة) لا شكل لها، متقلبة عاجزة عن أن تأخذ إتجاهاً، أو تحتفظ به، أو أن تكون لها وجهة، بدلاً من أن تكون (كلاً) محدداً في مبناه، وفيما يهدف إليه.

ولئن جمع المؤتمر كل العناصر الأولية لهذه الوجهة، فإن من الواجب تحديد طرق استخدام رأس المال الذي اجتمعت عناصره. ولقد أشارت مناقشات المؤتمر وبيانه النهائى إلى هذه الطرق في صورة تخطيطية. حين حددت في رسم ابتدائي التكوينات التي تصلح لأن ترتدي ثوب التاريخ الأفرسيوي.

وفي هذا التخطيط كان محتماً أن تقدر الأشياء في مبادئها، ولكنها لا يمكن أن تظل في هذه الصورة التخطيطية، فإن مشكلات التطبيق والتنفيذ تواجه الإنسان في نهاية الأمر.

وحين ننتقل من الاعتبار التحليلي لعناصر الحضارة الأولية، والحضارة التي نعدها (ناتجاً) عن الإنسان والتراب والوقت، إلى الاعتبار التركيبي في مرحلة التطبيق ((حين نعتبر التاريخ ميداناً للتطبيق والتجربة)) فإن المشكلة التي تواجهنا هي أن نحدد أحسن الشروط لإيجاد هذا (الناتج) في أقل زمن ممكن.

وكل ما يواجهنا بهذا الصدد يعود إلى أن نغير بصورة عملية الواقع الذي يتمثل في النموذج الاجتماعى الأفرسيوي، وفي النظر الإنساني من طنجة إلى

ص: 141

جاكرتا، ولكن كل واقع اجتماعي في جذوره هو قيمة ثقافية معينة محققة في واقع الإنسان، وفي الإطار أو المنظر الإنساني الذي يحوطه- وهو شيء واحد- وإذن فأي تفكير في مشكلة الحضارة هو أساساً تفكير في مشكلة الثقافة، والواقع أنها ظفرت بهذا التفكير في باندونج، على الرغم من أن تقارير الصحافة قد ألحت أكثر على المظاهر السياسية. ولقد لاحظت ذلك هيئة اليونسكو في تقرير لها حين قالت:((أزمع المؤتمرون في باندونج نشر مجموعة من الدراسات في ميدان التربية عن المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد المشتركة في المؤتمر)).

وبقي علينا أن نعرف في أي الظروف يمكن لهذا التبادل في المعلومات أن يكوّن الأسس الثقافية للفكرة الأفرسيوية، وفي أي الظروف يمكننا عن طريق هذا التبادل أن نحدد طبيعة الثقافة، وأن ننشئ عناصرها لتغيير ظروف (البقاء) لدى الشعوب الأفرسيوية.

نعم إن هذا التبادل ضروري، ولكن هل هو كاف؟

وسيكون لدينا في هذا الشأن، كما حدث في الفصول السابقة، مقياس متمثل في النموذج الغربي. فعلى محور واشنطن - موسكو حتى طوكيو، نجد أن المشكلات العلمية والعقلية والاجتماعية متحدة من طرف لآخر، وعلى الرغم من التوتر السياسي، فإن التبادل الثقافي يتم في نطاق العلاقة الحضارية نفسها، بل إنه يتم- كما رأينا- منذ مؤتمر جنيف حتى في المجال الذري

فهناك ولا شك علاقة مباشرة بين هذا التبادل وبين المنظر السائد من واشنطن إلى موسكو، وبالتالي بين الظروف الإنسانية على هذا المحور.

ولكن إذا كان هذا التبادل في إطار معين، وفي ظرف ما يعتبر سبباً محتماً قاطعاً، فإنه من ناحية أخرى أثر محتوم. فعلينا إذن أن. نحتاط لأنفسنا حتى لا تُخفي عنا ظاهرة سطحية ( Epiphènomène) ظاهرةً جوهرية.

ص: 142

فعندما يذهب (باليه الأوبرا) في باريس إلى موسكو، أو عندما يأتي باليه الأوبرا من موسكو ليقدم بعض التمثيليات على المسرح الباريسي، فإن الذي يهمنا استخلاصه من أجل بناء الفكرة الأفرسيوية ليس مجرد تبادل الفرق الراقصة، بل هو أن كلاً من هذه الفرق قد وجد خلال رحلاته جمهوره مع اختلاف بسيط في الألوان، ووجد الجو نفسه، والانفعال الجمالي نفسه. فمن المؤكد أن تطوافه لا بد وأن يقوي هذه الوحدة في الإطار الفني، وأن يقوي (الروابط الثقافية) حسب التعبير الدبلوماسي. ولكن الفن في حد ذاته يجد في الوقت نفسه في تطوافه- أي خلال هذا التبادل- إلهامات جديدة، ودوافع جديدة.

وهكذا يتوافق السبب وأثره في نتيجة كلية تصدر عن الواقع الذي سبق وجوده أي إطار الحضارة المشتركة، ومن الواضح أن الباليه الروسي لم يكن له أن يجد في (فاس) مثلاً جمهوره، ولا ذلك الصدى نفسه.

فالتبادل يصبح تقريباً غير ذي فائدة أو على الأقل غير ذي موضوع، عندما يخرج عن إطاره الذي يعطيه قيمته الاجتماعية، ومعناه الثقافي.

وإذن فتحديد التبادل الفعال الذي نتصوره ليساعد على تكوين ثقافة يجب أن يبدأ من هذه النظرة العامة عن ((المحيط)) الثقافي. فالثقافة هي أولاً: (محيط) معين يتحرك فيه الإنسان، فهو يغذي إلهامه، ويكيف مدى صلاحيته للتأثير عن طريق التبادل. والثقافة (جوّ) يتكون من ألوان، وأنغام وعادات وتقاليد وأشكال وأوزان وحركات تطبع على حياة الإنسان اتجاهاً، وأسلوباً خاصاً يقوي تصوره، ويلهم عبقريته، ويغذي طاقاته الخلاقة. إنها الرباط العضوي بين الإنسان والإطار الذي يحوطه. وهي التي تقدم لنظر الزائر السماوي نموذجاً اجتماعياً معيناً متشابهاً من واشنطن إلى موسكو، ولكنه مختلف في جميع سماته عن النموذج الاجتماعي الآخر الذي يتحرك داخل الإطار من طنجة إلى جاكرتا، كما رأينا.

ص: 143

ولقد خضعت الثورة الصينية لمنطق طبيعي عندما قصدت في الحال إلى تعديل الإطار التقليدي، فمن أجل تغيير الإنسان يجب أن نغير وسطه الثقافي، بإنشاء (محيط) جديد.

ولقد انتقدوا الثورة الصينية في أنها غيرت الإنسان إلى "نملة زرقاء (1) " والواقع أنه يجب تغيير أحد طرفي التشبيه لكي نكون محقين، لأن وجه الشبه ليس بين الإنسان والنملة الزرقاء، بل هو بين النملة الزرقاء والدودة البائسة التي كانت تدب في أقذارها وأسمالها في غرز الأفيون، هنالك حيث كان يجتمع الباحثون عن النسيان، والباحثون عن الغرائب والعجائب.

(فالنملة الزرقاء) إذن ليست هدفاً، وإنما هي دليل على أن زمن الدودة الصغيرة قد ولى، ولن يلبث الصيني أن يصل إلى مستوى الإنسان على احتمال أنه لم يبلغه بعد. وفي هذه القرينة يعد ظهور (النملة الزرقاء) علامة على ثورة ثقافية، من شأنها أن تحدث تغيير (المحيط) الذي كانت تدب فيه (الدودة الصينية) وهو الذي يشكل في الواقع هذه الدودة لتصل إلى الكمال

إن التحقيق الذي ألمحنا إليه (2) يصف- كما سبق أن قلنا في فصل سابق- المأساة النفسية التي يعانيها مؤلفه أمام الثورة الصينية أكثر من أن يصف الحقيقة الموضوعية في هذه الثورة. مع أن تحقيقه يقدم للقارئ معلومات نافعة حقاً، ونظرات مفيدة جداً، إذ يخيل إليه أنه أمام مناجاة عبر فيها كاتبها عن خيبة أمله، حين عبر بلغة عالم الجمال الذي يأسى لأنه يرى تلك الريشة الصلبة العنيفة أحياناً، في يد ماوتسى تونج، ترسم وجه الصين الجديدة على تلك الشاشة

(1) فرض ماوتسي تونج على الشعب الصيني لباساً أزرق لتوحيد الزي هناك، فأطلق بعض الكتاب الأوروبيين على الشعب الصيني في زيه الجديد لقب (النمل الأزرق). (المترجم)

(2)

تحقيق نشرته في باريس صحيفة ((لوموند Le monde)) في فبراير 6 1956 تحت عنوان: ((ست مئة مليون من الصينيين في الدوامة الشيوعية)) بإمضاء المسيو جيلان Mr.Guillain.

ص: 144

العتيقة المهيبة، حيث كان يهوى وهو الأوروبي المتعطش إلى المشاهدات الغريبة - أن يرى الملامح النبيلة على وجه الصين القديمة، وبذلك نفهم حدة الانفعال عنده، وصيحاته التي تدوي بالبربرية

ولكنا نتساءل إذا ما كان هذا المحقق يريد أن يتحدث ككاتب مولع بالجمال أو كمؤرخ اجتماعي؛

أياًّ ما كان الأمر فإن مشكلة الثقافة توضع بالنسبة إلى فكرة الأفرسيوية في الخطوط نفسها التي وضعت فيها بالصين- لا في المستوى الثانوي فحسب، بل في المستوى الابتدائي، بقصد إحداث التغيير ابتداءً من إطار جديد؟

وفي هذا المستوى تقوم مشكلة الثقافة على تحديد يشمل أساساً الناحية البيولوجية والناحية التربوية، فالثقافة في مهمتها التاريخية تقوم بالنسبة إلى الحضارة بوظيفة الدم بالنسبة إلى الكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي تصون الحرية والتوازن في الكائن، وتكون جهاز مقاومته الذاتية. والثقافة تنقل أفكار الجمهور الشعبية، وأفكار القادة الفنية، وهذان العنصران هما اللذان يغذيان عبقرية الحضارة، فهي تدين لهما بدفعتها، وبمقدرتها الخلاقة. ولكن من أين يأتي جوهر هذين العنصرين؟.

تلك هي المشكلة التربوية التي تواجهنا، فإن أي واقع اجتماعي هو في أصله قيمة ثقافية خرجت إلى حيز التنفيذ، وعليه فالجوهر الذي يوجد في الأول موجود ضرورة في الأخرى. فلو أننا حللنا واقعاً اجتماعياً، أعني نشاطاً اجتماعياً محسّاً، فسنجد فيه على الفور في حالته الراهنة أو في اطراد تطوره أربعة عناصر أساسية يمكن أن نطلق عليها: المنهج الأخلاقي، والذوق الجمالي، والصناعة، والمنطق العملي. فكل واقع اجتماعي وكل ناتج حضارة هو في جوهره مركب من هذه العناصر الأربعة.

وبالتالي، فإن مشكلة الثقافة الأفرسيوية هي من الناحية التربوية مشكلة هذا التركيب. والفكرة الأفرسيوية تتمثل عند انطلاقها في صورة هيكل مكون من

ص: 145

القوى الأخلاقية والعقلية، ومن الطاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي في غايتها باعتبارها حضارة يجب أن تمثل تركيب هذه القوى جميعاً. فالتماسك الداخلي الذي أودعته باندونج بين هذه الطاقات قد استمد من مبدأ فكري مشترك، يكمن أساساً في النزعة العادية للاستعمار لدى الشعوب الأفرسيوية. ولكن التطور الذي يجب أن يحلف وراءه مرحلة الاستعمار، سيتجاوز ضرورة نزعة العداوة للاستعمار أيضاً. وبالتالي فإن الفكرة الأفرسيوية يجب أن تؤسس منهجها الأخلاقي على مبدأ إيجابي أكثر من ذلك، ولكن بحيث لا يكون في جوهره دينياً (1). ولقد رأينا في الفصل السابق أسباباً جوهرية تحملنا على أن نراعي في المفهوم الأخلاقي للفكرة الأفرسيوية التعدد الضروري، أو على الأقل ازدواج مبدئها الأخلاقي الأساسي، حتى لا نخلع عليها صفة (الكتلة) الدينية.

وفي هذا الازدواج لا يمكن أن يكون الأمر أمر محاولة للتلفيق والاصطناع، بل أمر ميثاق أخلاقي بين الإسلام والهندوسية ليتخذا وجهة دولية واحدة.

فليست المسألة إذن أن نجدد المحاولة العابثة التي قام بها الإمبراطور (أكبر) الذي أراد في القرن السادس عشر أن يؤسس إمبراطوريته في الهند على أساس تلفيق وحدة إسلامية- هندوسية.

إن الأديان لا يمكن أن تتنازل لكي تستغل كوسائل لمثل هذه الغايات، ولو أننا أردنا أن نأخذ درساً من الماضي في هذا الميدان فإن تاريخ الغرب يعطينا إياه، فإن الحضارة الغربية قامت في بدايتها على هيكل أخلاقي مسيحي أتاح لها

(1) إننا نحدد هنا مضمون الثقافة بالنسبة إلى مجموعة معينة هي مجموعة الشعوب الإفريقية الآسيوية. أما تحديد الثقافة بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي فقد عقدنا له فصلاً خاصاً في كتاب (شروط النهضة ومشكلات الحضارة) حيث بينا أن (المبدأ الأخلاقي) يقوم على أساس ديني. وهكذا نبين للقارئ أن الثقافات المختلفة تتفق في ثلاثة عناصر معينة وقد تختلف بالنسبة إلى العنصر الأخلاقى لاتصاله بالعقيدة.

ص: 146

التماسك والوثبة الضرورية لازدهارها، ولكن تطورها قد غير هذا الأساس العقيدي شيئاً فشيئاً، إلى هيكل مختلط يتجلى فيه التفكير الكاتوليكي والبروتستانتي، وما يسمى بـ (التفكير الحر) والتفكير اليهودي بصورة متوافقة تماماً. وعليه فلا مجال لأن نبحث عن التماسك والتوافق، لا في مبدأ واحد، ولا في تلفيق ديني مصطنع، فإن نزعة عداوة الاستعمار كانت كافية في مبدئها كوسيلة لإحداث التماسك بين العناصر الممثلة في باندونج. ولكن علاوة على أنها ستنتهي بفعل التطور، فإن من الواجب أن نمر بها سريعاً. فلقد كان الدبلوماسي الهندي ((بانيكار)) يعتقد أنها ضرورية دون شك باعتبارها (وحدة أساسية) تجعل منها باندونج نقطة الانطلاق للفكرة الأفرسيوية، ولكنه كان يعتقد أيضاً أنها غير كافية، إذ كان ينظر في الوقت نفسه إلى هذا الاجتماع على أنه (اجتماع لعناصر غير متوافقة).

فمن الواضح أن مبدأ كهذا لا يكفي، على الرغم من تأتيره الوقتي، لقد ألهم الشعوب المستعمَرة خلال فترة تحريرها تضحيات نبيلة، وأعمالاً نزيهة، وألهمها أخيراً الملحمة العظمى (ملحمة Satyagraha) أو ((طريق الحقيقة (1)) الذي حرر الهند.

ولكن حين تمر المرحلة الحماسية، فإن نزعة العداوة للاستعمار لا تصلح أن تكون (دافعاً سامياً) يحرّك حضارة ويعطيها مثلها الأعلى، ووثبتها الضرورية.

وأكثر من ذلك، فحين تستنفد نزعة العداوة للاستعمار مضمونها ((من المشاعر الإيجابية)) عبر التاريخ، فقد لا تدع هذه التصفية فيها سوى مشاعر سلبية تقوم على حقد الشعوب التي قاست من ظلم طغاتها، بينما القضية ليست أن ننتزع العالم من موجة احتقار الكبار، لكي نسلمه إلى حقد الصغار.

(1) اسم الخطة السياسية التي التزمها غاندي منذ بدء حياته السياسية في إفريقية الجنوبية. (المترجم).

ص: 147

ومن المطمئن في هذا السبيل أن قادة الثقافة الأفرسيوية يدركون ذلك جيداً، وهذا أحد كبارهم مولانا أبو الكلام آزاد قد تفضل فأعطانا شخصياً الدليل، حيث يؤكد فخامته لنا:((أن المسؤولية التي تقع على عاتق التربية خطيرة، إذ يجب ألا تدع الحقد يتأصل في قلوب الجيل الجديد في الهند، وعقولهم تحت ستار النزعة العادية للاستعمار)). ونحن نعتقد أن مهمة كهذه لا تخص فقط المسؤولين عن توجيه الثقافة في وطن غاندي، بل إنها تشمل جميع الأوطان الأفرسيوية، وهي تحدد لهذه الشعوب دون لبس أو غموض طريق التحرر الداخلي الذي يجب أن يكمل أعمال التحرر السياسي والقومي بالتحرر الذاتي، أي في الإطار النفسي والأخلاقي. فإن التورط الاستعماري لم يؤثر على الرجل المستعمَر في مفهومه السياسي، وفي علاقاته الاجتماعية فحسب، بل أثر عليه في أعماقه. وفي تكويناته الأساسية، لقد وصل إلى روحه وضميره في صورة حالات ذهان ( Psychoses) وحالات حرمان ( Inhibitions) تشل عنده كل جهد خلاق ولا سيما في إفريقية الشمالية (1).

ومن الؤلم أن نرى الرجل المستعمَر يقف دائماً في كتاباته موقف متهِم أو متهَم، فإن هذه الحالة السلبية تسيء إلى (ذاتٍ) تكبت دائماً نقائصها فلا تدعها تتفتح للحياة الجديدة.

فمشكلة التحرر يجب أن توضع إذن حتى في الإطار النفسي، وسنكون قد صفينا هذه الحالات الذهانية وصنوف الحرمان- بعض التصفية على الأقل- عندما نخلص الرجل الأفرسيوي من الشاعر السلبية التي أصابته بها نزعته العادية للاستعمار، وأصابه بها حقده.

(1) قمنا بتحليل هذا المظهر في مؤلف سابق بعنواد (مستقبل الاسلام) طبعة باريس. حيث وصفنا سيطرة الاستعمار التي تؤثر على الفرد المستعمر تأثيراً مزدوجاً، يحدث دفعة واحدة كواقع يشل حياته، وكشبح ينتج عنه حرمان.

ص: 148

وأهمية هذه المهمة النفسية الواضحة جلية في مشكلة الثقافة الأفرسيوية، ويظهر لزومها كلما ظهرت المهام الاجتماعية الضرورية عقب المطالب القومية، وكلما أصبحت المقتضيات الإنسانية الدولية أكثر إلحاحاً (1).

إن مشكلة السلام والحرب تتطلب قرارات صريحة وواضحة. بينما نزعة الحقد عمياء، كما يقولون، وهي بذلك لن تشجع بعض المساعي التي ينبغي أن تكون نزيهة لكي تكون فعالة.

وعليه فإن الثقافة الأفرسيوية لا يمكنها لأسباب مختلفة أن تجد إلهامها الجوهري في مجرد نزعة المعاداة للاستعمار، التي تختفي باختفاء سببها وهو: الاستعمار، فيجب أن تبحث عن روحها الأخلاقي في مجموع من القيم الروحية والتاريخية التي تقرها الشعوب الأفرسيوية كنوع من التراث ( Classicisme) يشبه التراث الذي قدمته الإنسانيات الإغريقية اللاتينية إلى الغرب فوجد فيه دليل الطريق وزادها، والمصدر الذي غذى منه عبقريته من فيدياس ( Phidias)(2) إلى ميشيل آنج ( Michel Ange)(3) والتي وجد فيها مقياس تنظيمه العقلي من أرسطو إلى ديكارت.

والتراث الأفرسيوي يمكن أن يجد عناصره أولاً في المركبات النفسية التي لعبت دوراً في الصراع من أجل التحرر، لأنها طبعاً مشتركة بين جميع الشعوب التي خاضت هذا الصراع (4)، ثم إنه سيجدها في عوامل الاتجاه الذي خطّ

(1) ومما تجدر ملاحظته في هذا المجال أن ماوتسي تونج قد دشن الثورة الصينية ((بعد الانتصارات العسكرية التي أزالت كل العقبات المادية)) بمرحلة اعتراف ( Confession) يتسنى فيها لكل صيني أن يعترف بأخطائه السابقة: فهي عملية تصفية نفسية للدخول في عهد الثورة شبيهة بعملية تنظيف الثياب لاستقبال عيد جديد.

(2)

من أكبر المثالين في اليونان.

(3)

من أكبر مصوري عهد النهضة.

(4)

قالت صحيفة المساء في عددها الصادر في 24/ 9/ 1957م بمناسبة زيارة فرقة من ممثلي السينما الصينين بقلم أحد المسؤولين فيها ما يلى: ((إن ثقافتنا وثقافتكم الحديثة ذات منبع واحد، وهي في طابعها العام انعكاس لكفاح شعبينا أمداً طويلاً ضد الاستعمار)). وفي هذا تعبير عن الواقع بكل بساطة.

ص: 149

للفكرة الأفرسيوية وجهتها الخاصة في العالم، والذي يعبر عن أحكام مصير مشترك بين الشعوب السائرة تحت لواء خطر الحرب. وإذا كان إلهام الثقافة الكلاسيكية في عصر النهضة الأوروبية خاصة قد اتجه نحو الذوق الجمالي أكثر من أي شيء آخر، فإن الثقافة الأفرسيوية ملزمة بسبب المأساة الخاصة بالقرن العشرين إلى أن تتجه أولاً نحو النهج الأخلاقي لتحديد مثلها الأعلى وهدفها المنشود، ونحو الصناعة بعد ذلك لخلق وسائلها إليه، فإنقاذ الإنسان من البؤس والفاقة على محور طنجة - جاكرتا وإنقاذه من حتمية الحرب على محور واشنطن - موسكو، هما بالنسبة إلى الإنسان الأفرسيوي الضرورتان المحددتان للمشكلة كلها: مشكلة بقائه، ومشكلة اتجاهه. وهذه الضرورة المزدوجة التي لا بد من أن يواجهها تسيطر بصورة طبيعية على جميع تحديدات ثقافته، وبالتالي على التحديد الأساسي لمنهجه الأخلاقي وسنقول فيما بعد، حين ننظر إلى مساهمته الخاصة، أي عنصر ميتافيزيقي جوهري سيجلبه الإسلام إلى هذا التحديد للروح الأخلاقي الخاص بالفكرة الأفرسيوية، وسنقول خاصة أي مفهوم إنساني سام سيضعه كمبدأ لانقاذ الإنسان بعد سقوطه تحت سيطرة الاستعمار والقابلية للاستعمار.

وستجد الفكرة الأفرسيوية- بمقتضى ازدواجها الروحي- المبدأ الثاني في فكرة عدم العنف، ذلك المبدأ الذي نعرف دوره المنقذ في تحرير الهند، والذي ما زال يلهم حتى اليوم الحوار الدولي (1) كقانون لا يقبل الانفكاك- منذ ذلك الحين- عن المحاولات الإنسانية في الميدان السياسي.

ولكنا لا يمكننا أن نضم هذه الملحمة إلى الفكرة الأفرسيوية دون أن ندخل فيها في الوقت نفسه بطلها الأسطوري: غاندي، صاحب الوجه المحاط بهالة من نور الشهداء، ذلك الوجه الذي يتجلى في أروع صفحة من تاريخ عصرنا.

(1) إن مما له دلالته أنه قد حدث خلال بعض المناقشات بين الصين وأمريكا التي تتابعت في جنيف أن البحث كان متجهاً إلى أن يصلوا إلى ((اتفاق على عدم استعمال العنف)) بهذه اللفظة نفسها في نوفمبر 1955م. (المؤلف)

ص: 150

ويزيد من روعتنا أن الفصل الأول من مجموعها مواقفه هو فصل رمزي، إذ ترى المهاتما يدخل إلى الميدان السياسي- لأول مرة- في صحبة رجل مسلم، هو حاجي حبيب الذي أيده مادياً وأدبياً منذ المؤتمر الأول الذي أعلن فيه المهاتما غاندي خطته طريق الحقيقة ( Satyagraha) في 11 سبتمبر 1906 بمسرح إمبريال بجوهانسبرغ بإفرياقية الجنوبية، وهذا الرمز لا يقتصر في تأتيره على الناحية السياسية، بل إنه يتعداها أيضاً إلى نطاق الروح، فنحن نعرف كم كان غاندي يميل إلى أن يغذي فكره من جميع منابع الغذاء الروحي، كالقرآن والإنجيل والبهاجافادجيتا ( Bhagavadegita)؛ كتاب الديانة الهندوسية.

إن المستودعات في آسيا وإفريقية غنية بالوجوه الجليلة، وبالأسماء والمثل، لكي تقدم لنا عناصر أخلاقية تلزمنا في بنائنا لتراث أفرسيوي، وسيكون غاندي ولا شك في أحد الأبهاء الفخمة التي تحتوي صور الرجال العظماء. وكما تُحدَّد الثقافة بعناصرها المستمدة من الروح الأخلاقي، فإنها تتحدد أيضاً بالذوق الجمالي، وإذا كانت الثقافة قبل كل شيء (محيطاً) معيناً، فمن الواضح أن العنصر الجمالي يلعب فيها دوراً رئيسياً، إذ إن القدرة الخلاقة مرتبطة دائماً بالانفعال الجمالي، بل إن مقدرة الفرد على تأتير مرتبطة أيضاً ببعض المقاييس الجمالية، ونحن نعرف مثلاً في ميدان التجارة والصناعة أن ((الصنف الرديء لا يباع))، على أن القيمة الجمالية يجب أن ينظر إليها وخاصة من الوجهة التربوية، فهي تساهم في خلق نموذج إنشائي متميز يخلع على الحياة نسقاً معيناً، واتجاهاً ثابتاً في التاريخ بفضل ما وهب من أذواق وتناسب جمالي.

ومن المؤكد أن تحويل (الدودة الصينية) الجرباء ذات الأطمار إلى (نملة زرقاء)، ذلك التغير البسيط الخارجي قد زوَّد الحياة في الصين بمثير فعال، وبدافع إنشائي، ووضع أساساً للتربية الشعبية، وأبدع ذوقاً رفيعاً، وحركة جديدة خلاقة للقيم الاجتماعية.

ص: 151

وعلى أية حال فإن الكنوز الفنية في إفريقية وآسيا لتشهد بوجود ثروة تستطيع الفكرة الأفرسيوية أن تجد فيها دائماً- في ميدانها الخاص- عناصر جوهرية لخلق هذا الجزء المهما من تراثها.

وفي العصر الحاضر، حيث يخضع التطور الإنساني في اتجاهه وسرعته للعوامل الصناعية، ولاعتبارات القدرة الإنتاجية، لا يمكن للثقافة الأفرسيوية أن تحدد معالمها دون أن تأخذ في اعتبارها بعض العوامل الديناميكية الصالحة لتشجيع النمو المادي لشعوب آسيا وإفريقية، والإسراع بحركته.

إن خطط المشروعات القومية التي رأت النور في السنين الأخيرة في البلاد الأفرسيوية لتشعرنا عملياً بالحاجات التي تطابق في صورة طبيعية الفصول التي تتركب منها الثقافة.

والصناعة والمنطق العملي يكونان فصلين من هذه الفصول الهامة، ((حيث يتجاوب المنطق العملي مع القدرة الإنتاجية، في الناحية الاقتصادية وحيت يعد منطقاً معيناً للعمل والنشاط في الإطار الفردي)).

وللصناعة والمنطق العملي علاقة مباشرة بالمشكلات العضوية التي بحثها مؤتمر باندونج، والتي يجب أن يحلها كل بلد أفرسيوي لحسابه الخاص ولهذين العنصرين تأثير مباشر عاجل على حظ الإنسان الأفرسيوي وعلى الإطار الذي يحوطه.

ويأتي دور العنصر الصناعي حين يضع بلد ما تخطيطاً لمشروع قومي، وبذا يتم إدخاله في برنامج تربوي بصورة آلية نوعاً ما. إذ هو ضرورة تفرض نفسها على المشروعات الحكومية من جهة، وعلى المحاولات الخاصة من جهة أخرى، وهكذا يتلاقى احتياج دولة إلى الفنيين، ورغبة الأفراد في أن يؤدوا وظائف معينة في مجال الفن الصناعي، يتلاقيان تلاقياً كاملاً في الضرورة العضوية نفسها. ويتقرر المنطق العملي بالصورة نفسها كحاجة عاجلة لثقافة (نهضة) تريد أن تحدث تغييراً في (المحيط) حيث تتشكل عبقرية الحضارة، وحيث يتطور الإنسان.

ص: 152

فالمنطق العملي يكيف صورة النشاط وأسلوبه ونسقه وجميع أشكاله الديناميكية.

وعلى محور واشنطن - موسكو توجد ديناميكية خاصة تختلف عن الديناميكية التي قد يلاحظها زائر السماء من طنجة إلى جاكرتا. هذا الزائر يمكنه أن يلاحظ فرقاً جوهرياً هو: أن الثرترة تكثر كلما قل النشاط والحركة، إذ حيثما يسود الكلام تبطئ الحركة. ولهذا وجدنا أن منظمي باندونج قد حددوا زمن الكلام بخمس عشرة دقيقة لكل متكلم، كان هذا ولا شك لكي يحولوا بينه وبين أن يغرق في الجعجعة وثرثرة اللسان.

وبهذا أنقذت هذه الحكمة مقدرة المؤتمر على التأثير من طوفان الكلام الذي قد لا يدع مكاناً للعمل الإيجابي، ومما يجدر ذكره أن نعلم كيف أن ((شواين لاي)) قد برهن على اهتمامه بهذا المبدأ حين صاغ خطبته في أقل من ربع ساعة، وهو يتحدث باسم ست مئة مليون من البشر حقاً:((إن الكلمة لمن روح القدس))، ولكن من الضروري أن يقر في أذهاننا التمييز بين الكلمة المقدسة الفعالة وبين الثرترة والهذر، فهناك أناس ليست الكلمة بالنسبة إليهم سوى أداة تؤدي العدم، فهي لديهم مجرد صبيانية بيانية خلابة، ترن في الهواء، أو مجرد كمية من المداد على صفحة من الورق.

ولكن الواجب يفرض علينا أن نراعي واقعاً جلياً وجوهرياً هو أن ميزانية التاريخ ليست رصيداً من الكلام ومن أعداد الكلمات، بل هي كتل من النشاط المادي، ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه. وهذه الميزانيات المكونة من صنوف النشاط الإيجابي هي في الحقيقة ميزانيات من القيم الثقافية تقوم على فصول الثقافة الأربعة: منهجها الأخلاقي، وذوقها الجمالي، وفنها الصناعي، ومنطقها العملي.

إننا حين عالجنا مشكلة الثقافة لم ندع أننا ندرسها في هذا الفصل دراسة شاملة، فلقد أردنا فقط أن نشير إلى أهميتها وتأثيرها على الإطار الشعبي، وعلى

ص: 153

الإطار الجامعي لكي نلفت الانتباه إلى ضرورة (التوجيه) في الحياة الفكرية تاركين جانباً المناقشة التي ستقرر إذا ما كان هذا الاتجاه يجب أن ينبع من ظروف الدولة طبقاً لاحتياجات البلاد، أي طبقاً لمنهج يفرض سيطرة التوجيه الجامعي، أو أن يصدر عن المنافع الشخصية والأذواق الفردية، أعني عن التعليم الحر المنطلق. فمهما كانت الصورة التي نضع فيها هذه المشكلة فلقد تبين لنا أن من الأهمية بمكان أن تحدد البلدان المتخلفة ثقافتها لتتدارك تأخرها، وتؤدي دورها في العالم بصورة فعالة مؤثرة.

وكل بلد يمكنه طبعاً أن يحل هذه المشكلة بطرقه الخاصة، فكل الطرق تؤدي إلى الأهداف نفسها ولكن بتوقيت مختلف، فالواجب أن نتجنب الطرق الطويلة، طرق الاعتباط والاستهواء، الطرق التي سلكتها الحضارات التي كان أمامها ما يكفيها من القرون وآلاف السنين. وبلغة التربية يجب أن نطبق الطرق التي توجه الذكاء في اتجاه الحضارة، والتي تعجل تكوينها طبقاً للتطورات اللازمة في نطاق هذه الحضارة، فإذا صيغت المشكلة في تعبيرات هذه اللغة، وجدناها تتجاوز بذلك النطاق القومى على أساس وضع (سياسة للثقافة) تبعاً لتعبير الجمعية العامة الخامسة لمؤتمر الثقافة الأوروبية المنعقد في أكتوبر 1955م في بروكسل.

أي إن المشكلة تتطلب في هذا الاتجاه مؤتمراً للثقافة الأفرسيوية (1)، وربما عبر البيان النهائي لمؤتمر باندونج عن هذه الضرورة تحت عنوان (التعاون الثقافي).

(1) ولو انعقد مؤتمر مثل هذا لكان أجدى كثيراً من بعض المؤتمرات التي أقيمت أخيراً تحت عنوان الأفرسيوية، وهي تتناول مادة مثل القانون. لا يمكنها اليوم أن تؤثر بأي وجه على مصير الشعوب.

ص: 154