الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوَان المسؤولِيَّة
عندما يكون التاريخ في مفترق الطرق، يصبح اختيار الإنسان كأنه هو المقدر لكل شيء، وعندما يتم هذا الاختيار يصبح الأمر كأن الإنسان قد ضغط فعلاً بأصبعه على (زر) المصير، فحرك بذلك الأقدار، في الوقت نفسه الذي يدفع فيه تيار الأحداث العارم.
ومنذ تلك اللحظة يكون كل شيء قد قدر، وتكون السفينة قد اتجهت إلى خيرها أو شرها.
ولقد عرف التاريخ الإسلامي لحظة كهذه في معركة صفين، تلك الحادثة المؤسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار، الاختيار الحتم بين علي ومعاوية، بين المدينة ودمشق، بين الحكم الديمقراطي الخليفي والحكم الأسري، ولقد اختار المجتمع الإسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تاريخه الطريق الذي قاده أخيرا .. أخيراً إلى القابلية للاستعمار، وإلى الاستعمار.
ولقد وضع عام (1945م) الدول الكبرى أمام فرصة للمساهمة في التجديد الإنساني، فترك الكبار الفرصة تمر هباء، واليوم تقف الشعوب الأفرسيوية في ساعة الاختيار التي دقت، ودقت معها ساعة مسؤولية زعمائها وقادتها، فباندونج قد وضعت هذه الشعوب أمام مشكلات عضوية يفرضها بقاؤها، ومشكلات للاتجاه تفرضها الحالة العالمية.
وفي كل ناحية يوجد اختيار حاسم في المجالات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية جميعاً.
ولا شك أن مناقشات المؤتمر الأفرسيوي قد تخطت من الناحية النظرية النطاق الذي تتم فيه التطورات الضرورية على محور طنجة - جاكرتا، فعبرت عن الحرمان الذي يعانيه العالم من انعدام السلطة الأخلاقية، وأوجدت في الوقت
نفسه الفرصة لغرس هذه السلطة في الضمير الإنساني، حين تدعو هذا الضمير إلى أن يتأمل بطريقة أكثر موضوعية، حين وضعته، أمام درس (عدم العنف) كي يتأمله بطريقة جدية.
ولكن باندونج أيضاً تعتبر قبل كل شيء تقويماً لإمكانيات المستقبل، وقد أصبح على الإنسانية أن تحيل هذه الإمكانيات إلى واقع مُحَس يترجم الأفكار التي ولدت خلال المناقشات إلى سلوك محدد، وإلى تحقيق فعلي، مؤثر يغير حالة الرجل الأفرسيوي.
فمسؤوليات الزعماء والقادة خطيرة جداً أمام ما يصادفهم من عقبات ومغريات، وعليهم أن يلاحظوا أن تاريخ الشعوب الأفرسيوية لم يتحرر بعد من طرق التفكير والعمل التي كانت تسير عليها في عصر الاستعمار وعصر الثورة. وهذه الملاحظة تضع المشكلة في الإطار النفسي حيث يكون الأمر أمر تخليص هذه الشعوب من تورط مزدوج. ففي مرحلة الهدم، أي في الطريق إلى الهدف الجوهري من كل ثورة عنيفة، تصلح أي حجة، أو على الأقل تبدو أنها صالحة، وبما أنها توجه كل وسائلها إلى الهدم فإن جميع الوسائل تصير عندها صالحة عموماً، إذ من المعتقد في مثل هذه المرحلة أن من الواجب مواجهة الميكافيلية الاستعمارية، تلك التي ترى أن جميع الحجج والوسائل صالحة، بمكيافيلية ثورية تصنع من كل حطب سهماً، أي تستخدم جميع الوسائل للوصول إلى أهدافها.
ولئن كانت العقبات التي يتحتم على النشاط الثوري أن ينتصر عليها ضخمة، وتستلزم أشرف التضحيات، وأطهر البطولات، فإن إغراء الفكر الثوري كبير لكي يتخذ طريق السهولة، وهذا هو أخطر إغراء يتعرض له الزعماء وقادة الجماهير. فإذا جاء بعد ذلك عصر الجهد البنائي، والمهام الموضوعية، وجدناهم متحيرين في أهدافهم، محبوسين في ميكيافيليتهم، مختبلين في منطقهم الذي كان من الجائز أن يكون مؤتراً فعالاً في مرحلة الاضطراب،
ولكنه يصبح بالياً متأخراً، غير فعال عندما يشارفون اختبارات مشكلات البقاء والتوجيه.
فلو أننا لعبنا خلال الحقبة الثورية بمفتاح (الحقوق) - وهو ما يحدث غالباً- فسيكون من الصعب علينا أن نستخدم فيما بعد مفتاح ((الواجبات))، إذ إن الإغراء، على أن يستمر القادة في اللعبة نفسها، قاهر غلاب.
ونادر ذلك الرجل الذي يرضى بالمراهنة على اللعب بمفتاح (الواجبات) منذ البداية.
أما الأنبياء فإنهم جميعاً قد ارتضوا هذا الرهان، حين دعوا الناس إلى طريق الجهد والكفاح والكمال والتقدم.
ولكن الزعماء السياسيين يتعرضون لمخدر (الحقوق) حين يدعون الشعوب إلى طريق السهولة الذي يقودها أحياناً إلى الكوارث الاجتماعية وإلى المغامرات السياسية.
ولقد هرب غاندي من هذا المنحدر، حين اختار طريق الكفاح، طريق من يعمل على تغيير ما بنفسه كيما يتغلب على نقائصه ومظاهر ضعفه الأخلاقية والاجتماعية، فقد كان يأبى أن يواجه الميكيافيلية الاستعمارية بميكيافيلية أخرى، بل بالحقيقة المجردة، فهو لم يواجه القوة بشيء سوى عدم العنف. لقد هرب من الإغراء الضخم الذي يجذب الزعماء إلى طريق السهولة، ولم تكن نجاته من هذا الإغراء لطهارة نواياه، أعني صفاته الأخلاقية التي نعرف مغزاها وصرامتها لدى (المهاتما)، ولكن أيضاً لأنه وضع مشكلة تحرير بلاده أمام العقل. لقد هرب غاندي من مخدر السهولة بفضل مواهبه الأخلاقية والعقلية معاً.
فلو أحببنا أن نرى في أعماله طابع القديسين، فينبغي علينا أن نرى فيها أيضاً عمل رجل مكافح، وهو على علم تام بالقضية، وإنما يواجه قضية تحرير بلاده على أساس اختصاص الاجتماعي الذي يحلل نقائض بلاده، أكثر من أن
يواجهها على أساس اختصاص السياسي الذي يطالب بالحقوق، لأنه يعترف بأن (التغير القومي) لا يمكن أن يقوم على بطولة الزعماء، أو مِنحِ السلطات الاستعمارية.
وتدل هذه النظرية التي أعلنها غاندي يوم افتتاح الكلية المركزية للجامعة الهندية- التي كانت أولاً مؤسسة مس آني بيزانت- على أنه منذ بدء حياته السياسية كان يتكلم بلسان مربي الأمة، بلسان المهرج، ولا بلسان السياسي فقط. فالواقع أنه كان يشعر بأن المشكلة مشكلة حضارة، وكان يعبر في الواقع عن هذا الشعور حين يقول لمحدثه المندهش:((لن تستحق الهند حقها في الحرية طالما كان المار على الرصيف في شوارع مدنها مثل بومباي، معرضاً للبصق من شباك فوقه)) فهذه الفكرة ليست فكرة سياسي فقط، إذ كان غاندي يدين منذ بدء حياته السياسية بفكرة تكوينية عن (الحق)، حيث يرى جذوره في (الواجب)، وبالتالي فقد اختار الواجب على أنه الأصل؛ ونحن ندرك أهمية هذا الاختيار وتأتيره الخطير الحاسم، ليس فقط على مرحلة ثورية، وإنما على عصر البناء الاجتماعي الذي جاء بعدها. فلقد وفر الشعب الهندي على نفسه عبء أزمة أخلاقية حين ارتبط كفاحه من أجل الاستقلال بطريق الواجب تحت قيادة غاندي. فلم يعرف الصدمة التي تأتي عقب التحرر. ولم يعرف الانهيار الذي يعقب هيجان الحمى، ذلك الانهيار الذي عانته شعوب أخرى منذ عام (1945م)، عندما هبط المد الثوري، وانجلى السراب الفوضوي، وبرزت الوقائع الأصلية، وخلصت المشكلات من ضباب الخرافات والتهاويل، وسيطر على الأذهان نوع من خيبة الأمل والانكسار.
لقد عانت شعوب كبيرة وشعوب صغيرة، وما زالت تعاني من هذه الأزمة - أزمة النمو والتكيف مع الأوضاع الجديدة- بصور مختلفة، حتى يمكننا أن نحدد رد الفعل الذي عانته هذه الشعوب بصورة عنيفة أو بصورة ساكنة
راكدة، ففي أندونيسيا مثلاً نجد حمى جماعة (دار الإسلام)(1) وفي ليبيا نجد جموداً وخموداً، وهي أعراض تدل على أن هذه البلاد لم تهضم بعد وضعها التحرري تماماً.
هذه الأزمات هي بلا نزاع نتيجة للمنهج الذي حقق تحرر البلاد نتيجة للطريق الخاص الذي اتبعته، أعني ثمرة اختيار أولى، أو ثمرة عدم الاختيار، أما الطريقة التي كان يمكن بها تجنب أزمة التحرر هذه، والتي تصلح اليوم لمواجهة المشكلات العضوية كلها في مرحلة النمو والتشييد، فإن الاختيار فيها يرتكز أساساً على مناهج السهولة أو مناهج التقشف والمشقة أي على الطرق التي تتصل (بالحقوق) والأخرى التي تتصل (بالواجبات) وإن هذا الاختيار ليحدد أسلوب المجتمع كله. وسلوكه السياسي، ونموه الاجتماعي، وبصفة خاصة سياسته في استثمار موارده. وهناك علاقة بين (الحق- والواجب) تسيطر على جميع نواحي التطور الاجتماعي، وهي صالحة لأن تصور لنا ثلاثة أساليب مختلفة للتطور، وأن توضح لنا الفروق الجوهرية بين ثلاثة نماذج للمجتمعات، ويمكننا أن نضع هذه العلاقة في صورة جبرية هي:
واجب + حق= صفر (2)
وتحت هذه الصورة توضح العلاقة أن اختيار مجتمع يعني بالنسبة إليه نمواً صاعداً أعني (نهضة) حين يكون الاختيار في الصورة الجبرية إيجابياً، وهذا الاختيار يتفق في التخطيط الاقتصادي مثلاً مع زيادة قوى الإنتاج بالنسبة إلى حاجات الاستهلاك، وتدل هذه الزيادة على إمكانيات الاستثمار لدى المجتمع،
(1) حزب سياسي يدعو كما يبدو إلى تأليف دولة إسلامية.
(2)
هذه الصورة في الجبر تسمى اللامعادلة ( Inégalité) وتعني أنه إذا كان الواجب متفوقاً على الحق كانت النتيجة إيجابية أي فوق الصفر، وإن كان الحق متفوقاً على الواجب، كانت سلبية أي تحت الصفر، وإن كانا متساويين كان الناتج صفراً، وهي من وضع المؤلف .. (المترجم).
ذلك الذي حدد اختياره على تلك الصورة. وإذا كان الاختيار سلبياً، فإنه يدل على أن نموذج المجتمع نموذج هابط له، ولا شك، نهايته، وبين هذين الاختيارين يوجد نموذج ساكن يقف بين النهضة والتقهقر بصورة اختيار تتمثل فيه ((نعم .. ولا))، وتساوي صفراً في الصورة الجبرية.
وفي ضوء هذه الاعتبارات ندرك دور القيم الأخلاقية في نمو المجتمع حتى من ناحية العمليات الاقتصادية، لأنه إذا كانت طبيعة المشكلات هي التي تحدد (الاختيار) لدى القادة والزعماء، فإنه يتم في نطاق التاريخ بإرادة الشعوب، وتبعاً لهواها، وأوضاعها الأخلاقية.
وتحت عيني الآن إحصاء عن الخسائر المفجعة المتسببة عن إدمان الخمر في بلد ذي ثقافة كبرى، وحضارة قديمة، وهو يشير إلى تقويم رهيب من ناحية الصحة العامة. ولكنا ننظر إليه بالنسبة إلى الحياة القومية كلها، إذ تفرض المصيبة عليها حملاً ثقيلاً يذهب بقدر كبير من إمكانيات نموها في الميدان الاجتماعي والمدني والاقتصادي.
وحتى في المجال العلمي نجد أن هذا البلد مشلول بفعل الامتصاص الأليم لأدواته وموارده المالية بقدر كبير، بما أن (الكحولية) تمتص سنوياً من هذه الأمة بصورة أو بأخرى ما يقرب من ألف وست مئة مليار من الفرنكات. وعليه فهذا النزيف الذي يكون بطبيعة الحال مشكلة عضوية جوهرية لهذا البلد، يفرض في الواقع مشكلة أخلاقية جوهرية تخص مسؤولية القادة عن اختيار أساسي لخطتهم السياسية كلها، وتخص سلوك الشعب إزاء هذا الاختيار.
ومن الخطورة بمكان أن يبرر هؤلاء الزعماء عدم حسمهم للمشكلة بتمسكهم بالحريات الديمقراطية، وأن يلجأ شعب هكذا إلى نوع من الانتحار الجماعي لأن قادته قد تخلوا عن مسؤوليتهم.
وطبيعي أن المشكلة ليست بهذه الصورة في بلد إسلامي معين، لأن الظروف النفسية والاجتماعية مختلفة. ولكنا حين نرى مثلاً أسرة بورجوازية (متوسطة)
في الجزائر، وهي ملاحظة مسجلة عام (1931م)، تستخدم لاستهلاكها وحدها مئة كيلو من الزبد في الشهر، فمن الواضح أن مثل هذه الحالة من الشراهة والتفريط والتهاون، دليل على تطور خاضع لعلاقة سلبية بين (الحق والواجب).
والشعوب الأفرسيوية تواجه اليوم حشداً هائلاً من المشكلات العضوية التي يفرضها بقاؤها، فإذا لم يتحدد سلوكها واتجاه قادتها على طريق النهضة بصورة منهجية وفعالة، تتمثل في علاقة إيجابية بين الحق والواجب، فستجد هذه الشعوب نفسها متورطة بقوة الأشياء في عملية تقهقر أو خمود. فباندونج قد آذنت إذن بساعة فاصلة في حياة الشعوب والقادة الأفرسيويين حين وضعت أمامهما المشكلات العضوية، وكانت لحظة فاصلة وحاسمة أيضاً بالنسبة إلى الاختيار- ربما تزايدت درجة خطورتها بقدر أهميته في نطاق آخر- في نطاق مشكلات الاتجاه.
إن ظروف الحرب الباردة حين أكدت نتيجة الثورة الصناعية، والتطور التاريخي، قد ربطت في الواقع ما بين المشكلات، وفي هذه الظروف وتبعاً لهذا الأثر المزدوج، لا يمكن أن تنعزل المشكلة القومية عن المضمون الإقليمي، وفي مقام آخر عن المضمون العالمي. ولقد برهن التحليل التاريخي والاجتماعي السابق لمشكلة الرجل الأفرسيوي على أنها مرتبطة بظرف عام في إطار معين، رمزنا إليه بمحور طنجة - جاكرتا، وفي هذا الإطار ارتباط بين المشكلات نتج عن الظروف الحالية؛ وهو يقتضي نوعاً من التنظيم والأسبقية فيما بينها، فإذا كانت القضية توضع بالنسبة إلى المشكلات العضوية- التي طرحت على بساط البحث في باندونج أو نتجت عنها- في سؤال عن الصلة التكوينية بين الحق والواجب فإنها توضع فيما يتعلق بمشكلات الاتجاه في سؤال عن السلام، أو الحرب؛
ومعلوم أن مسألة الاتجاه قد صارت من المسائل الأساسية المطلقة، إذ ليس من الممكن في الظروف الحالية أن نتصور بناء أجتماعياً وسياسياً دون أن نقدر
عوامل السلام أو الحرب. وليس من الممكن أن نثبت دعائم الحرية، وأن نشيد حضارة في أي مكان دون أن نقدر الظروف العامة لعالم متقلب.
فكل ما يتصل بوضع قومي أو إقليمي أصبح يخضع لواقع عالمي صارم، يفرض اختياراً أساسياً يكون بمثابة اختبار للتصفية في موضوع اختيارنا بين الحرب أو السلام، فمن غير الممكن أن ندخل في تطور عالمي له سرعة واتجاه معينان، دون أن نجتاز هذا الاختبار الحاسم، ولقد ضربت لنا الهند مثلاً موفقاً في اجتيازه.
فبفضل ما أحرزت من اتجاه تحت تأثير فكرة (عدم العنف) دخلت الهند إلى العالم من طريق السلام الذي فرض على دبلوماسيتها مبدأ (الحياد)، الذي كان أحد الموضوعات الجوهرية في باندونج.
ولقد اجتازت الهند بهذه الطريقة اختبار التصفية، بحيث احتفظت لنفسها بأكبر قدر ممكن من فرص النمو في عالم يزداد اضطراباً يوماً بعد يوم. وهي بعملها هذا أنقذت أيضاً فرصة تكوين (منطقة سلام)، يمكن أن نعتبرها منذ ذلك الحين موطن ((الفكرة الأفرسيوية)). وسندع للمؤرخين الذين سيتمكنون من استخلاص نتائج الظروف التي يجتازها العالم الآن، والتي ما زال يجهل نهايتها، سندع لهم مهمة القول إذا ما كانت النجاة النهائية اللإنسانية قد تحققت فعلاً في هذا الموطن.
وعلى كل، فنحن نرى أن المشكلات العضوية، ومشكلات التوجيه مرتبطة بعضها ببعض، مع أسبقية مشكلات الاتجاه لأنها تفرض أسبقية الحرب والسلام. فمن غير الممكن أن ننظر إلى مشكلة الحرية مستقلة عن مشكلة السلام. ومن المقرر أن مصير الإنسان في الظروف الحاضرة يعتمد أولاً على هذا الأساس العالمى. فلا يمكن أن نحقق وجود الرجل الأفرسيوي دون أن نأخذ في حسابنا هذا الأساس، وإلا كان بناؤنا على حافة الهاوية الرهيبة، حيث تهدد الحرب الذرية بهدم البناء الإنساني كله.
وإنه لإنذار إلى الفوضويين من كل نوع، أولئك الذين يعتقدون أنهم يفصلون في المشكلات الخطيرة التي تواجه العالم بمحض الثرثرة، تلك الثرثرة التي أوشكت أن تزعج مناقشات باندونج نفسها، حين أرادت تحويلها إلى ملاكمة شفوية، تحمل طابع التظاهر بالعداوة للاستعمار أحياناً وللشيوعية أحياناً أخرى.
ومن المشجع دون شك أن نلاحظ أن الفكرة الأفرسيوية قد رأت النور في باندونج، في أرض الإسلام، وأن نلاحظ النصيب الموفور الذي أسهم به مندوبو أندونيسيا ومصر. ولكن تقلب بعض القادة المسلمين في انتقالهم من الحملة على الاستعمار إلى الحملة على الشيوعية، قد دل على أن المغزى العميق لمناقشات المؤتمر قد فاتهم، سواء فيما يتعلق بالمشكلات العضوية أم بمشكلات الاتجاه. ولقد كانت بعض مراحل هذه المناقشات قاسية بصفة خاصة وذلك عندما كان الحوار يتوقف ليخلي مكاناً للهذر والثرثرة، حيث ينفسح المجال للميل إلى السهولة، وحب السلطان.
ولقد اجتاز المؤتمر ظروفاً عانى فيها بعض الضغط من الداخل، كما عانى نشاط جماعة (دار الإسلام) من الخارج، بحيث وضعت هذه الظروف ضمناً مشكلة القيادات في العالم الإسلامي أمام مسؤولياتها القومية والدولية. ففي المجال (القومي) سجلت الثورة المصرية خطوة حاسمة في تطور العالم الإسلامي، حين سجلت ظهور قيادة فنية أعقبت القيادة الفوضوية القديمة، وقد كان لهذا الحادث مدلوله الرئيسي؛ لأنه كون بالنسبة إلى المشكلات العضوية نموذجاً في المجتمع الإسلامي، حيث أصبحت الأسبقية مقررة منذ ذلك الحين (للواجب) على (الحق). إنها ثورة سياسية ولا شك، ولكنها أيضاً ثورة نفسية قلبت الأخلاق في الحياة العامة التي كانت مزوقة بألوان الديمقراطية المستعارة، والغارقة في طغيان أولئك البغاة المستبدين في كراتشي وفي طهران وفي بغداد. وأما في المجال الدولي فإن الواجب يملي علينا أن نحتاط لأنفسنا فلا ننزلق في خضم الحرب الباردة، خوفاً من أن تطوحنا الظروف في فضاء الحرب الذرية. ولقد
استيقظ الضمير الإسلامي لهذه المسألة، أيقظته المصاعب التي لاقاها داخل هيئة الأمم المتحدة، وخاصة في المناقشات التي دارت حول مشكلات شمالي إفريقية، كما أيقظه المثل المشجع (لحياد) الهند، وإنما لم تتم الثورة في هذا الميدان في صورة منهجية، أو في صورة طفرة كما حدث في المجال القومي في مصر، بل حدثت في صورة تخبط، وتحول في الوسط، على مراحل متعاقبة- منها مرحلة الكتلة العربية الآسيوية التي عالجت بعض المشكلات العاجلة- حتى وصلت إلى باندونج، فكانت مرحلة الصحوة والتيقظ أمام مشكلة الاتجاه الجوهرية.
على أن هذا التطور كان حافلاً بالمصاعب الداخلية التي تتصل بالتكوينات الاجتماعية والثقافية في العالم الإسلامي بقدر ما كان حافلاً بالمصاعب الخارجية الناتجة عن مواجهته للرأسمالية والشيوعية في الحرب الباردة.
وكانت هذه المصاعب الأخيرة تنتج عن الجاذبية التي سلطها محور القوة بكيفية ما على توجيه الشعوب الأفرسيوية كيما ينحو بها نحو سياسته، ولقد خلقت هذه الجاذبية انشقاقات وبدعاً في التطور السياسي في البلاد الإسلامية منذ عام (1945م) مثيرة هنا ثورات مضادة كتلك التي أوصلت زاهدي إلى الحكم، ومتيرة هناك خلافات وانقسامات كتلك التي حطمت وحدة الجامعة العربية. بحيث حرمت هذه البلاد من أن تطبق في النطاق الدولي نظرية مشتركة تهدف إلى تحقيق السلام بصفة فعَّالة. ومع ذلك فيجب أن نذكر أن حظ هذه السياسة التضليلية من النجاح في الشعوب كان أقل من حظها لدى بعض الزعماء، أولئك الذين أغراهم أحياناً الطمع، وأغواهم المال، واستهوتهم السلطة.
وعلى كل، فهذا مظهر من مظاهر تأثير الدول الكبرى في تعطيل التاريخ وعلى تطور الشعوب منذ عام (1945م)، وطريقة التعطيل تنحصر أحياناً في إحداث (دمل تصفية) في جسد العالم الإسلامي ليمتص قوى الحيوية والتطور فيه. وقد بدأت هذه الطريقة تطبق فعلاً منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فمنذ ذلك الحين تحجرت الإرادة الجماعية في العالم الإسلامي، وتبلورت حول المسألة
الفلسطينية، تلك التي استمالت ووجهت جميع تيارات ضميره منذ ثلاتين عاماً، محولة طاقاته التي كان عليه أن يخصصها للمشكلات العضوية ومشكلات التوجيه.
ولقد انزاح هذا الكابوس قليلاً بتأثير الصدمة النفسية التي نتجت عن استقرار دولة إسرائيل، ولكن يبدو أن الضمير الإسلامي لم ينفض بعد كل خموله وغموضه، إذا ما اعتمدنا في حكمنا على المؤتمر الإسلامي المنعقد منذ سبعة عشر شهراً في مكة (1) لبحث المسألة الفلسطينية على وجه الخصوص، باعتبارها، المشكلة الجوهرية الوحيدة في العالم الإسلامي، ولقد حاولت هذه السياسة الغامضة أن تحدث (دملاً) آخر للتصفية في كشمير، وكان (الدمل) هذه المرة يهدف إلى استمالة التيار الحيادي، وإحداث فصل قاطع يخترم الوحدة الأخلاقية على المحور الذي يحمل مصير الرجل الأفرسيوي، وتدل هذه التصرفات على أن (استراتيجية التطويق) قد حولت إلى الناحية العسكرية الأغراض التي كانت (سيطرة أوروبا) تصرفها إلى الناحية الاقتصادية والسياسية بالنسبة للعالم الأفرسيوي.
والاستعمار المشترك الذي يريد أن يخلف الاستعمار البسيط، يتسلل على أرض الغزو متلوناً أخلاقياً وسياسياً حسب طبيعة البلاد التي يتسلل إليها، فهو في بغداد وفي دمشق يحاول أن يستميل الأفكار والطاقات السياسية لصالح مشروع الهلال الخصيب، وفي كراتشي يدخل إلى البلاد في منعطف (إسلامستان) ونسمع أنه يريد أن يحرر إفريقية الشمالية لصالحه: وهو تحرير يعني بطبيعة الحال إدخال البلاد في منطقة الحرب بطريقة أكثر وعياً، بحيث تتفق مع ((حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها)) ولعل هذه اللغة هي الخطر الأكبر لأنها باسم الحرية توشك أن تزوِّر حقائق المشكلة الحيوية وأوضاعها في الضمير الإسلامي.
(1) أثناء حجة عام 1954 بالضبط.
وزد على ذلك ما هو ناتج في العالم الإسلامي عن (واقعية) بعض حكامه تلك (الواقعية) التي يعتنقها نوري السعيد مثلاً، فلقد خرج على الجامعة العربية - كما نذكر- لقلة موضوعيتها التي يشهد بها- كما قال- موقف الجامعة أمام الحالة الناتجة عن استقرار إسرائيل في الشرق الأوسط، فهو يرى في استقرار إسرائيل في الشرق الأوسط حالة واقعة، ويجب أن نسلم بالأمر الواقع.
وهكذا فإن الاستعمار المشترك قد استخدم طرائق السحر السياسي والتضليل لاجهاض مؤتمر كولومبو التحضيري، حيث كان الكلام المتبادل بين بعض المندوبين أحياناً بعيداً عن أن يترجم عن الفكرة الأفرسيوية، وبعيداً عن أن يعد محيط باندونج وجوّه، ولكن عناصر الفكرة كانت أقوى من أحابيل سياسة القوة ومنطق السيطرة.
لقد انتصر منطق الواقع على (واقعية) بعض القادة، وعلى ميكيافيلية الآخرين، فأوان المشكلات الكبرى قد حان، وحان معه أوان الاختيار والمسؤولية. وعلى الشعوب الأفرسيوية ألا تنسى أن هناك صنوفاً محزنة من الاختيار، شبهة باختيار العجوز (فاوست) الذي أراد أن يستبدل شباباً جديداً بروحه، فخسر روحه، وأضاع الشباب.
***