الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِكرة الأفرسيَوية وَالعَالميّة
((إني لآمل أن يبذل جميع المندوبين الذين اجتمعوا هنا من أقطار آسيا كلها قصارى جهدهم في سبيل توحيد العالم))
غاندي (في مؤتمر العلاقات الآسيوية 1946م)
ربما يطلق المؤرخون لفظ (التعايش) على المرحلة التي تعقب توتر الحرب الباردة في العلاقات السياسية بين الدول الكبرى. ومع ذلك فإن المؤثرات التي عملت على بلورة فكرته ستستمر طبيعياً في مهمتها، وستغير فيه مضمونه الأخلاقي وأهميته السياسية. وسيظهر شيئاً فشيئاً أن (التعايش) لا يقصد به إنقاذ حالة جامدة متفاوتة في قدمها، وليس معناه أن ينظر كلا الطرفين إلى الطرف الآخر دون أن يتقدم أو يتأخر، بل سيظهر أنه لا يمكن للشعوب أن تتعايش في ظل الرأسمالية والشيوعية على محور واشنطن - موسكو، وفي ظل الاستعمار والقابلية للاستعمار على محور طنجة - جاكرتا.
وإذن فعلى الرغم من أن لفظة التعايش قد تبقى خلال التاريخ، فإن فكرتها ستتغير ضرورة، فالعوامل الصناعية والعوامل الروحية التي أوجدتها، ستستمر في تكييفها طبقاً لحالات جديدة، ومن المحتمل خلال ربع قرن أن تتجاوز الفكرة التي تحتويها الكلمة مدلولاتها الحالية، فتظهر في شكل جديد تماماً. إذ يبدل من حالها التطور، محدث كل تغيير. وستحمل الكلمة خلال تطورها قدراً أكثر من المدلولات الأخلاقية والأدبية، إذ إنها من الناحية السياسية قد أثرت بألوان جديدة تدل على حيويتها، كما تدل على حيوية الغصن براعمُه التي تنجم في الربيع.
ففي نيودلهي وبكين تغنى أصحاب المبادئ الخمسة بفكرة (التعايش الإيجابي) ومنذ عودة بولجانين وخروتشيف من رحلتهما فى آسيا، تحدث العالم عن فكرة (التعايش في ظل المنافسة Co existence compétitive) ، وهكذا ينمو الموضوع في جميع الاتجاهات، وفي سائر الميادين، وإذا بالتعايش قد أصبح بنداً جوهرياً في اثني عشر اتفاقاً دولياً، تعين على الخريطة بقاعاً تتجه إلى الاندماج في (منطقة سلام).
فجميع بوادر النمو تدل على أن هدنة جنيف، أو فكرة التعايش المقصودة في هذا الباب هي شيء ينبغي أن تتجاوز مرحلته، وليست هذه البوادر هي الدلائل الوحيدة التي يجب أن نحسب حسابها في ميزان الحالة الدولية، وإلا وقعنا في العيب الشائع الذي يتصل بجذور أزمة القرن العشرين، أعني: النظر إلى جميع المشكلات الإنسانية من زاوية أوروبية.
فتجاه الحالة على محور واشنطن - موسكو يجب أن نأخذ في اعتبارنا الحالة على محور طنجة - جاكرتا، فباندونج وجنيف متكاملان في الاطراد العالمي، فإذا انفصلا، فربما لا تحل كلتاهما بمفردها المشكلة العالمية، فالتعايش السياسي على محور (القوة) يسيطر بلا شك على الحالة العالمية بسبب ما لديه من عناصر النظام الصناعي، وعوامل القوة، والإمكانيات المادية التي تدخل في الحساب. ولكن إعطاء الأسبقية لحل جزئي لا يخوله أن يعالج كل شيء. فبالأحرى لا يمكن لحلّ يضعه مؤتمر باندونج منفرداً أن يقطع برأي في الحالة العالمية. فكل محاولة لإرجاع هذه الحالة إلى حل جزئي لن تكون سوى محاولة خائبة، ورجعية. ونوشك في حالة كهذه أن نبعث الازدواج الجغرافي السياسي من قبره، وهو الذي يتمثل في الاستعمار والقابلية للاستعمار مثلما كان سائداً في العهد الذي كتب فيه جوليس فيرن ( Jules Verne) قصته المشهورة (ميشيل استروجوف (1) Michel Strogoff) ، ونوشك في حالة أخرى أن نشهد على محور
(1) هي قصة تناول فيها الكاتب الفرنسي المشهور موضوعاً اقتطفه من ملحمة الاستعمار الروسي زمان القيصر في آسيا الوسطى.
طنجة - جاكرتا حدوث محاولة لمواجهة حل من حلول القوة بحل آخر مستوحى من القوة، وربما من الضعف والاستسلام.
فهناك دائماً وحدة في المشكلة الإنسانية تنبثق عن المصير المشترك، وهي من حيث كونها مجرد مفهوم ميتافيزيقي متفاوت في درجة وضوحه- كانت تجعل المؤرخ الذي يتجاهل هذا التصور للأشياء أو يعارضه في موقف يمكنه ويحق له فيه أن يجهلها. ولكنها قد أصبحت واقعاً مادياً، فوحدة التاريخ تتأكد في القرن العشرين بطريقة لا تدع مجالاً للفكرة الكلاسيكية المألوفة، فكرة (الوحدات التاريخية) المستقلة، حيث تفهم كل وحدة في حدودها، فلقد دخلت الإنسانية مرحلة لم يعد ممكناً فيها تحديد (مجال الدراسة) الخاص على طريقة جون توينبي ( J. Toynbee) ولعله للمرة الأولى ينبغي على التاريخ أن يضع مشكلته منهجياً في المصطلحات الميتافيزيقية. فالفكر الديني الذي أبعده التطور الديكارتي، وجهود الباحثين والعلماء عن نظريات التاريخ قد عاد إليها بطرق عقلية حتى لو عبرنا في مصطلحاته عن المشكلة الأساسية التي تتصور طبقاً لها جميع المشكلات الأخرى لعبرنا عنها بمشكلة خلاص الجنس البشري، وتلك هي المرة الأولى التي تواجه فيها المشكلة مواجهة كلية، ولقد كان اعتناق تشرشل لفكرة التعايش حدثاً يسجل هذه القضية في صحوة هذا الضمير. ولكن المشكلة تتضح على حقيقتها أكثر من ذلك في تفكير الرجل المتدين الذي يرى أن توقع التاريخ يصب دائماً في الأبدية، لأن ضميره يضيء المشكلة من داخلها.
وفي طليعة التفكير المسيحي يعتبر (عمانوئيل مونييه Emmanuel Mounier) هو الذي أوضح المشكلة بهذه الطريقة، إذ هو يرى (وحدة تاريخية) يأخذ كل حدث فيها مكانه بالنظر إلى الخلاص المشترك، وإلى تنفيذ إرادة الله في الملك، ففي تفكير التدين الذي يرى أن (الإنسان صورة من خالقه) يوجد تناسب بين العنصر الإنساني والعنصر الإلهي، في مستوى معين، والحقيقة الميتافيزيقية بالنسبة إلى تفكير كهذا تسمو، ولكنها لا تنفي الحقيقة الزمنية. فعند مونييه ( Mounier)
يجب أن تحل مشكلة (الخلاص المشترك) فيما يتصل بالإنسان باستكمال سيطرة الإنسانية.
وهذا الحل الزمني يكمن في حتمية التاريخ إذ لا يقابل الخلاص إلا الفناء والعدم، وإذن فسيحقق التاريخ هذا الحل، ولكنا لو تساءلنا عن الطريقة التي سيمكنه بها أن يحققه، فسنجد أمامنا ثلاثة حلول مترابطة في الذهن: الحل الذي يصدر عن منطق الإنسان، والحل الذي يصدر عن سياسة الحكومات، والحل الذي يصدر عن حتمية التاريخ التي هي في نهاية الأمر العامل الذي يحدده ويفرضه.
والواقع أنه إذا كان للمنطق وللسياسة أن يزيفا الحل أو ينحرفا عنه، فإن التاريخ معصوم لا يخطئ
…
والمشكلة هي أن نعرف ما إذا كان لهذه الحلول الثلاثة أن تلتقي في هذه اللحظة، وأن نلاحظ بقدر الإمكان نقط الاختلاف التي قد تسجل ضمناً تخلف الضمير عن التاريخ.
فهل لدى الإنسانية منطق خلاصها؟ وسياسة خلاصها أيضاً؟ .. وهل في تيار تاريخها الحالي عناصر خلاصها؟
إن المنطق إنساني ليس فقط ديكارتياً، عقلياً، متصل الحلقات، مصنوعاً، هو ليس فقط منطقاً اجتهادياً، يقوم على قضايا منطقية، منتقلاً من مقدمة إلى نتيجة، كما ينتقل عمل النساج من خيط إلى خيط. فإن له أيضاً صورته المفاجئة التي تكمن في إلهام الشاعر، وفي خط النور الصادر عن العبقري، وفي الوحي المفاجئ لإنسان يخترق بنظرة واحدة حجب الأسرار، وفي مشاهدة النبي الذي يقرأ التاريخ قبل وقوعه. وقبل أن تصبح قراءته أمراً يقدر عليه القانون.
ولقد كان للقرن العشرين رجال وجهوا ضميره وأرشدوه، وشهود كبار على مأساته، وإن إلهام هؤلاء الرجال لهو الذي يطابق المنطق الإنساني في أتم أشكاله، وفي أسمى صوره.
ولقد كانت لحظة مغمة من لحظات المأساة، تلك التي اندفعت فيها قوى هتلر لغزو أوروبا، واندفعت فيها الجيوش اليابانية لغزو (آسيا الكبرى). أي تلك اللحظة التي تدفقت فيها أضخم موجة (لإرادة القوة) على العالم، ففي هذا المنعطف المظلم من التاريخ أرسل غاندي من مقر قيادته في عام (1941م) نداءه المشهور إلى اليابانيين جميعاً مندداً فيه بقسوة- نعرف معناها عنده- بالجنون الامبراطوري للمعتدين، فقد كان يرى في هذا الجنون أخطر تحد للمصير الإنساني. ولقد كان غاندي يرى في الأحداث المؤلمة التي قذفت بهذا التحدي وفي الظروف المحزنة التي تحوطه نذيراً للضمير الإنساني لكي يواجه مشكلة خلاصه. ولقد واجهها بنفسه حين توجه إلى اليابانيين قائلاً:((لقد استسلمتم لطموحكم إلى السيطرة، ولكنكم لن تتوصلوا إلى تحقيق هذا الطموح، وربما صرتم مسؤولين عن تجزئة آسيا، فتجعلون من المستحيل- من حيث لا تدرون - أن يحدث الاتحاد العالمي، وأن تتم بين الدول أخوة من غيرها لا يمكن أن يكون للإنسانية أمل)).
وبعد انتصاراتها الصاعقة تخلت اليابان فعلاً عن جميع فتوحاتها، وبذلك لم يخطئ غاندي فيما قدره لقوة اليابان.
ولكن مأساة إمبراطورية الميكادو لم تكن هي التي تهم في نظره، فإن الذي كان يهمه- ويهمنا الآن- إنما هو المأساة الإنسانية، فلقد شعر بها في تلك اللحظات المحزنة، ولم يكن يرى أملاً للإنسانية وراء (الاتحاد العالمي).
فالمشكلة كانت إذن بالنسبة إلى ذلك الضمير السامي هي مشكلة (الخلاص المشترك)، وهكذا واجهها غاندي، وصاغ لها حلاً في النفثة من الإلهام نفسها. فهل كان هذا هو الحل المنشود ولم يكن مجرد مسكِّن أو ملطف أو وسيلة عاجلة لاجتياز بعض الصعوبات المؤقتة، ولحل بعض المشكلات الصغيرة، ولمواجهة واقع خاص ناتج عن الأزمة في حياة شعب أو أمة؟ وهل كان حقيقة
لحل المشكلة الإنسانية كاملة، في عمومها؟ أي هل كان حل الأزمة الأصيلة التي ما فتئت تتجدد منذ خمسين عاماً في جميع الأزمات العابرة؟
لقد كان المهاتما يدرك تماماً أن حله قد يذهل، بما أنه يقوم على غير أساس القوانين السياسية التقليدية، ولأنه كان يتخطى الحدود المعتادة للقوميات والعنصريات، والعصبيات الدينية. ولا شك أنه قد أبدى لهذا السبب- وبلمسة خفيفة- مخاوفه من أن يرى منطق الواقع العاجل يطغى مؤقتاً على منطق التاريخ.
فهو يخشى، في ساعة ندائه، أن تعمي المطامح الإمبراطورية والانتصارات المؤقتة الشعب الياباني فتعرض (الاتحاد العالمي) - حسب تعبيره- للخطر من حيث لا يدري.
والاتحاد العالمي كان يبدو في نظره أنه الحل الذي ينطبق على طبيعة المشكلة، وعلى اتجاه التطور التاريخي، وأتى فعلاً هذا التطور يمده أكثر فأكثر بما يدعم وجهة نظره، فآراء غاندي بدأت تدخل ضمن توقعات التاريخ، والحل الذي أدركه منطقه الملهم بدأ يتفق مع الحل الذي ينبعث من الوقائع ذاتها.
إن طرق التاريخ تمر بعقل الإنسان، وفكرة (الاتحاد العالمي) تحوم في العقول.
ولقد وقف عباقرة هذا القرن- من تلقاء أنفسهم- معبرين عن هذه الفكرة، كما فعل غاندي في ندائه:((إلى جميع اليابانيين))، ولقد أيدت الأحداث نظريتهم، ولا شك في أنه لم يكن مجرد صدفة أن تتكون (حركة عالمية من أجل اتحاد عالمي)، وليس من باب الترف العقلي أن يقدم أشهر ممثلي الفكر المعاصر ضمانهم الأخلاقي والعقلي للفكرة المذكورة فقد انعقد من أجل تحقيقها مؤتمر دولي في باريس في أغسطس (1955م). وأتت الشهادات القيمة لتنزهها عن أن تكون محض خيال، أو ما يشبه ما يصدر عن شباب الجامعات من النوادر، بحيث أبرزت اتجاهها التاريخي ومن بين هذه الشهادات تلك التي أداها (برتراند راسل Bertrand Russel) وهي شهادة محددة ثمينة.
فلقد تكلم الفيلسوف الانجليزي في الواقع عن ضرورة قيام حكومة عالمية ( Gouvernement Mondial) باعتبارها وسيلة نهائية لحل المأساة الإنسانية، وفي حديث خاص تفضل به إثر المؤتمر قرر أن حدوثها مسجل في التطور الحالي، وأنها تعدّ الحل الطبيعي للأزمة التي يتخبط فيها العالم.
فالفكرة- كما نرى- دخلت التاريخ تحت الإشراف السامي للفيلسوف والرجل المتدين، وكسبت حق الإمامة في الضمير وفي الذكاء الإنسانيين. إنها تتمثل في مقياس العصر، وفي ضروراته المعترف بها، وفي اتجاهه ونحن-نجدها أيضاً حتى في حلم عالم الطبيعة (روبرت أوبنهايمر Robert Oppenheimer) وفي فكرته المسيطرة عليه، حين ينظر، إلى الأشياء نظرة العالم وأستاذ الجمال معاً، فهو يرى أن مستقبل الإنسانية آيل إلى (الفوضى العالمية)، تلك التي يخشى عواقبها المبددة العبقرية الإنسانية، ولكن هذه المخاوف الصادرة عن أستاذ الجمال لا تهمنا، فهي مستوحاة من توقع خطر جديد يصدر عن برج بابل الوهمي الذي في نفس أستاذ الجمال؛ إنما يهمنا نظرة العالم، الذي يرى أن عهد العالمية قد حان مع العهد الذري، أي مع نتائج النمو الصناعي، ومع الفتوحات العلمية، التي أتاحت لطاقة الإنسان أن تسيطر سيطرة تامة على الكرة الأرضية.
أما فيما يتصل بخطر التبديد الذي يهابه، فربما كان هذا الخطر صورياً أكثر منه واقعياً. أو ليس لآثار التشتت الذي تفرضه الوقائع المادية على حياة الإنسان نظير هو الأثر المضاد الذي يتمثل في عملية استبطان يقوم بها الإنسان للدفاع عن كليته ضد ما يهددها بالتبديد من الخارج، هذا الميدان خاص بعلماء النفس.
وعلى أية حال، فإن رجل الساتياجراها، والفيلسوف وعالم الطبيعة قد وقفوا منذ ذلك الحين أمام واقع هو:(العالمية Le mondialisme)، وليست هذه فكرة، أو مجرد رغبة، أو خيالاً، أو مبدأ أخلاقياً، بل إنها تصريح لعصرنا، وغاية محتومة لتطورنا الراهن، وضرورة تفرضها الظروف الصناعية، والنفسية التي بلغها العالم.
وليس من شك في أن هذه الضرورة هي التي توحي إلى جون توينبي ( J. Toynbee) بنظرية عن النظام التعاوني في الحكومة العالمية، وفي هذا النظام يرى المؤرخ الإنجليزي الكبير أنه الطريق الوحيد للخروج من الأزمة الراهنة، والوسيلة الوحيدة أمام الإنسانية للخلاص من دكتاتورية عالمية يسميها (دولة عالمية Etat Universel تفرضها القوة)، وهي التي ستكون في نظره النتيجة المحتومة للنزاع العالمي الثالث.
إن الدورة الجهنمية التي تكاد تنتهي دائماً بحرب جديدة، والتي أصبحت مع نمو القوة غير المألوف لا تتفق مع بقاء الجنس البشري نفسه؛ هذه الدورة لا يمكن أن تمحى إلا بنظام عالمي صالح لإزالة أوجه التعارض الانفجاري في العلاقات الدولية، فمشكلة الحرب كما فسرها كلوزوفيتز ( Clausewitz) هي كل مشكلة هذا التعارض الانفجاري، أي التعارض الذي لا يمكن أن يزول بالوسائل السياسية، ولا يمكن أن ينحل بدورة تطورية، فصورة الظاهرة تتحدد تقريباً بما يطلقون عليه في مصطلحات الكهرباء (تيار الانفصال Courant de rupture)، إذ تنطلق الشرارة عندما يحدث قطع وانفصال مفاجئ في الجهاز الموصل، أي في الواقع عندما يحدث تغير في مادة هذا الجهاز، ويمكن نقل هذه الظاهرة نفسها إلى الوسط الإنساني فإن التعارض يصبح فيه انفجارياً إذا ما حدث انفصال فكري وعنصري، فإذا بشرارة القطع تنطلق في منطقة الجرح على حدود فكرة أو جنس، فهي إذن الحرب والعنصرية والاستعمار، أي جميع صور التعارض العنيفة. ومن الوجهة الظاهرية نرى هكذا أن مشكلة السلام والحرب في العالم هي مشكلة التكوينات العالمية، والشرارات التي تنطلق إنما تدل على أن العالم ليس متجانساً، وهي تبرهن أيضاً على أن من الواجب تحقيق تجانسه- وبعد الحربين العالميتين على الأخص- لتحاشي انطلاق شرارة الحرب الثالثة التي تهدد بقاءه نفسه، وهذه الاعتبارات ترد مشكلة الحضارة إلى المستوى العالمي، إذ تضعها في هذا المستوى. وهنا تواجهنا مرة أخرى قضية (الكومة) المتنوعة الأجزاء، و (الكل) المتوازن المتجانس.
وإذا دلت هذه الاعتبارات على وجوب تنظيم العالم من الناحية السياسية طبقاً لخطة (حكومة عالمية) فمن الناحية الاجتماعية تدل على وجوب تحقيق هذا الوضع في صورة (حضارة) عالمية وبهذا الشرط المزدوج يتحقق الحل الحاسم لمشكلة (الخلاص المشترك). فأفكار شهود العصر الكبار تتلاقى إذن مع الضرورات الداخلية لتطوره، ولقد دخلت الإنسانية في عهد العالمية تحت وخز ضرورات هذا التطور، وبفضل الدفع الروحي الذي حظي به العالم على يد رواده الكبار. وبذلك تأيد المنطق العميق الذي قال به عباقرة العالم، بمنطق الواقع الغلاب، إذ ربما يصبح العقل الإنساني عديم القيمة إذا لم يتوافق مع اطراد الأحداث التي تطبع إرادة الله على صفحات التاريخ، كما يكون آثماً من يحاول تحريف مجرى التاريخ كأنما هو يعارض إرادة الله.
ولا شك في أننا نهز أكتافنا في كبرياء حين تتمثل هذه الإرادة في هيئة نموذج طريف مثل (المواطن العالمي)(1).
أما الذين يزدرون الفكرة أولئك المتأصلون في نزعات الأنانية المستعصية، وفي أسطورة الأجناس المختارة، أو الشعوب المختارة فإنهم يجدون في هذه النماذج الطريفة أدلة ضد ما يطلقون عليه (الأسطورة العالمية)، إن الازدراء يقيهم من التفكير، ومع ذلك فهو لا يمنع التاريخ من التقدم دون تراجع.
والعالمية في مجراها ليست أطروفة من مفاجآت التاريخ، وليست اتجاهاً عقلياً أو سياسياً، وإنما هي ظاهرة القرن العشرين، وهي في واقعها المادي نتاج رائع لمقدرة الإنسان، وللمستوى الجديد الذي رفعت إليه هذه المقدرة ألوان نشاطه حتى أصبحت العالمية غريزة القرن العشرين، ومعناه. هذا هو الواقع الذي أوحى إلى (مونييه) أستاذ الوجودية المسيحية بالاعتقاد في وحدة التاريخ حين أدركه في الإطار الميتافيزيقي الذي وضع فيه مشكلات الإنسان، والوجودية السارترية
(1) هو جاري دافيز Gary davis المواطن الأمريكي الذي سلم في جنسيته ودعا إلى القومية العالمية.
نفسها، تلك التي تنعدم لديها الأرضية الميتافيزيقية، تدرك هذا الواقع تماماً وتدرك فيه مدى الضرورة، لأن يتجاوز حدود نفسه كي يبلغ (ضميره الجماعي) في أعماقه.
وعموماً يعتبر هذا هو القياس الذي تتيح لنا أن نصدر على السياسة أحكاماً مطلقة، كما نصدرها على مدى تأثير الاتجاهات العقلية تبعاً لاتفاقها أو تضادها مع مجرى التاريخ، وهذا أيضاً هو القياس الذي يسمح لنا خاصة بأن نختصر بعض طرق التاريخ كي نحررها من بعض (أوزار الماضي) التي تمثل منذ ذلك الحين جزءاً متقادماً من التجربة الإنسانية، وهي التجربة التي لا يمكن أن تتكرر بالصورة نفسها دائماً مع تغير الظروف تغيراً كلياً.
وتلك هي الضرورة التي تحتم اجتياز بعض المراحل التي لا معنى لها سوى أنها تذكار تاريخي.
والواقع أنه إذا كانت العالمية قد انطلقت فجأة في منتصف القرن العشرين، فليس معنى هذا أنها لا تستمد بعض عناصرها الفكرية والاجتماعية من أصول بعيدة فإنها اتبعت فعلاً تطور النشاط الإنساني. اتبعته كتيار في باطن التاريخ، يتفجر في المكان الذي يصل فيه هذا النشاط إلى المستوى العالمي.
ولقد تفجرت هنا وهناك تلقائياً، في ميادين كثيرة تجاوز فيها النشاط نطاقه المحلي- الخاص أو القومي- فوصل إلى مستوى يعم فيه سطح الكرة الأرضية، فإذا بالعالمية تظهر بفعل امتدادها الذاتي، وهناك أنواع من النشاط كثيرة وصلت إلى هذا المستوى بسبب توسعها منذ قرن من الزمان، فهي مرتبطة بجهاز توزيع عالمي ( Standard) ينسقها، والنشاط النموذجي الذي اتبع هذا التطور هو الاتصال بين الناس لشؤونهم الخاصة.
فلقد كان نقل البريد أمراً معروفاً في القديم، حيث كان منظماً لخدمة الدول والأمراء، ولكن تنظيمه الحديث إنما يرجع في أرروبا إلى عصر هنري الثالث،
الذي أوجد في عام (1576م) نظام (السعاة الملكيين) الذين كانوا يحملون بريد الملك.
ولكنهم كانوا يأخذون أحياناً (طرود الأفراد)، فلدينا إذن بُعد نقيس منه امتداد نشاط معين بدأ من إطاره الخاص، وهو ما يهمنا ملاحظته، يتجاوز النطاق المحلي منذ قرون، وطبيعي أنه كلما مد الفرد نشاطه، أبعد بريده في الشوط، وتزايد أيضاً حجمه أو كمه. ولقد يسرت هذا عوامل هذا النمو للإنسان- بصورة ما- (حضوراً) أو سياحة هائلة في العالم، بحيث أصبح شعاع هذا (الحضور) المتزايد مقياساً للتقدم الصناعي، أي لمقدرة الإنسان في مجالي تاريخه: مجال المكان ومجال الزمان.
ولقد تجاوز هذا الحضور أولاً الحقل المحلي في القرية، ثم المدينة ثم وصل بعد ذلك إلى المستوى القومي، ثم امتد شعاعه مع النمو الصناعي، فأصبح دولياً، وأخيراً عبر جميع الحدود فأصبح عالمياً.
ولا شك في أن تطور الوظيفة قد فرض تطوراً على الأداة، فتطور التنظيم في الاتجاه نفسه، فإن مراكز البريد في أوروبا قد صارت شيئاً فشيئاً هيئات وطنية ذات شأن، تخضع لرقابة الدول، ثم إنها بفضل عوامل التوسع نفسها قد ارتبطت أخير اً بجهاز توزيع عالمي ( Standard) تكوّن عام (1875م) باسم (اتحاد البريد العالمي) وهو يؤمن سياحة الإنسان (العالمية).
والاتجاه إلى الارتباط بجهاز عالمي ليس قاصراً على ميدان المواصلات، إلا أن جهاز البريد يعدّ بقدر ما تلخيصاً أو مقياساً للنشاط الإنساني، فهيئة الأمم المتحدة نفسها تعد في ميدانها جهازاً عالمياً ( Standard) ترتبط به السياسات القومية المدفوعة دائماً وبالعوامل نفسها إلى اجتياز الحدود القومية.
والإنسان الآن- أكثر من ذي قبل- يرى نفسه في مستوى عالمي، وهو يفكر ويعمل في هذا المستوى في جميع الميادين، تلقائياً وطبيعياً. ولقد حتمت رسالته الثقافية بدورها- تماماً كرسالته المصلحية البسيطة- وجود (جهاز
عالمي)، وهو جهاز اليونسكو ( U.N.E.S.C.O) حيث تتلاحم شبكة الثقافة الإنسانية، فهو بمثابة قلب ذي نبضات عالمية تنقل في جميع الاتجاهات عناصر الحياة الضرورية لنمو الحضارة، كما ينقل القلب العضوي العناصر الضرورية للحياة البيولوجية ولنموها. واليونسكو تؤدي- في الواقع- هذا الدور، وهي تضيف إلى القيم الثقافية الخالصة مغزى عملياً في المقدرة التأثيرية، في صورة تنظيم عالمي للثقافة.
وربما لا يستطيع هذا (القلب) الآن أن يوصل (دم الثقافة) المحيي إلى بعض الأجزاء المحرومه في العالم، ولكن تنظيم الحياة الثقافية كسائر أنواع النشاط الإنساني يتبع تطوراً مستمراً يتجه أيضاً وجهة عالمية.
ولقد مر الجهاز الثقافي بمرحلة (الصالون الأدبي) ثم بمرحلة الأكاديمية الإقليمية التي كانت في فرنسا قبل النهضة وإبانها، تم بمرحلة الأكاديمية القومية، وأخيراً بجهاز عالمي هو جهاز اليونسكو، وإن هذا التطور ليطبع بطابعه جميع ميادين الثقافة، وجميع أشكالها المادية، فتنظيم المؤتمرات العلمية، حيث يبسط العلماء من أقطار الأرض آراءهم، يخضع لهذا التنظيم الذي يشمل- بلا جدال - جميع نواحي التطور في القرن العشرين.
وتوحيد المعرفة هكذا وتنظيم المنتجات الصناعية أمارة على الزمن الجديد الذي ترتبط به الإنسانية الآن.
والسنة الجغرافية الطبيعية (1957 - 1958م) تلك التي تجري ترتيباتها الآن في العالم كله تسجل بكل تأكيد لحظة باهرة في التاريخ الإنساني، وهي لحظة يتكون فيها العمل العلمي ويبدأ في مستوى عالمي. ولقد تخلقت هذه الفكرة في ذهن العالم الطبيعى جوس ( Gauss) الذي فكر في تعاون علمي لتحديد المجال المغناطيسي للأرض من (1836 إلى 1841م) ولقد خطت هذه الفكرة طريقها في العالم كما نرى، إذ بعد ذلك بقليل وجدت السنة القطبية الدولية (1883 - 1883م) وهي التي سجلت مرحلة في مضي هذه الفكرة نحو غاياتها (العالمية)،
التي قد تتوافق مع السنة الجغرافية الطبيعية الحالية. والحق أنه للمرة الأولى سيعمل العلماء من سبع وثلاثين أمة في مجموعات، طبقاً لبرنامج علمي مشترك، وخاضعين لتوقيت موحد وأن التاريخ يلقي هكذا من آن لآخر على مسرح (العالمية) ضوءاً طبيعياً
…
وفي ضوء هذا النهار الوليد يقوم الإنسان بدوره (العالمي) في جميع أشكاله
…
فمكتب العمل الدولي الذي يعمل في جنيف يعد طبعاً نظيراً لاتحاد البريد العالمي الذي تعمل إدارته في برن.
وحتى (الجمعية الوطنية للمحاربين القدماء) قد اتجهت منذ حين إلى أن ترتبط بجهاز، أي باتحاد عالمي للمحاربين القدماء، بينما يقوم في زيورخ ( Zurich) تنظيم عالمي للتسلح الخلقي. وهكذا كلما تجاوزت مقدرة الإنسان المستويات المحلية، فإن نشاطه يعبر الحدود القومية، ليتلاقى ويتعاقد ويترابط في (أجهزة) تنسج شبكة (العالمية) التي تنبسط تدريجياً على العالم (1).
وفكرة التعايش نفسها ترجمة عن الظاهرة في المجال السياسي والأخلاقي إذ إن الإنسان حين انتصر على الزمان وعلى المكان فإنه قد هدم الخطط الاستراتيجية بتصغيره لحجم العالم، فالطائرة التي كانت تذهب من كوبنهاجن إلى لوس أنجليس ( Los Angeles) عن طريق الأطلنطي، يمكنها الآن أن تأخذ طريق القطب الشمالي. والطائرات القطبية التي تلتقي فوق جرينلند قد قصرت هكذا المسافات، ووفرت الساعات، فهذا التصغير للعالم يقلب جميع الخطط الاستراتيجية .. والتعايش السياسي نتيجة هذا الانقلاب.
وهذا التصغير للمكان يعدُّ كأنه (تكبير) للإنسان، وامتداد ورحابة في نطاقه الشخصي (2) إذ في هذا المستوى يصبح العالم وطنه، وميدانه المحدود، و (مجاله الحيوي) العادي.
(1) في المؤتمر البرلماني الدولي الذي انعقد في لندن في سبتمبر 1957م عرض السناتور الأمريكي كيفوفر مشروع إنشاء بنك دولي للتغذية.
(2)
نحن ندرك أيضاً أهمية القمر الصناعي الروسي في (تكبير) هذا النطاق.
وهكذا تدخل العالمية في نفسيته، فنجدها في أعمال ذلك المتحمس الطيب القلب (المواطن العالمي)، وأيضاً في أعمال الرجل ذي الهالة الصوفية جورجيو لابيرا ( Giorgio Pira) - العمدة المسيحي المتأمل، تائر فلورنسا- الذي يأخذ عصا السائح لينشر في أنحاء العالم رسالته العالمية في صورة ميثاق (للصداقة والاتحاد) بحيث يشرك في إمضائه عمد جميع العواصم. وهكذا تصبح العالمية في منطق الناس، وفي منطق الواقع السائد، وهي تخص شيئاً فشيئاً غريزة الاجتماع في القرن العشرين، ونفسية هذا القرن أيضاً، وإنما يتسنى هذا الحل العالمي تلقائياً للفكر الذي يواجه مشكلات الساعة، في مختلف الميادين فأمام مأساة البؤس؛ وأمام المشكلة السكانية في إيطاليا قدر مفكر إيطالي اشترك في تحقيق عن هذا الموضوع، حيث قامت به مجلة الفكر ( Esprit) عدد (سبتمبر- أكثربر 1955م)((أن الحل يصدر عن تعاون يتجاوز القومية Solidarité supranationale)) مقرراً أن الأمر يتعلق في عقله بأشياء مادية أكثر من مجرد التعاون (الشكلي وغير الحي)، أي بتعاون منظم لا طبقاً لرغبات الخيال والوهم، بل طبقاً لمقتضيات الحال. فبذور هذا الحل الذي سينهي الأزمة العالمية توجد إذن في الواقع وفي الأفكار، والتاريخ في طريقه إلى أن يؤتيها هكذا حلها عن جميع طرق التفكير. والآن نسأل أنفسنا: أي (سلوك) منهجي طبقه هؤلاء الرجال الذين أمسكوا بأيديهم مسؤولية قيادة الشعوب والأمم، على هذا التطور كيما يعجلوا بحركته. هل هم قد طبقوا في العالم سياسة الخلاص؟
إن صعوبات هذا الطريق ذات طابع ثقافي وسياسي في آن واحد، ونادر أولئك الأساتذة من رجال الفكر المعاصرين الذين يشجعون على فهم التاريخ (في عمومه ووحدته) فإن الجهد الكبير من أجل التركيب الذي قام به جون توينبي في عصرنا لا يتفق مع الاتجاه التربوي، فإن العلماء لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم لمخاطر (توجيه) التاريخ، فهم يكتبونه بقراءة ماضيه، ويمنعون أنفسهم من القراءة في مستقبله، ومن أن يبحثوا فيه عن اتجاه، وليس من السهل طبعاً أن نقرأه مسبقاً، بسبب ما غيبه الله عنا من إرادته وأوامره؛ ولكن توجد أحياناً بين
السطور السرية أضواء كاشفة عن اتجاه التاريخ، تلك الأضواء التي كان عمانويل مونييه يحب أن يرى فيها مظاهر (تحديه)، وليس من الممكن أن تدرك النظرة بين السطور قصة مفصلة، وإنما تدرك مثلاً دلائل توجيه عام، يمكن لأي سياسة أن تحدد اتجاهها بالنسبة إليه. هذه الدلائل موجودة فعلاً كما رأينا، وهي تخط خطاً للتطور (العالمي) يمكنه أن يحدد للسياسة اتجاهها، والأمم المتحدة خطوة هامة في هذا السبيل، ومع ذلك فإن للسياسة الحالية خموداً، وثقلاً من (أثقال الماضي)، يمنعها من أن تتكيف للتعجيل بسير التاريخ.
والواقع أن المشكلة بلغة السياسة تنبع عن تطورين، إذ لا يمكن تحقيق (مجتمع عالمي متعايش) - كما أراد جمال عبد الناصر في كلمته الافتتاحية في باندونج- دون إزالة الاستعمار والقابلية للاستعمار على محور طنجة - جاكرتا، ودون إزالة الرأسمالية والشيوعية على محور واشنطن- موسكو.
وإن إزالة هذا التناقض المزدوج لهي التي تؤتينا الحل السياسي للمشكلة العالمية، وفي ظل هذا التوقع يتكامل باندونج وجنيف، ويأخذان كل مغزاهما التاريخي.
أما من الناحية العملية فإن المشكلة- كما نراها- توضع بطريق الأولوية على محور واشنطن - موسكو الذي يعد، مما لديه من طاقة الحرب المتكدسة أخطر منطقة في العالم الحالي، فهل لدى هذا المحور استعداد لتطور سلمي؟ وهل من الممكن أن نرى المقاييس تتقارب على جانبي ما يسمى (بالستار الحديدي)؟.
فإن وجد هذا الاستعداد فمن الواجب أن يظهر- دون شك- في صورة اتجاه تدل عليه بصور متفاوتة دلائل تقارب فعلي، إرادي، أو لا إرادي، أو حتى ضد إرادة المتخاصمين.
وهناك واقع مؤكد، نأخذه كنقطة بدء في التاريخ هو: أن روسيا قد فقدت اتصالها بالمجتمع البورجوازي الغربي منذ ثورة أكتوبر (1917 م) فمنذ ذلك الحين لم يعد ذلك الاتصال إلا تبعاً للصدفة المحضة، خلال الحرب العالمية الثانية،
في صورة (صلات دبلوماسية) تفرضها حالة القوة القاهرة، فضرورات الحرب ونتائجها هي التي فرضت هذا الاتصال، ولا سيما في (يالتا) و (بوتسدام) وقد دلت الأحداث التالية على أن هذا الاتصال كان مؤقتاً، فإن التضاد الشيوعي- الرأسمالي الذي خدره الشعور بالخطر المشترك قد عاد إلى الظهور عقب هزيمة الجيوش الهتلرية مباشرة، وقد حركته الصرامة المذهبية من ناحية، والعوائد البورجوازية من ناحية أخرى.
ولكن الخصمين بتسابقهما في مضمار القوة قد خلقا فعلاً (خطراً مشتركاً) جديداً، قد يهدئ مرة أخرى من خلافهما ويعيد الاتصال الضروري فيما بينهما، كما فعل الخطر الهتلري فيما سبق.
ولو أننا قومنا الأشياء بلغة القوة فسنجد أن جنيف هي نتيجة هذا التسابق الذي تدفق منه الخطر المشترك الجديد: الخطر الذري. وفي خلال ذلك هنالك عوامل أخرى تؤثر من الجانبين في هذا الاتجاه، اتجاه التقارب. فلقد ألقت مصيبة الحرب العالمية الثانية بذوره في مختلف الميادين، على طول محور واشنطن - موسكو فهيجت هنالك شكوكاً. وأنعشت هنا يقيناً وأملاً، وهي بتبيانها لكلا المتخاصمين أنه لا يملك القوة الكاملة وحده، وأن (الحقيقة) ليست ملكاً خاصاً به، قد أوضحت له معنى (حقيقة الآخرين).
والواقع أن التبادل اللاإردي للقيم لم ينقطع مطلقاً منذ انفصال عام (1917م)، ومع ذلك فإن الحرب قد عجلت به حين أكدت بصورة محزنة أحياناً وجود بعض الحقائق الإنسانية. ويمكن في الإطار الديني أن نذكر أدلة أكثر إفصاحاً، إذ إن الثورة الروسية كانت قد أوجدت فصلاً عميقاً جداً هو: الفصل الروحي، ونحن لا نستطيع دون شك أن نتحدث عن شيء يعد إعادة الاتصال الكامل في هذا الميدان، ولكن لا يمكن أن نجهل الواقع، وهو أن الحياة الدينية قد عرفت نوعاً من البعث إبان الحرب الأخيرة. ولا يمكن أن نجهل أيضاً أن القادة السوفييت أنفسهم قد زكوا هذا البعث، لا بروح دينية حقة، وإنما
بحكم الواقع حين أباحوا للمرة الأولى منذ الثورة جزءاً من الواقع الديني في حياة الشعب، فستالين نفسه قد مد يده للدين، كأنما يمدها إلى عصا النقذ، ولم يكن هذا بكل تأكيد لإنقاذ روحه اللادينية، بل لكي يهب الشعب نفسه الروسي التنفس الذي كان في مسيس الحاجة إليه كيما يقاوم العدوان الهتلري، وما كان لنا أن ننسى أن الحرب قد حركت في روسيا الواقع الديني، واليقين الذي ينبع منه.
وأياً ما كان السهم الذي تستأثر به السياسة خلال الحرب، فمن اللازم أن نلاحظ أن هذه الحرب قد أعادت التيار الروحي على محور واشنطن - موسكو، وكانت زيارة أسقف كانتربري لموسكو خلال سنوات الحرب تعدّ بلا جدال من دلائل هذا التقارب على المحور. ولا شك في أن مما له دلالة كبرى على التطور الروحي في الاتحاد السوفييتي أن ينشر (للمرة الأولى منذ الثورة) طبعة جديدة للكتاب المقدس، حيث كانت الطبعة الأخيرة عام (1916م).
ونستطيع- إذا أردنا- أن نفسر بعث الحياة الدينية في الاتحاد السوفييتي باعتباره نتيجة للنشاط الروحي الذي لم يكف الغرب عن مباشرته، للتأتير على التطور السوفييتي في هذا الميدان. ولكن في الوقت نفسه يجب أن نأخذ في اعتبارنا رد الفعل السوفييتي وتأثيره على تطور الغرب في الميدان الاجتماعي، وحتى في الميدان الأخلاقي، فمما لا جدال فيه أن الفكر الشيوعي قد لعب دورًا هاماً خلال السنوات الأخيرة، حين بعث إلى الضمير المسيحي بمجموعة من الاشارات والاستفزازات كان من نتائجها إحداث تلك التجربة الرائعة للعمال - الرهبان ( Prêtres-Ouvriers) وربما كان لهذا الاستفزاز أثره، وأثره المضاد على المسيحي، إذ رأت الكنيسة أن من الضروري أن تحدد لهذه التجربة مدتها، وأساسها النظري، وبالتالي أهميتها الاجتماعية.
ومما له دلالته دون شك أن يخصص قداسة البابا بيوس الثاني عشر جزءاً من رسالته في عيد الميلاد عام (1955م)، لتعريف هذه الحدود حين دعا- من
ناحية- إلى التحفظ ضد ((خرافة التقدم الاجتماعي غير المحدود)). وحين دعا إلى التحفظ من ناحية أخرى ضد ((الظاهرة)) الشيوعية الوهمية، ولكن الأهم من ذلك أن نرى وكالة تاس والصحافة السوفييتية تنشران هذه الرسالة حيث يخص جزء مهم منها مشكلات السلام بطبيعة الحال.
فهذه هي المرة الأولى منذ عام (1917 م) التي ينشب فيها الحوار (الروحي) بين الشرق والغرب، بين أعلى سلطة روحية في الغرب، وموجهي الضمير في الاتحاد السوفييتي، وربما لا يكون من المستبعد أن ترسل موسكو سفيراً لها لدى الكرسي البابوي. فدلائل هذا التطور تظهر من ناحية أو أخرى من الستار الحديدي، حيث نجد العوائد البورجوازية، والصرامة المذهبية قد بدأتا تسمحان بتداخل فيما بينهما، وبتفاهم يستدعي تكيفاً متبادلاً متفاوتاً في درجة وضوحه، ولكنه لا يفتأ يقرب بين مقاييس العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي (1).
ومن هذه المناظرات نفسها تنتج مقاييس مشتركة، إذ تبدأ المفاهيم تتوافق في مختلف الميادين، مع اختلاف الأسماء أحياناً، ففي المجتمع الرأسمالي يطلقون لفظ (تأميم) مقصوداً به بعض الإجراءات ذات الطابع الاجتماعي التي فرضت تحت اسم (الملكية الجماعية) في المجتمع الشيوعي، فمن الواضح أن العملية نفسها تنتج عن الشروط الاجتماعية والصناعية نفسها، وأنها تؤدي إلى النتائج الإنسانية نفسها.
وهذا ما دعا أحد العلماء الاجتماعيين إلى القول بأن ((الطريق الواحد يخلق النموذج الاجتماعي الموحد)) وليس من الممكن دون شك أن نرسم منذ الآن صورة هذا النموذج، التي ستسجل كمال هذا التطور الذي بدأ فعلاً على محوري العالم. ومع ذلك فمن المؤكد أن النموذج الذي سيظهر في نهاية هذا
(1) نستطيع أن نرى الانعكاسات ذات الشأن التي أحدثها على هذا التطور المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي المنعقد في موسكو، فمن المتوقع أن نشهد الاسراع بعملية إزالة (الستالينية) في روسيا، بما تستتبعه من نتائج أخلاقية وسياسية في الميدان الغربي.
التطور المزدوج لن يكون عينة من عينات التنوع الإنساني، بل عينه للنوع: وهو الإنسان في أبسط صوره.
ويبدو أن هذا هو الحدث الرئيسي المتوقع من المرحلة التاريخية الراهنة، إذ- كما عبر أحد الاجتماعيين- أن الحياة تحتوي منذ زمن طويل على قبائل وأجناس وأمم، ولكن الإنسان لم يولد بعد
…
وأياً ما كان الأمر فإن التقارب ينمو على طرفي محور واشنطن - موسكو يوميا، ولا إرادياً في صورة قيمتين متزاوجتين، فإذا لاحظنا أن الطرف الغربي يعترف أن الشرق محق في ميدان معين، فسنرى الطرف الآخر يعترف أن الغرب في صميم الحق، في ميدان ثانٍ .. وعندما يتساءل مفكر ذو صبغة رأسمالية عما إذا كان (1) يمكن لنظام غير عقلي لاقتصاد قائم على عرق المجموع، من أجل سعادة بعض الأفراد أن يستمر بأي ثمن؟ فإننا نجد الناقد الماركسي- في الوقت نفسه- وقد تخلص من الأوضاع التقليدية للمدرسة الاقتصادية السوفييتية- خاصة من نظريات معهد الدراسات الاقتصادية بموسكو- نجده يلوم هذا المعهد على ((إنكاره لمظاهر التقدم التي حققها الرأسماليون في تطور الإنتاج والعلوم (2))).
فهذه الخطوة المتزاوجة تدل- بصورة ما- على نسق التطور على محور واشنطن - موسكو، بتأثير عوامل مختلفة روحية، أو عقلية، أو سياسية، فها هما؛ التقاليد البورجوازية الثابتة والصرامة المذهبية يخليان الجو للمناقشة النزيهة، وحب الاستطلاع العلمي، بل حتى لمشاعر الإعجاب التي تمهد سبيل الود
(1) سؤال وجهه سيمون في مقالة نشرت بجريدة لوموند الباريسية في عددها الصادر في 30/ 6/ 1955م.
(2)
هذه المناقشة كانت صدى لنقد المزارعين الأمريكيين الذين زاروا روسيا، حيث انتقدوا بعض طرق الاستغلال الزراعي؛ وامتدت بعد ذلك إلى ميادين أخرى؛ خاصة الميدان الاقتصادي حيث عارضت أكاديمية العلوم ((التي نلخص هنا وجهة نظرها)) الآراء الرسمية لمعهد الدراسات الاقتصادية خاصة رأي الاقتصادي أ. كاتز A. Kats عن تحلل الاقتصاد الرأسمالي.
الإنساني، فالمجتمع الشيوعي قد يعجب على لسان ممثليه بما حققه المجتمع الرأسالي من مناهج معينة، خاصة في ميدان الإنتاج الزراعي وبالمثل يستطيع المجتمع الغربي أن يعجب بما حققه الاتحاد السوفييتي في الميدان الصناعي.
فلقد أعجب ممثلو الصناعة الضخمة الأمريكية مثل: البندكس ( Bendix corporation) وفورد ( Ford Motor) ووستنجهاوس ( Westinghouse) خلال زيارتهم القريبة للاتحاد السوفييتي بكمال الإدارة الإلكترونية ( Automation) لمصنع كاجانوفيتش.
ومما يشرف الفكر الإنساني أن نرى علماء غربيين يصدرون شهادات على نجاح العلم السوفييتي في مختلف الميادين، وأن يفعلوا ذلك دون تكليف أو رياء، هادفين فقط إلى المصلحة العلمية أو المصلحة الإنسانية، حين يحثون بلادهم على استغلال التجربة التي شهدوا نجاحها (1).
هذه الشهادات دلائل وضمانات أخلاقية على التطور الذي يقرب المقاييس على محور واشنطن - موسكو وإنا لنشهد هذا التطور في كلا الاتجاهين، فقد لاحظ المراقبون الغربيون الموضوعات الجديدة في الأدب الروسي، واتجاهاته الجديدة، حين أثارت مجلة ذات شأن في توجيه الثقافة السوفيتية وهي الليتيراتورينا غازيتا ( Litteratouraina Gazeta) أثارت بتأثير مديرها الجديد مناقشة حول موضوع (الطابع الجمالي في الفن) وبينت أن هذا الموضوع يتعارض مع ما تطلق عليه هذه المجلة قصور علم الاجتماع العامي:( Sehématisme de la sociologie vulgaire) مبينة أنه يغذي في الفن وفي الشعر اتجاهات التعاليم الصبياني كإدخال (أطوار الموجة العاطفية) في موضوعات الحب السوفييتي، وهو
(1) نحن ندين للدكتور لويس دي جيلان D. Louis de guillant مدير المستشفيات العقلية في باريس- بشهادة قيمة على نجاح العلم السوفييتي في الميدان الطبي خاصة في فن الطب العقلي؛ حيث قدر أن الروس في المقدمة سواء في التنظيم أم من الناحية العلاجية.
ما سخر منه النقد الغربي في رسوماته أحياناً. وقد أعاد تيار التغيير نفسه للمقاييس السوفييتية اسم ديستويفسكي ( Dostoievski) ومؤلفاته إلى الأدب السوفييتي، من حيث صادرتها الثورة.
لقد ترجم الماجور كليمنت أتلي هذا التطور إلى توقعه السياسي فرأى أن النظرية الشيوعية ستفقد شيئاً فشيئاً حدتها، لتأخذ في النهاية بطريقة تعايش مرضية ( Modus vivendi)، وهذا التأكيد من زعيم حزب العمال الإنجليزي يجيب عن المشكلة التي نبحثها في هذا الفصل، على الأقل في حقيقتها الغربية، وفي وقعها الخاص على محور القوة.
ونظرية هذا الرجل السياسي تجد ضمناً تأييداً من وجهة نظر الفيلسوف، فلقد رأى هذا- فيما يبدو- أمارات تغيير داخلي في الجهاز النظري الماركسي، لقد رأى ميرلو بونتي ( Marleau Ponty) في مؤلفه (مغامرات المادية الجدلية Les Aventures de la Dialectique) أن الفكرة الشيوعية تنزلق- تحت وطأة تجربتها التاريخية- من قيمة الفكرة إلى قيمة العمل، ولعل هذا (الانزلاق) الذي كان نتيجة الانتقال من اللينينية إلى الستالينية، وهي المرحلة التي سجلت ذروة الانفصال بين الشرق والغرب، لعل هذا الانزلاق يكون السبب البعيد الذي يهيء الطريق للتقارب بين الشيوعية والتفكير الأنجلوسكسوني، في مجال القيم العملية لأنه يوفق بين المذهب والتقاليد البورجوازية.
وهذه الحركة ربما بدأت منذ زمن إذ إننا نجد مراحلها خلال سنين مضت، ولقد سجل مؤتمر فيلوربان ( Villeurbanne) المنعقد في فرنسا عام (1935م) - وهو المؤتمر الذي ألف فيه الحزب الشيوعي الجزائري- سجل هذا المؤتمر مرحلة من مراحل نمو الشيوعية في اتجاهها القومي، وهو الاتجاه الذي تأكد وشاع بحل الكومنترن ( Komintern) بعد ست سنوات، وكلما تحددت معالم هذا التطور برزت توقعات لم نكن نتصورها، فمنذ عشر سنوات ونحن نرى أحداثاً تقع لم نكن نفكر فيها.
ولو أننا وجدنا كاثوليكياً متحمساً معروفاً بميوله الكاثوليكية، وبوضعه الاجتماعي، قد انضم إلى جمعية فرنسية- روسية، كما فعل أحد الأكاديميين الفرنسيين المشهورين أخيراً، فلا شك في أن هذا حدث غير عادي، وله مدلوله البليغ. وكذلك حين نجد صحيفة برافدا ( Pravda) في عددها الصادر في 6/ 2/ 1956م تدعو وتلح في أن تقوم فرنسا بدور الوسيط بين الشرق والغرب، فليس هذا مطلقاً توقعاً عادياً.
وأيا ما كان الأمر، فإذا كانت جنيف نهاية تطور سياسي ناتج عن النمو الخطير في عنصر (القوة) على محور واشنطن - موسكو، فمن الواجب دون شك أن نرى فيها نهاية اطراد ذي طبيعة أخرى، نجد دلائله في مختلف الميادين، في صورة أسباب نفسية وروحية وعقلية، فكأن هذه الأسباب (قوى) جاذبة تخفف وتنحي تدريجاً القوى الطاردة التي كانت تضع العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي وجهاً لوجه في عنف وصرامة.
وأكثر من ذلك فإن مؤتمر الكبار يسجل في عملية التقارب اللاإرادي لحظة هامة ليقظة الشعور، حيث يجب أن يتدخل منذ ذلك الحين عامل توجيه منهجي مع وجود الأسباب اللاشعورية. فابتداء من هذه اللحظة تكتشف الإنسانية الطريق الثالث لخلاصها، حين تلتزم بنفسها، وطبقاً لإرادتها باتباع سبل الرواد الكبار الذين شقوا أمامها الطريق مثل غاندي، وبالسير في مجرى التاريخ، سيكون لديها حينئذ سياسة خلاصها، أو على الأقل ستدرك إدراكاً كاملاً أن من الواجب عليها أن تحدد سياسة كهذه. وإن التعايش الذي حددته (فكرة جنيف) لهو جزء من الحل الذي جاء به محور القوة للمشكلة الإنسانية. وهو في مرحلة (الحرب الباردة) التي يجتازها العالم. جزء جوهري يمنح التاريخ الزمن اللازم ليصنع نفسه، ويمنح محور طنجة - جاكرتا فرصة ليبدأ مساهمته الخاصة لإكمال الحل الشامل للمشكلة، لقد كانت هذه المساهمة تعد- دون شك- منذ عشرين عاماً شيئاً زائداً، لالزوم له، إذ كان التاريخ يتكون فقط على محور
واشنطن - موسكو، وكان هذا على حد تعبير أحد محرري صحيفة باريسية يومية كبرى إذ قال:((الاحتكار في صناعة التاريخ وظيفة أوربا)) فلم تكن الشعوب المستعمرة سوى أدوات لهذه (الوظيفة) الأوروبية: أدواتها ومتفرجيها اللاهين أو اللاعبين. ولكن الحل اليوم قد أصبح بين أيدي الشعوب جميعاً، إذ يتم صنعه على كلا المحورين في وقت معاً.
ولكي يتم صنع التاريخ، هناك توزيع طبيعي للأدوار، فجنيف حين جمعت القوى التي تعطي الحل الزمني للمشكلة تركت للشعوب الأفرسيوية أن تعد حلها الروحي.
ومؤتمر باندونج حين جسد جهود هذه الشعوب قد أظهر في العالم إمكانيات جديدة للخلاص تسمو بفكرة التعايش، وتضعها في مكانة المثل الأعلى.
وهكذا تقوم فكرة (الأفرسيوية) بدور مزدوج حين تدمج توقعها في التاريخ، فهي على محورها الخاص يجب أن تخلق أولاً جوهرها الخاص أي أنها طبقاً للشروط التاريخية والجغرافية التي توضع فيها المشكلة يجب أن تخلق حضارة. وبالتالي تخلق جميع عناصرها النفسية الزمنية، فتخلق ثقافة، واقتصاداً، وسياسة، ولا شك في أن مهمتها- منذ باندونج- قد بدأت تسلك هذا الطريق.
ويجب أن تكون وظيفتها التاريخية الجوهرية مساعدة البلدان (المتخلفة) على التغلب على تخلفها، أي قهر العقبات الناشئة عن (الضعف). ولكن لها أيضاً دوراً هاماً بالنسبة إلى التطور على المحور الآخر، وذلك حين تساعد البلدان (المترقية) على التغلب على المرحلة الخطيرة في نموها، أي أن تقهر بصورة ما أخطار (القوة)، بحيث تمضي في تطورها دون صدمة قدر مفاجئة.
ويرى برتراند رسل ( Bertrand Russel) أن هذا الدور يتمثل في مجلس للدول الكبرى ( Conseil des Puissances) يتمتع فيه الشيوعيون وأعداؤهم بعدد متساو من الأصوات، ويصدر القرار في نهاية الأمر بترجيح الأصوات المحايدة، وعلى رأسها صوت الهند، وبدهي أننا لا نعرف ما سيظفر به في السياسة ذلك الحل
المنطقي الذي يوحي به الفيلسوف، ولكن فكرته تحدد على أية حال الرسالة العالمية لفكرة (الأفرسيوية)، تلك التي بدأ قادتها يقدرون مدى أهميتها وخطورتها، وإن جهودهم لتشهد بذلك في الخارج، في توجيه سياسة خارجية تتفق مع مغزى هذه الرسالة، وفي الداخل، في بناء نظام اجتماعي صالح لأن يهب لبلادهم القاعدة المادية التي تكافئ دورها الأخلاقي، والضروري لتحدث تأثيرها.
وفي الوقت الذي يكون الرجل الأفرسيوي قد حل بنشاطه المزدوج مشكلاته العضوية، وحدد اتجاهه العالمي، فإن نصيبه في حل الأزمة العالمية سيصبح حاسماً. على أنه قد بين فعلاً- حين بدأ في علاج وضعه هو منذ مؤتمر باندونج- أن هناك حلاً متكاملاً لتلك الأزمة. والواقع أن (حضوره) في العالم- منذ اللحظة التي وعى فيها موقفه- قد صار عنصرا مركباً (لفكر عالمي)، فخارج تفكيره في ذاته نجده قد أثار ألواناً من التفكير تدفع إلى الأمام ركب التطور الأخلاقي والمادي على المحورين في وقت واحد. وهو حين يدعو الفكر الغربي إلى هذا التفكير فإنه (يقدم) هذا الفكر في اتجاه عالمي، وبهذا المعنى تأخذ الفكرة الأفرسيوية على عاتقها دوراً محرراً في مواجهة الفكر الغربي، إذ إنها تستطيع تحريره من (ذهان) السيطرة، حين تفتح أمامه في العالم اتجاهاً أخلاقياً. وعلى طرفي محور واشنطن - موسكو بدؤوا في الواقع يدركون مشكلة البلدان المتخلفة لا من الزاوية الاستراتيجية أو المذهبية- ولكن من زاوية حاجات الشعوب، ففي واشنطن وفي موسكو يتحدثون عن تحويل جزء من ميزانيات الحرب كرصيد لمساعدة البلدان المتخلفة، ولا شك في أن للرجل الأفرسيوي سهمه في هذا الانتصار لفكرة التعايش. ومما لا يقبل الجدال أن بعض التغييرات النفسية التي طرأت على محور القوة إنما تعود جزئياً إليه بفضل نشاطه، أو لمجرد حضوره. وإذا كانت مبادئ إعادة النظر في العلاقات التقليدية بين المحورين، أي بين الأوروبي والمستعمر لم تنضج بعد في الضمير الغربي، فإن أماراتها قد ظهرت فعلاً في ميدان الثقافة، وأيضاً في ميدان التفكير الاقتصادي في البلدان المتقدمة.
ومما له دلالته في هذا الباب، أن يستخدم أحد أساتذة الجامعة الفرنسية مثلاً كلمة جديدة هي ( Décoloniser) وتعني:((الخروج من نظام الاستعمار)) وذلك أمارة على تطور عميق في الفكر الغربي. ذلك الفكر الذي كان يدور منذ نصف قرن من الزمان حول كلمة ( Coloniser) التي تعني ((الدخول في نظام الاستعمار)).
وفي الميدان الاقتصادي يظهر الاتجاه واضحاً للخروج على المقاييس التقليدية، فهناك من يدعو إلى (تجاوز النظام الرأسمالي) وفي النظريات التي رأت النور تحت إشراف معهد علوم الاقتصاد التطبيقي ( I.S.E.A) في فرنسا، يتحدثون عن أشكال من النشاط الاقتصادي من دون غلة، أي أشكال منوعة من الاقتصاد المجاني، أو اقتصاد الهبة، خلال مراحل متعددة.
فالتفكير في مشكلات الرجل الأفرسيوي يستدعي إذن أن يراجع العالم الأفكار التقليدية، وهذه المراجعة تهدف عملياً إلى إلغاء المسائل الاجتماعية والثقافية التي تفصل الجماعات الإنسانية على المحور الأفرسيوي عن البلدان (المتقدمة). ولكن تأثيرها يقع على محور واشنطن موسكو في الوقت نفسه، في اتجاه التقارب بين مقاييس العالم الرأسمالي ومقاييس العالم الشيوعي، بحيث ينتج عن المراجعة تأثير مزدوج على تطور العالم، وهو يحتم في الواقع تطوراً مزدوجاً يتجه إلى التلاقي في عصر عالمي. وما زال الرجل المكب في معمله على أسرار الذرة بعيداً- ولا شك- عن ذلك الذي يرعى قطيعاً من الماشية في أرض قاحلة وهما مختلفان، كلاهما عن صاحبه، ولكن طريقيهما يتجهان إلى التلاقي، وبما أن هذا يدرك تماماً سقوطه المادي، وذلك يدرك سقطته الروحية فهما صائران إلى نقطة تلاقيهما، بدافع من طموحهما المتبادل. وسيتوج هذا اللقاء حدث الإنسانية العالمية، الذي يبدو أنه يسجل الأجل الذي ((يعتبر تاريخ الإنسانية كله بالنسبة إليه بداية غير واضحة، ولكنها وطيدة)). ومعالم هذا الاحتمال تتحدد أمام الضمير الذي بدأ فعلاً يدركها في وقائع مادية، ويبدو أن
عصرنا- بما شهد من مبشرين وشهود كبار- هو عصر التحول الإنساني الكبير، فهو العصر الذي يتحتم على الإنسانية فيه، وقد سبق لها أن اجتازت مع العهد الحجري الجديد المرحلة الأولى في تاريخها، بارتقائها إلى مستوى (الحضارات) يتحتم عليها الآن أن تجتاز المرحلة الثانية التي تسمو بها إلى مستوى حضارة الرجل العالمي.
وطبيعي أننا حين نضع أنفسنا في هذا التوقع لا نرى الطريق الذي نجتازه لبلوغ الهدف، ولا نرى أيضاً جميع العقبات الكامنة في الطريق، وسيكون لزاماً على من يقودون الشعوب نحو هذه الأهداف أن يحلوا هذه المشكلات حلاً علمياً، ولكن التاريخ سيساعدهم في حلها
…
ما دامت سياستهم اتفقت مع منطق التاريخ.
***