المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مشكلة الرجل الأفرسيوي - فكرة الإفريقية الآسيوية

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌مشكلة الرجل الأفرسيوي

‌مُشكِلَة الرَّجُل الأفرسيَوي

خضع حظ البشر دائماً لتأثير مزدوج، هو تأثير عوامل التوحيد والتجميع من ناحية، وتأثير عوامل التفرقة والتنويع من ناحية أخرى.

وإنه ليخيل إلينا أن العامل الصناعي الذي كان له أثره في أحداث التفرقة والتنويع حتى عشر السنوات الأخيرة. بحيث أتاح للشعوب المتقدمة المتطورة وضعاً ممتازاً بفضل تفوقها الاقتصادي والسياسي، يخيل إلينا أن هذا العامل يتدرج بالإنسانية شيئاً فشيئاً نحو الانسجام والوحدة، محتماً عليها بذلك مصيراً مشتركاً. وهكذا نرى منذ حوالي عشر سنوات حتمية معينة موحدة كنا نتصور عواملها في النطاق الميتافيزيقي- أعني وراء العوامل التاريخية- وأصبح تأثيرها واضحاً في مجال التاريخ.

على أن المشكلة الإنسانية يجب أن ينظر إليها من كلا الوجهين أي من وجهة العوامل الموحدة، ومن وجهة عوامل التنويع، واضعين تحت أعيننا هذا الموضوع أو ذاك تبعاً لموضوع دراستنا للمشكلة الإنسانية في عمومها، أو دراستنا لها في نطاق طائفة معينة.

ومن الواضح أن المشكلة الأولى كانت في فكر باندونج، في جوها الأخلاقي، وفي إطارها العام. ومع ذلك فمما لا نزاع فيه أن مشكلة الرجل الأفرسيوي هي التي كانت مركز اهتمامه، وموضع نظره، وهي التي كانت تعد موضوع بحثه العاجل. ولكن هل كان هذا الموضوع واقعياً بحدوده المرسومة وطبيعته الخاصة؛ إن كل برهان إنما يقوم على صحة قضية ثبت وجودها، فهل هنالك إذن مشكلة الرجل الأفرسيوي ذات حقائق خاصة، ومعنى خاص، وحدود مكانية وزمانية معينة، أعني متصفة بجميع خصائص المشكلة المشخصة؛

ص: 75

إن علمى الاجتماع والتاريخ لا يعطياننا إجابة عاجلة عن هذا السؤال. ولذا ينبغى أن نلجأ إلى طريقة خاصة للاستقصاء، وأن نتصور زائراً من السماء هبط لاستكشاف الأرض. فمن الطبيعي أن جميع المصطلحات الخاصة بتنظيم الأرض تكون غريبة عنه. إذ إنه في عالم مجهول لا يعرف عنه شيئاً، منذ البداية، ولكي نعطي للفرض زيادة في الدقة، يمكننا أن نتصور فضلاً عن ذلك أن زائرنا أصم وأخرس. فمن البيِّن في هذه الحالة أنه لن يدرك أدنى اختلاف بالمعنى الاصطلاحي، أو أي حقيقة تاريخية، أو شيئاً من الحقائق الدينية والسياسية واللغوية، وبصورة أعم صفات الأجناس والألوان أو الخصائص الطارئة على الحياة الإنسانية. فكل هذه الأشياء لا تلفت نظره، ولا تخاطب فكره. والأوضاع الأخلاقية والسياسية وحدود الأنفس والدول في عالمنا لا مفهوم لها عنده، فهو لا يرى من وراء الأشياء تاريخها، بل يرى وجودها فقط؛ وكل ما يعرض له ليس عمليات مطردة مترابطة، بل مجرد أحداث. فهو لا يكتشف في كل ما يقع تحت بصره تطوراً وأسباباً، وإنما حالة معينة وآثاراً عاجلة، فنظرته لا تتجاوز الشكل السطحي أو الجلدي- إن صح التعبير- ولا تمس- طبعاً- الوجه الداخلي أو الحشوي للمشهد الأرضي.

والنظر البشري لا يوحي له بأي مضمون روحي بطبيعة الحال. ولا يتمثل له إلا غلافاً أو صورة اجتماعية، فجميع ملاحظاته ومذكراته لا يمكن أن تتصل إلا بالغلاف، وهي لا تدرك فيه إلا الاختلاف الرئيسي، والتباين الصريح الذي يثير انتباهه.

وما كان لزائرنا السماوي خاصة في مضمون فرضنا أن يلفت انتباهه لون علم على خط صوري لحدود سياسية، فهو لا يرى أمماً ولا دولاً، لأن الشعوب ليست في هذا المنظر سوى لون خاص. وإنما يشاهد ريفاً، وخطوطاً للمواصلات ومدناً، وتجمعات بشرية. ولا شك أنه يسجل التغيرات التي تطرأ على النظر من مكان إلى مكان كلما تغير ((اللون المحلي)).

ص: 76

ولكن ربما كان الانتقال الذي يثير انتباهه هو التحول الذي ينتج عن انفصال حقيقي في النظر الواقعي، بالنسبة إليه تبعاً لمعادلته الشخصية الخاصة، تلك التي يعبر عنها مضمون فرضنا، وسيكون الانفصال واقعياً حين يؤدي إلى انفصال داخلي في إطاره الشخصى. لأن كل تغير خارجي في مظهر الحياة، وفي نسق هذا المظهر وفي أشكاله يؤدي حتماً إلى تغير داخلي لدى الشخص الملاحظ.

ولنفترض الآن، وفي محيط هذا الفرض الذي وضعناه بتحديداته اللازمة، أن زائرنا السماوي قطع المسافة بين واشنطن وموسكو، فمن الواضح أن المشهد الإنساني على طول هذا الطريق لا يحتوي على أي فصل جوهري. وربما استلفت نظر المكتشف لحظةً رؤيةُ (الناطحات) الغريبة الرائعة في نيويورك.

ولكن هذه التفاصيل ستذوب حتماً في مجموعة تفاصيل من النوع نفسه، ففي موسكو أنشأ (أسلوب ستالين) بعض ناطحات السحاب أيضاً.

فسيصادف مكتشفنا إذن من أول الطريق إلى نهايته اللوحة نفسها التي رسمها كفاح الإنسان وعبقريته. فمن طرف لآخر توجد شبكات الطرق الحديدية والنهرية نفسها، والطابع نفسه الذي يكسو وجه الريف الذي تتدفق منتجاته على المدن الصناعية، المدن الكبيرة ذات الشوارع الواسعة، التي يخيل له أنها تتحرك فيها الحياة في ساعات النهار نفسها، وتتحرك فيها المجموعات نفسها من الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم، ومن الرجال الذاهبين إلى مصانعهم وورشهم ومكاتبهم. ويبدو فيها التنظيم للوقت نفسه كما تدل عليه هذه الحركة المنتظمة التي تحتل الشوارع وتغادرها في ساعات محددة. والتنظيم المدني نفسه بمداخن مصانعه، ومدنه العمالية، وقطارات المترو، ونظم الاضاءة في شوارع التجارة أو الملاهي بالليل.

وموجز القول أن نظرة المكتشف السماوي ستصادف اللوحة نفسها من واشنطن إلى موسكو، سترى العامل في مصانع فورد في ديتروا ( Détroit) وزميله

ص: 77

في مصانع (رينولت) في باريس، وزميلهما في مصانع كروب في إسن ( Essen) أو في مصانع مولوتوف في موسكو.

فقبل أي تمييز سياسي أو ديني، وقبل أي اعتبار يخص التصنيف الإنساني يمثل هؤلاء العمال في نظره النموذج الاجتماعى نفسه، ولو أنه مد استكشافه نحو ضواحي طوكيو فلن يظهر له (الجنس الأصفر) في ملامح عامل مصانع ميتسوي ( Mitsui)، بل النموذج الاجتماعي نفسه الذي يتحرك داخل اللوحة الإنسانية في ديتروا أو في موسكو.

وحتى الآن ليس لدى الزائر السماوي دون شك أي سبب لأن يعقد علاقة سببية بين هذا النموذج الاجتماعي والمنظر الذي يحوطه، ولا أن يبين طبيعة علاقة من أي نوع بين هذين العنصرين في ملاحظته، ولكنه لن يعدم أن يكوّن عنها نوعاً من الارتباط في فكره، يمكنه عندما تسنح الفرصة من أن يصبح تداعياً للمعاني. أعني أساساً للمقارنة.

فلنتتبع الآن خطواته في ناحية أخرى على امتداد محور طنجة - جاكرتا.

إن المنظر الإنساني يتغير كله، فمنذ الخطوات الأولى تلوح (مدن الأكواخ) المتناثرة هنا وهناك في ضواحي الدار البيضاء مثلاً، فتغير تماماً لون تأثراته وانفعالاته، كأنما قد حدث عنده انفصال باطني في ذاته، داخل إطاره الشخصي. إذ حين يخلص المكتشف في رؤية خاطفة من ناطحات السحاب إلى مدن الصفيح والعشش والأكواخ، يكون التحول عميقاً بحيث يحدث هذا الانفصال الذي يتأكد كلما تابع المكتشف طريقه من طنجة إلى جاكرتا، وجمع في نفسه انفعالات مختلفة من الجزئيات والكليات عن أشكال الحياة الجديدة، تلك التي تراها عيناه في النسق الجديد.

إن المنظر الإنساني لم يعد هو الأول، فلا مداخن لمصانع، ولا مدناً صناعية ناشطة في ساعات معينة بالنهار، ساهرة بالليل من أجل الدعاية واللهو.

ص: 78

والإنسان في المنظر الجديد يبدو ساكناً لم يطبع إرادته في تنظيم إطاره اليومي، بحيث ينظم التراب والوقت، فعلى مساحات شاسعة يبدو التراب وكأنه لم يستخدم، فهو بكر لم يمس، أو قل: إنه عاد إلى طبيعته.

والوقت يبدو لا شكل له، بحيث يمضي تائهاً، مبعثراً، خامدا، فهو يمر سدى على رؤوس جماهير عاطلة ..

واللون المحلي قد تغير من أساسه، وشبع الإنسان الذي يتحرك داخل المنظر الجديد يعد من نموذج اجتماعي جد مختلف عن الأول.

والمكتشف يشعر شيئاً فشيئاً بأنه قد تخطى فعلاً حدوداً فاصلة، وأنه قد دخل إلى عالم تعد (مدن الأكواخ) عنصرا جوهرياً في تعريفه، عندما يقارن أكواخ الدار البيضاء بأكواخ كلكتا مثلاً، وعنصراً من عناصر الاختلاف أيضاً عندما يقارن بين مدن الأكواخ ومدن العمال التي صادفها في رحلته الأولى.

وعنصر التعريف هذا يستمد قوته من النموذج الاجتماعي، وربما يتساءل الزائر السماوي عما إذا لم يكن الإنسان الذي يراه مستنداً إلى حائط في إحدى مدن إفريقية الشمالية (في الصورة الأولى) هو الإنسان نفسه الذي رآه في إحدى ضواحي كلكتا (في الصورة الثانية) رآه كأنما أضناه سفره الطويل الشاق من كلكتا، فهو يستند الآن إلى حائط ليسترد أنفاسه في إحدى مدن إفريقية الشمالية التي وصل إليها منذ قليل.

وعلى كل، فلا يمكننا إلا أن نقارن بين مصير هذين الرجلين مهما كانت الفروق اللغوية والعنصرية والسياسية والدينية التي تفصل بينهما، حتى ولو افترضنا أن المكتشف السماوي يمكنه أن يذكر هذه الفروق.

ولكن في الوقت نفسه الذي تقرر في ذهنه القرابة التي توحد هذين الرجلين اللذين لم يصادف نموذجهما في أي بقعة من بقاع المرحلة الأولى، فإن رباطاً آخر يظهر أمام عينيه، ليوحد كلا الكائنين مع الإطار الإنساني الذي يحيط به،

ص: 79

وهكذا يتحد في فكره النموذج الاجتماعي، مع إطاره وبيئته، مكوناً معه مقياساً أو أساساً لمقارنة تسمح له بإدراك وحدة من طنجة إلى جاكرتا، تختلف تماماً عن الوحدة التي سبق أن لاحظها من واشنطن إلى موسكو أو إلى طوكيو.

وإنه ليتجلى في عينيه بصرف النظر عن أي اعتبار تاريخي رباط عضوي بين مصير الإنسان والمنظر الذي يحتويه.

ولنتصور قبل أن نترجم إلى لغة التاريخ والاجتماع انفعالات هذا المكتشف السماوي، وقبل أن نفسر الوحدة التي سجلها في شكل مزدوج خلال أسفاره الأرضية، لنتصور أنه فضلاً عن وجوده في كل مكان، لديه القدرة على أن يكون موجوداً في كل زمان، ولنرجع معه مثلاً ألف سنة إلى الوراء على محور الزمن، ثم لنتتبع من جديد خطواته ذات السرعة الخارقة، على طول الطريقين السابقين. إن المنظر الإنساني قد تغير كلية، وبكل تأكيد، ولكنه يحتفظ بشيء ثابت، فهو يتمثل مرة أخرى في صورة وحدتين محددتين تماماً في المكان مؤديتين إلى التقسيم الجغرافي نفسه. إن المكتشف سيشعر أيضاً بالانفصال الداخلي نفسه، حين يمر من بقعة إلى أخرى. أي إنه حين يمر من المحور الشمالي إلى المحور الجنوبي، وبالعكس، يشعر بأنه قد اجتاز حدوداً. فإن اللون المحلي قد تغير، وتغير معه النموذج الاجتماعي. ولكن الظاهرة تبدو له الآن في ضوء جديد، فلقد تغيرت الحالة لكلا النموذجين، وتغيرت أيضاً النسبة بينهما.

ولكي نترجم هذا الاعتبار إلى لغة أكثر بساطة، يمكن القول بأنه كان من الأنسب أن يولد الإنسان منذ ألف عام على محور طنجة - جاكرتا، فلقد كان للفرد هنالك حظ أوفى وموارد غنية، وإمكانيات كثيرة.

ولن تزداد هذه الملاحظة إلا تأييداً لو أن المكتشف يندفع في استقصائه إلى أبعد من ذلك، على المحور نفسه، حتى أنه في أمريكا قبل كولمبس، كانت البقاع التي تكون الآن الولايات المتحدة مسكونة بالقبائل الهندية البدائية، بينما في

ص: 80

الجنوب كانت تمتد بقاع فسيحة، كان النموذج الاجتماعي يعد فيها المعجزة الأزتيكية (1)( Azteque) وحضارة الانكا ( Incas)(2) .

وبهذه الملاحظات المكانية والزمانية فإن المكتشف السماوي يبدأ الآن يدرك أن الفرد مسير مقدماً وإلى حد كبير بميزاته التاريخية والجغرافية، قبل أن يكون مسيراً بمواهبه الشخصية.

حتى إننا نستطيع القول في ضوء هذه الملاحظات بأن الفرد الذي يولد اليوم على محور طنجة - جاكرتا معرض لاحتمال خمسين في المئة لكي يصبح أمياً ومتعطلاً مهما كانت قيمته الشخصية، ولديه أيضاً حظ وفير ليجد نفسه في صورة هذا النموذج الذي يثير الإشفاق، والذي يتمثل في الصورتين المنشورتين هنا.

والواقع أنه أياً ما كانت معادلته الشخصية، فإن حظه مرتبط مقدماً بالقانون العام لحتمية تنتج عن انتسابه (الوحدة)) تسيطر عليها مجموعة من العوامل السلبية هي: عوامل الاستعمار، وعوامل القابلية للاستعمار، وهي العوامل التي يرى المكتشف طابعها في المنظر الإنساني، وفي النموذج الاجتماعي الذي يتحرك فيه.

فهو يدرك في كل حال أن حظ الإنسان مرتبط بوضع عام، قابل للتغير تبعاً للمكان والزمان.

ولنحاول الآن أن تترجم هذه الانعكاسات والانفعالات التي أصابت المكتشف، إلا لغة الاجتماع والتاريخ.

(1) الأزتيك ( Azteque) شعب من أمريكا قبل عهد الاكتشاف كان يقطن المكسيك حيث أنشأ قاعدته في القرن الثالث عشر المسيحي وأسس حضارة ذات صيت اندثرت بعد الاكتشاف.

(2)

الإنك ( Incas) شعب من أمريكا الجنوبية أسس مملكته في بيرو ( Pérou) خلال القرن العاشر وأنشأ حضارة ربما كانت تفوق حضارة الفاتحين الإسبان.

ص: 81

فنحن نرى أولاً أن هناك مشكلة للرجل الأفرسيوي، وهي متمثلة في المصير المشترك الذي يخيم من طنجة إلى جاكرتا، وفي الوضع العام نفسه، وهو وضع الفرد على هذا المحور، وفي الوحدة الخاصة التي أنشأها النظر الإنساني، والنموذج الاجتماعي في تلك البقاع.

ثم إنا نلاحظ أن هذا الوضع العام وهذه الوحدة مستقلان عن الظروف السياسية، والحدود القومية والإطارات العنصرية والجغرافية، بما أنها في نقطة معينة تتغير مع الزمن، وفي لحظة معينة تتغير من محور لآخر. فلو أننا- علاوة على الظروف التي تحدد مكانها بالنسبة لمحور أو لآخر- نأخذ في أعتبارنا طبيعة علاقة هذه الوحدة بحياة الإنسان، فنحن مضطرون بسبب خاصتها الجغرافية والتاريخية والاجتماعية إلى أن نلاحظ أن هذه (الوحدة) تتفق في الزمان وفي الكان مع الرقعة التي تنشأ فيها حضارة ما، أي الحضارة التي تطبع جميع حقائقها الثقافية، وخصائصها الأخلاقية والجمالية والصناعية في النظر الإنساني، وفي النموذج الاجتماعي الذي يتحرك فيه.

وعليه، فكل تفكير في مشكلة الإنسان هو في النهاية تفكير في مشكلة الحضارة، ومشكلة الإنسان الأفرسيوي، هي في جوهرها مشكلة حضارة، يعني أن يحقق هذا الأفرسيوي من طنجة إلى جاكرتا وضعاً عاماً متحرراً من العوامل السلبية التي فرضها الاستعمار والقابلية للاستعمار على حياته في هذه المنطقة ..

والحق أن الحركات المختلفة للنهضة التي ظهرت منذ خمسين عاماً في العالم الأفرسيوي عامة. وفي العالم الإسلامي خاصة، ليست إلا محاولات لوضع المشكلة ضمناً، وحلها في هذه الصورة.

وإحدى هذه المحاولات تستحق الذكر لما كان لها من تأثير فعَّال، وهي تلك المحاولة التي أتاحت لليابان خلال حقبة فذة من العصر الميجي ( L'ère Meiji) أن تجتاز مرحلة دولة من دول القرون الوسطى إلى صف الدول الكبار. ولكن

ص: 82

حركات النهضة لم يتح لها جميعاً التأثير الفعال نفسه، إذ لا يصدر الإنسان فيها عن الفكر المنهجي نفسه.

ولقد كانت المحاولات في العالم الإسلامي خاصة متفاوتة في عمقها، لأنها لا تستند على نظرية محددة للأهداف والوسائل، وعلى تخطيط للمراحل. فالواقع أن (المصلح) الإسلامي لم يهتم بأن يرسم برنامجاً لإصلاحه مقدراً أن ((الزمن سيوفق في حل المشكلات)) (1) ولم يكن طموحه متوجهاً إلى الخلق والإبداع أكثر مما هو متوجه حتى الآن إلى التقليد.

فإذا حللنا جهوده وجدنا فيها حسن النية، ولكننا لا نجد فيها رائحة منهج.

بل إن حسن النية هذا قد تنحط قيمته الاجتماعية أثناء التطبيق، سواء بدعوى أولئك الذين يرون أن مستقبل العالم الإسلامي إنما يكمن في إعادة الماضي برمته أم بالتباهي التقدمي الذي يرى- كما يذهب إلى ذلك بعض الكماليين- أن الإصلاح رهن بقطع جميع صلاتنا بالماضي، وأن نؤمن بأننا ننشئ حضارة، أي وضعاً عاماً للحياة، وذلك بمجرد تظاهرهم بأزياء مستعارة- دون توفيق- من حضارة نضجت فعلاً، ومضى طور تكوينها.

ولقد كان عهد فاروق العهد الذي يمثل تماماً هذا التظاهر الصبياني وهذا التعلق (بالشيء) الحديث المعرّى عن ((فكرته))، والذي يمكننا- فضلاً عن ذلك - أن نرى مثله الكامل في تلك البضاعة التافهة الترفية التي كانت تكوِّن مجموعة تحفه المشهورة.

ويمكننا أن نلاحظ التظاهر الصبياني نفسه حتى في الذوق النسائي في بعض العواصم العربية، حيث تشتري السيدات معاطف الفراء الثمين ليتشبهن بسيدات

(1) في أحد التحقيقات الحديثة عن تطور المرأة في إفريقية الشمالية قرر كاتب هذا التحقيق في استنتاج أن ((الزمن سيوفق في حل المشكلة الحساسة للمرأة)) وربما لا يمكننا أن نتصور استسلاماً للواقع أكثر من هذا الموقف المتشبع بالقدرية أو الجبرية في التفكير وهو موقف يتخذه مسلم (عصري) أمام مشكلة اجتماعية.

ص: 83

المجتمع الغربي الراقي، واثقات من أنهن يخدمن بهذا التقدم الوطن، ولكن لا يخطر ببالهن- بكل أسف- أن معطف الفراء لا ينسجم أحياناً مع الأوضاع والأجواء تحت شمس بعض البلدان الإسلامية.

وهكذا يحدث غالباً أن نرى (الشيء) متقدماً على (الفكرة)، وكأنهم يعتقدون أنهم إنما ينشئون أساساً متيناً لحضارة بـ (كومة) من (الأشياء) المستعارة، التي لا تنفع قليلاً أو كثيراً.

وسيكون من الخير أن نعيد التفكير في المشكلة في تلك البلاد بالنسبة إلى طبيعة ما يسمى (الحضارة) معتبرين أن الحضارة- بناء على تعريفها البسيط- ليست (كومة) من الأشياء المتخالفة في النوع، بل هي (كل)، أي مجموع منسجم من الأشياء والأفكار، بصلاتها ومنافعها وألقابها الخاصة وأماكنها المحددة. ومجموع كهذا لا يمكن أن يتصور على أنه مجرد (تكديس) شبيه (بمجموعة فاروق) بل كبناء، وهندسة أي تحقيق فكرة ومثل أعلى.

إن من المفيد دون شك أن نستورد هذه السلة المعدنية- (الشيء) - التي تثبت في جانب شارع كبير في إحدى المدن، حيث يلقي المارة مهملات الأوراق التي لا يريدون وضعها في جيوبهم، أو إلقاؤها على الرصيف، ولكن يجب أن نتيقظ لاستيراد فكرة استعمالها (الفكرة)، وإلا تورطنا في بناء حضارة (شيئية)، أي في تأثيث دكان للخردوات، أو سوق تتكدس فيه التحف غير النافعة، أو جمع بضاعة تافهة تتفاوت في جدواها أو (كومة) لا تنظيم فيها ولا فكرة، كومة تجردت من معناها الاجتماعي.

ولقد ذهب بعض النقاد المحدثين إلى أن يعيب على الفكر الإسلامي الحديث نوعاً من (الذرية) التي يرى صورتها- فيما يبدو- في العجز عن أن نعقد صلات بين الأفكار، وعن أن نعطي لمناقشة مشكلة ما حركة متصلة مطردة لا يحجل فيها الفكر من نقطة إلى نقطة، بل يطرد دائماً من مقدمة إلى نتيجة.

ص: 84

ونحن نرى أن هذا النقد قد تجاوز حده حين أرجع سبب وجود هذه (الذرية) إلى طبيعة الفكر الإسلامي نفسها، أي إلى تكوينات بيولوجية، ولكن هذا النقد يكون مصيباً لو أننا أرجعناه إلى تكوينات اجتماعية، وتطور تاريحي، بحيث نرى أن الفكر الإسلامي قد أصبح لا يؤدي في المجتمع الإسلامي وظيفته كما ينبغي، وخاصة في حركة النهضة الإسلامية وموقفها أمام مشكلة الحضارة التي تواجهها صراحة أو ضمناً.

ويوشك أن تقوم (الذرية) فعلاً في هذا النطاق بتجزئة حل المشكلة إلى ألف جزء وجزء مبعثر، حين يشارفونها في حدود كل يوم تبعاً لطوارئها العاجلة على الحياة اليومية، دون نظر شامل يحدد منذ البداية الهدف، والمرحلة والتوقيت والوسائل.

إن من الممكن أن تؤدي الحلول الجزئية إلى حد شامل للمشكلة، ((فكل الطرق تؤدي إلى روما)). ولكن الطريق غير المنهجي هو أطول الطرق بلا شك، طريق المفاجآت التي تفجأ العقل التائه، طريق السائح غير المتحقق من وجهته أو هدفه.

إن طريق الحضارة لا يمكن خطه تبعاً للصدفة، بإقامة مدرسة هنا، ومصنع هناك، وسد هنالك، أو بوضع سلة معدنية في جانب هذا الشارع حيث لا أحد يفكر في إلقاء المهملات التي تريد أن يتخلص منها، وعموماً حين نريد أن نضع شيئاً زائداً في النظر الإنساني.

نعم إن سيرنا كيفما اتفق قد يوصلنا إلى حل

يوماً

ولكن متى يوافي ذلك اليوم؛. إن الإجابة تستتبع نظرية وخطة وتوقيتاً. ولكن يبدو أن الأمر لا يعلق هكذا بذهن رجال الإصلاح المسلمين، كما أمكننا أن نلاحظه في المؤتمرات الإسلامية الأخيرة، وسنحاول أن نكشف فيما بعد (1) عن الأسباب النفسية والاجتماعية لهذا الافتقار في المجتمع الإسلامي الراهن، وسنزيد اهتمامنا

(1) راجع الفصل الثالث من الباب الثالث من هذا الكتاب.

ص: 85

هنا بتحليل (ميكانيكية النهضة)، كيما نلاحظ نواحي ضعفها في الوقت الذي نلاحظ جهودها الرائعة والمؤثرة أحياناً.

فحين تحدثنا عن (الذرية) وعن (الشيء) أثرنا انتباه القارئ بصورة ما إلى هذا الشكل المرضي، ونحن نريد الآن أن نثير انتباهه إلى طبيعة هذا الضعف، ويظهر أنها ناتجة عن طريقين:

أ- فأما الأول فينتج عن التخطيط المنهجي الذي ينقلب فيه الوضع المنطقي ضمناً، بحيث يمكننا أن نعبر عنه بالاستعارة القوية في القول الفرنسي المشهور، حين يعبر عن هذا الانقلاب بأنه من قبيل ((وضع المحراث أمام الثور)).

ففي كل اطراد طبيعي يحدد السبب الأثر، فلو أننا في إحدى محاولاتنا حاولنا أن نقلب هذا الوضع، فإن التجربة ستنتهي حتماً إلى الفشل.

وفي أي اطراد اجتماعي تظل العلاقة بطبيعة الحال هكذا، ولكنها أقل حدة وصرامة، فإن التجربة الاجتماعية ليست تخطيطاً بسيطاً يترجم عن علاقة مباشرة لسبب يؤدي إلى نتيجة محتومة، لأن التجربة الاجتماعية ليست في وقت ما فريدة في نوعها، ولا تتم داخل إناء محكم، فالواقع أن هناك تشابكاً بين الأسباب والنتائج، في كيان معقد يظهر فيه أحياناً انقلاب في الوضع المنطقي، بحيث تسبق النتيجة السبب، ولكن هذا الانقلاب ليس إلا خداع نظر يعود في جوهره إلى تعقد التجربة الاجتماعية، ولا يعود مطلقاً إلى انقلاب في قانونها. ففي قانونها، أعني في نهاية التبسيط النظري الذي يتيح لنا رؤية التجربة الاجتماعية بوضوح في سياق اطرادها، لا تسمح هذه التجربة بوضع المحراث أمام الثور، كما لا يحدث ذلك في عمل الفلاح البسيط.

فلو أننا طبقنا هذا البرهان على عملية اطراد الحضارة، فيجب أن ندرك مبدأً صادقاً في كل حالة، ودقيقاً في نهاية الأمر، ذلك المبدأ هو: أن الحضارة هي تصنع منتجاتها، وعليه فلو أننا عكسنا القضية، بأن نحاول صنع حضارة من منتجاتها، فسيكون هذا بكل بساطة من قبيل ((وضع المحراث أمام الثور)).

ص: 86

هذا الانقلاب في الوضع هو الذي يتسم به التقدم الفوضوي البطيء للنهضة الإسلامية، ونحن ندين له بهذا التكديس والتكويم الذي يبدو أنه يقود تطور المجتمع الإسلامي نحو حضارة (شيئية)(1).

ب- وأما نواحي الضعف الأخرى في النهضة الإسلامية فهي من النوع التاريخي، وهي تتصل باختبار (النموذج)، فكل حضارة تتكون، لها نموذجها ومثلها الذي تجعله نصب عينيها، ويمكن أن يكون هذا مستمداً من الحاضر أو من الماضي أو من كليهما في وقت واحد. ولقد تقسمت النهضة الإسلامية بين جذب المحافظين على الماضي، ودفع التقدميين من أبناء العصر، فالنموذج موجود على أي حال، واختياره يمكن أن يتم بالخضوع للواقع ضمناً ولا شعورياً. ولكن اختيار النموذج يحدد المنهج إلى حد ما، كما نرى ذلك في الصين، ولذا يجب أن نحسب حساب ارتباط العنصرين: النموذج والمنهج، مهما كانت الظروف. فلاختيار النموذج لا بد من أن نجعل في حسابنا بطبيعة الحال كل الكسب التاريخي والاجتماعي في العالم. فلو راعينا هذا الكسب الذي حققه نصف القرن الماضي، لوجب أن نلاحظ أن المجتمعات المتحضرة الصالحة لأن تقدم إلينا نماذج للتطور في القرن العشرين، هي ثلاثة أنواع:

فهناك أولاً المجتمع الغربي الذي شيدت حضارته القرون، والذي يدين للزمن بلونه العتيق، لون الأشياء القديمة الجليلة، تلك التي تحمل شهادة وبرهاناً على تقاليدها القديمة الذائعة، ولا سيما في فرنسا وإنجلترا، ولنا في اليابان نموذج آخر من نماذج المجتمع، حيث كون الفكر المحافظ والعقل الصناعي تركيباً موفقاً كل التوفيق، فنتجت عن ذلك حضارة، يبدو أنها قد اتجهت نحو مشكلات الإمبراطورية أكثر مما اتجهت نحو مشكلات الإنسان، أي نحو مشكلات (القوة) أكثر من مشكلات (البقاء)، ولكن نجاح التجربة كان مذهلاً، إذ حين قادها

(1) راجع فصل ((من التكديس إلى البناء)) من كتاب ((شروط النهضة)) طبعة دار الفكر بدمشق 1979م.

ص: 87

العقل المنهجي، وحين قادها منطق التأثير الفعال الذي لم يغب عن الميدان لحظة طوال العصر الميجي، انتهى بها الأمر إلى هدفها المنشود وهو: قوة إمبراطورية الشمس المشرقة.

وهناك أخيراً روسيا التي تنشئ مجتمعاً من النوع الذي ينشئ نفسه بنفسه ( Self made man) لقد قامت بوسائلها الخاصة متبعة طريقها الخاص، معتمدة فقط على العفل الصناعي؛ فحققت بذلك نظاماً قائما على أسبقية (المجتمع) وانتهى بها الأمر بطبيعة الحال إلى حلول (القوة).

وفي مواجهة هذه النماذج الثلاثة نرى مجتمعاً ناشئاً، يقوم في هذه الأيام باختبار نموذجه، تلك هي الصين تحت حكم ماوتسي تونج، الذي ضرب لنا مثلاً. فلقد توفرت لديه كل الدواعي الفكرية والاقتصادية لكي يتجه نحو النموذج السوفييتي، بما أن تخطيطه نفسه يعتمد على المعونة الفنية والاقتصادية الروسية.

والصين بعملها هذا قد اختارت أيضاً أسبقية المجتمع، وبالتالي اختارت حلول (القوة) التي حتمت اختيارها لما يسمى (بالصناعة الثقيلة).

هذه الاعتبارات تبين لنا بجلاء وكفاية نواحي الضعف في نهضة العالم الإسلامي التي نريد أن نلفت إليها الانتباه هنا، فهذا العالم لم يختر حتى الآن المنهج أو النموذج، ولقد كان من المتوقع بحكم اتصاله بالبحر الأبيض المتوسط أن نراه يتجه نحو الغرب محتفظاً بأصالته في تعديل النموذج الغربي، بل أكثر من ذلك في تطويعه لتطوره الخاص، آخذاً في اعتباره تأخره من جهة، ومناهج التعجيل بحركة التاريخ من جهة أخرى، تلك المناهج التي ظهر تأثيرها في بلاد أخرى خلال نصف القرن الأخير.

وإن حيرته في هذا السبيل لناتجة عن عوامل مختلفة، سنتولى بحثها فيما بعد. خاصة عن ذلك الاستسلام للواقع الذي لم يتكيف طبقاً لتعميم الحركة

ص: 88

الديكارتية في العالم حيث سادت تاريخ القرن العشرين وطبعت تطوره بأسلوب خاص هو (الأسلوب العالمي).

والنهضة الإسلامية في مراكزها الثقافية- هنالك حيث تتجلى بوضوح فكرتها ويتجسم جهدها- لا تعطي الصورة الناطقة الواضحة عن أنها قد اختارت بالفعل نموذجاً.

وإنما يمكن القول بأنها تنمو تحت تأثير نموذج غامض لم تختره، بل فرض عليها تلقائياً، من أذواق القوم، كأنما ليجنبهم مشقة التفكير في هذا الاختيار. ونحن حين نشعر شعوراً خفيفاً في دراستنا السريعة بأن أستاذ النهضة الإسلامية هو الغرب، نرى أنها تريد حين تريد أن تفصل ثوبها على نموذج هذا الأستاذ تقلد بجهالة عثرة مقصه، ولكن عندما تكون الرغبة في صنع الثوب من مادة التاريخ فيجب أن نعرف قدر أنفسنا، وأن نعرف النموذج الذي نختاره. كيما نعرف مقدار حريتنا الضرورية بالنسبة إليه لتحقيق ذواتنا فيما نصنع، حتى لا نكون نسخة مكررة من غيرنا، فالعالم الإسلامي على وجه الخصوص لا يمكنه ولا يجب عليه أن يتتبع جميع الدروب والمنعرجات على طول الطريق الذي سلكه الغرب، فليس لديه من القرون مثل ما كان لنموذجه، وهو لذلك ملزم باقتباس طرق التاريخ المختصرة التي لم تقتبسها الحضارة الغربية، إذ كان أمامها من الوقت ما يكفيها، وإذن فلا لزوم مطلقاً لآن يقيس على نموذج معد تماماً، فالأمر هنا ليس أمر (نقل) تطور بحذافيره، وإنما هو أمر تلخيصه فيما هو جوهري وعام، فإذا كان النموذج يرتدي قبعة أو (كاسكتة) فإن هذه الأغطية ليست بداهة فضائله أو قيمه العامة، وربما كان من المضحك أن نستعيرها منه بمحض التقليد، كما سيكون من السخف والسخرية أن نقف في مواجهته بطريقة صبيانية متشبثين بذلك الطربوش الأحمر لكي نعلن به عن شخصيتنا. إن من الواجب أن نتخلى عن هذه الأزمة الصبيانية المنبثة في أنحاء العالم الإسلامي بتفاصيلها الغريبة

المضحكة أحياناً.

ص: 89

فعندما نرى مثلاً في إحدى المصالح العامة في بعض العواصم العربية فريقاً من الناس يلبس القبعة وفريقاً آخر ما زال يرتدي الطربوش، نفهم من هذا أننا في مجتمع لم يحدد بعد اختياره بوضوح، وفي مثل هذا الموقف ليس نوع غطاء الرأس هو الذي يهمنا، بل نوع الأزمة الصبيانية التي يعدّ غطاء الرأس عرضاً من أعراضها.

وعندما نلخص هذه الاعتبارات عن الحقبة الراهنة في العالم الإسلامي نلاحظ اعتراضه وعدم اكتراثه بكل جهد للتعميم، حتى كأنه لا يحب أن يخضع لمنطق القواعد، أي للمبدأ الجوهري في كل حضارة، بينما الحضارة في جوهرها نوع من القهر ينفي لدى الفرد والجماعة صفات البدائية المترحلة، وخاصة صورتها العقلية.

فالبدوي الراحل يضرب في الأرض على غير هدى من هدفه، لأن فكره لا يخضع لهدف الطريق الذي يفرضه منهج بحيث يمكننا أن نلخص القول بأن الاختيار الضمني للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، قد تم عن تنكر كامل تقريباً للنموذج، ولفضائله الواقعية، ولقيمه العامة.

ويكفينا في إيضاح هذه النقطة أن نذكر أن الموسيقى العربية الحديثة لا تستمد وحيها من الأساتذة الكلاسيكيين في الغرب، بل إنها تبحث عنه في (أغانيه العاطفية) ولا حاجة بنا إلى تحليل برنامج إذاعي إذ يكفينا أن نصغي إلى بعض الإذاعات في بعض العواصم العربية لكي نقتنع بهذا الرأي.

ويجب أن نؤكد بطريق العكس أن الذوق الغربى كان يدرك تماماً (استشراقه) أعني معرفته بالشرق عندما يستوحيه، وهذا الجزء من البرنامج الموسيقي الغربى يحتوي على مقطوعات من أمثال:(في سوق فارس) تترجم تماماً عن الجو الخاص، وعن الوفاء لمصدر الإلهام. وعلى العكس من ذلك نجد (اللون المحلي) للحياة الغربية ينعدم في الموسيقى العربية الحديثة فيما خلا بعض الألحان المتطرفة، وأحياناً بعض المقطوعات التي استوردها الغرب نفسه من خارج إطاره.

ص: 90

فالذوق العربي لا يدرك تماماً (استغرابه)؛ لأنه لم يفكر في مشكلة النموذج، ولم يضع هذه المشكلة، وقد نتج عن هذا في مجموعة سلبية في التأثير يمكن أن نتصورها بالمقارنة بين حدثين متعاصرين، فالنهضة الإسلامية هي في الواقع معاصرة للعصر الميجي، توأمها في اليابان، وشهادة ميلاد الحركتين يمكن أن تحمل التاريخ نفسه، أي عام (1868م)، ومع ذلك فإن نتائجها الخاصة تنطبع في منظرين إنسانيين جد مختلفين، حتى إن الزائر السماوي لا يمكنه أن يخلط بينهما. كما تبين ذلك في هذا الفصل.

فقد اجتازت اليابان في نصف قرن المرحلة التي تفصل محور طنجة - جاكرتا عن محور واشنطن - موسكو.

إن مشكلة الحضارة تتجسم دائماً في الشروط نفسها التي تملي علينا أنه يجب إحداث التركيب التاريخي التكويني للإنسان والتراب والوقت، فإذا واجهت اليابان هذه المشكلة بطريقة منهجية عن قصد، بحيث اختارت النموذج الغربي وهي تعلم ما هو جوهري رئيسي في اختيارها. فإن المشكلة قد واجهت العالم الإسلامي، وهي في طريقها إلى أن تنحل من تلقاء نفسها، بقوة الأشياء لا بحكم الفكر.

وعليه، فالعالم الأفرسيوي وهو اليوم في ساعة الاختيار، يجب أن يأخذ في اعتباره هذه التجارب ونتائجها المختلفة.

فهناك كسب تاريخي واجتماعي في العالم المعاصر، يمكن أن يستغله الرجل الأفرسيوي ليرقي تجربته الخاصة، ولقد رأينا فعلاً هذه التجربة تتكون وتنمو، وقدم لنا الاتحاد الهندي مثالاً عليها في محاولة أصيلة تتركب خلالها (الفنية) الديكارتية مع (الروحية) الغاندية، وهو مثال قائم على مواجهة مشكلة الاختيار والمنهج، ففي مناقشة مشروع التصنيع في الهند وتحويل اقتصادها إلى اقتصاد اشتراكي (فبراير 1956م) غربلت الحلول المعروضة، وكانت هنالك مقابلة بين الحلول، لا طبقاً للحقائق الاقتصادية فحسب، بل مع اعتبار العوامل الإنسانية

ص: 91

الخالصة، ولقد قدم نهرو مشروعه في ضوء معرفة تامة بالقضية مبيناً في عرضه كيف ((كانت الثورة الصناعية في الغرب بطيئة وديمقراطية بحيث تمت في قرن من الزمان، وكيف أن ثورة روسيا الصناعية قد أنجزت في سرعة لم تتجاوز ثلاثين سنة، ولكن ليس في صورة ديمقراطية)).

وقد وضح نهرو بهذا دون جدال أن هناك اختياراً يتجنب بطء منهج معين، وعنف الآخر.

وإن هذه التجربة لتتجاوز النطاق المحلي بصورة مزدوجة حين نحسب حساب نتائجها الخاصة، فهي من حيث كونها حاملة لمبدأ (عدم العنف) تتيح للسلام العالمي فرصة من أحسن الفرص، وهي من حيث كونها تهدف إلى بناء نظام جديد تتيح لكثير من الجماعات الإنسانية فرصاً واقعية للتخلص من مصير النموذج الاجتماعي الذي تمثله الصورتان المنشورتان في هذا الفصل؛ فهي تهم - كمثالٍ، وكدافعٍ- ملايين البشر الذين يعيشون على محور طنجة - جاكرتا.

***

ص: 92